نَرْجِسُ

وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ، وَانْقَضَتِ الشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، وَنَمَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَتَرَعْرَعَ، حَتَّى بَلَغَ الثَّامِنَةَ مِنْ عُمْرِهِ؛ فَصَلُبَ عُودُهُ، واشْتَدَّ جِسْمُهُ، وَقَوِيَ سَاعِدُهُ.

وَكَانَ لَهُ — بِرَغْمِ فَرْوِهِ الْخَشِنِ — صَوْتٌ عَذْبٌ يَفِيضُ رِقَّةً وَحَنَانًا، وَعَيْنَانِ نَجْلاوَانِ، يَتَأَلَّقُ فِيهِمَا الْحُسْنُ، وَيُشْرِقُ فِي نَظَرَاتِهِمَا نُورُ الذَّكَاءِ.

وَتَبَدَّلَ شَعْرُهُ الشَّائِكُ، فَلانَ مَلْمَسُهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ …

وَكَانَ شَعْرُهُ — كَمَا حَدَّثْتُكَ — أَلِيمَ الْوَخْزِ، كَأَنَّهُ أَسْنَانُ الْإِبَرِ، وَأَطْرَافُ الشَّوْكِ، تَجْرَحُ مَنْ يَلْمُسُهَا وَتُدْمِيهِ، وَتُعَذِّبُهُ وَتُشْقِيهِ.

وَلَعَلَّكَ لَمْ تَنْسَ مَا لَقِيَتْهُ «مَاجِدَةُ» مِنَ الْأَلَمِ، حِينَ هَمَّتْ بِتَقْبِيلِهِ عَقِبَ وِلادَتِهِ، فَجَرَحَهَا شَعْرُهُ الْكَثِيفُ، فَلَمْ تَجْرُؤْ عَلَى تَقْبِيلِهِ مَرَّةً أُخْرَى.

وَكَانَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» يَقْضِي أَغْلَبَ أَوْقَاتِهِ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ، مُسْتَسْلِمًا لِآلامِهِ، غارِقًا فِي تَفْكِيرِهِ الْحَزِينِ.

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ؛ فَلَيْسَ مِنَ السَّهْلِ عَلَى مِثْلِهِ أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى صَاحِبٍ يُؤْنِسُهُ؛ فَقَدْ كَانَتْ بَشَاعَةُ مَنْظَرِهِ كَفِيلَةً بِتَنْفِيرِ كُلِّ مَنْ يَدْنُو مِنْهُ: سِيَّانِ فِي ذَلِكَ صِغارُ الْأَطْفَالِ، وَكِبارُ النِّساءِ وَالرِّجَالِ.

•••

وَذَاتَ يَوْمٍ سَاقَتْهُ قَدَمَاهُ إِلَى الْغَابَةِ — وَهِيَ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ دَسْكَرَتِهِ — فَقَضَى فِيهَا وَقْتًا جَمِيلًا، هادِئَ النَّفْسِ، مُطْمَئِنَّ الْخاطِرِ.

ثُمَّ اشْتَدَّ الْحَرُّ فَجْأَةً، فَكَادَ يُنَغِّصُ عَلَيْهِ نُزْهَتَهُ، فَالْتَمَسَ١ مَكَانًا يَأْوِي إِلَيْهِ، لِيَسْتَرْوِحَ فِيهِ النَّسَمَاتِ.

وَلَمْ يَمْشِ بِضْعَ خُطُواتٍ، حَتَّى رَأَى — عَلَى مَدِّ الْبَصَرِ مِنْهُ — كُتْلَةً بَيْضاءَ وَرْدِيَّةً، مُلْقَاةً تَحْتَ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ وارِفَةِ الظِّلالِ … فَتَقَدَّمَ نَحْوَهَا فِي حَذَرٍ لِيَتَعَرَّفَهَا.

وَمَا كَانَ أَشَدَّ دَهْشَتَهُ حِينَ تَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْكُتْلَةَ الصَّغِيرَةَ الْمُوَرَّدَةَ اللَّوْنِ لَيْسَتْ إِلَّا طِفْلَةً صَغِيرَةً فِي ظِلِّ الشَّجَرَةِ.

•••

وَكَانَتِ الطِّفْلَةُ تَبْدُو لِرَائِيهَا فِي الْعَامِ الثَّالِثِ مِنْ عُمْرِهَا، وَقَدْ مَيَّزَهَا اللهُ بِجَمَالٍ نَادِرٍ، وَحُسْنٍ بَاهِرٍ.

فَلَمَّا رَآهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَقَفَ أَمَامَهَا، وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ الْعَجَبُ كُلَّ مَأْخَذٍ.

وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ، فَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُسَائِلُهَا: «كَيْفَ جَاءَتِ الطِّفْلَةُ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ الْمُوحِشِ الْقَفْرِ؟ وَكَيْفَ تَرَكَهَا أَهْلُوهَا تَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ وَحْدَهَا، وَهِيَ فِي الثَّالِثَةِ مِنْ عُمْرِهَا؟»

واشْتَدَّتِ الْحَيْرَةُ بِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْحَرَكَةَ، وَجَمَدَ فِي مَكَانِهِ مُرْتَبِكًا لَا يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ! فَقَدْ كَانَ مَنْظَرُهَا — فِي الْحَقِّ — يَدْعُو إِلَى الْإِشْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ عَادِيَاتِ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ، وَلَمْ يَدْرِ الْأَمِيرُ كَيْفَ تَرْقُدُ مِثْلُ هَذِهِ الطِّفْلَةِ الصَّغَيرَةِ وَحِيدَةً فِي الْغَابَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْعَاهَا أَحَدٌ!

وَزادَ فِي دَهْشَتِهِ مَا رَآهُ عَلَى أَسارِيرِهَا٢ مِنْ دَلائِلِ الرِّضَى وَالِاطْمِئْنَانِ.
فَكَأَنَّمَا كَانَتْ تَرْقُدُ عَلَى سَرِيرٍ، فَوْقَ فِرَاشٍ وَثِيرٍ،٣ وَسائِدُهُ مِنْ حَرِيرٍ!

وَكَانَتْ تَرْتَدِي ثَوْبًا مِنَ الْحَرِيرِ الْأَزْرَقِ الْمُطَرَّزِ بِالذَّهَبِ. وَجَوْرَبُهَا الْحَرِيرِيُّ غايَةً فِي الرِّقَّةِ، وَقَدِ الْتَمَعَ فِي مِعْصَمِهَا الصَّغِيرِ سِوارٌ مِنَ الذَّهَبِ، يَنْتَهِي بِإِطَارٍ صَغِيرٍ فِيهِ صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ، لَعَلَّهَا تَنْطَوِي عَلَى سِرٍّ مِنَ الْأَسْرَارِ! وَتَدَلَّى مِنْ جِيدِهَا عِقْدٌ مِنْ نَفِيسِ اللُّؤْلُؤِ.

وَظَلَّتِ الطِّفْلَةُ مَثارَ اهْتِمَامِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، وَمَبْعَثَ حَيْرَتِهِ.

فَرَاحَ يُفَتِّشُ فِي ذاكِرَتِهِ، بَاحِثًا عَنْ حَلٍّ مَعْقُولٍ لِذَلِكَ اللُّغْزِ الْغامِضِ الْخَفِيِّ؛ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى شَيْءٍ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ لَمْ يَرَ — فِي كُلِّ مَا رَآهُ فِي حَيَاتِهِ — مَا يُشْبِهُ تِلْكَ الطِّفْلَةَ الْمَلائِكِيَّةَ، أَوْ يُدَانِيهَا بَهَاءً وَإِشْرَاقًا.

•••

ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ، فَرَأَى قُبَّرَةً ظَرِيفَةَ الشَّكْلِ، جَمِيلَةَ الْهَيْئَةِ، تَحُومُ حَوْلَ الطِّفْلَةِ، وَتَدْنُو مِنْ رَأْسِهَا، فَتُوقِظُهَا مِنْ نَوْمِهَا.

وَرَأَى الطِّفْلَةَ تَفْتَحُ عَيْنَيْهَا، وَتَسْتَيْقِظُ مِنْ رُقَادِهَا، ثُمَّ تُسْرِعُ إِلَى النُّهُوضِ، مُتَلَفِّتَةً حَيْرَى، تُنَادِي وَصِيفَتَهَا؛ فَلا يُجِيبُ نِدَاءَهَا أَحَدٌ.

ثُمَّ تَفْطُنُ الصَّغِيرَةُ التَّائِهَةُ إِلَى وُجُودِهَا فِي الْغَابَةِ وَحْدَهَا، فَيَتَمَلَّكُهَا الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ، وَيُسْلِمَانِهَا إِلَى الْبُكَاءِ.

فَلَمْ يَسْتَطِعِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» أَنْ يَكْتُمَ مَا سَاوَرَهُ مِنَ الْإِشْفَاقِ وَالْحُزْنِ، لِمَا شَهِدَهُ مِنْ فَزَعِ الطِّفْلَةِ وَبُكَائِهَا.

وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرَةُ، فَقَالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: «تُرَى مَاذَا أَصْنَعُ؟ وَكَيْفَ أُنْقِذُ هَذِهِ الطِّفْلَةَ الْمِسْكِينَةَ، دُونَ أَنْ أُرِيَهَا صُورَتِي الدَّمِيمَةَ الْمُفَزِّعَةَ؟!

كَيْفَ أُعَاوِنُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْهَرَ أَمَامَهَا؟

مَاذَا أَصْنَعُ يَا رَبَّاهُ؟

وَلَوْ ظَهَرْتُ أَمَامَهَا لَنَفَرَتْ مِنْ هَيْئَتِي، وَهَرَبَتْ مِنْ بَشَاعَتِي!»

•••

وَبَيْنَا هُوَ يُسائِلُ نَفْسَهُ، وَهُوَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، إِذْ أَدَارَتِ الصَّغِيرَةُ رَأْسَهَا إِلَى نَاحِيَتِهِ، وَحَانَتْ مِنْهَا الْتِفَاتَةٌ عَابِرَةٌ إِلَيْهِ.

وَمَا وَقَعَ نَظَرُهَا عَلَيْهِ، حَتَّى صَرَخَتْ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، وَتَمَلَّكَهَا الْخَوْفُ مِنْ هَوْلِ مَا رَأَتْ؛ فَلَجَأَتْ إِلَى الْفِرَارِ، وَأَسْلَمَتْ سَاقَيْهَا لِلرِّيحِ!

وَلَمْ تَخْطُ خُطُواتٍ قَلِيلَةً، حَتَّى عَثَرَتْ قَدَمَاهَا، فَوَقَعَتْ عَلَى الْأَرْضِ خائِفَةً.

فَلَمْ يَتَمَالَكِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» أَنْ يُنَادِيَهَا بِصَوْتِهِ الْعَذْبِ الرَّقِيقِ، فِي لَهْجَةٍ تَفِيضُ عُذُوبَةً وَحُنُوًّا، وَهُوَ يَقُولُ: «اطْمَئِنِّي — أَيَّتُهَا الصَّغِيرَةُ — وَلا تَخافِي؛ فَلَنْ يَلْحَقَ بِكِ مَا تَكْرَهِينَ، وَلَنْ تَلْقَيْ عِنْدِي إِلَّا مَا تُحِبِّينَ.

هَلُمِّي إِلَيَّ — أَيَّتُهَا الْأُخْتُ الْعَزِيزَةُ — وَلا تَتَفَزَّعِي مِنْ بَشَاعَةِ مَرْآيَ؛ فَأَنَا عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا تَظُنِّينَ، وَسَتَحْمَدِينَ الْعَاقِبَةَ إِذَا أَخْلَدْتِ إِلَيَّ٤ بِالثِّقَةِ.

وَسَتَرَيْنَ كَيْفَ أَبْذُلُ لَكِ كُلَّ مَا أَمْلِكُ — مِنْ قُوَّةٍ وَجَهْدٍ وَإِخْلاصٍ — حَتَّى تَبْلُغِي أَبَوَيْكِ، سَالِمَةً مِنْ كُلِّ سُوءٍ، آمِنَةً مِنْ كُلِّ خَوْفٍ.»

وَكَانَتِ الصَّغِيرَةُ مَا تَزالُ تَنْظُرُ إِلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» — وَهِيَ مُلْقَاةٌ عَلَى الْأَرْضِ — بِعَيْنَيْنِ جَاحِظَتَيْنِ،٥ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ.

فَاسْتَأْنَفَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» حَدِيثَهُ قَائِلًا: «هَلُمِّي إِلَيَّ يَا صَغِيرَتِي، وَأَقْبِلِي عَلَيَّ يَا عَزِيزَتِي.

واعْلَمِي أَنَّنِي إِنْسَانٌ مِثْلُكِ، وَلَسْتُ — كَمَا تَتَوَهَّمِينَ — حَيَوَانًا شَرِسًا، وَلا دُبًّا مُفْتَرِسًا، كَمَا يُخَيِّلُ لَكِ مَظْهَرِي.

كُونِي عَلَى ثِقَةٍ — أَيَّتُهَا الصَّغِيرَةُ — أَنَّنِي كَمَا تُرِيدِينَ أَنْ أَكُونَ؛ وَلَكِنَّنِي مَسْحُورٌ تاعِسُ الْحَظِّ، وَقَدْ نَفَّرَتْ بَشَاعَةُ صُورَتِي كُلَّ مَنْ رَآنِي مِنَ النَّاسِ وَخَوَّفَتْهُمْ؛ فَلَمْ يَرْتَاحُوا لِمُحَادَثَتِي، وَأَصْبَحُوا — لِفَرْطِ شَقَاوَتِي — يَخْشَوْنَ الدُّنُوَّ مِنِّي.»

وَمَا إِنْ سَمِعَتِ الصَّغِيرَةُ صَوْتَهُ الْعَذْبَ، وَأَنْصَتَتْ إِلَى شَكْواهُ الْحَزِينَةِ، حَتَّى زايَلَهَا الْخَوْفُ؛٦ فَحَلَّ الْأَمْنُ — فِي قَلْبِهَا — مَحَلَّ الْفَزَعِ.

فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْنِ لَطِيفَتَيْنِ، بَعْدَ أَنْ سَكَنَ خَوْفُهَا، وَهَدَأَتْ ثائِرَتُهَا.

فَتَشَجَّعَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، حِينَ رَأَى دَلائِلَ الطُّمَأْنِينَةِ بَادِيَةً عَلَى وَجْهِهَا … وَتَقَدَّمَ مِنْهَا بِضْعَ خُطُواتٍ.

فَلَمْ يَقْتَرِبْ مِنْهَا، حَتَّى عَاوَدَهَا الْفَزَعُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ تَصْرُخَ مِنَ الْخَوْفِ … وَهَمَّتْ بِالْفِرَارِ.

وَوَقَفَ أَمَامَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بَاكِيًا حَزِينًا، وَقَالَ لَهَا مُتَأَلِّمًا: «ما أَشَدَّ تَعَاسَتِي وَشَقَائِي إِذَا عَجَزْتُ عَنْ إِسْدَاءِ الْمُساعَدَةِ إِلَيْكِ، وَأَنْتِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُوحِشِ!»

ثُمَّ جَعَلَ يُنَاجِي نَفْسَهُ قَائِلًا: «تُرَى مَاذَا أَصْنَعُ لِأُنْقِذَ هَذِهِ الصَّغِيرَةَ، الَّتِي امْتَلَأَ قَلْبُهَا — مِنْ رُؤْيَتِي — رُعْبًا وَخَوْفًا؟

وَهَا هِيَ ذِي تُؤْثِرُ٧ أَنْ تَتِيهَ فِي أَرْجَاءِ الْغَابَةِ، وَتَضِلَّ فِي أَنْحَائِهَا، عَلَى أَنْ أُخَلِّصَهَا مِنْ عَذَابِهَا، وَأُنْقِذَهَا مِنْ حَيْرَتِهَا!»

وَلَمْ يَنْتَهِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مِنْ شَكْواهُ، حَتَّى أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَفْنَيْهِ، وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ …

ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ قَلِيلٍ، فَذَكَرَ مَا أَصابَهُ؛ فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يَبْكِيَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ.

•••

وَلَمْ تَنْقَضِ لَحْظَةٌ يَسِيرَةٌ، حَتَّى شَعَرَ بِيَدِ الصَّغِيرَةِ تَمْتَدُّ إِلَى يَدَيْهِ فِي رِفْقٍ وَحَنَانٍ، فَتَرْفَعُهُمَا عَنْ جَفْنَيْهِ، مُعْتَذِرَةً عَمَّا بَدَرَ مِنْهَا مِنَ الْجَفْوَةِ وَسُوءِ الظَّنِّ.

فَرَفَعَ الدُّبُّ رَأْسَهُ؛ فَإِذا بِهِ يَرَى الصَّغِيرَةَ أَمَامَهُ، وَقَدْ غَصَّتْ٨ عَيْنَاهَا بِدُمُوعِ النَّدَمِ وَالْعَطْفِ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ مُوَاسِيَةً٩ تَقُولُ: «خَفِّفْ مِنْ حُزْنِكَ — أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» — وَلا تَسْتَسْلِمْ لِلْبُكَاءِ؛ فَقَدِ اطْمَأَنَّتْ إِلَيْكَ «نَرْجِسُ»، وَزايَلَهَا الْخَوْفُ مِنْكَ، وَلَمْ تَعُدْ تُفَكِّرُ فِي الْهَرَبِ بَعْدَ الْآنَ.

إِنَّ «نَرْجِسَ» لَيَحْزُنُهَا أَنْ تَرَاكَ بَاكِيًا، وَيُؤْلِمُهَا أَنْ تَسْمَعَكَ شَاكِيًا.

أَلَا تَزَالُ تَبْكِي؟!

هَوِّنْ عَلَيْكَ أَيُّهَا الدُّبُّ الْمِسْكِينُ؛ فَلَنْ تَرَى «نَرْجِسَ» — بَعْدَ الْآنَ — إِلَّا صَدِيقَةً وَفِيَّةً لَكَ.»

•••

وَلَمَّا رَأَتْهُ «نَرْجِسُ» لَا يَزالُ مُسْتَسْلِمًا لِلْبُكَاءِ، رَبَّتَتْ وَجْنَتَيْهِ الْمَمْلُوءَتَيْنِ بِالشَّعْرِ الْكَثِيفِ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ بَاسِمَةً تُلاطِفُهُ، وَتَقُولُ لَهُ: «هَا أَنْتَ ذا، أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، تَرَى أَنَّ «نَرْجِسَ» لَيْسَتْ بِخائِفَةٍ مِنْكَ.

وَلَكِنْ إِيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ «نَرْجِسَ»!

أَسَمِعْتَ مَا أَقُولُهُ لَكَ؟

إِيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ «نَرْجِسَ»!

إِيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَهَا أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»!

إِنَّ «نَرْجِسَ» لَنْ تُفَارِقَكَ، وَلَنْ تَتْرُكَكَ مُسْتَسْلِمًا لِأَحْزانِكَ بَعْدَ الْيَوْمِ.»

١  التمس: طلب.
٢  على أساريريها: على خطوط جبهتها.
٣  وثير: ليِّن.
٤  أخلدتِ إليَّ: ركنتِ إليَّ واعتمدتِ عليَّ.
٥  جاحظتين: بارزتين.
٦  زايلها الخوف: فارقها.
٧  تؤثر: تُفضل.
٨  غصت: امتلأت.
٩  تواسيه: تصبِّره وتعزيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤