الدماغ واليد واللسان

وجد البشر، منذ شرعوا يفكرون، أنهم في حاجة إلى الإيمان بغيبيات تقوم مقام الاقتناع بالمنطق؛ لأن وسائل المنطق لم تكن مكملة لديهم، ولذلك سلموا أو آمنوا بأشياء كثيرة، بما أسموه «ما وراء المادة»، ومهما يكن اختلافهم في هذه الغيبيات فإنهم أجمعوا على اتخاذ عقائد ارتضوها ووجدوا فيها طمأنينة أو وسيلة للخير والعدل.

وما دامت معارفنا ناقصة فإن منطقنا يبقى ناقصًا، ولذلك نحن نلجأ من وقت لآخر إلى غيبيات نضع فيها البصيرة والحدس مكان التعقل والمعرفة، فنحن مثلا نجد في التطور «نظرية» تقدم البراهين الناصعة على حقيقتها، ولكننا ننظر إليها من زاوية أخرى باعتبارها «مذهبًا» لا نعتمد فيه على الحقائق ولكن على العقائد، وليس دستورنا في هذا المذهب هو المنطق ولكنه البصيرة.

إني «أعتقد» أن موكب التطور منذ ملايين السنين إلى الآن وبالنقطة التي وصل إليها الإنسان، يجيز لنا أن نقول: إن غاية هذا التطور هو الوجدان؛ أي: أن نتعقل هذه الدنيا أو هذا الكون تعقلًا موضوعيًّا يتجاوز انفعالاتنا الذاتية؛ أي: أن نفهم الدنيا على حقيقتها الخارجة عنا وليس وفق إحساسنا الداخلي بها.

ونحن هنا إزاء غيبيات جديدة، ولكن البرهان فيها لا يقتصر على العقائد؛ لأن المعارف تتحيز جزءًا كبيرًا منها، فنحن البشر لا نختلف من الحيوان من حيث إننا نعرف الأشياء وإنما من حيث نعرف أننا نعرف، وهذا هو الوجدان، وهو الذي يحملنا على التعقل ومحاولة الفهم في استقلال من ذاتيتنا، ولذلك نعتقد أيضًا أن تطورنا القادم سوف ينحو نحو الزيادة في الوجدان حتى نصل إلى المطابقة، فلا نخطئ المعرفة بحركات الذرة أو أجزائها، بل نتجاوز ذلك أيضًا إلى أن نحس إحساسها ويصبح وجداننا كما لو كان «حاسة كونية»، حتى إذا كنت على الأرض «وجدت» ما يجري في نجوم المجرة وجدان المعرفة والإحساس الموضوعي.

ولست أشك أن هناك من يعترض بأن ما لدينا من حقائق لا يجيز هذا الإسراف في الأمل، وجوابي أني هنا إزاء غيبيات ولست إزاء حقائق.

اعتبر مثلًا هذا الانقراض التام للزواحف الكبرى التي ملأت هذه الدنيا نحو ثلاثين مليون سنة أو أكثر. ثم اسأل لماذا انقرضت جميعها؟

لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بالمنطق والمعرفة، ولكننا نبصر من خلال التطور باعتباره مذهبًا فنقول: إنما انقرضت؛ لأنها انحرفت عن غاية التطور وهي العقل الوجداني بحيث كان هدفها التضخم اللحمي أو الجسمي، فقد كان البرونتوسور، وهو أحد هذه الزواحف، يزن ٣٧ طنًّا، ولكن دماغه لم يكن يزيد على أوقيتين، ولو أن دماغه قد نما على قياسنا البشري لوجب أن يبلغ ٢٠٧٢ رطلًا؛ أي: نحو طن؛ لأن المخ عندنا يبلغ جزءًا من أربعين من وزن الجسم؛ أي: إذا كان وزننا «١٢٠» رطلًا كان وزن المخ ثلاثة أرطال تقريبًا.

وكان الانحراف عظيمًا في الديناصور وهو أحد هذه الزواحف بل أرقاها، فإن تخضم جثته احتاج إلى مركز عصبي آخر غير الدماغ الذي في رأسه، فتكون هذا المركز، وهو دماغ آخر، في أسفل ظهره، وكذلك كي يختص بإدارة ساقيه اللتين كانتا تحملان هذه الجثة الضخمة، وكأن الغاية من التطور قد أصبحت حركة الحيوان وليست فهمه للدنيا.

والدماغ البشري يعد على وجه عام أكبر الأدمغة في العالم، وصحيح أن دماغ الفيطس يزيد علينا بمقدار ستة أضعاف، ودماغ الفيل يزيد علينا بمقدار ثلاثة أضعاف، وهناك دماغ الكنار، ذلك العصفور المغرد الذي يبلغ دماغه جزءًا من اثني عشر من وزن جسمه؛ أي أنه بالمقارنة إلى جسمه أكبر من دماغ الإنسان، ولكن يجب ألا ننسى أن دماغ الطفل البشري عقب ولادته يبلغ في الوزن سبع جمسه، والدماغ البشري بالمقارنة إلى الجسم البشري أكبر من دماغ الفيل ودماغ الفيطس بالمقارنة إلى جسميهما، والمرجح أن هناك ضرورات تشريحية، أكثر مما هي فسيولوجية، تجعل دماغي الفيل والفيطس كبيرين، كما هي الحال أيضًا في دماغ الطفل ودماغ الكنار، وأن هذا الكبر ليس برهانًا على طاقة كبيرة في الذكاء.

ولكن مع كل هذه الاعتبارات يجب ألا ننسى أن الموكب العام للتطور كان نحو الزيادة في الدماغ، ومن هنا إيماننا بأن غاية التطور هي الفهم والتعقل.

على أن هناك عوامل كثيرة جعلت دماغ الإنسان ينمو ويتضخم إلى حد الشذوذ الذي هو فيه؛ إذ ليس شك أننا نعد شاذين في هذا التضخم بالمقارنة إلى الحيوانات، وهذا الشذوذ يتضح أكثر عندما نعرف أن المجانين من البشر، سواء أكان جنونهم نيوروزًا أو سيكوزًا، يترجح عددهم بين عشرة ملايين وعشرين مليونًا، هذا المجنون هو البرهان على أن وجداننا لا يزال جديدًا في هذا العالم؛ أي: أنه لم يستقر في كياننا النفسي، ولكنه برهان أيضًا على أننا قد أسرعنا الخطى نحو الغاية وأننا في هذا الإسراع نهرول ونسقط.

وقد كانت اليد من أعظم العوامل التي عملت على تكبير الدماغ البشري؛ لأنها آلة فنية للتجسيم جعلت التعبير ممكنًا وزادت خيال أسلافنا وجرأتهم على الاختراع، وكان التفاعل بين الدماغ واليد تفاعل المهارة والذكاء، وكانت اليد هي التي تحمل الحجر والعصا للدفاع أو الهجوم، وهي التي تجمع الحطب للنار، وهي التي تصنع الآنية الأولى للحضارة الأولى.

ولكن اللسان كان أعظم من اليد في تكبير الدماغ؛ لأنه عين المعاني بكلمات تربطها في حدود لا تتجاوزها كيما تهيئها للطلب والخدمة، وإذا كانت اليد آلة الحضارة التي اخترعنا بها الأدوات فإن اللسان هو آلة الثقافة التي جمعنا بها المعارف للفهم والتفكير، وكلنا نعرف أن الإنسان قد عاش ملايين السنين وهو من حيوانات الليل التي تسعى في الظلام، وأنه لهذا السبب نقل عينيه من صدغيه إلى وجهه كما هي الحال في الوطاويط والبوم، وأن وسيلتنا للاتصال بالعالم قد أصبحت العين، بل العينين معًا بدلًا من الأنف، وأن هذا كان كسبًا عظيمًا للذكاء.

ولكن هذا السعي بالليل هبط بنا على شيء جديد زاد ذكاءنا وهو اللغة، فإن العواطف البدائية ترتسم على وجه الحيوان حول الفم والشفتين والعينين والأنف، بل إننا أحيانًا نعين العاطفة باليد أو اليدين معًا، فإذا كنا في الظلام عجزنا عن إبداء عواطفنا بهذه الحركات، ولكن العاطفة عندما تشتد أو تحتد تحملنا على الصراخ أو الصياح أو غير ذلك كما يفعل الكلب أو القط، فإذا تحركت أعضاء وجوهنا في الظلام لعاطفة محتدة مثلًا فإنه تخرج من حناجرنا أصوات تلائم هذه العواطف، وهذه هي اللغة.

ولكن لولا الظلام الذي كنا نعيش فيه، في حياة الليل التي كنا نحياها، وبرهانها جمع العينين في الوجه؛ لولا ذلك لما احتجنا إلى اللغة؛ لأن الظلام كان يمنع التفاهم بحركات اليد أو الوجه التعبيرية وقت الغضب أو الخوف أو الافتراس أو الهجوم أو الدفاع، كانت الأصوات تخرج وفق التعبير لهذه العواطف وكانت تؤدي للأذن ما كانت تؤديه للعين وقت النهار، مثال ذلك أن الحيوان، أحد أسلافنا، كان يفتح فمه وقت الرعب من وحش قادم، فإذا كان نور النهار فتح فمه وهو صامت، وكان رفيقة يفهم ويتعاون الاثنان على الدفاع أو الهرب، ولكن إذا كان الليل فإن الحيوان يفتح فمه ويخرج صوتًا يلائم هذا الرعب فيقول: آه.

ونرتقي من ذلك إلى أن تقول: إن أحد أسلافنا كان يجب أن يعبر مثلًا عن معنى الشيء العالي فيرفع «في النهار» شفته السفلي إلى فوق فقط، فإذا كان الظلام رفع شفته إلى فوق أيضًا ولكنه يخرج صوتًا يوافق هذه الشفة المرفوعة مثل: فوق بالعربية وHaut بالفرنسية وHigh بالإنجليزية، وهي نفسها الكلمة الفرنسية.
فإذا أراد أن يعبر عن معنى الشيء السفلي فإنه في النهار يعقد شفته ويمدها إلى أسفل ولا يتكلم، ولكنه إذا كان الليل فإنه يصيح مع عقد شفته إلى أسفل فيقول: تحت بالعربية وbas بالفرنسية وlow بالإنجليزية.

وهكذا نشأت اللغة البشرية؛ أي: أنها التعبير الصوتي وقت الظلام لحركات الشفتين حتى تسمع الأذن حين تعجز العين عن الرؤية.

واعتبر كلمات: كريه، بغيض، مقيت، قذر، وسخ، اشمأز، وبالفرنسية Mal، Mauvais, Degout, Sal. وبالإنجليزية Dirty, Disgust, Silly, Bad فإنها جميعها في اللغات الثلاث أصوات تخرج من حركة واحدة من امتداد للشفتين للكراهية والاشمئزاز.

وقد كان ماكس مولر يقول: إننا لا نستطيع أن نفكر بلا كلمات وإلا إذا لم تكن هناك كلمة، فيجب أن تكون هناك إيماءة أو رمز كما هو الشأن عند الخرس، والسيمائية، أو علم المنطق اللغوي، يسمى نفسه علم الرموز أو الإيماءات، بمعنى أن الكلمة هي إيماءة أو رمز.

وتجد السيكلوجية السلوكية أن التفكير هو الكلام الصامت؛ أي: أننا نفكر بكلمات ولكننا لا ننطقها، وظني أن الحجة قوية هنا عند السلوكيين، ولا عبرة بأن يبقى من تفكيرنا نحو واحد أو اثنين في المئة لا يجري بكلمات، وإنما يجري غامضًا مائعًا بإيماءات أخرى حتى يستقر على كلمات.

وبؤرة اهتمامنا هنا هي أن اللسان تفاعل مع الدماغ؛ أي: أن الكلام تفاعل مع الذكاء، فنما كلاهما؛ أي: أن الدماغ تضخم في جزئه الأعلى الأمامي الخاص بالتفكير كما أن اللسان حذق النطق، وكثرت كلماتنا؛ أي: كثرت أفكارنا، وأصبحت لنا ثقافة؛ أي: أفكار موروثة.

ولا نستطيع أن نسير في هذا المنطق إلا إذا سلمنا بأن عادات الآباء يرثها الأبناء؛ أي: أن الجهد الذي أنفقه أسلافنا في التعبير باللسان قد كان وظيفيًّا في أدمغتهم ثم صار عضويًّا في أدمغتنا، وسار التطور بيننا على نحو ما سار في الزرافة، حين كانت أسلافها تمط أعناقها للوصول إلى الغصون البعيدة، ثم صارت أعقابها ممتازة بأعناق طويلة لا تحتاج إلى المط، فنحن كذلك، كان أسلافنا ينطقون في جهد ويعقلون المعنى في دماغ صغير، ثم صرنا نحن نمتاز بدماغ كبير لا يحتاج إلى جهد كي ننطق ونفهم الكلمة.

وأعظم ميزاتنا اللغوية سيكلوجية؛ لأنها رفعت التفكير من مرتبة العواطف الغامضة المضطربة المندفعة إلى مرتبة الوجدان المتزن الإرادي الاختياري، ونحن الآن حين نجد شخصًا نيوروزيًّا؛ أي: قد تغلبت وطغت عليه عاطفة ما من الحزن أو الأسف أو الخوف أو حتى الطموح والعدوان وقد اضطرب وعجز عن السلوك السوي، نحلل عاطفته الهوجاء هذه بالكلمات التي تزيد وجدانه؛ أي: تزيد فهمه الموضوعي وتخرجه من الفهم الذاتي، فيشفى ويعود سويًّا.

أي أن اللغة هي التي فصلت تمامًا بيننا وبين الحيوانات؛ لأن كل حيوان يعد في معنى ما، نيوروزيًّا؛ أي: مستسلمًا لعاطفته، ذاتيًّا في تفكيره، أما نحن فإن اللغة قد رفعتنا إلى الوجدان الموضوعي الذي جعل التفكير العلمي؛ أي: التفكير الدقيق، ممكنًا.

فإذا سئلنا: ما الذي جعل الدماغ البشري يكبر إلى هذا الحد الشاذ بالقياس إلى الحيوان قلنا: إنه اليد أولًا، ثم اللسان؛ أي: اللغة ثانيًا؛ أي: التفاعل بينها جميعا، وقد كنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة نهمل شأن اللغة في تكبير الدماغ وزيادة الذكاء باعتقاد أن اللغة شيء مكتسب أو عادة يتعودها الجيل، ثم يشرع الجيل التالي في تعلمها وأنها لا قيمة لها لهذا السبب في التطور، ولكننا الآن نؤمن يقينا، وبالتجربة، أن العادات التي يتعودها الأسلاف يرثها الأبناء، ولذلك فإن عادات أسلافنا في النطق بكلمات قد حركت الدماغ وزادت نموه ونضجه، وورثنا نحن هذا النمو والنضج في أدمغة كبيرة.

نحن نتعلم اللغة أو بالأحرى التفكير باللغة كما يتعلم الطائر الطيران، وكما أن الطيران خاصة، بل الخاصة الأولى للطيور كذلك التفكير باللغة هو الخاصة الأولى للإنسان، ولكننا نحن والطيور ما زلنا نتعلم هاتين الخاصيتين في الطفولة، ولكن هذا التعلم لا يعني أن الطيران ليس من طبيعة الطيور أو أن اللغة ليست من طبيعة الإنسان، فإن جسم الطائر قد أعد بالجناحين للطيران، ودماغ الإنسان قد أعد للتفكير باللغة، وبعد آلاف السنين سوف تولد فراخ الطيور فتطير بلا تعليم وتدريب، كما أن أطفالنا سوف يولدون أيضًا بعد آلاف السنين وهم يتحدثون؛ أي: يفكرون باللغة، منذ الشهر الأول من الميلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤