أول ظهور فكرة المهدية وتطورها

كلمة المهدي في الأصل كلمة بسيطة، وهي اسم مفعول من هدى يهدي، فكل من هداه الله فهو مهدي. وقد استعملت في هذا المعنى أيام النبي . فجاء بهذا المعنى الحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين».

وليس في هذا المعنى إلا المعنى اللغوي للكلمة؛ وعلى هذا جاءت الكلمة في شعر حسان بن ثابت شاعر الرسول، إذ يقول في رثائه :

ما بال عينك لا تنام كأنما
كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعًا على المهدي أصبح ثاويًا
يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
بأبي وأمي من شهدت وفاته
في يوم الاثنين النبي المهتدي

•••

وقد مدح الفرزدق سليمان بن عبد الملك، فقال:

سليمان المبارك قد علمتم
هو المهدي قد وضح السبيل

وقال في هشام بن عبد الملك:

فقلت له: الخليفة غير شك
هو المهدي والحكم الرشيد

وكذلك في شعر جرير. ثم بدأت الكلمة تتحول شيئًا فشيئًا، فخصوا اسم المهدي بعلي وحده، وجاء في كتاب «أسد الغابة» أنهم أطلقوا على علي «هاديًا مهديًّا». ثم أطلقوا الكلمة على الحسين بعد مقتله، فقالوا: المهدي ابن المهدي.

ولما قتل الحسين ومات الحسن رأت طائفة أنه من الطبيعي أن يرث عليًّا معنويًّا ابنه محمد ابن الحنفية، كما رأى غيرهم أن الوارث لعلي هما الحسن والحسين فقط؛ لأنهما وحدهما أبناء علي من فاطمة بنت الرسول . أما ابن الحنفية فابن علي لكن لا من فاطمة، بل من امرأة من بني حنيفة صليبية أو ولاء على اختلاف العلماء في ذلك.

وكان محمد ابن الحنفية هذا — وهو ابن علي كما ذكرنا — عالمًا كثير العلم روحانيًّا، ورث الروحانية من أبيه، قوي الجسم. كان يبعث به أبوه إلى القتال نيابة عنه أكثر مما يبعث الحسن والحسين، فقيل له في ذلك، فقال: «إن الحسن والحسين عينا علي وأنا يده، فهو يدرأ عن عينيه بيده».

ويحكون أن ملك الروم في عهد معاوية كتب إليه أن يختار أقوى من عنده ليصارع أقوى من عنده، وقال ملك الروم: «إن هذا جار بين ملوك الروم وملوك العرب من عهد بعيد»، وكانت المسابقة تدور حول أطول رجل عربي وأطول رجل رومي، ثم أقوى رجل عربي مع أقوى رجل رومي، فاستشار معاوية عمرو بن العاص، فأشار عليه في الطول بقيس بن سعد بن عبادة، وفي القوة بأحد رجلين: إما عبد الله بن الزبير، وإما محمد ابن الحنفية. فاختار معاوية محمدًا؛ لأنه أقرب إلى نفسه وأكثر اطمئنانًا له. وذلك كالمسابقات التي تعمل اليوم في الألعاب الأولمبية.

وقد امتنع محمد ابن الحنفية عن مبايعة عبد الله بن الزبير، وقال له: «لا أبايعك حتى تجتمع لك البلاد، ويتفق عليك الناس»، فأساء جواره وحصره وآذاه، فاضطر أن يهرب من مكة مع بعد أصحابه.

ونشأت فرقة تسمى الكيسانية نسبة إلى كيسان، يتزعمها المختار بن أبي عبيد الثقفي. وزعم هو وفرقته أن محمد ابن الحنفية هو الإمام وهو المهدي، ولكنه نقل كلمة المهدي إلى معنى آخر لزمها إلى اليوم؛ وهو أن هذا المهدي لم يمت، وإنما هو وأصحابه يقيمون في جبل رضوى، وهو في الحجاز على سبع مراحل من المدينة. وأنه وأصحابه أحياء يرزقون، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلًا وماءً؛ لأنه يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلًا.

ومن هنا ليست للكلمة معان أخرى، فمن جهة التصقت بالشيعة وهم الذين استخدموها على هذا المعنى في الأيام المقبلة، ومن جهة أخرى أضيفت إلى كلمة المهدي كلمة «المنتظر» فلزمتها، وأصبح يقال دائمًا: «المهدي المنتظر».

وكان هذا سببًا في أن إذا الشيعة أخفوا إمامهم عن عيون الأمويين والعباسيين خوفًا من قتله، لم يقولوا بموته ولكنهم كانوا يقولون عليه: «مهدي منتظر، يرجع إذا جاء ميعاد خروجه المقدر، فيخرج الناس معه ويزيل المظالم، ويحقق العدل».

وكان كُثَيِّر عزَّة الشاعر المشهور يعتقد هذه العقيدة. وليس هنا كبير رابطة بين شعره الجيد في عزة وضعف عقله في عقيدته؛ فقال:

وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيَّب لا يرى فيهم زمانًا
برضوى عندهم عسل وماء

•••

وشاعت هذه العقيدة بين الشيعة، فكانوا من حين لآخر يخرجون ثائرين يطلبون الملك باسم المهدي.

ولما تحالف العلويون والعباسيون أولًا على قتال الأمويين ظهر السفاح بنظرية جديدة؛ وهي أن محمد ابن الحنفية بايع ابنه أبا هاشم، وأن أبا هاشم هذا بايع السفاح، ثم من بعده المنصور فلم يثر عليهم العلويون؛ لأنهم اعتقدوا أن أمرهم هذا هين، فإذا هم تغلبوا معهم على الأمويين، فأمر هؤلاء العباسيين يسير، ولكن خاب فالهم؛ فما إن ولي السفاح حتى نكل بالأمويين والعلويين جميعًا، وفاز بتأسيس الدولة العباسية، فجاء من بعده المنصور، واستغل شيوع كلمة المهدي عند الناس واعتقادهم فيها فلقب ابنه بالمهدي على أساس هذه الفكرة، ودعا إليه على أنه المهدي المنتظر ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي والتقديس الديني، وجعله ولي عهده.

وكان تأسيسه للدولة العباسية على أساس ديني بتلقيبه ابنه هذا بالمهدي وتسمية أم المهدي بأم الخلفاء، تشبهًا باسم أم المؤمنين، وتسميته بغداد بدار السلام تشبهًا باسم الجنة، وتسميته أحد قصوره بقصر الخلد، تشبهًا باسم الجنة أيضًا، وجعل بابًا قصيرًا لا يدخله إلا من انحنى كأنه راكع تعظيمًا له، وتكليفه بعض الفقهاء أن يضعوا الأحاديث في مدح العباسيين ومدح النبي، ووصفه بصفات تنطبق على ابنه المهدي. وكان المهدي نفسه ذا هلوسة دينية، يظهر ذلك في كثير من تصرفاته، وخصوصًا إمعانه الشديد في محاربة من سماهم الزنادقة، وتقصيهم وقتلهم وظهوره بمظهر حامي الدين والمدافع عنه، وتسميته لولديه باسم الأنبياء موسى وهارون، وتلقيبه موسى بالهادي، ولما يئس من تسمية هارون بالمهدي؛ لأنه لقبُه هو المهدي، لقبه بالرشيد، وهي كلمة مساوية للمهدي بمعناها الأول وهكذا.

وتضخمت كلمة المهدي في المغرب على يد البرابرة، فقد ضاقوا ذرعًا بظلم الحكام وتعصبوا ضد عصبية غيرهم، وإن كانوا أيضًا قد تعصبوا للإسلام، وأذاقهم بنو الأغلب من العرب سوء العذاب؛ ففرضوا عليهم الضرائب الكثيرة التي لا قدرة لهم عليها، حتى ضجوا بالشكوى فلم يسمع لهم فانتهز الشيعة هذا الوضع، ودعوا للاستقلال عن الدولة العباسية، وأذاع الشيعيون فيها فكرة المهدي ووضعت الكلمة على لسان رجل ماهر اسمه أبو عبد الله الشيعي. يدعو للمهدي المنتظر ويبث فيهم مذهب الإسماعيلية، ويحمسهم للحرب، فقاتلوا قتالًا شديدًا، وأخيرًا تغلبوا على عمال العباسيين وطردوهم، وأخضعوا أكثر بلاد المغرب لحكمهم، وضربوا السكة باسمهم، فجعلوا على أحد وجهي النقد «بلغت حجة الله»، وعلى الوجه الآخر «تفرق أعداء الله» وعلى السلاح «عدة في سبيل الله»، ووسموا الخيل بعبارة «الملك لله».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤