صَاحِبُ الدَّسْكَرَةِ

وَمَشَى «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَى دَسْكَرَةٍ كَبِيرَةٍ، كَثِيرَةِ الْأَشْجَارِ، نَاضِجَةَ الثِّمَارِ؛ فَانْتَعَشَتْ نَفْسُهُ بِالْأَمَلِ، لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا عَمَلًا يَرْتَزِقُ مِنْهُ.

وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَشْغَلُهُ غَيْرُ السَّعْيِ إِلَى مَا يَكْفُلُ رِزْقَهُ وَرِزْقَ أُسْرَتِهِ، وَيُظْفِرُهُ بِأَقْوَاتِهِمْ، وَلا يُحْوِجُهُمْ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِمْ.

وَلاحَ لَهُ صَاحِبُ الدَّسْكَرَةِ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أُسْرَتِهِ يَأْكُلُونَ أَمَامَ دَارِهِمْ؛ فَاتَّجَهَ إِلَيهِمْ. وَلَمْ يَكَدْ يَخْطُو — فِي طَرِيقِهِ — خُطُوَاتٍ قَلِيلَةً، حَتَّى بَصُرَ بِهِ غُلامٌ فِي الْعَاشِرَةِ مِنْ عُمُرِهِ.

•••

وَمَا رَآهُ الْغُلامُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ عَيْنَاهُ حَتَّى امْتَلَأَ قَلْبُهُ رُعْبًا وَفَزَعًا، وَاضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ خَوْفًا وَهَلَعًا، وَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ قَفَزَ هَارِبًا إِلَى الدَّارِ وَهُوَ يَصْرُخُ مِنْ هَوْلِ الْمُفَاجَأَةِ.

وَسَمِعَتْ أُخْتُهُ صَرْخَةَ أَخِيهَا، وَكَانَتْ فِي الثَّامِنَةِ مِنْ عُمُرِهَا، فَتَلَفَّتَتْ خَلْفَهَا تَبْحَثُ عَمَّا أَخَافَ أَخَاهَا وَفَزَّعَهُ.

وَمَا لَاحَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» لِعَيْنَيْهَا حَتَّى تَمَلَّكَهَا — مِنَ الرُّعْبِ — مِثْلُ مَا تَمَلَّكَ أَخَاهَا، وَارْتَفَعَتْ صَيْحَاتُهَا، مُسْتَنْجِدَةً١ أُمَّهَا وَأَبَاهَا.

وَتَعَجَّبَ الْوَالِدَانِ مِنْ فَزَعِ صَغِيرَيْهِمَا … وَتَلَفَّتَ الْجَالِسُونَ لِيَتَعَرَّفُوا مَصْدَرَ الرُّعْبِ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِمَا.

وَمَا كَادَتْ أَعْيُنُهُمْ تَلْتَقِي ﺑ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»؛ حَتَّى تَفَزَّعَتِ النِّسَاءُ وَتَعَالَتْ صَرَخَاتُهُنَّ، وَتَحَمَّسَ الرِّجَالُ لِلْفَتْكِ بِذَلِكَ الْوَحْشِ الَّذِي اقْتَحَمَ دَسْكَرَتَهُمْ وَدَهَمَ دِيَارَهُمْ؛ فَأَسْرَعُوا إِلَى هِرَاوَاتِهِمْ٢ لِيَذُودُوا بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَذَوِيهِمْ، وَيَدْفَعُوا بِهَا غَائِلَةَ «الدُّبِّ»٣ إِذَا هَجَمَ عَلَيْهِمْ.

وَكَانُوا يَحْسَبُونَهُ وَحْشًا هَارِبًا فَرَّ مِنَ الْغَابَةِ وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ يُحَاوِلُ افْتِرَاسَهُمْ.

•••

وَلَمَّا رَأَى «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأُسْرَةِ مِنَ الْخَوْفِ، أَدْرَكَ أَنَّهُمْ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِهِ؛ إِذْ رَاحُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ، مُتَحَفِّزِينَ لِافْتِرَاسِهِ.

فَابْتَدَرَهُمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلامِ، لِيُبَدِّدَ بِكَلَامِهِ مَا سَاوَرَهُمْ مِنْ فَزَعٍ، ثُمَّ أَرْدَفَ تَحِيَّتَهُ قَائِلًا: «اطْمَئِنُّوا أَيُّهَا السَّادَةُ الْأَكْرَمُونَ، وَلَا تَخْشَوْا مِنِّي شَيْئًا. لَقَدْ حَسِبْتُمُونِي دُبًّا شَرِسًا، وَمَا أَنَا — عَلَى الْحَقِيقَةِ — إِلَّا إِنْسَانٌ مِثْلُكُمْ، وَلَكِنِّي مُشَوَّهُ الصُّورَةِ.

وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الْوَحِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

وَقَدْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ، لَعَلِّي أَجِدُ عَمَلًا فِي مَزْرَعَتِكُمْ، وَسَتُثْبِتُ لَكُمُ التَّجْرِبَةُ مَدَى صَلاحِيَتِي وَإِخْلَاصِي لِمَا تَكِلُونَهُ إِلَيَّ مِنْ أَعْمَالٍ. وَإِنِّي لَيُسْعِدُنِي أَنْ أَظْفَرَ بِثِقَتِكُمْ، وَأُوَفَّقَ إِلَى إِرْضَائِكُمْ.»

وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ صَاحِبِ الدَّسْكَرَةِ حِينَ سَمِعَهُ يَتَكَلَّمُ كَمَا يَتَكَلَّمُ النَّاسُ، وَيَنْطَلِقُ لِسَانُهُ بِمِثْلِ هَذَا الْأُسْلُوبِ الرَّائِعِ. وَحَسِبَهُ الرَّجُلُ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ، تَمَثَّلَ لَهُ فِي صُورَةِ دُبٍّ؛ فَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرَةُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالِارْتِباكُ. فَلَمْ يَدْرِ: أَيَهْرُبُ مِنْهُ، أَمْ يَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ؟ ثُمَّ عَنَّ٤ لَهُ أَنْ يَتَشَجَّعَ وَيَتَحَدَّثَ إِلَيْهِ، لِيَتَثَبَّتَ مِنْ حَقِيقَتِهِ.
فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ٥ عَلَى أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا دَفَعَهُ إِلَى الْحُضُورِ؛ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ وَهُوَ يُغَالِبُ الْخَوْفَ: «خَبِّرْنِي فِي صَرَاحَةٍ وَجَلَاءٍ٦ وَلَا تَكْذِبْنِي: أَجِنِّيٌّ أَنْتَ أَمْ إِنْسَانٌ؟ وَآدَمِيٌّ فِي هَذَا الْفَرْوِ أَمْ حَيَوَانٌ؟

خَبِّرْنِي، أَجِبْنِي، وَاصْدُقْنِي وَلَا تَكْذِبْنِي.

قُلْ لِي: مِنْ أَيْنَ قَدِمْتَ؟ وَفِي أَيِّ الْبُلْدَانِ وُلِدْتَ؟ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ نَشَأْتَ؟»

فَأَجَابَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «مِنْ دَسْكَرَةِ الْخَشَبِ جِئْتُ، وَفِيهَا وُلِدْتُ، وَعَلَى أَرْضِهَا نَشَأْتُ، وَفِي رِحَابِهَا كَبِرْتُ وَتَرَعْرَعْتُ؛ حَيْثُ تَعَهَّدَتْنِي أُمِّي «مَاجِدَةُ»: صَاحِبَةُ تِلْكَ الدَّسْكَرَةِ.»

•••

وَهُنَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ أَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُ إِنْسَانٌ، لَا جِنِّيٌّ وَلا حَيَوَانٌ؛ فَزَايَلَهُ الْخَوْفُ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ شَجَاعَتُهُ، وَقَالَ لَهُ مُتَعَجِّبًا: «أَأَنْتَ ابْنُ «مَاجِدَةَ»: صَاحِبَةِ دَسْكَرَةِ الْخَشَبِ؟ الْآنَ ذَكَرْتُكَ. أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي كَانَ يَذْهَبُ — فِي زَمَنِ طُفُولَتِهِ — إِلَى السُّوقِ لِيُخِيفَ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَ جِيرَانِنَا، وَيَمْلَأَ قُلُوبَهُمْ فَزَعًا وَرُعْبًا؟ لَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّكَ تَعِيشُ فِي الْغَابَةِ مُنْذَ ذَلِكَ الْحِينِ، وَأَنَّكَ قَانِعٌ بِمَا تَحْتَطِبُهُ فِيهَا، وَلَسْتَ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَعُونَةِ أَحَدٍ.

فَكَيْفَ غَيَّرْتَ رَأْيَكَ فِي الِابْتِعَادِ عَنِ النَّاسِ؟ وَمَا بَالُكَ تُحَاوِلُ أن تُزْعِجُ الْآمِنِينَ؟

كَلَّا، لَا تَقْتَرِبْ مِنَّا؛ فَلَيْسَ لَكَ عَمَلٌ عِنْدَنَا.

وَالرَّأْيُ أَنْ تَعُودَ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ، وَتَعِيشَ فِي الْغَابِ — كَمَا عِشْتَ مِنْ قَبْلُ — مَعَ أَمْثالِكَ مِنَ الدِّبَبَةِ.»

فَأَجَابَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مُتَوَسِّلًا مُسْتَعْطِفًا: «لَقَدْ شَبَّ فِي دَسْكَرَتِنَا — مُنْذُ أَيَّامٍ — حَرِيقٌ هائِلٌ، فَدَمَّرَهَا وَأَتَى عَلَى كُلِّ مَا فِيهَا٧ مِنْ شَجَرٍ وَثَمَرٍ، وَلَمْ يَبْقَ لِأُسْرَتِنَا مِنْ عَائِلٍ سِوايَ.

وَقَدْ أَصْبَحَ وَاجِبًا عَلَيَّ أَنْ أَسْعَى جَاهِدًا إِلَى الرِّزْقِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، لِأَظْفَرَ بِقُوتِ أُمِّي وَشَقِيقَتِي وَمُرَبِّيَتِي.

وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أَتَوَاكَلَ٨ بَعْدَ الْيَوْمِ، كَمَا لَا يَسَعُنِي أَنْ أَتَخَلَّى عَنِ احْتِمَالِ هَذَا الْعِبْءِ الثَّقِيلِ، وَالِاضْطِلاعِ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْجَلِيلِ.

وَقَدْ جِئْتُ أَسْأَلُكُمْ عَمَلًا يُسَاعِدُنِي عَلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ الرَّغْبَةِ.

وَسَتَرَى — مِنْ إِخْلَاصِي وَإِتْقَانِي، لِمَا تَعْهَدُ إِلَيَّ بِهِ — مَا يَسُرُّكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

فَأَنَا — كَمَا تَرَانِي — مَوْفُورُ الْقُوَّةِ، سَلِيمُ الْجِسْمِ، صَحِيحُ الْبِنْيَةِ. وَأَنَا إِلَى ذَلِكَ شَرِيفُ الْمَقْصِدِ، حَسَنُ النِّيَّةِ، مِطْوَاعٌ لَا أُخَالِفُ لَكَ رَأْيًا، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا!»

فَأَطْرَقَ صَاحِبُ الدَّسْكَرَةِ مُفَكِّرًا، ثُمَّ انْطَلَقَ يُعَنِّفُهُ٩ مُسْتَنْكِرًا، يَقُولُ: «لَسْتُ أَدْرِي: كَيْفَ يَدُورُ بِخَلَدِكَ١٠ أَنْ يَتَعَاوَنَ إِنْسَانٌ مِثْلِي مَعَ حَيَوَانٍ مِثْلِكَ بِأَيِّ حَالٍ؟
هَلْ ضاقَتْ بِيَ الدُّنْيَا عَلَى رُحْبِهَا،١١ فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْ أَسْتَعِينُ بِهِ فِي أَدَاءِ عَمَلِي غَيْرُ حَيَوَانٍ دَمِيمٍ، مُشَوَّهِ الْخِلْقَةِ، فِي مِثْلِ صُورَتِكَ، وَبَشَاعَةِ هَيْئَتِكَ؛ لِيُدْخِلَ الْفَزَعَ عَلَى وَلَدِي وَزَوْجَتِي، وَأَهْلِي وَعَشِيرَتِي، وَيَمْلَأَ قَلْبَ كُلِّ مَنْ يَرَاهُ فَزَعًا وَرُعْبًا؟

أَحَسِبْتَنِي غَبِيًّا إِلَى هَذَا الْحَدِّ؟ كَلَّا، لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْقِيقِ رَغْبَتِكَ، وَلا مَعْدَى لَكَ عَنِ الرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ. وَمَا أَرَاكَ بَالِغًا إِقْنَاعِي مَهْمَا تَتَفَنَّنْ فِي الضَّرَاعَةِ وَالِاسْتِعْطَافِ؛ فَاخْتَصِرْ حَدِيثَكَ، وَكُفَّ عَنْ مُحَاوَلَتِكَ، وَاعْزُبْ عَنْ وَجْهِي، وَدَعْنَا نُتِمَّ غَدَاءَنَا بِسَلامٍ.»

فَقَالَ لَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ — يَا سَيِّدِي — أَنْ تَتَجَاوَزَ عَنْ بَشَاعَةِ مَنْظَرِي، وَتُقَدِّرَ طَهَارَةَ قَلْبِي وَحُسْنَ مَخْبَرِي.

وَسَتَرَى — إِذَا جَرَّبْتَنِي فِي الْعَمَلِ — أَنَّنِي نِعْمَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ.

وَلَكَ — إِذَا شِئْتَ — أَنْ تَزْوِيَنِي١٢ فِي مَكَانٍ قَصِيٍّ، أُؤَدِّي فِيهِ مَا تَكِلُهُ إِلَيَّ مِنْ عَمَلٍ، بَعِيدًا عَنْ أَوْلَادِكَ وَأَفْرَادِ أُسْرَتِكَ؛ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ عَلَيَّ عَيْنُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَبَدًا.»
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ غَاضِبًا: «كُفَّ عَنْ لَجَاجِكَ وَعِنَادِكَ، وَلَا تَتَمَادَ فِي إِلْحَافِكَ؛١٣ فَمَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مِنْ إِقْنَاعِي شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُ.

وَحَذَارِ أَنْ تَسْتَرْسِلَ، أَيُّهَا الدُّبُّ الْقَبِيحُ الصُّورَةِ!

وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا لَمْ تَتَنَحَّ عَنْ وَجْهِي فِي الْحَالِ، جَعَلْتُكَ عِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ؛ فَهَلْ أَنْتَ سَامِعٌ مُطِيعٌ؟ اُعْزُبْ عَنْ وَجْهِي أَيُّهَا السَّمْجُ الْمِلْحَاحُ، وَإِلَّا أَنْفَذْتُ أَسْنَانَ مِذْرَاتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، وَفَرَيْتُ بِهَا فَرْوَكَ الْكَثِيفَ الْبَشِعَ.»

وَكَانَتِ الصَّدْمَةُ مُزْعِجَةً، فَلَمْ يَتَمَالَكِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» أَنْ خَفَضَ رَأْسَهُ مَحْزُونًا، كَاسِفَ الْبَالِ، كَسِيرَ الْخَاطِرِ، لِمَا لَحِقَهُ مِنْ مَهَانَةٍ وَإِذْلَالٍ. وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ مُفَارَقَةِ الرَّجُلِ بَعْدَ أَنْ يَئِسَ مِنْ مَعُونَتِهِ، وَخَابَ أَمَلُهُ.

•••

وَمَشَى «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» فِي طَرِيقِهِ مُبْتَعِدًا عَنْ صَاحِبِ الدَّسْكَرَةِ، بَطِيءَ السَّيْرِ، مُتَخَاذِلَ الْخُطُوَاتِ.١٤

وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهُ ذَلِكَ الزَّارِعُ الْقَاسِي الْقَلْبِ، حَتَّى شَفَعَ مَا أَسْلَفَهُ مِنْ وَعِيدِهِ بِقَهْقَهَةٍ عَالِيَةٍ، تَفِيضُ شَمَاتَةً وَاسْتِهْزاءً، وَسُخْرِيَةً وَاسْتِعْلاءً … وَتَبِعَتْهَا أَصْوَاتُ الْأُسْرَةِ مُتَهَلِّلِينَ، فَرِحِينَ بِهَزِيمَتِهِ وَانْكِسَارِ خَاطِرِهِ!

وَمَا غَابَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» عَنْ أَنْظَارِهِمْ، حَتَّى طَفَرَتْ مِنْ عَيْنِهِ دَمْعَةٌ حَزِينَةٌ. فَمَا كَانَ أَسْرَعَهُ إِلَى تَجْفِيفِهَا، مُعْتَصِمًا بِالصَّبْرِ، رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللهِ، نَادِمًا عَلَى اسْتِسْلَامِهِ لِلْجَزَعِ.

وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ — بَعْدَ كُلِّ مَا نَالَهُ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالْمَهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ — أَنْ يَأْخُذَ بِمَا اقْتَرَحَتْهُ عَلَيْهِ «نَرْجِسُ»؛ وَهُوَ أَنْ تَحُلَّ مَحَلَّهُ فِي لُبْسِ الْفَرْوِ وَاتِّخَاذِ شَكْلِ الدُّبِّ؛ فَتِلْكَ هِيَ الْوَسِيلَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي تُخَلِّصُهُ مِنْ دَمَامَتِهِ، وَتَرْفَعُ عَنْهُ بَشَاعَةَ وَجْهِهِ، وَشَنَاعَةَ صُورَتِهِ.

١  مستنجدة: مستغيثة.
٢  هراواتهم: عصيهم الغليظة.
٣  غائلة الدب: داهيته ومصيبته.
٤  عنَّ: ظهر.
٥  اجتمع رأيه: عزم.
٦  جلاء: وضوح.
٧  أتى على كل ما فيها: أهلكه.
٨  أتواكل: أكسل وأعتمد على غيري.
٩  يعنفه: يلومه.
١٠  بخلدك: بعقلك.
١١  على رحبها: على سعتها.
١٢  تزويني: تبعدني.
١٣  إلحافك: إلحاحك.
١٤  متخاذل الخطوات: ضعيف الخطوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤