الضِّفْدِعُ وَالْقُبَّرَةُ

عَاشَتْ «مَاجِدَةُ» الْقَرَوِيَّةُ الْجَمِيلَةُ، فِي دَسْكَرَتِهَا١ الصَّغِيرَةِ عِيشَةً هَادِئَةً، بَعِيدَةً عَنْ ضَوْضَاءِ النَّاسِ وَجَلَبَةِ الْمَدِينَةِ.

وَكَانَتْ «مَاجِدَةُ» تَقْضِي وَقْتَهَا مُنْفَرِدَةً؛ لَا يَشْغَلُهَا غَيْرُ عَمَلِهَا، وَلَا يُؤْنِسُهَا غَيْرُ «حَلِيمَةَ» خَادِمَتِهَا.

وَلَمْ تَكُنْ «مَاجِدَةُ» تَتَّصِلُ بِجِيرَانِهَا، وَلَا تَسْمَحُ لِنَفْسِهَا بِزِيَارَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَكَانَتْ دَسْكَرَتُهَا — عَلَى صِغَرِهَا — مِثَالًا حَسَنًا لِلنِّظامِ وَالْأَنَاقَةِ وَالتَّرْتِيبِ.

وَلَمْ يَكُنْ يَنْقُصُهَا شَيْءٌ مِنْ أَسْبابِ السَّعَادَةِ.

فَعِنْدَهَا بَقَرَةٌ سَمِينَةٌ بَيْضاءُ، تُدِرُّ لَهَا كَثِيرًا مِنَ اللَّبَنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ.

وَعِنْدَهَا قِطٌّ نَشِيطٌ يَشْغَلُ كُلَّ وَقْتِهِ بِمُطَارَدَةِ الْفِيرَانِ وَالْجِرْذانِ وَبَنَاتِ عِرْسٍ وَمَا إِلَيْهَا، وَهُوَ مَاهِرٌ فِي اصْطِيَادِهَا وَأَكْلِهَا، دَائِبٌ عَلَى تَخْلِيصِ الدَّسْكَرَةِ مِنْ أَذَاهَا وَشَرِّهَا.

وَعِنْدَهَا — إِلَى ذَلِكَ — حِمَارٌ ضَلِيعٌ،٢ يَنْهَضُ بِكُلِّ مَا تُحَمِّلُهُ إِيَّاهُ مِنْ أَكْدَاسِ الْفَاكِهَةِ وَالْخُضَرِ وَالْجُبْنِ وَالْبَيْضِ: تَذْهَبُ بِهِ إِلَى السُّوقِ الْبَعِيدَةِ فِي أَيَّامِ الْجُمَعِ، فَيَقْطَعُ الْمَسافَةَ الطَّوِيلَةَ — الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّسْكَرَةِ — فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ.

وَكَانَتِ الْخادِمَةُ «حَلِيمَةُ» تَرْكَبُ الْحِمَارَ — وَهُوَ يَحْمِلُ الْخُضَرَ وَسِواهَا — إِلَى السُّوقِ، فَإِذَا انْتَهَتْ مِنْ بَيْعِ مَا مَعَهَا، عَادَتْ بِالْحِمَارِ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ.

وَلَم يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَهْلِينَ يَعْرِفُ: كَيْفَ جَاءَتْ «مَاجِدَةُ» وَخادِمَتُهَا؟ وَلا مِنْ أَيِّ الْبِلادِ قَدِمَتَا؟

كَمَا لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ: كَيْفَ امْتَلَكَتْ «مَاجِدَةُ» تِلْكَ الدَّسْكَرَةَ؟

وَظَلَّ النَّاسُ يَجْهَلُونَ كُلَّ شَيْءٍ عَنْهَا زَمَنًا طَوِيلًا!

وَلَعَلَّكَ تَعْجَبُ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ — إِذَا قُلْتُ لَكَ: إِنَّ جَهْلَهُمْ بِالدَّسْكَرَةِ وَسَاكِنِيهَا كَانَ عَلَى أَتَمِّهِ. وَقَدْ عَرَفُوا هَذِهِ الدَّسْكَرَةَ بِاسْمِ «دَسْكَرَةِ الْخَشَبِ»، دُونَ أَنْ يُدْرِكُوا لِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ سَبَبًا.

وَفِي مَساءِ يَوْمٍ، كَانَتْ «حَلِيمَةُ» مُنْصَرِفَةً إِلَى بَقَرَةِ سَيِّدَتِهَا «مَاجِدَةَ»، لِتَحْلُبَهَا عَلَى مَأْلُوفِ عَادَتِهَا كُلَّ يَوْمٍ. وَكَانَتْ سَيِّدَتُهَا مَشْغُولَةً حِينَئِذٍ بِإِعْدَادِ الْعَشَاءِ. فَلَمَّا نَضِجَ الطَّعَامُ وَضَعَتْهُ السَّيِّدَةُ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَكَانَ مُؤَلَّفًا مِنْ صَحْفَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا تَحْتَوِي حَساءَ الْكُرُنْبِ الشَّهِيَّ، وَالْأُخْرَى تَحْتَوِي لَذَائِذَ مِنَ الْقِشْدَةِ.

وَكَانَتْ «حَلِيمَةُ» قَدْ أَحْضَرَتْ مِنَ الْحَدِيقَةِ بَعْضَ نَباتِ الْكَرِيزِ مَلْفُوفًا فِي أَوْرَاقِهِ الْخُضْرِ، وَوَضَعَتْهُ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحُجْرَةِ.

وَمَا كَادَتْ «مَاجِدَةُ» تَنْتَهِي مِنْ إِعْدَادِ الْمَائِدَةِ، حَتَّى ظَهَرَتْ أَمَامَهَا فَجْأَةً ضِفْدِعٌ كَبِيرَةُ الْجِسْمِ، هَائِلَةُ الْحَجْمِ، بَشِعَةُ الْمَنْظَرِ. وَانْدَفَعَتْ إِلَى الْكَرِيزِ تَلْتَهِمُهُ فِي شَرَهٍ وَنَهَمٍ …

فَصاحَتْ «مَاجِدَةُ» بِالضِّفْدِعِ مُغْتَاظَةً: «يا لَكِ مِنْ ضِفْدِعٍ خَبِيثَةٍ!

أَتَحْسَبِينَ أَنَّكِ نَاجِيَةٌ مِنَ الْعِقَابِ، أَيَّتُهَا الْحَمْقَاءُ الطَّائِشَةُ؟

كَلَّا، لَا خَلاصَ لَكِ مِنِّي، وَلَنْ أُقَصِّرَ فِي تَأْدِيبِكِ؛ حَتَّى لَا تَعُودِي إِلَى مِثْلِ هَذَا النَّهَمِ الْمَرْذُولِ مَرَّةً أُخْرَى.»

ثُمَّ جَذَبَتْ «مَاجِدَةُ» أَوْرَاقَ الْكَرِيزِ عَلَى الْفَوْرِ، وَرَكَلَتِ الضِّفْدِعَ بِقَدَمِهَا رَكْلَةً عَنِيفَةً، طَوَّحَتْ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ خُطُواتٍ، وَكَادَتْ تَقْذِفُهَا إِلَى الْخارِجِ.

وَلَكِنْ حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسْبانِ؛ فَقَدْ ظَهَرَ الْغَضَبُ وَالْغَيْظُ عَلَى وَجْهِ الضِّفْدِعِ، وَبَدَا عَلَيْهَا مَيْلٌ شَدِيدٌ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْ «مَاجِدَةَ»، وَالِانْدِفَاعِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَسْوَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ أَشَدَّ!

وَلا تَسَلْ عَنْ فَزَعِ «مَاجِدَةَ» حِينَ رَأَتِ الضِّفْدِعَ الشَّرِسَةَ تَقِفُ عَلَى قَدَمَيْهَا الْخَلْفِيَّتَيْنِ، وَتَفْتَحُ فَاهَا الْوَاسِعَ، وَتَضُمُّهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى — وَالشَّرَرُ يَكَادُ يَتَطَايَرُ مِنْ عَيْنَيْهَا — وَقَدِ انْتَظَمَتْهَا٣ رِعْشَةُ الْغَضَبِ، وَانْبَعَثَ مِنْ حَنْجَرَتِهَا صَوْتٌ مَرْهُوبُ الدَّوِيِّ، يُجَلْجِلُ صَدَاهُ فِي أَرْجَاءِ الْبَيْتِ.

وَقَفَتْ «مَاجِدَةُ» مُفَزَّعَةً حَيْرَى، وَتَرَاجَعَتْ مَبْهُوتَةً حَسْرَى، زائِغَةَ اللَّفَتَاتِ، مُتَعَثِّرَةَ الْخُطُواتِ، تُحَاوِلُ أَنْ تَنْجُوَ بِنَفْسِهَا مِنْ خَطَرِ الزَّائِرَةِ، الْمُتَوَحِّشَةِ الثَّائِرَةِ.

وَأَسْرَعَتْ «مَاجِدَةُ» تَبْحَثُ فِي أَرْجَاءِ الْحُجْرَةِ، لَعَلَّهَا تَعْثُرُ عَلَى مِكْنَسَةٍ أَوْ هِرَاوَةٍ؛٤ لِتَدْفَعَ أَذَاهَا عَنْ نَفْسِهَا، وَتَطْرُدَهَا مِنْ دَارِهَا.

وَانْتَهَتْ مِنْ بَحْثِهَا إِلَى غَيْرِ طَائِلٍ؛ فَامْتَلَأَ قَلْبُهَا رُعْبًا، وَلَمْ تَدْرِ مَاذَا تَصْنَعُ، وَهِيَ تَرَى الضِّفْدِعَ الْغَضْبَى مُتَحَفِّزَةً لِإِيذائِهَا، قَافِزَةً نَحْوَهَا وَثْبًا.

وَظَلَّتِ الضِّفْدِعُ تُشِيرُ بِإِحْدَى يَدَيْهَا، فِي تَحَدٍّ وَعِنَادٍ، إِشَارَةَ السَّيِّدِ الْآمِرِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ، وَتَقُولُ لَهَا بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ، مُتَهَدِّجٍ مِنَ الْغَيْظِ: «أَكَذَلِكِ تُسِيئِينَ إِلَيَّ، عَلَى غَيْرِ سَابِقِ مَعْرِفَةٍ بِي؟

أَكَذَلِكِ تَنْدَفِعِينَ فِي تَحْقِيرِي — بِلا رَوِيَّةٍ — وَتَرْكُلِينَنِي٥ بِقَدَمِكِ، وَتَضِنِّينَ عَلَيَّ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْكَرِيزِ، وَهُوَ أَشْهَى فَاكِهَةٍ أُحِبُّهَا؟

أَهَكَذَا تُقَابِلِينَ الْمَعْرُوفَ وَالْإِحْسَانَ، بِالْإِساءَةِ وَالْكُفْرَانِ؟

ثُمَّ مَاذَا أَيَّتُهَا الْمُتَسَرِّعَةُ الْحَمْقَاءُ؟ وَكَيْفَ تَطْرُدِينَنِي مِنْ دَارِكِ، غَيْرَ حَاسِبَةٍ لِلْعَواقِبِ حِسابًا، وَلا حَافِلَةٍ بِمَا تُثِيرِينَهُ فِي نَفْسِي مِنَ التَّحَدِّي وَالْغَضَبِ؟»

وَهُنَا وَقَفَتْ «مَاجِدَةُ» مَذْهُولَةً حَائِرَةً، تُحَاوِلُ أَنْ تَعْتَذِرَ إِلَى الضِّفْدِعِ، فَلا تُواتِيهَا الشَّجَاعَةُ عَلَى الْكَلامِ.

وَاسْتَأْنَفَتِ الضِّفْدِعُ قَائِلَةً: «لَقَدْ جِئْتُ إِلَى دَارِكِ فَرْحَانَةً مُسْتَبْشِرَةً، حَامِلَةً إِلَيْكِ أَجْمَلَ مُفَاجَأَةٍ وَأَسْعَدَ بُشْرَى؛ فَلَقِيتِنِي أَشْنَعَ لِقَاءٍ، وَقَابَلْتِنِي أَسْوَأَ مُقَابَلَةٍ.

وَسَتَرَيْنَ كَيْفَ أَجْزِيكِ الْجَزاءَ الْأَوْفَى، وَأَفْجَعُكِ فِي طِفْلِكِ الَّذِي تَلِدِينَ، وَهُوَ أَعَزُّ مَنْ تُحِبِّينَ.

سَتَرَيْنَ كَيْفَ أُبَدِّلُهُ مِنْ بَشَرَتِهِ الْآدَمِيَّةِ فَرْوَ دُبٍّ؛ لِأُنَغِّصَ عَلَيْكِ سَعَادَتَكِ، وَأُكَدِّرَ هَنَاءَتَكِ.»

وَمَا إِنْ أَتَمَّتِ الضِّفْدِعُ وَعِيدَهَا، حَتَّى قَاطَعَهَا صَوْتٌ رَقِيقٌ عَذْبُ النَّبَرَاتِ، يَفِيضُ حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا، وَيَسْتَعْطِفُ الضِّفْدِعَ قَائِلًا: «لَقَدْ أَسْرَفْتِ فِي الِانْتِقَامِ يَا أُخْتَاهُ، وَكَانَ الصَّفْحُ أَلْيَقَ بِكِ وَأَجْدَرَ! فَهَلْ نَسِيتِ أَنَّ الْعَفْوَ مِنْ شِيَمِ٦ الْكِرَامِ؟»

فَرَفَعَتْ «مَاجِدَةُ» رَأْسَهَا الْمُنَكَّسَ، فَرَأَتْ فِي أَعْلَى بَابِ حُجْرَتِهَا قُبَّرَةً جَاثِمَةً، تَتَوَسَّلُ إِلَى الضِّفْدِعِ الْغَضْبَى مُسْتَعْطِفَةً، وَتَبْذُلُ جُهْدَهَا لِتُخَفِّفَ مِنْ ثَوْرَتِهَا، وَتَقُولُ فِيمَا تَقُولُ: «لَقَدْ تَجَاوَزْتِ الْمَدَى فِي قَسْوَتِكِ يَا أُخْتَاهُ، وَأَخَذْتِ الْأَمِيرَةَ بِخَطَأٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ، وَإِهَانَةٍ غَيْرِ مُتَعَمَّدَةٍ. وَلَوْ عَرَفَتِ الْفَتَاةُ مَنْ أَنْتِ، لَمَا لَقِيَتْكِ بِغَيْرِ الْإِجْلالِ وَالتَّرْحِيبِ.

وَلَوْ أَنَّكِ تَرَوَّيْتِ قَلِيلًا لَرَأَيْتِهَا فِي سَعَةٍ مِنَ الْعُذْرِ.

فَمَا كَانَ لِيَدُورَ بِخاطِرِهَا أَنَّ أَمِيرَةَ الزَّوَابِعِ جَاءَتْ لِتُسْعِدَهَا بِزِيَارَةِ بَيْتِهَا، مُسْتَخْفِيَةً فِي صُورَةِ حَيَوَانٍ، قَبِيحِ الْهَيْئَةِ، بَشِعَ الْمَنْظَرِ.»

فَقَالَتِ الضِّفْدِعُ: «هَبِيهَا لَا تَعْرِفُ مَنْ أَنَا! فَكَيْفَ يَقْسُو قَلْبُهَا عَلَى ضِفْدِعٍ عَاجِزَةٍ عَنْ إِيذائِهَا؟ إِنَّ مَنْ يَقْسُو قَلْبُهُ عَلَى عَاجِزٍ ضَعِيفٍ، جَدِيرٌ أَنْ يَقْسُوَ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ؛ لِيَرَى أَثَرَ الْقَسْوَةِ فِي نَفْسِهِ.»

وَطَالَ الْحِوارُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَلَمْ يَزِدْ أَمِيرَةَ الزَّوَابِعِ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا، وَعُتُوًّا وَاسْتِكْبارًا.

فَلَمَّا رَأَتْهَا أُخْتُهَا لَا تُلَبِّي٧ رَجَاءَهَا، قَالَتْ لَهَا فِي لَهْجَةٍ حَازِمَةٍ: «ما دُمْتِ لَا تَسْمَعِينَ لِرَجَائِي؛ فَإِنِّي آمُرُكِ — بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنْ قُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ — أَنْ تَبْقَيْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَشِعَةِ الَّتِي اخْتَرْتِهَا لِنَفْسِكِ، فَلا تُفَارِقِيهَا بَعْدَ الْيَوْمِ.

كَمَا آمُرُكِ أَنْ تُسْجَنِي فِي جِلْدِ الضِّفْدِعِ، جَزاءَ مَا أَشْقَيْتِ الْأَمِيرَةَ، وَسَجَنْتِ مَوْلُودَهَا الْقَادِمَ فِي فَرْوِ دُبٍّ.»

ثُمَّ الْتَفَتَتِ الْقُبَّرَةُ إِلَى الْأَمِيرَةِ، وَهِيَ تَقُولُ: «هَدِّئِي مِنْ رُوعِكِ٨ — أَيَّتُهَا الْأُمُّ الصَّغِيرَةُ الْعَاثِرَةُ الْحَظِّ — واعْتَصِمِي بِالصَّبْرِ، حَتَّى تَنْقَشِعَ هَذِهِ الْغُمَّةُ عَنْكِ.

وَسَتَرَيْنَ كَيْفَ يَسْتَرِدُّ وَلَدُكِ جَمَالَهُ، وَيَسْتَعِيدُ حُسْنَهُ وَبَهَاءَهُ؛ بِفَضْلِ مَا مَيَّزَهُ اللهُ بِهِ مِنْ مُرُوءَةٍ وَكَرَمٍ، وَصَفَاءِ نَفْسٍ.

وَسَتَرَيْنَ كَيْفَ يَنْجُو وَلِيدُكِ مِنَ اللَّعْنَةِ الَّتِي حَاقَتْ بِهِ، مَتَى حَانَ الْوَقْتُ؛ وَكَيْفَ يَخْلَعُ عَنْهُ فَرْوَ الدُّبِّ، وَيَعُودُ إِنْسَانًا بَهِيَّ الطَّلْعَةِ، مُشْرِقَ الصُّورَةِ، كَمَا خَلَقَهُ اللهُ.

وَسَيَتَحَقَّقُ لَهُ ذَلِكَ، مَتَى وَجَدَ مَنْ يَقْبَلُ أَنْ يَفْدِيَهُ، وَيَكْسُوَ وَجْهَهُ بِفَرْوِ الدُّبِّ الَّذِي يُغَطِّيهِ.

وَمَتَى تَمَّ لَهُ هَذَا الْأَمَلُ السَّعِيدُ، عَادَتِ الْبَهْجَةُ إِلَى قَلْبِكِ.

وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ.»

•••

فَقَالَتْ لَهَا «مَاجِدَةُ»، وَعَيْنَاهَا غَاصَّتَانِ٩ بِالدُّمُوعِ: «شُكْرًا لَكِ يَا أَمِيرَةَ التَّوَابِعِ، وَإِنْ كَانَ يَحْزُنُنِي أَنْ يَشْقَى وَلَدِي بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ زَمَنًا، طَالَ أَوْ قَصُرَ!

وَإِنِّي لَيُؤْلِمُنِي أَنْ يُمْسَخَ حَيَوَانًا ضارِيًا، قَبِيحَ الْمَظْهَرِ، شَرِسَ الْمَنْظَرِ.

وَيَزِيدُ فِي شِقْوَتِي، وَيُضاعِفُ مِنْ حَسْرَتِي، أَنْ أَرَاكِ عَاجِزَةً عَنْ دَفْعِ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ عَنْ وَلَدِي، بِرَغْمِ مَا تَمْلِكِينَ مِنْ قُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ!»

فَقَالَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ: «اعْتَصِمِي بِالصَّبْرِ، وَاسْتَسْلِمِي١٠ لِقَضاءِ اللهِ، وَكُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي لَنْ أَتَخَلَّى عَنْكِ وَلا عَنْ وَلَدِكِ.»
فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «لا حِيلَةَ لِأَحَدٍ فِي رَدِّ الْقَضَاءِ، وَلَيْسَ لِي بُدٌّ مِنَ الْإِذْعَانِ١١ لِمَشِيئَةِ اللهِ، وَالرِّضَى بِمَا قَسَمَ.»

فَقَالَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ: «مَتَى رُزِقْتِ هَذَا الْمَوْلُودَ، وَجَبَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْلِقِي عَلَيْهِ اسْمَ: «الدُّبِّ».

وَحَذَارِ أَنْ تُنَادِيهِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّقَبِ، حَتَّى يَحِينَ الْيَوْمُ الَّذِي يُؤْذَنُ لَكِ فِيهِ بِتَغْيِيرِ هَذَا الِاسْمِ الْكَرِيهِ، وَمُنَادَاتِهِ بِاسْمِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي أَخْتَارُهُ لَهُ.»

وَلَمَّا انْتَهَتِ الْجِنِّيَّةُ مِنْ كَلِمَاتِهَا الْحَكِيمَةِ، طَارَتْ فِي الْهَواءِ.

أَمَّا أَمِيرَةُ الزَّوَابِعِ، فَعَادَتْ حَانِقَةً غَضْبَى، يَكَادُ صَدْرُهَا يَنْشَقُّ مِنَ الْغَيْظِ، لِمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ مِنْ سُخْطِ أُخْتِهَا وَانْتِقَامِهَا.

وَمَشَتِ الضِّفْدِعُ مُتَخاذِلَةً فِي خُطُواتٍ مُتَباطِئَةٍ، كَأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ.

وَمَا زالَتْ تَتَلَفَّتُ إِلَى «مَاجِدَةَ» بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى، وَالْغَضَبُ آخِذٌ مِنْهَا كُلَّ مَأْخَذٍ، حَتَّى غابَتْ عَنْ عَيْنَيْهَا؛ فَانْدَفَعَتْ تَنْفُثُ السَّمَّ مِنْ فَمِهَا — فِي أَثْنَاءِ سَيْرِهَا — لِتُفْسِدَ بِهِ الْأَعْشَابَ، وَتُسَمِّمَ النَّباتَ وَالشُّجَيْرَاتِ الَّتِي تَمُرُّ بِهَا.

وَكَانَ سَمُّهَا زُعَافًا قَاتِلًا، لَا يَنْمُو مَعَهُ نَباتٌ، وَلا يَعِيشُ فِيهِ حَيَوَانٌ؛ فَلا عَجَبَ إِذا أَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ بَعْدَ الْيَوْمِ: «طَرِيقَ الْهَلاكِ».

١  دسكرتها: عزبتها.
٢  ضليع: قوي.
٣  انتظمتها: شملتها.
٤  هراوة: عصا غليظة.
٥  تركلينني: ترفسينني.
٦  شيم: صفات.
٧  لا تلبي: لا تجيب.
٨  هدئي من روعك: اطمئني.
٩  غاصتان: ممتلئتان.
١٠  استسلمي: اخضعي.
١١  الإذعان: الخضوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤