فِي سَبِيلِ الرِّزْقِ

وَاسْتَأْنَفَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» سَيْرَهُ فِي طَرِيقِهِ، سَاعِيًا إِلَى رِزْقِهِ وَرِزْقِ أُسْرَتِهِ.

وَانْتَهَى بِهِ السَّيْرُ إِلَى مَزْرَعَةٍ ثَانِيَةٍ؛ فَلَمْ يَكَدْ يَدْنُو مِنْهَا، حَتَّى رَأَى — عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُ — جَمَاعَةً مِنَ الرِّجَالِ، مُنهَمِكِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، مُتَحَمِّسِينَ لِأَدَائِهَا بَيْنَ غَادٍ وَرَائِحٍ، وَقَدْ سَرَتْ فِيهِمْ رُوحُ النَّشَاطِ سَرَيَانَ الْكَهْرُبَاءِ، فَلَمْ يُضِيعُوا لَحْظَةً مِنْ وَقْتِهِمْ سُدًى؛١ فَهَذَا مَشْغُولٌ بِالْحَرْثِ، وَثَانٍ مُهْتَمٌّ بِالْحَصَادِ، وَثَالِثٌ مَعْنِيٌّ بِرِيَاضَةِ الْخَيْلِ، وَرَابِعٌ مُقْبِلٌ عَلَى تَسْمِيدِ الْأَرْضِ، وَخَامِسٌ مُنْهَمِكٌ فِي بَذْرِ الْحَبِّ، وَسَادِسٌ دَائِبٌ عَلَى رَيِّ الْأَرْضِ وَسَقْيِ الزَّرْعِ، وَسَابِعٌ لَا يَفْتَأُ يُشَذِّبُ النَّبَاتَ، وَآخَرُونَ مَشْغُولُونَ بِمُخْتَلِفِ الْأَعْمَالِ.

فَقَالَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» لِنَفْسِهِ: «لَعَلِّي أَجِدُ فِي هَذَا الْحَقْلِ الْفَسِيحِ عَمَلًا أَقُوتُ بِهِ أُسْرَتِي؛ فَإِنِّي أَرَى كُلَّ مَنْ فِيهِ رِجَالًا، لَيْسَ فِيهِمْ طِفْلٌ وَلَا فَتَاةٌ وَلَا امْرَأَةٌ؛ وَبِهَذَا أَضْمَنُ أَلَّا يَتَفَزَّعَ مِنْ لِقَائِي أَحَدٌ.

وَمَا أَظُنُّ الرِّجَالِ سَيَتَهَيَّبُونَ٢ رُؤْيَتِي، أَوْ يَنْفِرُونَ — عَلَى أَيِّ حَالٍ — مِنْ قُبْحِ شَكْلِي.»

وَهَكَذَا اقْتَنَعَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِصَوَابِ مَا رَآهُ؛ فَاقْتَرَبَ مِنَ الرِّجَالِ — فِي خُفْيَةٍ وَحَذَرٍ — بَاذِلًا جُهْدَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، دُونَ أَنْ تَقَعَ عَلَيْهِ أَعْيُنُهُمْ.

وَمَا اقْتَرَبَ مِنْ مَكَانِهِمْ، حَتَّى ابْتَدَرَ بِالتَّحِيَّةِ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ — فِيمَا يَبْدُو عَلَى سِيمَاهُ — وَكِيلَ صَاحِبِ الدَّسْكَرَةِ، وَنَائِبَهُ فِيهَا.

وَمَا إِنْ حَيَّاهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» حَتَّى رَفَعَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ، فَالْتَقَتْ بِهِ عَيْنَاهُ؛ فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ تَرَاجَعَ إِلَى الْوَرَاءِ خُطْوَةً، مُتَفَزِّعًا مِنْ مَرْآهُ.

وَظَلَّ يُجِيلُ النَّظَرَ فِي صُورَتِهِ، وَقَدْ تَعَاظَمَتْهُ الدَّهْشَةُ مِنْ بَشَاعَتِهِ، فَصَرَخَ فِيهِ يَسْأَلُهُ مُتَعَجِّبًا: «مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا السَّمْجُ الْبَغِيضُ؟ وَمَاذَا تَبْتَغِيهِ؟»٣

فَأَجَابَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «أَنَا ابْنُ «مَاجِدَةَ» الْقَرَوِيَّةِ: صَاحِبَةِ دَسْكَرَةِ الْخَشَبِ يَا سَيِّدِي!»

فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ مُتَعَجِّبًا: «وَمَاذَا جَاءَ بِكَ إِلَى هُنَا؟ وَأَيُّ نَكْبَةٍ قَذَفَتْ بِكَ إِلَى أَرْضِنَا، وَأَغْرَتْكَ بِالْحُضُورِ إِلَى مَزْرَعَتِنَا؟»

فَأَجَابَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «لَمْ أَجِئْ — يَا سَيِّدِي — إِلَّا بَعْدَ أَنِ احْتَرَقَتْ دَسْكَرَتُنَا، وَنَضَبَ الْقُوتُ٤ مِنْ أَرْضِنَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ أَسْعَى وَرَاءَ الرِّزْقِ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ.٥ وَلَيْسَ لِي عِنْدَكَ إِلَّا رَجَاءٌ وَاحِدٌ، هُوَ أَنْ تَقْبَلَنِي أَجِيرًا عِنْدَكَ؛ لِأَكْفُلَ بِذَلِكَ قُوتَ أُسْرَتِي، وَهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ: وَالِدَتِي وَشَقِيقَتِي وَمُرَبِّيَتِي.

وَلَعَلِّي بَالِغٌ مِنْ عَطْفِكَ وَفَضْلِكَ مَا أَرْجُوهُ.»

فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ فِي خُشُونَةٍ وَعَجْرَفَةٍ: «أَيَّ عَمَلٍ تُرِيدُ أَيُّهَا الشَّقِيُّ السَّمْجُ؟

أَيُّ عَمَلٍ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكِلَهُ إِلَى دُبٍّ فِي مِثْلِ دَمَامَتِكَ وَبَشَاعَتِكَ؟»

فَقَالَ لَهُ مُتَأَلِّمًا: «لَيْسَ لِي — يَا سَيِّدِي — مِنَ الدِّبَبَةِ إِلَّا قُبْحُ فَرْوِهَا، وَخُشُونَةُ مَظْهَرِهَا.

فَإِذَا تَجَاوَزْتَ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْظَرِ الْخَشِنِ، وَلَمْ تَشْغَلْكَ دَمَامَتِي وَتَشْوِيهُ سَحْنَتِي،٦ وَخَبَرْتَ وَفَائِي وَنَقَاءَ سَرِيرَتِي، رَأَيْتَ — خَلْفَ هَذِهِ الْبَشَاعَةِ الظَّاهِرَةِ — قَلْبَ إِنْسَانٍ وَفِيٍّ يَخْفِقُ بِعَوَاطِفَ كُلُّهَا خَيْرٌ وَنُبْلٌ، وَلِسَانَ صِدْقٍ لَا يَتَرَدَّدُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى صَاحِبِ الْمُرُوءَةِ وَالْفَضْلِ، وَنَفْسًا شَاكِرَةً، تَذْكُرُ الصَّنِيعَةَ٧ وَلَا تَنْسَاهَا، وَلَوِ اسْتَطَاعَتْ لَرَدَّتْهَا — مُضَاعَفَةً — لِمَنْ أَسْدَاهَا!٨

فَإِذَا عَجَزْتُ عَنِ الْوَفَاءِ بِجَمِيلِكَ، فَلَنْ تَرَى مِنِّي — عَلَى كُلِّ حَالٍ — مَا لَا يُرْضِيكَ فِيمَا أَعْمَلُ، وَلَا مَا يَسُوءُكَ فِيمَا أُضْمِرُ! وَسَتَرَى مِنِّي — مَتَى خَبَرْتَنِي — نَفْسًا مُنْطَوِيَةً عَلَى حُبِّ الْخَيْرِ، وَالتَّفَانِي فِي نَفْعِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ.»

•••

وَبَيْنَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» يَتَكَلَّمُ، وَالْوَكِيلُ يُصْغِي إِلَيْهِ هَازِئًا بِمَا يَسْمَعُهُ مِنْهُ، إِذْ أَجْفَلَتِ الْخَيْلُ٩ لِسَبَبٍ مُفَاجِئٍ لَا يَدْرِيهِ رَاوِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ.
فَانْطَلَقَتِ الْخَيْلُ مِنَ الْفَزَعِ هَارِبَةً، مُتَدَافِعَةً مُتَوَاثِبَةً، يَرْكُلُ١٠ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَنْهَالُ عَلَى صَاحِبِهِ نَهْشًا وَعَضًّا، شَارِدَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ.

وَعَجَزَ السَّائِسُ عَنْ كَبْحِ جِمَاحِهَا وَرَدِّهَا إِلَى مَرَابِطِهَا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ.

وَاشْتَدَّ الْغَيْظُ وَالْحَنَقُ بِالسَّائِسِ، فَصَاحَ مُتَبَرِّمًا سَاخِطًا: «لَا رَيْبَ أَنَّ بَشَاعَةَ «الدُّبِّ» كَانَتْ سَبَبَ انْزِعَاجِ الْخَيْلِ وَفَزَعِهَا، وَلَوْلَاهُ مَا نَفَرَتْ وَاضْطَرَبَ أَمْرُهَا، وَأَفْلَتَ مِنِّي زِمَامُهَا؛ فَعَجِّلْ — يَا سَيِّدِي — بِطَرْدِهِ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَحَسْبُنَا مَا حَلَّ بِنَا مِنْ شُؤْمِهِ وَنَحْسِهِ.»

فَصاحَ الْوَكِيلُ ﺑ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» غَاضِبًا: «اُعْزُبْ عَنْ وَجْهِي أَيُّهَا الدُّبُّ الْبَغِيضُ، فَمَا أَرَاكَ إِلَّا رَائِدَ نَحْسٍ، وَجَالِبَ سُوءٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَلَلْتَ فِيهِ، فَامْضِ إِلَى حَيْثُ تَشَاءُ، وَحَسْبُنَا مِنْ شُؤْمِكَ مَا نُعَانِيهِ.»

وَهُنَا ذَهِلَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَجَمَدَ فِي مَكَانِهِ، وَتَخَاذَلَتْ قُوَاهُ،١١ فَأَصْبَحَ لَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ، لِشِدَّةِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّهَشِ وَالْحَيْرَةِ.

فَصَاحَ بِهِ الرَّجُلُ، وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ: «أَلا تُرِيدُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا بِسَلامٍ؟

أَجِئْتَنَا تَبْغِي الْمُشَاكَسَةَ وَالْخِصَامَ؟

أَمَا وَاللهِ لَئِنْ بَقِيتَ فِي مَكَانِكَ لَحْظَةً بَعْدَ أَنْ أَنْذَرْتُكَ وَحَذَّرْتُكَ لَأَهْرِيَنَّكَ،١٢ ثُمَّ — وَاللهِ — لَأَتْرُكَنَّكَ جُثَّةً هَامِدَةً.»

•••

وَانْدَفَعَ الْوَكِيلُ الشَّرِسُ يُنَادِي رِجَالَهُ، وَيَسْتَدْعِي كِلابَهُ لِيُطْلِقَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَصِيحُ بِهِمْ: «عَجِّلُوا بِمُطَارَدَةِ هَذَا الْحَيَوَانِ، وَلا يُفْلِتَنَّ مِنْكُمْ ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ.

يَا للهِ! هَا هُوَ ذا يُسْلِمُ سَاقَيْهِ لِلرِّيحِ، لَائِذًا بِالْفِرَارِ.

لَهُ الْوَيْلُ! لَقَدْ أَفْلَتَهُ مِنْ عِقَابِنَا حُسْنُ حَظِّهِ وَسُوءُ حَظِّنَا!»

•••

وَكَانَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» — بَعْدَ هَذِهِ الصَّدْمَةِ الثَّانِيَةِ — أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَاةِ. فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ غَادَرَ مَكَانَهُ عَلَى عَجَلٍ،١٣ وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي النَّجَاةِ بِنَفْسِهِ، بَاذِلًا قُصَارَى جُهْدِهِ١٤ فِي الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ.

وَرَأَى مِنَ الْحَزْمِ أَنْ يَعْجَلَ بِالْفِرَارِ، قَبْلَ أَنْ تَتَهَيَّأَ تِلْكَ الْوُحُوشُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْمُفْتَرِسَةُ الْغَاضِبَةُ لِلِّحَاقِ بِهِ، بَعْدَ أَنْ شَهِدَ مِنْ حَمَاقَتِهِمْ وَشَرَاسَتِهِمْ، وَلُؤْمِ طَبْعِهِمْ وَخَسَاسَتِهِمْ، مَا حَزَنَهُ وَغَمَّهُ.

وَكَانَتْ هَذِهِ هِيَ الْمُحَاوَلَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي أَخْفَقَ فِيهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، كَمَا رَأَيْتَ. وَقَدِ احْتَمَلَهَا صَابِرًا رَاضِيًا، وَلَمْ يَفُتَّ الْأَلَمُ فِي عَضُدِهِ،١٥ بِرَغْمِ مَا لَقِيَهُ فِي مُفَاجَأَتَيْهِ، وَعَانَاهُ فِي صَدْمَتَيْهِ.

وَمَشَى وَهُوَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: «إِنَّ الْحَيَاةَ كِفَاحٌ، فَلَا مَعْنَى لِلْيَأْسِ فِي مَيْدَانِهَا، وَلَا يَزَالُ بَاقِيًا مِنَ النَّهَارِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ أَوْ أَرْبَعٌ، وَلَا يَزالُ أَمَامِي فُسْحَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِمُوَاصَلَةِ السَّعْيِ عَلَى رِزْقِي، وَلَنْ يَتَخَلَّى لُطْفُ اللهِ وَمَعُونَتُهُ عَمَّنْ قَصَدَهُ وَرَجَاهُ مَا دَامَ يُوَاصِلُ جِهَادَهُ وَسَعْيَهُ فِي الْحَيَاةِ.»

ثُمَّ تَوَجَّهَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» إِلَى مَصْنَعِ حَدَّادٍ، يَبْعُدُ عَنْ دَسْكَرَةِ أُمِّهِ بِضْعَةَ أَمْيَالٍ.

وَكَانَ صَاحِبُ الْمَصْنَعِ يَمْلِكُ جُمْهُورًا كَبِيرًا مِنَ الْعُمَّالِ، وَلَا يَفْتَأُ يَطْلُبُ الْمَزِيدَ مِنْهُمْ.

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَرُدَّ قَاصِدًا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَصْنَعِهِ. وَمَا كَانَ ذَلِكَ — عَلَى الْحَقِيقَةِ — كَرَمًا مِنْهُ وَلَا تَفَضُّلًا، بَلْ كَانَ فَرْطَ حِرْصٍ،١٦ وَتَهَالُكًا عَلَى تَثْمِيرِ مَالِهِ، وَمُضَاعَفَةِ ثَرْوَتِهِ.

وَلَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مَحْبُوبًا، بَلْ كَانَ مَكْرُوهًا أَشَدَّ الْكُرْهِ مِنْ كُلِّ عَارِفِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِيمَا يَدْعُوهُ الشَّرَهُ وَالْأَنَانِيَّةُ إِلَى التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَلا يَشْغَلُهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا تَنْمِيَةُ مَوَارِدِهِ.

وَلَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَكَانَ النَّاسُ يُطْلِقُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأَنَانِيِّ لَقَبَ «الْقَابِضِ»، لِبُخْلِهِ وَفَرْطِ حِرْصِهِ … وَكَانَ مَكْرُوهًا فِي نَظَرِ كُلِّ مَنْ عَرَفَهُ مِنْ عُمَّالِهِ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ.

وَقَدْ وَاصَلَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» سَيْرَهُ إِلَى هَذَا الْمَصْنَعِ، بَعْدَ أَنْ ضَاقَتْ بِهِ السُّبُلُ؛ فَرَأَى «الْقَابِضَ» وَاقِفًا عِنْدَ بَابِهِ يُؤَنِّبُ١٧ طَائِفَةً مِنْ عُمَّالِهِ، وَيُهَدِّدُ آخَرِينَ، وَيُشِيعُ الْفَزَعَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَحُلُّ فِيهِ، وَيَمْلَأُ بِالرُّعْبِ كُلَّ مَنْ يُدَانِيهِ.١٨

فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، قَالَ لَهُ: «أَتُرَانِي وَاجِدًا عِنْدَكَ عَمَلًا أُؤَدِّيهِ يَا سَيِّدِي؟»

فَأَجَابَ «الْقَابِضُ»، دُونَ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مُحَدِّثِهِ: «لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ أَيُّهَا السَّائِلُ؛ فَعِنْدِي — فِي كُلِّ وَقْتٍ — عَمَلٌ لِكُلِّ رَاغِبٍ فِيهِ مَتَى عَرَفَ كَيْفَ يُؤَدِّيهِ … فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا تُحْسِنُهُ.

وَخَبِّرْنِي: أَيُّ الْأَعْمَالِ تُجِيدُهُ وَتُتْقِنُهُ؟»

•••

وَلَمَّا انْتَهَى «الْقَابِضُ» مِنْ إِجَابَتِهِ، رَفَعَ رَأْسَهُ لِيَتَبَيَّنَ وَجْهَ مُحَدِّثِهِ … وَلَمْ تَكَدْ تَقَعُ عَلَيْهِ عَيْنَاهُ، حَتَّى هَالَهُ شَنَاعَةُ مَا يَرَاهُ!

وَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنِ اقْتَضَبَ حَدِيثَهُ،١٩ وَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَالشَّرَرُ يَكَادُ يَتَطَايَرُ مِنْ عَيْنَيْهِ لِشِدَّةِ سُخْطِهِ عَلَيْهِ.

وَانْدَفَعَ «الْقَابِضُ» يُمْطِرُ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» سَيْلًا مِنَ اللَّوْمِ وَالسُّخْرِيَةِ.

وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: «أَيُّ دُعَابَةٍ سَخِيفَةٍ اخْتَرْتَهَا، وَأَيُّ سَمَاجَةٍ وَقِحَةٍ آثَرْتَهَا؟ أَفِي مَسْرَحٍ هَازِلٍ أَعْدَدْتَ هَذَا الْمَظْهَرَ الْمَمْسُوخَ؟

وَمَا الَّذِي أَعْجَبَكَ مِنْ صُورَةِ الدِّبَبَةِ حَتَّى ارْتَضَيْتَهَا، وَلَمْ تَخْجَلْ مِنَ الظُّهُورِ بِهَا، وَكَيْفَ جَرُؤْتَ عَلَى الظُّهُورِ بِهَا أَمَامِي، غَيْرَ مُتَهَيِّبٍ بَطْشِي وَانْتِقَامِي!»

فَأَجَابَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَقَدْ بَرَّحَ بِهِ الْحُزْنُ:٢٠ «مَعَاذَ اللهِ — يَا سَيِّدِي — أَنْ أَكُونَ عَابِثًا مُدَاعِبًا، أَوْ خَاتِلًا٢١ مُشَاغِبًا.

وَإَنِّي لَيُؤْسِفُنِي — عَلِمَ اللهُ — أَنْ أُقَرِّرَ لَكَ أَنَّ هَذَا الْفَرْوَ الْبَشِعَ لَيْسَ — لِسُوءِ حَظِّي — إِلَّا جِلْدِيَ الطَّبِيِعِيَّ الِّذِي يَكْسُو جِسْمِي، مُنْذُ وِلَادَتِي إِلَى الْيَوْمِ!

عَلَى أَنَّ مَظْهَرِي لَنْ يَضِيرَكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَسَتَرَى مِنْ حُسْنِ قِيَامِي بِمَا تَعْهَدُ إِلَيَّ مِنْ عَمَلٍ، مَا يُنْسِيكَ مَا تَرَى مِنْ قُبْحِ صُورَتِي، وَبَشَاعَةِ هَيْئَتِي.»

فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ غَضَبُ «الْقَابِضِ»، وَقَالَ لَهُ وَهُوَ يُرْغِي وَيُزْبِدُ، وَيَتَوَعَّدُ وَيُهَدِّدُ: «لَكَ مَا تُرِيدُ أَيُّهَا الدُّبُّ الْبَشِعُ الْعَنِيدُ.

وَلَنْ أَضِنَّ عَلَيْكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَجْدُرُ بِكَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ!

فَلَيْسَ أَصْلَحَ لِمِثْلِكَ مِنْ أَنْ أُودِعَهُ غِرَارَةً،٢٢ ثُمَّ أُرْسِلَهُ إِلَى حَدِيقَةِ الْحَيَوَانِ، هَدِيَّةً يَذْكُرُونَهَا لِي بِالشُّكْرِ؛ حَيْثُ يُلْقُونَكَ مَعَ أَمْثَالِكَ، وَهُنَاكَ تَجِدُ مِنَ الْعَمَلِ مَا تَشْغَلُ بِهِ فَرَاغَ وَقْتِكَ، وَتَظَلُّ تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِكَ. فَإِذَا جَهَدَتْكَ الدِّبَبَةُ وَصَرَعَتْكَ،٢٣ وَمَزَّقَتْ جِلْدَكَ وَأَكَلَتْكَ، أَنْجَتْكَ مِنْ مَتَاعِبِكَ، وَخَلَّصَتْكَ مِنْ شَقَائِكَ وَأَرَاحَتْكَ. فَهَلْ يُرْضِيكَ هَذَا الْعَمَلُ؟ وَهَلْ يَسُرُّكَ أَنْ أُعَجِّلَ لَكَ بِهِ؟ فَإِذَا كُنْتَ تَأْبَاهُ وَلَا تَرْضَاهُ، فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ تَعْزُبَ عَنْ وَجْهِي إِذَا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ السَّلَامَةَ، وَآثَرْتَ النَّجَاةَ!»
ثُمَّ رَفَعَ «الْقَابِضَ» هِرَاوَتَهُ مُلَوِّحًا بِهَا فِي الْفَضَاءِ، وَكَادَ يَهْرِيهِ٢٤ لَوْ لَمْ يُسْرِعِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِمُغَادَرَتِهِ، لِيَخْلُصَ مِنْ أَذِيَّتِهِ، وَيَنْجُوَ مِنْ قَسْوَتِهِ وَشَرَاسَتِهِ.
١  سدى: بلا فائدة.
٢  سيتهيبون: سيخافون.
٣  ماذا تبتغيه: ماذا تطلبه.
٤  نضب القوت: زال وفني.
٥  مناكب الأرض: نواحيها.
٦  تشويه سحنتي: قبح هيئتي وصورتي.
٧  الصنيعة: المعروف.
٨  أسداها: قدمها.
٩  أجفلت الخيل: هربت مسرعة.
١٠  يركل: يرفس.
١١  تخاذلت قواه: ضعفت.
١٢  لأهرينك: لأضربنك بالهراوة، وهي العصا الغليظة.
١٣  على عجل: بسرعة.
١٤  قصارى جهده: أقصى جهده.
١٥  لم يفت الألم في عضده: لم يضعفه.
١٦  فرط حرص: زيادة بخل.
١٧  يؤنب: يوبخ.
١٨  يدانيه: يقترب منه.
١٩  اقتضب حديثه: اختصره.
٢٠  برح به الحزن: آلمه إيلامًا شديدًا.
٢١  خاتلًا: مخادعًا.
٢٢  أودعه غرارة: أضعه في زكيبة.
٢٣  صرعتك الدببة: غلبتك وألقتك على الأرض.
٢٤  يهريه: يضربه بهراوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤