البيئة تغير الأحياء

لم يكن داروين أول من دعا إلى مذهب أو نظرية التطور؛ فقد سبقه إلى ذلك «لامارك» و«بوفون» وهما فرنسيان من رجال النهضة الثانية أو الاشتعال الذهني الثاني في أوروبا.

والاشتعال الذهني الأول هو ما يسمى النهضة الأوروبية فيما بين عامي ١٤٥٠ و١٥٥٠ ومعظم رجاله من الإيطاليين، وإليهم ينتمي من جاء في أعقابهم «بيكون» الإنكليزي، و«ديكارت» الفرنسي.

ولكن هناك اشتغالًا ذهنيًّا ثانيًا سطح نوره في جميع أرجاء أوروبا هو النهضة الفرنسية التي بدأت بفولتير وروسو وديدرو وانتهت بالثورة الكبرى.

وكان لامارك وبوفون من العلميين الذين حرروا أذهانهم ورفض هؤلاء العلميين قصة الخلق كما روتها التوراة وعمدوا إلى استقراء الكائنات، وكانت ثمرة تفكيرهم أن الأحياء تطورت من أصل أو أصول قليلة، وأن أعظم العوامل لهذا التطور — بل يكاد يكون العامل الوحيد — أن الحي الذي يعيش في بيئة تطالبه بعادات معينة تقتضيه جهدًا، يورث هذه العادات أبناءه رويدًا رويدًا وجيلًا بعد جيل إلى أن يظهر جيل ثبتت فيه العادة وصارت جزءًا من كيانه الفسيولوجي — كالزرافة تعتاد مد العنق إلى الغصون العالية أو الأعشاب البعيدة على الأرض فتنشط العضلات ويطول العنق بالمجهود الفردي — ثم تتوالى هذه العادة جيلًا بعد جيل فإذا بنا نصل بعد إلى جيل قد تطورت فيه الأعناق فطالت.

أو اعتبر الجمل، فقد اعتادت أسلافه أن تبرك ويتصادم جلدها بالحصى الجارحة، وكما يحدث لنا أن يؤدي ضيق الحذاء إلى تقسية الجلد كذلك أدت الحصى إلى تقسية الجلد في مواضع اللمس للحصى، ثم انتهت هذه العادة بأن صارت وراثية ينشأ بها صغار الجمال ولها ثَفِنات خشنة.

وكان هذا التعليل كافيًا للتسليم بصحة التطور، ولكن أوروبا لم تكن قد وصلت إلى نقطة الإيمان بهذه النظرية، وقد كان جد داروين «أرازموس داروين» يعتمد على وراثة العادات، ولكن جاء حفيده تشارلز داروين فأخرج كتابه «أصل الأنواع» في عام ١٨٥٩ واستعرض فيه شأن العادات أو كما كان يقال وقتئذ «الصفات المكتسبة»، وجعل جل اعتماده على تنازع البقاء والانتخاب الجنسي.

وكان منطق داروين واضحًا يجذب بل يفتن العقل، فقد ضرب مثلًا بالحيوانات المدجنة كالحمام والأرانب والكلاب، وقال: إننا ندجنها؛ أي: نجعلها دواجن ونختار تلك الصفات التي نريد استبقاءها ونشرها فنقصر التناسل على الأفراد التي امتازت بها، ونحن نرى مئات من السلالات التي أوجدناها في الدواجن نرى صفة ما فنستلقح أفرادها حتى تكثر هذه الصفة، وفي الوقت نفسه نستبعد غيرها مما لم تحز هذه الصفة فتنقرض.

وما يحدث بين الدواجن المستأنسة يحدث أيضًا في حيوان الغابة ونباتها المتوحشين؛ أي: تظهر صفة جديدة لا نعرف سبب ظهورها، فإذا كانت تعين على البقاء؛ لأنها تزيد الملائمة، بقيت وتفشت، وإذا كانت تضر صاحبها مات هو وانقرض.

كان هذا جل اعتماد داروين في تعليل التطور، ولكنه أيضًا التفت إلى ما يسمى «الانتخاب الجنسي» عازيًا إلى الحيوان اختيارًا فنيًّا في الجمال والذوق، والتفت قليلًا جدًّا، إلى ما أشرنا إليه وهو العادات والصفات المكتسبة، فقال: إنها تورث ولكن بعد أجيال عديدة، حتى لا نستطيع أن نعتمد على أثرها في التغير والتطور.

وانتشرت نظرية التطور في أوروبا وأصبحت كلمة التطور ترادف كلمة «الداروينية» منذ عام ١٨٥٩، حتى إذا كانت سنة ١٨٨٥؛ أي: بعد ثلاث سنوات من وفاة داروين أخرج «فايسمان» البيولوجي الألماني كتابه المعنون ﺑ«نظرية استمرار المادة الوراثية».

•••

وفشت هذه النظرية كما لو كانت عقيدة ووقفت البحث نحو أربعين أو خمسين سنة في وراثة الصفات المكتسبة، وأحالت الوراثة إلى ما يشبه الحظ أو القدر الأعمى، فكانت بمثابة الجبرية العلمية، نحن والحيوان نولد وبنا كفايات للكفاح والبقاء أو للموت والانقراض، ومهما جهد آباؤنا ومهما نالوا من كفايات في حياتهم فلن نستطيع الانتفاع بهذه الكفايات؛ لأن طفل الحيوان يولد من الخلية المنوية، وهذه الخلية تعيش حياة مستقلة عن الجسم، جسم الطفل ثم الصبي ثم الشاب ثم الشيخ، وهي تظهر منذ أول التكوين للجنين؛ إذ نجد خليتين إحداهما تلك التي ينمو بها الجسم الحيواني والإنساني والأخرى تلك التي تتخصص للتناسل، وهذه تبقى خادرة كأنها نائمة إلى سن الشباب إلى حين تشرع في التكاثر وتؤدي إلى التناسل، وما يحدث للجسم إذا من ضعف أو جهد أو قطع ذراع أو أي عادات يعتادها الحيوان أو الإنسان، كل هذا لا يؤثر في الخلية المنوية؛ لأنها إنما تقطن الجسم فقط وتتغذى بالدم الذي يجري فيها ولكنها لا تتأثر به.

وإذا مهما يعيش الإنسان في وسط سيئ ومهما يكتسب في هذا الوسط السيئ من عادات مؤذية قد تحيله إلى مجرم أو وحش فإن أبناءه سيخرجون وهم غير متأثرين بحياة الشر والإجرام التي عاشها.

وهذا هو عكس ما كان يفهمه «لامارك» وسائر التطور بين الفرنسيين؛ إذ كانوا يقولون بأن العادات التي تعودها الحيوان والبراعة التي كسبها في حياته تنتقل رويدًا رويدًا إلى أعقابه؛ أي: أنها تبدأ وظيفية ولكنها تنتهي عضوية؛ كالزرافة تمد عنقها كي تنال الغصون العليا أو الأعشاب البعيدة عن الأرض، فلا تزال هي وأعقابها يفعلن ذلك بضع مئات أو عشرات المئات من السنين حتى تنتقل الوظيفة «مد العنق» إلى العضو «العنق الطويل».

وقد استفظع الأدباء والفلاسفة هذا المذهب، مذهب داروين، فحملوا عليه، وكان أولهم صموئيل بطلر، وكان أعظم من برنارد شو، وذلك لأن لهذا المذهب زاوية اجتماعية هي أنه مهما نشرنا من تعاليم وتربية فلن تتأثر الأجيال القادمة، فكأن في القول باستقلال الخلية التناسلية تبريرًا لأي عسف يقع بالجيل الحاضر بل لإهمال هذا الجيل من ناحية تثقيفية أو تمدنية.

كان هذا موقف الأدباء والفلاسفة، أما العلميون فقد استسلموا عند الصدمة الأولى لفايسمان، وقالوا: هذه نظرية قد قامت على التجربة فيجب أن نسلم بها وننتظر تجارب أخرى تنقضها، إلا هربرت سبنسر الذي صرح بأنه ليس هناك ما يعلل التطور غير العادات المكتسبة، والتجارب في الوراثة تقتضي انتظار مئات الأجيال المتعاقبة.

ولكن المشاهدة تقوم مقام التجربة، ولذلك شرع العلميون يستقرئون النبات والحيوان في أوساطها الطبيعية كي يعرفوا إذا كانت العادات الجديدة التي يكتسبها كي يلائم بين كفاياته وبين وسطه تورث أم لا؟

وإنما قلنا: «أوساطهما الطبيعية» لأن داروين أسرف في الالتفات إلى الأوساط غير الطبيعية التي نحدثها نحن للدواجن، فقد رأى أن الدواجن كالحمام والدجاج والخراف والماشية بل حتى الإخوة تختلف، ولا نستطيع تعليل هذا الاختلاف، ولكننا نفرض حدوثه في الغابة وفي السهل والجبل والبحر والنهر، ونقول: إن هذا الاختلاف قد يعمل لبقاء القرد أو لفنائه، ومن هنا تنازع البقاء ثم التطور بتجمع صفات ناجحة نافعة لبعض الأفراد وبجعلها تعيش وتتناسل فتكون السلالة الجديدة بعد ذلك النوع الجديد.

ولكن اتضح لهؤلاء الباحثين أن ما يحدث للدواجن لا يحدث للأوابد؛ أي: لتلك الأحياء المتوحشة التي تعيش في الغابات … إلخ.

وذلك لأن التدجين، بما فيه من حياة غير طبيعية، يفسد الحي نباتًا كان أو حيوانًا، وهذا الإفساد هو بمثابة المرض الذي لو نشأ مثله بين الأوابد لماتت؛ لأن هذه التغييرات الكثيرة في أفراد الدواجن إنما هي استجابة الحيوان لغذاء سيئ أو لحبس يمنع الحركة، أو هي استجابة النبات لسماد كثير، وفي الطبيعة لا تحدث هذه الاختلافات والتغيرات الكثيرة، ولو حدثت لأبادت الأحياء؛ إذ هي ضد مصلحتها وبقائها.

ونحن الآن على مسافة تزيد على ستين سنة من نظرية فايسمان، ولذلك نستطيع أن ننقدها، وأحسن الناقدين لها في تطور الحيوان هو الأستاذ فريدريك وود جونز، فإن كتابة «العادة والوراثة» هو الرد الحاسم على فايسمان، وهو أيضًا إحياء لنظرية «لامارك»؛ أي: تعليل التطور بأن الأبناء يرثون عادات الآباء أو بكلمة أخرى أن الصفات المكتسبة تورث.

وأول ما يلتفت إليه وود جونز أن الخلايا التناسلية التي يزعم فايسمان أنها مستقلة تؤثر في الحي نموًّا وشكلًا كما نرى مثلًا في الخصيان الذين لا تنمو لحاهم وشواربهم بعد قطع خصاهم، وكذلك يتغير النمو في بعض أعضائهم، وهذا لأن قطع الخصيتين يحرم الجسم من هورموناتهما فلا ينمو النمو السوي.

فإذا نحن سلمنا بأن الجسم يتأثر بالخلايا المنوية، فلِمَ لا تتأثر الخلايا المنوية بالجسم؟

ثم يجب أن نعود إلى الخلايا البدائية مثل الأميبة، فإننا نجد هنا أن الأميبة هي جسم تندغم فيه الوراثة مع النمو؛ لأنها هي خلية واحدة فما يؤثر في النمو يؤثر أيضًا في الوراثة، بل إننا نستطيع أحيانًا أن نعالج الخلية البكتيرية التي تحدث مرضًا ما بحيث نستنتج منها سلالة تنقسم وتتكاثر، وهي خلو من القدرة على إيجاد المرض، وهذا مألوف في العالم البكتريولوجي.

ومعنى هذا أن الصفات المكتسبة تورث في الأحياء التي يتألف كل فرد منها من خلية واحدة.

ثم نحن نعرف أن التكاثر ممكن أن يحدث في النبات الذي يمتاز ببذور مثل اللبخ، وذلك بأن نزرع أجزاء من سيقانها التي تنمو كما لو كانت قد نمت من البذور … ومعنى هذا الاستقلال المزعوم بين جسم الحي وبين الخلية اللغوية غير صحيح؛ لأن الجسم يؤدي عمل الخلية المنوية في الوراثة.

وهناك مثلا البيجونيا التي يمكن أن نزرع أوراقها فتنمو كما لو كانت بذورًا، والبيجونيا نبات مزهر؛ أي: أن لها بذورًا؛ أي: خلايا تجمع العناصر الوراثية، ونحن نزرع «الككتوس» Cocrus أي: التين الشوكي من السيقان وليس من البذور، والألواح في الككتوس هي السيقان، والإبرهي الأوراق.
وهناك أيضًا حيوانات غير الأميبة، مؤلفة من أجسام كبيرة تحمل خلايا جنسية مثل الحيوان «الهيدرا» Hydra فإن التكاثر يمكن أن يتم فيها على طريقة التكاثر في اللبخ والبيجونيا؛ أي: أننا نقطع جزءًا صغيرًا من لحمها فينمو إلى الحيوان الكامل كما لو كان قد نشأ من الجراثيم المنوية.

ومعنى هذه الأمثلة: الأميبة والهيدرا واللبخ والككتوس، أن العناصر الوراثية ليست محصورة في خلايا وراثية مستقلة بل إنها تنتشر في جسم الحي كله، ولذلك يجب أن نستنتج أنه إذا تعود الحيوان أو النبات من هذه الأربعة التي ذكرناها وهي تمثل عشرات الألوف من الأحياء؛ إذا تعود عادات استجاب لها لتغيير غذائي أو جوي، فإن هذه العادات التي ستغير جسمه ستغير أيضًا سلالته؛ لأن سلالته هي بعض جسمه قد نمت من الورقة أو الساق في النبات أو من خلايا الجسم في الحيوان.

وهناك نرى بكل وضوح أن الانفصال المزعوم بين الخلية الجسمية والخلية الوراثية غير صحيح — وأن الاثنتين تندمجان في أحياء كثيرة — بل هناك أكثر من هذا وأبرز في الدلالة، فإن ماتيسين العالم الروسي نشر كتابًا في كياف سنة ١٩٠١ قال فيه: إنه استطاع أن ينزع مبيض الأرنبة، ثم نما مبيضان آخران مكانهما، ثم قام بذلك العالمان الأمريكيان كاسيل وفيليبس بنزع المبيض في الأرانب أيضًا فعادا إلى النمو وصح الحمل الذي تكون من مبيضين جديدين، وفي سنة ١٩٢٥ أثبت دافنبور ذلك أيضًا في الفئران.

أي أن الأرانب والفئران مثل الهيدرا والأميية والبيجونيا واللبخ تتناسل عن طريق النمو من خلال الجسم، وإن كانت الحال في الأرانب والفئران تقتضي نمو المبيضين من جديد.

بل إن وود جونز يذكر أن هناك عددًا غير صغير من النساء قد نزع جزء كبير من مبايضهن مع بعض الأنابيب الفالوبية ثم استطعن بعد كل ذلك أن يحملن، ومعنى هذا أن الخلايا التناسلية قد تنشأ في الإنسان من خلايا الجسم غير التناسلية كما يحدث في الهيدرا والفأر، ولذلك نستنتج أن نظرية، أو بالأخرى عقيدة، فايسمان في انعزال الخلايا المنوية الوراثية أو استقلالها الفسيولوجي ليست صحيحة، وأن المبدأ عام في النبات والحيوان وهو أن الخلايا المختصة بالوراثة تنشأ من خلايا الجسم نفسها، ثم — وهذا هو ما تكبر قيمته الاجتماعية في الإنسان — إنه لقاء التأثير الذي تحدثه الخلايا المنوية في الإنسان، كذلك هناك تأثير آخر تحدثه خلايا الجسم في هذه الخلايا المنوية، وبكلمة أخرى، أن حياتنا وما نكابد فيها من رجوع واستجابات للوسط الذي نعيش فيه تعود فتؤثر في الخلايا الوراثية وتغير للخير أو للشر في أعقابنا؛ أي: أن الصفات المكتسبة تورث.

•••

كل هذا الذي ذكرت هو مقدمة الموضوع، ولكن هذه المقدمة مع ذلك أطول من الموضوع، ففي النصف الأول من هذا القرن اسم رجل عظيم يدعى ميتشورين “Michurin” يحتفل الروس بمرور مئة سنة على ميلاده، واسم ثان هو ليسنكو “Lissenico” الذي لا يزال حيًّا يتلقى من الروس والصين وسائر الشعوب التي دخلت في نظام الاتحاد السوفيتي الاحترام والإكبار كما يتلقى السباب من كثير من «العلميين» في الأمم الغربية وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة.

هذان الرجلان أرصدا حياتهما لشيء واحد هو أن ما يقال عن الوراثة وجمودها بقانون مندل وبأن خلاياها خاصة مستقلة عن جسم الحيوان والنبات، وبأن الصفات المكتسبة أو العادات المتكررة في حياة الفرد لا تورث؛ هذا القول هراء لا أصل له في الطبيعة.

وتجارب هذين العالمين في النبات فقط وليست في الحيوان، ولكن ليس هناك أدنى فرق في العوامل الوراثية بين النبات والحيوان.

وما هي تجاربهما؟

أستطيع أن أحصرها في مبدأين:
  • الأول: تربية النبات على عادات جديدة في غذائه ونموه وهوائه وتربيته، وهذه العادات ترثها أعقابه فيحدث التغيير بظهور سلالات جديدة.
  • والثاني: زعزعة الوراثة المنينة في النبات بشيء من التهجين حتى يستطيع التخلص من الروابط أو القيود الوراثية السابقة وينطلق في الأخذ بالبيئة الجديدة.

ولنبدأ بالمبدأ الثاني قبل الأول.

عوامل الوراثة قوية، فإذا شئنا أن ننزعها حتى يتقبل الحي؛ حيوانًا كان أم نباتًا، وسطًا جديدًا ويأخذ بعاداته البيولوجيا الحيوية فإننا نعمد إلى تهجينه، كأن نطعم النبات بفرع من النبات الآخر، هذا الفرع يتغذى من الأم التي تختلف عن أمه الوراثية فتتزعزع كفاءته الوراثية ويعود خضوعه للوسط الجديد أكبر وأعمق مما لو كان سليمًا خالصًا في وراثته.

وعندئذ، وهنا المبدأ الأول، نأخذ هذا الفرع الذي تربى على أم أخرى غير أمه، أو نأخذ البذور التي نشأت عليه فتزرعها؛ نزرع البذور أو الغصون التي نشأت ونمت على الغصن الذي طعمنا به الشجرة ثم نربيه، نربي البذور أو الغصن وذلك بأن ننقله من وسطه الأول أو وطنه الأول الذي عاش فيه قرونًا فنزرعه في مكان ينأى عنه بنحو ثلاث مئة كليو متر، وهذا المكان أدفأ أو أبرد أو أرطب أو أجف، وهنا يتعلم النبات حياة جديدة.

ثم نأخذ البذر أو الغصن الناتجين فنزرعهما في بيئة تبعد نحو مئة أو مئتي كيلو متر وهلم جرا.. وبعد مرور بضع سنوات نجد عندنا نباتًا جديدًا أو ثمرة جديدة لم يكن لها وجود من قبل.

وبهذه الطريقة استطاع ليسنكو الذي ورث هذا الفن عن ميتشورين أن يزرع القمح بالقرب من القطب الشمالي، وكذلك البرسيم والقنبيط والكرنب وعددًا كبيرًا من البقول والخضر.

واستطاع، وهنا موضع العجب، أن يتقدم بزراعة القطن المصري إلى مسافة ١٥٠٠ كيلو متر نحو القطب الشمالي.

•••

ودلالة هذا البحث الخطير أن الوسط الاجتماعي، الذي يشمل التعليم وتربية الأطفال ونظام الزواج والارتزاق والأخلاق والأمراض والطعام والسكنى؛ كل هذا يؤثر في عادات الفرد ويستنبط منه كفايات أو يقتل فيه كفايات، وقد كنا نحسب، بما زعمه فايسمان، أن كل هذا لن يؤثر في الأعقاب القادمة لأن الخلايا الوراثية مستقلة منعزلة في أجسامنا كما نعيش نحن في مساكننا، أما الآن فإننا مضطرون إلى التسليم بأن ما نكسبه من بيئاتنا يؤثر في أعقابنا؛ فإذا كنا مثلا نعيش في بيئة نتزاحم فيها ونتحاسد ويكافح بعضنا بعضًا من أجل العيش فإن ما نحس به من عواطف كريهة في هذا التزاحم والتحاسد سوف ينتقل غرائز ثابتة في سلالتنا القادمة؛ لأن مجهودنا في هذا التزاحم هو الآن وظيفي ولكنه سيستحيل عضويًّا في سلائلنا القادمة، كما ابتدأ اشرئباب الزرافة إلى الغصون العليا وظيفة فقط ثم استحال عضوًا في استطالة العنق، وهذا العنق لا يحتوى غير سبع فقرات، ولكنه استطال باللحم والعصب … إلخ.

وعلى العكس، إذا كنا نعيش في بيئة تعاونية تطالبنا بالحب والرفق والتعاون وتستنبط منا أجمل الفضائل، فإن ما نمارسه عندئذ كوظيفة يستحيل بعد أجيال إلى غرائز عضوية؛ فيعيش أبناؤنا بعد آلاف السنين وهم يتعاملون بالحب والرفق والتعاون.

والصفات المكتسبة تورث، ولذلك يجب أن نسأل: ما هي الصفات التي نكتسبها في مجتمعنا الحاضر؟ وهل نحب أن ترثها عنا الأجيال القادمة؟ … أم نكره ذلك.

وإذا كنا نكره هذا الميراث فيجب أن لا نمارسه.

وقد وجد الاستعماريون من الأوروبيين أن نظرية فايسمان في الإكبار من شأن الوراثة والانتقاص من قدر البيئة مبررًا لسيادتهم الإمبراطورية على الشعوب الشرقية؛ لأن هذه النظرية تفرض الكفاءة أو النقص البشري بعوامل وراثية تكاد تكون غيبية لا تُفهم.

وإذن فرقي الأوروبيين ليس ناشئًا عن بيئتهم الصناعية المدنية، وكذلك لا يرجع انحطاط الهنود، مثلًا إلى بيئتهم الزراعية، وإنما يرجع الرقي هنا والانحطاط هناك لعوامل وراثية تشبه القضاء والقدر، ولذلك فليس هناك ضرورة لترقية الأحوال الاجتماعية عند الهنود؛ لأن انحطاطهم ليس بيئيًّا وإنما هو وراثي أساسي لا يُعالج.

وأيًّا ما كان فهذا الإيمان الجديد بانتقال العادات والصفات المكتسبة من الأسلاف إلى الأعقاب قد نقلنا من جبرية الوراثة إلى حرية التوجيه والتدريب للنوع البشري بتعيين عادات التعليم وأساليب العيش ونظم المجتمع حتى تنتفع بها السلائل القادمة من البشر.

•••

من داروين زعيم نظرية التطور إلى ميتشورين العالم النباتي الروسي الذي احتفلت المجامع العلمية أخيرًا «١٨٥٥» بمرور مئة سنة على ميلاده.

داروين اعتمد على حقيقة جوهرية نسلم بها جميعًا وهي أن الأبناء يختلفون عن الآباء، وأن هذا الاختلاف إما فضيلة تعمل للبقاء، وإما رذيلة تعمل للفناء، في ميدان تنازع البقاء.

ثم جاء فايسمان فقال: إن العناصر الوراثية لا تتأثر بالأم؛ أي: بالجسم الذي تقيم فيه؛ إذ هي فيه بمثابة فرد يقيم في غرفة.

إذن لماذا يحدث التطور؟

لم يجب داروين عن هذا، ولم يجب فايسمان، لا، بل لقد أجاب فايسمان وإجابته هي هذه: هنا شيء سري خفي، لعله روح يختبئ داخل الخلايا الوراثية لا نراه ولا نعرف ماهيته.

وبكلمة أخرى كلاهما قال: لا أعرف.

والآن فهمنا وتعلمنا من ميتشورين أن البيئة هي التي تخلق السلالات الجديدة، ثم تتركز الصفات الجديدة في السلالة، وعندئذ تعود قوى جديدة منفصلة.

فهمنا من ميتشورين: لماذا تتطور الأحياء.

فهمنا كيف أن أنواعًا من البقر الذي كان يمشي على اليابسة قد نزلت إلى البحر قبل نحو ٣٠ أو ٤٠ مليون عام فصارت تتدرب على السباحة حتى صارت أذرعها زعانف كما ترى في القياطس من العنبر إلى الدلفين، وكذلك الشأن في السلاحف بل إننا نعرف الآن حيوانات لا تزال تجمع بين اليابسة والبحر، وكل هذا تم بالتعود الذي يكتسبه الابن عن الأب.

إن الوسط يغيرنا ويطورنا، ونحن قادرون على خلق سلالات ثم أنواع جديدة من النبات والحيوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤