حَدِيثُ الْجِنِّيَّةِ

وَالْتَفَتَتِ الْجِنِّيَّةُ إِلَى «مَاجِدَةَ» وَعَلَى فَمِهَا ابْتِسامَةٌ عَذْبَةٌ، ثُمَّ قَالَتْ لَهَا: «لَعَلَّكِ لَا تَذْكُرِينَنِي الْآنَ؛ فَقَدْ تَبَدَّيْتُ١ أَمَامَكِ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي أَلِفْتِهَا مِنْ قَبْلُ … عَلَى أَنَّنِي لَنْ أُطِيلَ حَيْرَتَكِ: أَنَا الْجِنِّيَّةُ «لُؤْلُؤَةُ»؛ حَارِسَةُ وَلَدِكِ، وَحَارِسَةُ الْأَمِيرَةِ «نَرْجِسَ». وَلَعَلَّكِ لَا تَزَالِينَ تَجْهَلِينَ أَنَّ هَذِهِ الْأَمِيرَةَ الصَّغِيرَةَ مِنْ ذَواتِ قُرْباكِ الْأَدْنَيْنَ!

وَرُبَّمَا عَجِبْتِ، إِذَا عَرَفْتِ أَنَّهَا بِنْتُ سِلْفِكِ: «فَيْرُوزَ»؛ أَنْجَبَهَا مِنْ زَوْجَتِهِ الْمَلِكَةِ «سَلْوَى».

وَقَدْ كَانَ لَكِ فَضْلُ إِنْقَاذِهِمَا مِنَ الْهَلاكِ، وَتَخْلِيصِهِمَا مِنِ انْتِقَامِ «الْبَاطِشِ».

وَسَتَتَأَلَّمِينَ أَشَدَّ الْأَلَمِ حِينَ تَعْلَمِينَ أَنَّ «الْباطِشَ» لَمْ تَهْدَأْ ثَائِرَتُهُ، وَلَمْ تَنْطَفِئْ نَارُ غَضَبِهِ عَلَيْهِمَا، إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَرَعَهُمَا، دُونَ أَنْ تَأْخُذَهُ فِيهِمَا رَحْمَةٌ وَلَا شَفَقَةٌ!

وَمِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا لَمْ يُسِيئَا بِهِ الظَّنَّ يَوْمًا واحِدًا.

وَقَدْ خَدَعَهُمَا «الْباطِشُ» بِمَا أَظْهَرَهُ لَهُمَا مِنْ تَوَدُّدٍ كَاذِبٍ، وَقَضَيَا فِي ضِيَافَتِهِ لَيْلَةً وادِعَةً، حَافِلَةً بِفُنُونِ الْمَسَرَّاتِ، وَجَالِباتِ الْبَهْجَةِ.

وَكَانَ مِنْ دَواعِي أَسَفِي وَحَيْرَتِي، أَنِ اغْتَالَهُمَا «الْباطِشُ» وَأَنَا فِي شُغْلٍ عَنْهُمَا بِحِرَاسَةِ أَمِيرِنَا، فَلَمْ يُتَحْ لِي إِنْقَاذُهُمَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.

وَهَكَذَا تَمَّتِ الْجَرِيمَةُ الشَّنْعَاءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ.

وَلَوْلَا لُطْفُ اللهِ وَعِنَايَتُهُ بِهَذِهِ الصَّغِيرَةِ الْمِسْكِينَةِ، لَفَتَكَ بِهَا وَأَلْحَقَهَا بِأَبَوَيْهَا، بَعْدَ أَنْ صَفَا لَهُ الْجَوُّ بِقَتْلِهِمَا، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُلْكِ وَرِيثٌ — بَعْدَهُمَا — غَيْرُ هَذِهِ الطِّفْلَةِ.

وَكَانَتْ — لِحُسْنِ حَظِّهَا — تَلْعَبُ فِي حَدِيقَةِ الْقَصْرِ وَلَمْ تَكُنْ بِجِوارِ أَبَوَيْهَا حِينَ صَرَعَهُمَا «الْباطِشُ».

فَلَمَّا أَتَمَّ جَرِيمَتَهُ الشَّنْعَاءَ، ذَهَبَ يَبْحَثُ عَنْهَا فِي أَرْجَاءِ الْقَصْرِ، وَفِي يَدِهِ خِنْجَرٌ مَاضٍ، أَعَدَّهُ لِقَتْلِهَا بِهِ.

وَشَاءَ اللهُ — سُبْحَانَهُ — أَنْ أَعُودَ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ! وَلَوْ تَأَخَّرْتُ لَحْظَةً أُخْرَى، لَأَنْفَذَ فِيهَا قَضَاءَهُ.

وَمَا كِدْتُ أَتَبَيَّنُ جَلِيَّةَ الْأَمْرِ، حَتَّى أَرْكَبْتُهَا ظَهْرَ كَلْبِيَ الْأَمِينِ «وَثَّابٍ» بَعْدَ أَنْ أَمَرْتُهُ أَنْ يَجْرِيَ بِهَا إِلَى الْغَابَةِ بِأَقْصَى سُرْعَةٍ، وَلا يَدَّخِرَ وُسْعًا فِي الْفِرَارِ بِهَا مَا وَسِعَهُ جُهْدُهُ، كَمَا أَمَرْتُهُ أَلَّا يَتْرُكَهَا إِلَّا عَلَى بُعْدِ خُطُواتٍ مِنْ وَلَدِكِ.

وَقَدْ أَخْفَيْتُ عَنْ وَلَدِكِ وَ«نَرْجِسَ» كِلَيْهِمَا سِرَّ مَوْلِدِهِمَا. فَحَذَارِ أَنْ تُفْضِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكِ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْأَوَانِ.

وَحَذَارِ أَنْ تَرَى الْأَمِيرَةُ صُورَتَيْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَلَا الثِّيَابَ الثَّمِينَةَ الَّتِي أَعَدَدْتُهَا لَهَا؛ لِتَكُونَ — فِيمَا بَعْدُ — مُلائِمَةً لِلْحَيَاةِ الَّتِي سَتَدْرُجُ عَلَيْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.»

وَصَمَتَتِ الْجِنِّيَّةُ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ حَدِيثَهَا قَائِلَةً: «هَاكِ٢ — أَيَّتُهَا الْمَلِكَةُ الْكَرِيمَةُ — صُنْدُوقًا مَمْلُوءًا بِالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ.

وَقَدِ احْتَوَى هَذَا الصُّنْدُوقُ النَّفِيسُ سِرَّ سَعَادَةِ «نَرْجِسَ»!

فَلا تَتَهَاوَنِي فِي أَمْرِهِ، واتَّبِعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، وَتَقَيَّدِي بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَسْمَعِينَهَا مِنِّي.

وَإِيَّاكِ أَنْ تُخَالِفِي نَصِيحَتِي، وَإِلَّا عَرَّضْتِ نَفْسَكِ وَمَنْ تُحِبِّينَ لِكَارِثَةٍ لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهَا، وَلا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَى احْتِمَالِهَا.»

فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «لَنْ تَجِدِي مِنِّي إِلَّا أُذُنًا سَمِيعَةً، وَقَلْبًا واعِيًا.»

فَقَالَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ: «عَلَيْكِ أَنْ تُخْفِي هَذَا الصُّنْدُوقَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ، وَتَضَعِيهِ فِي مَكَانٍ أَمِينٍ، فَلا تُخْرِجِيهِ مِنْ مَخْبَئِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَتَعَرَّضَ الْأَمِيرَةُ لِلضَّيَاعِ، وَيَسْتَحْكِمَ الْيَأْسُ مِنَ الْعُثُورِ عَلَيْهَا.»

فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «سَمْعًا وَطَاعَةً يَا سَيِّدَتِي، وَلَنْ أُخَالِفَ لَكِ أَمْرًا، وَسَأُعْنَى بِاتِّباعِ نَصِيحَتِكِ، مُتَوَخِّيَةً إِنْجَازَهَا فِي دِقَّةٍ وَإِخْلَاصٍ وَإِحْكَامٍ.

وَلَكِنَّ لِي رَجَاءً واحِدًا، يُسْعِدُنِي لَوْ كَانَ فِي مَقْدُورِكِ أَنْ تُحَقِّقِيهِ لِي!»

فَقَالَتِ الْجِنِّيَّةُ: «مَا أَسْعَدَنِي بِتَلْبِيَةِ رَجَائِكِ، مَتَى كَانَ ذَلِكِ فِي مَقْدُورِي.»

فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «كَانَ يُسْعِدُنِي لَوْ أَخْبَرْتِنِي: هَلْ يَطُولُ زَمَنُ الشَّقَاءِ لِوَلَدِي؟

وَمَتَى يَزُولُ عَنْهُ السِّحْرُ، فَيُزايِلُهُ الْفَرْوُ الْكَرِيهُ، وَيَسْتَبْدِلُ بِصُورَةِ الدُّبِّ هَيْئَةَ الْأَنَاسِيِّ؟»

فَقَالَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ: «صَبْرًا — يَا «مَاجِدَةُ» — صَبْرًا، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مَوْعِدًا، وَلَنْ يَظْفَرَ الْإِنْسَانُ بِالسَّعَادَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَرُوضَ نَفْسَهُ٣ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَالصَّبْرِ.

وَمَنْ تَعَجَّلَ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ، عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.

فَلا يُساوِرْكِ الِانْزِعَاجُ وَالْقَلَقُ، وَأَسْلِمِي أَمْرَكِ للهِ.

واعْلَمِي أَنَّنِي سَاهِرَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى «نَرْجِسَ»، مَعْنِيَّةٌ بِأَمْرِهِمَا جَمِيعًا.

وَلَيْسَ عَلَيْكِ إِلَّا وَاجِبٌ وَاحِدٌ، هُوَ أَنْ تُعْنَيْ بِتَعْلِيمِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، وَفْقَ الْخُطَّةِ الَّتِي رَسَمْتُهَا لَهُ، لِتُساعِدِيهِ بِذَلِكِ عَلَى الْخَلاصِ مِنَ السِّحْرِ.

وَلَيْسَ أَمَامَكِ إِلَّا طَرِيقٌ واحِدٌ، هُوَ أَنْ يَظْفَرَ وَلَدُكِ بِمَنْ يَدْفَعُهَا إِخْلاصُهَا لَهُ إِلَى أَنْ تَقْبَلَ — رَاضِيَةً مُخْتَارَةً — أَنْ يَكْتَسِيَ وَجْهُهَا بفَرْوِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ».

وَمَتَى قَبِلَتْ ذَلِكِ — رَاضِيَةً مُخْتَارَةً، عَنْ طِيبِ نَفْسِهَا — بَطَلَ السِّحْرُ، وَزَايَلَهُ عَهْدُ الشَّقَاءِ، وَاسْتَرَدَّ وَلَدُكِ جَمَالَ وَجْهِهِ وَبَهَاءَهُ.

وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ الْغايَةِ بِغَيْرِ إِخْفَاءِ السِّرِّ، وَكِتْمَانِهِ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَإِلَّا خابَ السَّعْيُ، وَحَلَّ الْيَأْسُ مَحَلَّ الرَّجَاءِ.

فَهَلْ تُعَاهِدِينَنِي عَلَى أَنْ تَبْقَى هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي طَيِّ الْكِتْمَانِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَهَا كَائِنٌ كَانَ، أَوْ يَطَّلِعَ أَحَدٌ عَلَى حَقِيقَةِ وَلَدِكِ وَقَرِيبَتِهِ «نَرْجِسَ»، أَوْ يَعْرِفَ مَكَانَتَهُمَا مِنَ السُّمُوِّ، وَمَنْزِلَتَهُمَا مِنَ الرِّفْعَةِ؟

هَذَا سِرٌّ يَجِبُ أَلَّا يَعْرِفَهُ أَحَدٌ. لَا أَسْتَثْنِي مِنْ ذَلِكِ غَيْرَ «حَلِيمَةَ»؛ فَهِيَ وَحْدَهَا جَدِيرَةٌ بِالثِّقَةِ، بِمَا مَيَّزَهَا اللهُ مِنْ مَزايَا نَادِرَةٍ، وَأَخْلاقٍ مَتِينَةٍ طَاهِرَةٍ.

هَذِهِ وَحْدَهَا جَدِيرَةٌ أَنْ تُفْضِي إِلَيْهَا بِسِرِّكِ، وَلا تَكْتُمِي عَنْهَا شَيْئًا مِنْ قِصَّتِكِ.

وَعَلَيْكِ أَنْ تَسْتَشِيرِيهَا فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ؛ فَلَنْ تُشِيرَ عَلَيْكِ إِلَّا بِمَا فِيهِ الْخَيْرُ، إِنْ شَاءَ اللهُ.

وَلَكِ أَنْ تَعْتَمِدِي عَلَى حِمَايَتِي، دُونَ أَنْ تَخْشَيْ سُوءًا.

وَسَأَمْنَحُكِ هَذَا الْخاتَمَ النَّفِيسَ هَدِيَّةً لَكِ وَتَذْكَارًا؛ فَضَعِيهِ فِي خِنْصَرِكِ … وَكُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّه مَا دَامَ فِي حَوْزَتِكِ، فَلَنْ يَنَالَكِ سُوءٌ.»

وَلَمَّا أَتَمَّتِ الْجِنِّيَّةُ نُصْحَهَا، أَسْرَعَتْ بِتَوْدِيعِهَا بَعْدَ أَنْ تَحَوَّلَتْ قُبَّرَةً كَمَا رَأَتْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ جَنَاحَيْهَا لِلْفَضَاءِ، وَأَسْرَعَتْ فِي طَيَرَانِهَا مُغَرِّدَةً!

وَلا تَسَلْ عَنْ عَجَبِ «مَاجِدَةَ» وَ«حَلِيمَةَ» مِمَّا رَأَتَا؛ فَقَدْ كَانَتْ دَهْشَتُهُمَا لِذَلِكَ لَا تَقِلُّ عَنْ دَهْشَتِكَ — أَيُّهَا الصَّغِيرُ الْعَزِيزُ — فَلَمْ تَتَمَالَكَا أَنْ وَقَفَتَا حَائِرَتَيْنِ، لَا تَكَادَانِ تُصَدِّقَانِ مَا مَرَّ بِهِمَا.

ثُمَّ تَنَهَّدَتْ «مَاجِدَةُ» … وابْتَسَمَتْ لَهَا «حَلِيمَةُ»، وَقَالَتْ: «لَقَدْ سَمِعْتِ نَصِيحَةَ الْجِنِّيَّةِ؛ فَلا تَتَهَاوَنِي فِي تَنْفِيذِهَا عَلَى الْفَوْرِ يَا مَلِيكَتِي الْعَزِيزَةَ.

وَهَلُمِّي، فَبادِرِي إِلَى إِخْفَاءِ هَذَا الصُّنْدُوقِ — بِمَا يَحْوِيهِ مِنْ مَلابِسَ — فِي مَكَانٍ أَمِينٍ. وَسَأُعَجِّلُ بِالذَّهَابِ لِأَرَى مَا أَعَدَّتْهُ الْجِنِّيَّةُ لِلْغَدِ مِنْ ثِيَابٍ.»

وَأَسْرَعَتْ «حَلِيمَةُ» إِلَى الْحُجْرَةِ، وَفَتَحَتِ الصِّوَانَ؛ فَرَأَتْهُ غَاصًّا بِفَاخِرِ الثِّيَابِ وَالْأَحْذِيَةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الْبَساطَةِ وَالرَّاحَةِ.

فَاخْتَارَتْ «حَلِيمَةُ» ﻟ «نَرْجِسَ» مَا يُلائِمُهَا مِنْهَا، بَعْدَ أَنْ سَاعَدَتْهَا فِي خَلْعِ ثِيَابِهَا.

ثُمَّ ذَهَبَتْ «حَلِيمَةُ» إِلَى فِرَاشِهَا، فَلَمْ تَلْبَثْ أَنِ اسْتَسْلَمَتْ لِنَوْمٍ عَمِيقٍ.

١  تبديت: ظهرت.
٢  هاك: خذي.
٣  يرُوض نفسه: يُعوِّدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤