مقدمة

بقلم  سلامة موسى

هذا الكتاب هو مزيج من العلم والفلسفة.

ونعني بكلمة العلم هنا أن الكتاب يحوي معارف جديدة عن تطور الأحياء، وهي معارف إن لم تكن يقينًا كاملًا فهي تقاربه.

ونعني بكلمة الفلسفة أننا حاولنا أن نتعمق هذه المعارف؛ كي نصل منها إلى تعيين الأسلوب وفهم الدلالة وتحديد الهدف في التطور.

ومجهودنا هنا أقرب إلى البصيرة والرؤيا منه إلى التحقيق العلمي والرؤية، ولا بد من البصيرة حتى للمفكر العلمي.

ولسنا نقصد من التأليف عن التطور أن يعرف جمهور القراء حقائق هذه النظرية فحسب؛ لأننا إنما نتوسل بهذه النظرية إلى أن نعمم مزاجًا ذهنيًّا، واتجاهًا نفسيًّا، وخطة اجتماعية، نحو التغير؛ أي: نحو التطور في الشعب وفي الفرد أيضًا.

وليست الحياة شيئًا شاذًّا في المادة تستحق عقائد معينة، فإن الظواهر العديدة في هذه الكون، وليس في هذه الدنيا وحدها، تدل على أن المادة في تغير؛ أي: تطور دائم لا ينقطع، ويمكن أن نسمي حركة الذرة والجزيء، وحركات الكواكب والنجوم؛ أنواعًا من الحياة.

ومع أن التطور نظرية علمية، فإننا محتاجون إلى الفلسفة حين نكتب عن التطور في المستقبل؛ أي: عن التوجيه والتعيين ورسم الأهداف لمستقبل الإنسان، وليس لدينا هنا يقين علمي وإنما نحن نسترشد بالبصيرة المثقفة والتفكير الشامل.

والشاب الذي درس التطور في الأحياء؛ نباتًا، وحيوانًا، لا يتمالك أن يحس إحساسًا دينيًّا نحو الطبيعة، ثم إذا درس بعد ذلك تطور المجتمعات والأديان والعائلة والثقافة والعلم والأدب والفن والحضارات، فإنه لا يتمالك أيضًا أن يحس المسئولية نحو الوسط الذي يعيش فيه، ويجب أن يؤثر فيه، للخير والشرف والسمو؛ لأنه هو نفسه قد أصبح جزءًا عاملًا في هذا التطور، ويمكن أن يعد التطور بهذا الفهم دينًا أو مذهبًا بشريًّا جديدًا.

ولم يكن التطور في ملايين السنين الماضية ارتقاء على الدوام، كما نفهم المعني «البشري» لهذه الكلمة، ولكنه يجب أن يكون كذلك في المستقبل؛ لأن الإنسان كان في الماضي خاضعًا، في ذهول، لعوامل التطور البيئية، أما منذ الآن فإن التطور هو الذي سيخضع للإنسان عن وجدان ودراية بما يتخذ من أساليب ويبين من أهداف في مصير البشر بعد ملايين السنين.

لقد كنا، قبل الطب، نمرض ونشفى بتأثير العوامل الطبيعية، أما بعد الطب فإننا صرنا نتسلط على المرض ونمحوه بالدواء، وكذلك الشأن في التطور، فقد كنا نتغير في الماضي بتأثير العوامل الطبيعية، أما بعد اهتدائنا إلى نظرية التطور فإننا أصبحنا قادرين على التسلط على العوامل التي تغيرنا وتؤدي إلى ارتقائنا.

وفي هذا التفكير أو التوجيه الجديد رسالة تناشد في كل منا شرفه وشجاعته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤