اجْتِمَاعٌ بَعْدَ يَأْسٍ

فَأَجَابَتْهُ «مَاجِدَةُ»: «اطْمَئِنَّ عَلَى «نَرْجِسَ»، وَكُنْ عَلَى يَقِينٍ — يَا وَلَدِيَ الْعَزِيزَ — أَنَّهَا مَا تَزَالُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.

وَقَدْ نَقَلَتْهَا «حَلِيمَةُ» إِلَى الْمَنْزِلِ، لِتَتَعَهَّدَهَا بِمَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِهِ مِنْ عِنَايَةٍ وَرِعَايَةٍ.»

وَكَأَنَّمَا بَعَثَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ فِي «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» حَيَاةً جَدِيدَةً، وَخَلَقَتْهُ خَلْقًا آخَرَ؛ فَزَايَلَهُ الْيَأْسُ، وَعَاوَدَهُ النَّشَاطُ. وَسُرْعَانَ مَا نَهَضَ وَتَهَيَّأَ لِلْجَرْيِ فِي وَثَبَاتٍ سَرِيعَةٍ نَحْوَ الدَّسْكَرَةِ؛ لِيَمْلَأَ نَاظِرَيْهِ مِنَ الْأَمِيرَةِ الصَّغِيرَةِ.

وَلَكِنَّ أُمَّهُ قَلَّلَتْ مِنْ سُرْعَتِهِ حِينَ تَوَسَّلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَتَرَيَّثَ قَلِيلًا، رَيْثَمَا يَعُودَانِ مَعًا فِي غَيْرِ عَجَلَةٍ وَلَا إِسْرَاعٍ.

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ تَلْبِيَةِ إِشَارَةِ أُمِّهِ، أَيَّةً كَانَتْ؛ فَمَا عَوَّدَهَا غَيْرَ الطَّاعَةِ.

وَسَأَلَتْهُ «مَاجِدَةُ» — وَهِيَ عَائِدَةٌ مَعَهُ عَلَى الشَّاطِئِ — أَنْ يَقُصَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْحَادِثَ الْعَنِيفَ الَّذِي كَادَ يُودِي بِحَيَاةِ «نَرْجِسَ»،١ وَيُودِي بِحَيَاتِهِ مَعَهَا.

فَرَوَاهُ لَهَا دُونَ أَنْ يُغْفِلَ مِنْ تَفْصِيلِهِ شَيْئًا.

ثُمَّ خَتَمَ حَدِيثَهُ شَاكِيًا لَهَا مَا يُعَانِيهِ مِنْ لُعَابِ الضِّفْدِعِ الَّذِي قَذَفَتْهُ بِهِ؛ فَصَدَّعَ رَأْسَهُ، وَكَادَ يُتْلِفُ أَعْصَابَهُ.

فَهَوَّنَتْ عَلَيْهِ «مَاجِدَةُ» مَا يُسَاوِرُهُ مِنَ الْقَلَقِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تُحَدِّثُهُ بِمَا كَانَ مِنْ قُدُومِ «حَلِيمَةَ» عَلَيْهَا، وَإِفْضَائِهَا إِلَيْهَا بِمَا أَصَابَ «نَرْجِسَ» وَأَصَابَهُ.

وَكَيْفَ أَسْرَعَتْ مَعَ «حَلِيمَةَ» إِلَى نَجْدَتِهِمَا، وَكَيْفَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمَا الذُّعْرُ حِينَ أَبْصَرَتَاهُمَا مَطْرُوحَيْنِ عَلَى ضِفَّةِ الْغَدِيرِ، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا.

وَانْتَهَتِ الْمَسَافَةُ بِانْتِهَاءِ الْحَدِيثِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

•••

وَكَانَ الْإِعْيَاءُ قَدْ بَلَغَ مِنَ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» كُلَّ مَبْلَغٍ، فَعَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ وَالْكَلامِ جَمِيعًا، وَظَلَّ يَتَصَبَّبُ عَرَقًا، لِفَرْطِ مَا تَكَبَّدَهُ مِنْ جُهْدٍ.

وَلَمْ تَكَدْ «نَرْجِسُ» تُبْصِرُهُ أَمَامَهَا، حَتَّى اسْتَرَدَّتْ مَا نَسِيَتْهُ مِنْ ذِكْرَيَاتٍ، وَاسْتَعَادَتْ كُلَّ مَا وَقَعَ لَهَا مِنْ أَحْدَاثٍ مُرَزِّئَاتٍ!

فَانْدَفَعَتْ إِلَيْهِ فَرْحَانَةً بِهِ، مُبْتَهِجَةً بِلُقْيَاهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ مُرَحِّبَةً، وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْفَرَحُ فَأَبْكَاهَا.

وَكَادَتْ لَا تُصَدِّقُ مَا تَرَاهُ عَيْنَاهَا، وَتَسْمَعُهُ أُذُنَاهَا.

وَظَلَّتْ تَصْرُخُ هَاتِفَةً: «وَا فَرْحَتَاهُ! لَقَدْ عَادَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» إِلَى الْحَيَاةِ، وَكُتِبَتْ لَهُ النَّجَاةُ، فَأَلْفُ شُكْرٍ للهِ!»

وَبَكَتْ مَعَهَا «مَاجِدَةُ» وَ«حَلِيمَةُ» مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.

•••

ثُمَّ حَانَتْ مِنْ «حَلِيمَةَ» إِلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» الْتِفَاتَةٌ، فَفَزَّعَهَا مَا رَأَتْهُ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ دَلَائِلِ الْمَرَضِ؛ فَنَبَّهَتْ «مَاجِدَةَ» إِلَى مَا يُعَانِيهِ مِنْ آلَامٍ.

وَنَظَرَتْ «مَاجِدَةُ» إِلَيْهِ، فَرَأَتْهُ غَارِقًا فِي الْعَرَقِ، وَقَدِ انْتَظَمَتْه الرِّعْشَةُ،٢ وَسَرَتْ فِي جِسْمِهِ الرِّعْدَةُ، كَمَا تَسْرِي فِي جِسْمِ الْمَحْمُومِ.
وَهَالَهَا أَنْ تَرَى «نَرْجِسَ» وَ«الدُّبَّ الصَّغِيرَ»، وَقَدِ اغْرَوْرَقَتْ أَعْيُنُهُمَا بِالدُّمُوعِ، فَأَقْبَلَتْ تُهَوِّنُ عَلَيْهِمَا مَا يَلْقَيَانِ مِنْ أَشْجَانٍ،٣ وَتَقُولُ لَهُمَا فِي إِشْفَاقٍ وَعَطْفٍ: «مَا بَالُكُمَا تَبْكِيَانِ أَيُّهَا الصَّغِيرَانِ؟

لَقَدْ كُتِبَتْ ﻟ «نَرْجِسَ» النَّجَاةُ بِفَضْلِ شَجَاعَةِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، وَأَعَانَ اللهُ صَاحِبَهَا عَلَى الْخَلاصِ مِنَ الْهَلاكِ؛ فَلا دَاعِيَ لِلْبُكَاءِ.»

فَقَاطَعَتْهَا «نَرْجِسُ» مُعْتَذِرَةً: «صَدَقْتِ يَا أُمَّاهُ، وَنَحْنُ لَا نَبْكِي مِنَ الْحُزْنِ، بَلْ نَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ.

وَلَوْلَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مَا كُتِبَ ﻟ «نَرْجِسَ» النَّجَاةُ، وَلَا بَقِيَتْ — إِلَى الْآنَ — عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.

وَلَنْ تَسْتَطِيعَ «نَرْجِسُ» — مَهْمَا تَتَفَنَّنْ فِي شُكْرِ هَذَا الْمُنْقِذِ الْكَرِيمِ — أَنْ تَفِيَهُ حَقَّهُ مِنَ الثَّنَاءِ، وَلَوْ وَقَفَتْ طُولَ حَيَاتِهَا عَلَى شُكْرِهِ.»

فَقَالَ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَهُوَ يَتَعَثَّرُ فِي نُطْقِهِ لِفَرْطِ مَا يُكَابِدُهُ مِنْ آلَامِ الْمَرَضِ: «ما أَسْعَدَنِي بِإِخْلاصِكِ وَوَفَائِكِ أَيَّتُهَا الشَّقِيقَةُ الْعَزِيزَةُ!

وَلَئِنْ قَدَّمْتُ إِلَيْكِ بَعْضَ مَا أَنْتِ جَدِيرَةٌ بِهِ مِنْ عَطْفٍ وَرِعَايَةٍ، لَقَدْ قَدَّمْتِ لِي مَا هُوَ أَثْمَنُ مِنَ الْحَيَاةِ، حِينَ مَنَحْتِنِي مَا لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ إِلَّا بِهِ.

وَمَا أَدْرِي كَيْفَ تَكُونُ حَيَاتِي بِدُونِكِ؟

قُولِي مَا تَشَائِينَ؛ وَلَكِنْ لَا تَنْسَيْ أَنَّكِ قَدِ اسْتَطَعْتِ — بِمَا وَهَبَكِ اللهُ مِنْ صَفَاءِ نَفْسٍ، وَكَرَمِ خُلُقٍ، وَجَمَالِ طَبْعٍ — أَنْ تُبَدِّلِي الْجَحِيمَ فِرْدَوْسًا حَافِلًا بِكُلِّ أَلْوَانِ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ. كَيْفَ تَنْسَيْنَ أَنَّكِ كُنْتِ، وَلَا تَزَالِينَ — فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ — مَصْدَرَ هَنَائِي وَسَلْوَتِي، وَسِرَّ سَعَادَتِي وَبَهْجَتِي؟!

وَهَا هِيَ ذِي أُمُّنَا الْعَظِيمَةُ شَاهِدَةً عَلَى مَا أَقُولُ، مُعْتَرِفَةً بِمَا غَمَرْتِ بِهِ قَلْبَهَا مِنْ فُنُونِ السُّرُورِ.»

فَلَمْ تَتَمَالَكْ «نَرْجِسُ» أَنْ بَكَتْ؛ بَعْدَ أَنْ أَعْجَزَهَا جَوَابُ مَا سَمِعَتْ، وَاكْتَفَتْ بِأَنْ رَبَّتَتْ كَتِفَهُ، حَانِيَةً٤ مُتَوَدِّدَةً.

فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «لَا يَزَالُ جِسْمُكَ مُبَلَّلًا يَا عَزِيزِي «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»، فَلَا تَتَمَادَ فِي إِجْهَادِ نَفْسِكَ، وَلَا تَتَوَانَ عَنْ تَبْدِيلِ ثِيَابِكَ.

لَا تَنْسَ أَنَّ «نَرْجِسَ» فِي حَاجَةٍ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّوْمِ، قَبْلَ أَنْ تَشْرَكَنَا فِي الْغَدَاءِ.»

فَأَذْعَنَتْ «نَرْجِسُ» لِإِشَارَةِ «مَاجِدَةَ»، وَتَهَيَّأَتْ لِلرُّقَادِ، وَلَكِنَّ النَّوْمَ لَمْ يَزُرْ جَفْنَيْهَا، فَقَدْ شَغَلَهَا الْوَفَاءُ بِشُكْرِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.

وَظَلَّتْ تَبْحَثُ عَنْ وَسِيلَةٍ تُدْخِلُ بِهَا السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ هَذِهِ الْأُسْرَةِ الْمُعَذَّبَةِ الْمَنْكُوبَةِ، فَلَمْ تَجِدْ إِلَّا شَيْئًا واحِدًا: هُوَ أَنْ تَبْذُلَ جُهْدَهَا فِي الْعِنَايَةِ بِصِحَّةِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» مَا وَسِعَهَا الْجُهْدُ، وَأَسْعَفَتْهَا٥ الْقُدْرَةُ.
١  يودي بحياتها: يهلكها.
٢  انتظمته الرعشة: شملته.
٣  أشجان: أحزان.
٤  حانية: عاطفة.
٥  أسعفتها القدرة: ساعدتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤