نحن خمسة في هذا العالم

نحن خمسة ليس لنا سادس، قد افترقنا منذ أكثر من مليون سنة ولكننا ما زلنا نذكر قرابتنا وندل عليها بالوجوه وسائر الأعضاء، وكذلك بالاتجاهات الذهنية أو العاطفية.

نحن البشر، ثم الشمبنزي، ثم الغوريلا، ثم الأورانج، ثم الجيبون.

وليس لنا سادس، نحن خمسة نتسم بوجوه بشرية وبأذناب متقلصة قد اندغمت في ظهورنا حتى صارت لا تبرز كأننا لم نكن قط بأذناب، وقد عشنا آلاف القرون على الأشجار. ونحن البشر، مع الغوريلا، قد تركنا الأشجار ونزلنا على اليابسة، ولكن صغار الغوريلا لا تزال إلى الآن، إذا أظلم الليل، تصعد إلى غصون الشجر وتنام عليها، أما آباء هؤلاء الصغار فتبني على الأرض تحت جذوع الشجر ولا تصعد، أما الشمبنزي فلا يزال يساوي بين الشجر والأرض، ساعة هنا وساعة هناك، أما الجيبون فلا يزال يتعصب للشجر ولا يكاد يتركه، ولكن الأورانج ينزل من وقت لآخر ويسير على الأرض.

ونحن والجيبون طرفان، نحن نتعصب للأرض ولا يكاد أحدنا يفكر في الصعود إلى أغصان الشجر سوي صبياننا للعب والعبث، وفي الطرف الآخر الجيبون الذي يتعصب للشجر وهو بهلوان يذرع الغصون بذراعيه بنفس السهولة التي نسير نحن بها على الأرض، حركته تتبلور في ذراعيه كما تتبلور حركتنا في ساقينا.

والجيبون هو صرخة نائية في قرابتنا التطورية، ولكن هناك ما هو أنأى.

ذلك أننا قبل أن نكون خمسة كنا عشرات، بل ربما كنا مئات نتفرق في القارات القديمة ونعيش على الأشجار وكانت أجسامنا صغيرة؛ لأن الحيوان الضخم يجد أن الغصون لا تتحمله ولذلك سرعان ما ينزل إلى الأرض، ألا ترى أن اثنين من هؤلاء الخمسة، وهما الإنسان والغوريلا، قد تركا الشجر واستقر أحدهما على الأرض وكاد الثاني أن يستقر؟ والأورانج يكاد يساوي الإنسان في الثقل، ولكنه لا يزال يلتزم الشجر؛ لأن قدميه لا تليقان للمشي، كما سنرى.

قبل نحو عشرين أو ثلاثين مليون سنة كنا قد بدأنا حياة جديدة على هذا الكوكب، وكنا قد اهتدينا إلى اختراع جديد نمتاز به على تلك الزواحف الضخمة التي كانت وباء على العالم، ذلك أننا كنا نلد ولا نبيض، فكانت الحراسة ثم العناية بالأطفال كبيرتين، وفي الوقت الذي كانت تنقرض فيه الزواحف؛ لأن بيضها لا يجد الحراسة كنا نحن نعيش وننازعها البقاء؛ لأننا كنا نُعنَى بالأطفال ونحرسها.

وكنا صغارًا في الحجم نترجح من وزن الفأر إلى وزن الثعلب، وقد لجأنا إلى الأشجار كي نفر من هذه الزواحف الضخمة، وكانت خفة أجسامنا تساعدنا على الفرار، حتى إذا بدأت هذه الزواحف في التناقص، ثم الانقراض، شرع بعضنا يجد أن الأرض مأمونة وأنه يستطيع النزول حيث يسعى في حرية وانطلاق، فكانت أسلاف الحيوانات الجديدة المتخصصة كالفيلة والخيل والكلاب والبقر.

أما نحن فبقينا صغارًا في حجم الفأر أو القط، ولا يزال الليمور في أيامنا، ثم الطرسير، يصرخان بنا عبر الملايين من السنين إلى الأصل الوضيع الذي نشأنا منه، وكلاهما من حيوانات الليل التي تفتح أعينها في الظلام وتحاول النظر في النبشة والعتمة ولذلك تجمعت العينان عندهما في الوجه دون الصدغين، كما هو الشأن في سائر الحيوان، وإلى الآن نرى أن البومة والوطواط قد اجتمعت العينان لكل منهما في الوجه ينظر بعينين لشيء واحد في وقت معًا، في حين أن سائر الحيوانات النهارية؛ أي: التي تسعى في النهار طيرًا كانت أو لبونات، تقنع بالرؤية للشيء الواحد بعين واحدة في الصدغ.

ولهذا السبب نجد بيننا وبين البومة وكذلك الوطواط شبهًا مزعجًا نكرهه ونفر منه، وأصله هو هذا الجمع بين العينين في الوجه، فنحن الخمسة وكذلك الطرسير والليمور ثم كذلك البومة والوطواط، من حيوانات الليل، قد احتجنا إلى الدقة وإحكام الرؤية، فجمعنا العينين في الوجه حتى ننظر الأشياء بهما معًا لا بعين واحدة.

ونحن الذي نعيش في أنوار المدن التي تتلألأ بالمصابيح الكهربائية لا تكاد تحس أخطار الظلام ومخاوفه التي يحسها الفلاح في الريف، والتي تزداد ألف ضعف في الغابة، ومن هنا قيمة الرؤية السديدة بعيني الوجه.

والإقامة على الشجر تستدعي اليقظة في الليل كثيرًا، ويبدو أننا أسرفنا في هذه الإقامة حتى صار السعي في الليل دون النهار عادتنا، فكان هذا التخصص في النظر، في حين أن سائر الحيوانات، أسلاف الكلاب والقطط والفيلة والبقر، تركت الشجر قبل أن تتخصص، فبقيت عيونها جانبية؛ أي: بقي كل منها «أعور» ينظر بعين واحدة كما كانت تفعل الزواحف الكبرى، أما نحن فلم نترك الشجر إلا بعد أن تخصصنا، ومع ذلك لم يترك الشجر تمامًا غيرنا نحن البشر، أما سائر الأربعة فلم تتركها تمامًا إلى الآن، حتى الغوريلا لا تزال تسمح لأولادها بالتسلق والنوم على الغصون في الليل.

وهناك ما يرجح أن جميع اللبونات «التي ترضع أطفالها» نشأت أولا على الشجر، وكانت صغيرة الأحجام تتحملها الغصون في تنقلها ووثبها، ولم يكن مفر من هذا؛ لأن الزواحف الكبرى، التي كان العالم موبوءًا بها في كل مكان، كانت تحول دون ظهور اللبونات على الأرض، ولا تزال الأحافير القديمة التي ينتمي إليها الفيل والفرس صغيرة الحجم، فالفيل القديم، وقد وجد في الفيوم، لا يزيد على حجم الحمار، والفرس القديم، وقد وجد في أمريكا، لا يزيد على حجم الفأر؛ أي: أن اللبونات الضخمة كانت في الأصل صغيرة؛ لأنها كانت تعيش على الشجر، ولكنها لم تبق مثلنا المدة الكافية؛ لأن تجمع عينيها في وجوهها ولأن تتخصص أيديها للتناول.

figure
نحن خمسة في هذا العالم … الإنسان، والغوريلا، والشمبنزي، والأورانج أوتان، والجيبون … وهؤلاء صعاليك من أبناء عمومتنا.
figure
«الغوريلا» أكبر القردة العليا جسمًا وأقواها … يعيش قطيعها فيما يشبه النظام العائلي … يعرف الانتقام، والاحترام، والوقار.
figure
«الشمبنزي» الذي يعيش على أشجار إفريقيا … ماهر … مفراح … لعوب … فيه كثير من الذكاء، وشيء من الخبث.
figure
الأورانج أوتان الذي يعيش على أشجار جزيرتي سومطرة، وبورنيو … يعني الاسم في لغة أهل بورنبو «إنسان الغابات» … وهم يعتقدون أنه يمكنه أن يتكلم، ولكنه يتعمد الصمت خشية أن يستخدمه الإنسان ويسترقه.
figure
«الجيبون» هو أبعد القردة العليا عن الإنسان، وأصغرها جسمًا وأطولها ذراعين … ليس في يديه من الإبهام سوى العجز … وليس له ذنب …
figure
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني …
figure
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني …
figure
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني …
figure
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني..
figure
هيكل عظمي لطائر، وهيكل عظمي لإنسان … نشر الاثنين عالم فرنسي يدعى «بيلون» سنة ١٥٥٥؛ أي: قبل ٤٠٠ سنة، وقبل كتاب «داروين» أصل الأنواع بأكثر من ٣٠٠ سنة … لولا المنقار البارز لأنكرنا أي اختلاف.
figure
هياكل عظمية «من اليمين لليسار» للإنسان، الغوريلا، الشمبنزي، الأورانج أوتان، الجيبون …
figure
إنسان وزاحفة كبرى منقرضة «للمقارنة»، كانت أحجام هذه الزواحف هائلة، وأشكالها مختلفة، وقد تسلطت على الأرض ملايين السنين، ثم انقرضت …

ونزلنا صغارًا من الشجر، وقد كسبنا من الإقامة عليه عيني الوجه وكذلك اليد، فلما استقر بنا المقام على الأرض كبرت جثتنا كما كبرت جثة الغوريلا الذي لا يصعد على الشجر سوي صغاره، وأيضًا لأننا صرنا نتناول باليد، استغنينا عن الذنب، بل ربما كنا استغنينا عنه قبل النزول إلى الأرض؛ لأن هذا هو الشأن حتى في الجيبون الذي يسلك سلوك البهلوان على الغصون، والذي نظن أنه لذلك كان يجب أن يحتاج إلى الذنب، ولكن المرجح أن الأيدي قد قامت مقام الأذناب حتى ونحن على الشجر.

والفرق بيننا وبين الأربعة الأخرى أننا لم نتخصص مثلها على الإقامة في الشجر، حتى الغوريلا التي تركت الشجر الآن قد تركته متأخرة؛ لأن قدميها لا تصلحان للسير كما تصلح أقدامنا، ولأن إبهام القدم يواجه الأصابع ولا يستوي معها في صف كما هي الحال عندنا.

وأبعد الخمسة منا، وهو الصرخة النائية لحياة قديمة اشتركنا فيها، هو الجيبون، وهو آسيوي يعيش في الأقاليم الشرقية الجنوبية من آسيا وكذلك في سومطرة وبورنيو، وهو يختلف عن الأربعة الأخرى من حيث إن له صوفًا بدلًا من الشعر الذي تتسم به، وكذلك يتسم هو بتضخم إستي كما هو الشأن في بعض القردة، ولكن من الباحثين من يقول: إن هذا التضخم الإستي عام بين الخمسة حتى الإنسان، وإن الفرق بينهما درجي فقط، وبشرته سوداء مثل الزنوج، ومن هنا يجب أن نشك في قيمة الضوء من حيث إنه الأصل في البشرة السوداء؛ لأن هذا الجيبون يكسو بشرته صوف يحميها من الضوء، ومع ذلك هي سوداء، ولا بد أن هناك أسبابًا أخرى لسواد البشرة عند زنوج البشر وعند الجيبون.

والجيبون هو أصغرنا جميعًا من حيث الوزن والقامة، فإن قامته لا تزيد على تسعين سنتيمترا، وهو ضامر البطن، ونحن الأربعة بالمقارنة به، نعد مستكرشين، وهو أبرعنا في الانتقال بذراعيه كما نحن أبرع الخمسة في الانتقال بالساقين، وهو حين يتعلق بالغصون لا يستعمل إبهامه، بل أحيانا يقنع باستعمال إصبعين للتعلق كأن إصبعه خطاف، ولذلك لا يقبض على الغصن ولكنه يتعلق بانحناء خطافي في الأصابع، وأنيابه طويلة مؤثلة بخلاف الحال عند الأربعة الأخرى؛ لأن الأنياب عندها قصيرة مسحاء لا تنتهي بإبرة حادة، وهو ألوف، ولكنه عندما يعاشرنا لا يتمالك من الاختلاس؛ لأن ذكاءه يتجاوز أمانته.

ووطنه الأعم هو الشجر الذي لا يتركه سوى ساعة أو ساعتين في النهار، وهو يمشي ينتصب على قدميه.

أما ثاني الخمسة فهو الأورانج الذي يعيش في سومطرة وبورنيو في الأقاليم التي يعيش فيها الجيبون، هو الحيوان الانفرادي بيننا نحن الخمسة؛ لأننا اجتماعيون نعيش كلنا جماعات، إلا الأورانج فإنه ينفرد على الشجرة، وأنفه وفمه يبرزان وشعره أحمر، ولكن لحيته بطريركية سابلة برتقالية اللون، وهو يسير على الأرض في بطء وحذر، وهذا لأن إبهام قدمه الذي يخلو من الظفر أحيانا يواجه أصابعه؛ أي: أن قدميه مثل يده، وذراعاه طويلتان وساقاه قصيرتان بعكس الحال عندنا نحن البشر، وبين قواعد أصابعه أغشية، وأصابعه لا تقبض على الغصن ولكنها تتعلق به كالخطاف كما يفعل الجيبون، وصغار الأورانج كصغار البشر تتعلق وتتدلل وتصيح وراء الأم، بل هنا يجب ألا يفوتنا أن صغارنا نحن الخمسة تتشابه كثيرًا في تفاصيل الجسم والوجه والأخلاق.

وكل من الأورانج والجيبون يتناول الماء بيده ثم يشرب من يده؛ أي: أنهما لا يلعقان، ودماغ الأورانج لا يختلف عن دماغ الإنسان إلا من حيث الحجم.

أما ثالثتنا فهو الغوريلا، ووطنه إفريقيا، في الأقاليم النبياء من الكونجو، وهو أثقلنا؛ إذ يبلغ وزنه ٥٠٠ أو ٦٠٠ رطل، وهو شجري ما دام في طفولته وصباه، فإذا كبر لم يكد يعرف الشجر، وهو في الوجه من حيث حركة الأعضاء ولحظة العين بشري السحنة، وقدمه مستوية، وهو حين يعدو يتساوى مع الإنسان في السرعة أو يكاد يسبقه، وهو حين يقعد يأكل كل ما حوله من أوراق الشجر، ولذلك كان بطنه ضخمًا كأنه بهيم، وهو يسير جماعات كل ٢٠ أو ٣٠ معًا، وعندما يقعد ليستريح على أليته يضم ذراعيه مكتوفتين على صدره، وهو ينام على ظهره أو جنبه ويتوسد ذراعه، وهو مثل الأورانج يثبت للخصم ولا يفر.

أما الشمبنزي، وهو أقرب الخمسة إلينا نحن البشر، فيستوي عنده الشجر والأرض؛ إذ هو يتسلق كما يمشي، وهو إفريقي مثل الغوريلا، وهو ينتصب في القامة أو يكاد، ولذلك يتعلم الانزلاج ويمارسه في طرب وخفة، ويعيش مثل الغوريلا في غابات إفريقيا الغربية، وهو يسير جماعات كل منها نحو ثمانية أو عشرة، ويأكل الفواكه، ولا يبالي أن يعيش بجوار القرى، ولكنه إذا أحس أن أحدًا يتجسس عليه ترك مكانه إلى آخر، ولا يزيد وزنه على مئة رطل، وهو بالمقارنة إلى الأورانج يعد انبساطيًّا يفرح بالاجتماع ويلعب وينشط إلى المرح بخلاف الأورانج الذي يعد انطوائيًّا يعيش منفردًا ولا يكاد يعرف معنى للمؤانسة، والشمبنزي سريع إلى التعلم، فهيم يتناول طعامه بالملعقة، وعندما يعاشرنا يكتسب منا أخلاقًا بشرية، فإن الندم يبدو عليه عندما يخطئ عمدًا أو عفوًا، ولكنه عندما يسن يؤثر الانفراد ويتجنب المزاح، وكثيرًا ما يصلع، فيتخذ سحنة بشرية.

أما نحن البشر فنختلف الاختلاف الأكبر عن هذه الأربعة المتقدمة من حيث إن حجم الدماغ عندنا أكبر مما هو عندها، وأيضًا من حيث إن إبهام اليد تواجه الأصابع ولذلك نحسن القبض والتناول أكثر منها، وقد تركنا الشجر تركًا تامًّا، ولا يقاربنا في هذا سوى الغوريلا، والقدم عندنا مقنطرة نمشي على أرساغنا ثم نندفع فوق أصابعنا، في حين أن أقدام الأربعة الأخرى مسطحة، ولذلك لا يسهل عليها المشي كما يسهل علينا، لكن أذرعتنا لا تزال طويلة، مما يدل على أننا عشنا كثيرًا على الشجر، ودماغنا يكبر دماغ الغوريلا بثلاثة أضعاف، ويجب ألا ننسى أن القامة المنتصبة العمودية عندنا هي التي هيأت لنا حمل هذا الدماغ الثقيل؛ لأننا نحمله حملًا عموديًّا فلا يرهقنا، ولم نكن نستطيع أن نحمله لو كنا نمشي على أربع، والفم والأنف يتراجعان عندنا؛ لأن اليد تقوم بالتناول بدلا من الفم، والأنف أصبح صغير القيمة؛ لأن العين جعلتنا تستغني بالنظر — أو نكاد — عن الشم، وزيادة الحجم في نظر الطبيعة ليست ذات قيمة كبيرة، كما ترى هذا إذا اعتبرت الكلاب، فإن بينها كلب سان برنار الذي يزيد وزنه على ثلاثين رطلا، وكلب لولو الذي قد لا يبلغ رطلا أو رطلين، ودماغنا، وهو أعظم ما يميزنا من هذه الأربعة الأخرى، يزيد أضعاف ما هو عند الغوريلا أو الأورانج أو الشمبنزي، وليس هذا شيئًا عظيمًا؛ لأننا والأورانج سواء من حيث التشريح المخي بلا أدنى اختلاف.

ولنا جميعًا وجوه متشابهة، فنحن الخمسة نبدو للعالم بوجوه تتشابه؛ لأن العينين تتقاربان، ولنا أيد للتناول، وجميعنا قد استغنينا عن الأذناب، ولكن ما تبقى من الذنب عندنا أكبر مما تبقى منه عند الأربعة الأخرى، وجميعنا نمشي على أقدامنا بفروق، بعضنا قد ترك الشجر بعض الوقت، وأحدنا «نحن» قد ترك الشجر كل الوقت.

قال هوكسلي: «إن الإنسان يشبه هذه الأربعة الأخرى، كما يشبه كل واحد منها الآخر، وهو يختلف عنها كما يختلف كل واحد منها عن الآخر» ثم يقول: «إن الفروق الجسمية التي تفصل الإنسان من الغوريلا والشمبنزي ليست عظيمة إلى الحد الذي تبلغه الفروق بين القردة العليا والقردة الدنيا».

والفروق بين البشر كبيرة، فإن أنف الزنجي الأفطس وأنف السويدي الأشم يختلفان اختلافًا عظيمًا، وكذلك بشرة الزنجي السوداء وبشرة الأوروبي البيضاء قد أحدث الاختلاف بينهما الثاني للأول آلافًا من السنين، والصيني أملط أو يكاد، والأوروبي شعراني وأحيانا نجد على بعض الأجسام البشرية زغبًا صوفيًا، يكثر في فرنسا وإيطاليا بين الفتيات له لمسة حريرية جاذبة وحبذا الإنسان يعود فيكتسي بهذا الصرف الناعم ويستغني به عن الملابس، وبعض هذه الفروق يمكن تعليله بالمناخ، مثال ذلك أن السويدي أو النرويجي الذي يعيش في مناخ بارد بالقرب من القطب يجب أن يكبر أنفه وتضيق المسالك الداخلية فيه حتى لا يفجأ الهواء البارد رئتيه، أما الزنجي الذي يعيش في إفريقيا الحارة فينفطس أنفه وتتسع مسالكه الداخلية حتى يجتازها الهواء بسرعة وبلا عائق، والهواء الحار يتمدد فيحتاج الزنجي كي يحصل على حاجته من الأكسجين إلى مقدار من الهواء يزيد على المقدار الذي يحصل عليه الأوروبي.

ولكن مع جميع هذه الاختلافات بيننا نحن البشر ما زلنا نوعًا واحدًا يتفرع إلى سلالات عدة يتم بينها التلاقح ولا يؤدي إلى نسل من «البغال» العقيمة.

والفروق بيننا وبين القردة الأربعة الأخرى كبيرة، وأهمها بالطبع هو المخ، ولكن هذا المخ ما كان ليصل إلى ضخامته الحاضرة بل ما كان لينمو في الذكاء لولا اللغة التي جعلت التفكير الدقيق ممكنا، ولولا اليد التي جعلت الحضارة ممكنة بما لها من إبهام يجيد التناول، فميزتنا الكبرى على القردة الأربعة الأخرى ليست المخ الكبير وإنما هي اللغة واليد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤