علي باشا مبارك (١٢٣٩–١٣١١هـ، ١٨٢٣–١٨٩٣م)

«برنبال» الجديدة قرية صغيرة كسائر قرى الفلاحين بمصر تابعة لمركز (دكرنس) من مديرية (الدقهلية) تقع على البحر الصغير، بها أربع حارات، ومرافقها الاجتماعية. مسجد للصلاة، وكتاب لتعليم القرآن، ودكان لعطار، ومعملان لتفريخ الدجاج، وأربعة أنوال يدوية لنسيج الصوف، ودكانان لصبغ الثياب البيضاء صبغة زرقاء، وضريحان لوليين يستشفي بهما الأهالي لقضاء الحوائج، وأربعة مضايف لكل حارة مضيفة، تقام فيها مآتم الحارة وأفراحها واحتفالاتها في الأعياد والمواسم، وباعة صغار لبيع الخضر وما إليها، وبعض صناع يقومون بصناعة ساذجة كنجار للسواقي ونوتي للمراكب تجري في البحر الصغير، وفي الجهة القبلية منها جبانة لدفن الموتى، وحولها الأراضي الزراعية ليس فيها من الأشجار إلا نخلتان.

يسكن حارة من حاراتها أسرة تتكون من نحو مائتي شخص يعيش أفرادها كسائر الفلاحين ببهائمهم ودواجنهم وأدواتهم الزراعية، وعلى رأسهم الشيخ مبارك، وكان يقوم بكل الشئون الدينية في القرية، فهو إمام مسجدها وخطيبه وهو (مأذونها) يعقد عقود زواجها، ويسجل صيغ طلاقها، ويستفتي في المسائل الدينية تعرض لأهلها، ورث ذلك عن أبيه وجده حتى سميت الأسرة بأسرة (المشايخ) وتزوج الشيخ أكثر من زوجة، رزق منهن أولادًا كثيرين، إحداهن رزقت سبع بنات واحدًا سماه عليا، وكلهم يعيش على الدخل التافه والرزق القليل.

في هذه البيئة ولد علي مبارك، ووقعت عينه أول ما وقعت على هذه المشاهد الطبيعية والاجتماعية. ولعله يوم ولد بشر به أبوه وسلم له في يده ليبارك عليه وأذن في أذنه أمل فيه أن يكون حلقة في سلسلة (المشايخ) يرث الإمامة والخطابة والإفتاء لأهل القرية عن أبيه، كما ورثها أبوه عن جده وما ورثها جده الأدنى عن جده الأعلى. ولو جرت الأمور مجراها المألوف لكان هذا، فما ظنك بطفل فقير من أسرة فقيرة في (برنبال) البعيدة عن مراكز المدينة والحضارة إلا أن يسعده الحظ فيكون إمام مسجد؟! ولكن للقدر شئونه ولله تصرفه.

على هذا المنهج أرسله والده إلى كتاب (برنبال) وفقيهه إذ ذاك رجل أعمى شديد عنيف، وافق اسمه مسماه، فكان يسمى أبا عسر، كان له الفضل في أن يكره (عليا) في التعليم والحفظ.

وشاء الله أن تنكب هذه الأسرة جميعها بما كانت تنكب به أسر كثيرة في البلاد إذ ذاك، فكثيرًا ما كان يهمل الفلاحون زراعة أرضهم شعورًا منهم بأن غلتهم ليست لهم، وإنما هي مطمع الحكام: يطمع الحاكم الأعلى في الحاكم الأدنى ويطمع الحاكم الأدنى فيمن دونه، وهكذا حتى يصل إلى الفلاح، فإذا عجزت غلة الأرض عن أداء الضريبة أخذت الأرض منه وأعطيت لغيره، وكان هذا العطاء مصيبة كبرى على من يعطى لشعوره بأنه يمط ليسخر، يسخر في الأرض وزراعتها لتكون غلتها لغيره، ولذلك كانوا يعبرون عن إعطاء هذه الأرض تعبيرًا صحيحًا صادقًا؛ إذ يقولون (رميت عليه الأرض) وهذا ما أصاب أسرة الشيخ مبارك، فقد رميت عليها أرض، فلما جاء المصلحون يحصلون الضرائب لم تكف الزراعة فباعوا بهائمهم وأثاث منازلهم، ثم رأوا أن لا بد بعد ذلك أن يهجروا البلد وتنقل الشيخ مبارك وأسرته في البلاد إلى أن نزل على عرب في (الشرقية) يسكنون الخيام، يسمون عرب (السماعنة) فأقاموا له خيمة مثل خيامهم، ورأوا فيه ما يسد مطالبهم الدينية، فكان مرجعهم في الفتيا وإمامهم في الصلاة، كما كان في بلدته (برنبال). فلما استقر به الحال فرغ للتفكير في تعليم علي، فأرسله إلى كتاب في قرية قريبة من الخيام، ولكن لم يكن يتيسر له أن يذهب كل يوم إلى الكتاب ويعود فكان يسكن مع سيدنا ويزور أباه مرة كل يوم جمعة. ولم يكن حال هذا الفقيه خيرًا من حال (أبي العسر) وإن كان اسمه (أبا الخضر) فكان علي يجتهد في إرشائه بما يستطيع أن يحمله إليه كل أسبوع ليخفف عنه. فلما توالى عليه العنف كره الكتاب بتاتًا بعد أن كان قد حفظ القرآن.

هنا حدثت الأزمة، فعلي لا يريد الكتاب بتاتًا. وماذا لقي منه إلا الضرب؟ ثم ماذا يكون مصيره لو نجح في الكتاب؟ أليس إلا أن يكون كأبيه إمام مسجد ومفتي قرية؟ وهذا مطلب لا يقنعه ولا يرضيه، وأبوه مصمم على الكتاب. واصطدمت الإرادتان فغلبت إرادة علي.

ولكن أفهمه أبوه وأخوته أنه لابد أن يتعلم شيئًا ما، وكان إذ ذاك في البلاد طبقة من الكتاب الصغار يكتبون للناس في مطالبهم وأغراضهم أو يمسحون١ الأرض لهم، ففضل أن يكون صبيًا لأحد هؤلاء ورضى أبوه بهذا الحل، فهو يلتحق تلميذًا لكاتب من هؤلاء ويتنقل بينهم ولم يكن حظه معهم خيرًا من حظه في الكتاب، فالضرب هو الضرب والبؤس هو البؤس. ومنهم من يأجره أجرًا قليلًا، ثم يأكل عليه أجره، ومنهم من يسأله: كم الواحد في الواحد؟ فيقول: اثنان. فيرميه بأداة أمامه على رأسه فيشجه. فهذه أيضًا حالة لا تنفع. فيهرب من أمه وأبيه لضغطهما عليه في العمل بما لا يرضيه ويهيم على وجهه متنقلًا في البلاد، وأبوه يلاحقه، ويتعرض أثناء ذلك للإصابة بالكوليرا أحيانًا وللسجن بسبب وشاية أحيانًا. وأخيرًا شاء القدر أن يسعى له السجان ليكون كاتبًا صغيرًا عند مأمور كبير، وشفع له في ذلك حسن خلقه وجودة خطه، كان هذا الموظف الكبير «عنبر أفندي» مأمور زراعة القطن بأبي كبير، فلما وقع عليه نظر علي مبارك وقع في حيرة شديدة، إذ رآه أسود حبشيًا، وعهده بالحاكم أن يكون أبيض تركيًّا، فما الذي أهله لهذا المنصب الكبير. وكبار الناس يخضعون له ويمتثلون أمره ويجلون قدره؟ وإذا كان هذا الأسود قد بلغ هذا القدر.. فلم لا أبلغه وأنا على الأقل وسط بين الحبشي والتركي؟ ولكن ما السر في بلوغ هذا الأسود هذا المنصب؟ لغز صعب عليه حله، وكلما سأل عنه أحدًا أجابه إجابة لا تقنعه، وقد سأل أباه يومًا — بعد أن رضى عنه — عن السبب في ذلك، فأجابه بالقضاء والقدر، وأن الله إذا أراد شيئًا فلا راد لمشيئته، وقد شاء أن يكون هذا العبد الأسود حاكمًا مطاعًا فكان، ولكن هذا أيضًا لم يقنعه.

وأخيرًا أخذ يتحرى السبب من خدم المأمور، نعرف أن هذا العبد كان مملوكًا لسيدة من كبرى السيدات، وقد أدخلته مدرسة قصر العيني فتعلم فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن هذه المدرسة تخرج الحكام — إذ ذاك — وضع يده على سر الأمر، فهناك مدرسة لتخريج الحكام وهي لا تقيد بالأتراك، فقد كان هذا العبد الأسود تلميذًا فيها، فإذا استطاع أن يصل إلى الدخول في هذه المدرسة أصبح حاكمًا كعنبر أفندي. ولكن كيف السبيل؟ — أصبحت هذه المدرسة شغله الشاغل، وهمه بالليل والنهار، وسؤاله المتكرر ممن يأنس منهم المعرفة — أين مدرسة قصر العيني؟ وما هو الطريق إليها؟ وما المسافة بين كل مرحلة وأخرى؟ وكيف يأخذون التلاميذ لها؟ وهكذا، ثم يكتب كل هذا في ورقة معه، وقد صمم على أن يحتال للدخول في هذه المدرسة بأية وسيلة.

وكان أهم ما عرفه عن هذه المدرسة أن مفتشًا يمر على مكاتب القرى من حين إلى حين يختار أنجب التلاميذ وأذكاهم، فيلحقهم بمدرسة قصر العيني.

هذا هو علي مبارك يترك العمل عند عنبر أفندي ويلتحق بكتاب ينتظر المفتش، ويحاول أبوه مرارًا أن يصده عن ذلك فلا يفلح، ثم إذا بالمفتش يحضر ويختار علي مبارك فيمن يختارهم. وإذا هو تلميذ بمدرسة قصر العيني يمني نفسه الأماني في أنه سيكون حاكمًا كعنبر أفندي، وعمره إذا ذاك نحو اثنتي عشرة سنة كانت حافلة بالمغامرات الغريبة، والمفاجآت العجيبة، والصبر على البؤس والفقر والغربة.

دخل علي مبارك مدرسة قصر العيني، ولكنه سرعان ما شعر بخيبة الأمل، فلم يجد المدرسة هي الجنة التي وعد المتقون، وإنما هي النار التي يشقى بها المجرمون، وكانت المدارس المدنية إذ ذاك في أول العهد بها، لم يستقر أمرها ولم تنظم شئونها، فلم تعجبه في علمها، إذا لم يجد هندسة ولا حسابًا كما قيل له، وإنما كان أكثر الوقت يصرف على تعليم المشي العسكري، ولم يجد أكلًا يرضيه — وهو الفقير القنوع — فكان يفضل عليه الجبن والزيتون يشتريهما من ماله الخاص، ولم يجد نظافة يطمئن إليها، فنومه على حصير قذر، يلتحف ليلة بنسيج من الصوف الغليظ حتى أصيب بالجرب وبكثير من الأمراض. وإذ ذاك تبخرت كل آماله، وزاره أبوه في مرضه، وحاول أن يسرقه، وفكر هو أيضًا في أن يفر معه، وما منعه إلا ما سمعه من أن من فر قبض عليه وعذب هو وأهله عذابًا شديدًا، فسلم الأمر لله واستمر في المدرسة، ثم منّ الله عليه فنقل إلى مدرسة الهندسة بأبي زعبل لتخلى مدرسة قصر العيني لتعليم الطب.

وكانت المدرسة الجديدة خيرًا من القديمة، ففيها علم كثير يرضي نهمه،٢ ولكنه يقع في مشكلة عويصة، فعقله لا يستسيغ الهندسة ولا النحو بتاتًا، ويسمع للمدرس كأنه يسمع تعاويذ سحرية لا يفقه لها معنى، ثم تبين أن المشكلة مشكلة المعلم لا مشكلة التلميذ، فكانت في نفسه عقدة منعته من فهم الهندسة؛ إذ سمعهم يسمون مثلثًا أ ب جـ وآخر ح د هـ، فاختلط عليه الأمر، ولم يدر لم سمي هذا المثلث بهذا الاسم دون ذاك، حتى رزق بمعلم حسن التدريس، جمع التلاميذ المتخلفين في فصل، وشرح لهم الهندسة من أولها شرحًا جليًا واضحًا، وأبان أن هذه التسمية للمثلثات وسائر الأشكال ليست إلا مواضعات٣ للشرح والتفسير، فالمثلث ا ب جـ أو ح د هـ أو أي حروف كانت ليست إلا أسماء اصطلاحية يسمى بها الشكل، فانحلت عقدة علي مبارك، وتفوق على سائر التلاميذ في الهندسة، وكان أول فرقته دائمًا. ولم يرزق في النحو ما رزق في الهندسة، فظل معمي عليه.

ثم اختاروا من مدرسة أبي زعبل خير التلاميذ وأدخلوهم مدرسة المهندسخانة ببولاق، فكان علي مبارك أحدهم، درس فيها كل فروع الهندسة وما إليها حتى أتمها.

ولما اعتزم محمد علي باشا إرسال بعثة إلى فرنسا اختار المتفوقين من هذه المدرسة فوقع الاختيار عليه فيمن اختير، فها هو ذا في باريس بعد برنبال والقاهرة، لا يعرف أي كلمة في اللغة الفرنسية، والمدرسون فرنسيون لا يعرفون كلمة عربية، فضاق بالأمر ولم يجد حيلة إلا أن يجمع الكتب الفرنسية الموضوعة للأطفال ويستعين بمن يعرف الفرنسية من زملائه، ويسهر على حفظها ليلًا، حتى تمكنت منه عادة السهر الطويل والنوم القليل، وهي عادة لازمته طول حياته، وبعد ثلاثة أشهر استطاع أن يتابع الدروس تلقى باللغة الفرنسية، ويفهمها ويتفوق فيها. وتصل سمعته الحسنة إلى أولي الأمر في مصر — لقد درس سنتين في باريس الهندسة المدنية، ودرس سنتين في «متز» الهندسة الحربية، وتمرن في ذلك نحو سنة أخرى، فكانت إقامته في فرنسا نحو خمس سنين رأى المدارس والجامعات ونظم التعليم وحالة البلاد الاجتماعية، وأخذ من كل ذلك على حسب استعداده ودقة نظره، ولم ينس أبدًا وهو في باريس ومتز أبويه في عرب السماعنة أو برنبال، فقد رتب له مائتان وخمسون قرشًا ليصرف منها على شئونه الخاصة غير مسكنه ومأكله وتعليمه، فنزل عن نصفها لأبويه منذ فارق القاهرة إلى أن عاد ….

لقد سافر إلى فرنسا في عهد محمد على باشا وعاد في عهد عباس الأول، كان عهد عباس هذا عهد انكماش في التعليم؛ إذ لم يكن يرضى عن الحركة العلمية في البلاد بل كان همه بناء القصور لا فتح المدارس، بل ولا الاحتفاظ بالموجود فألغى الكثير منها، وخفض ميزانية التعليم حتى بلغت خمسة آلاف جنيه، وكان أميل إلى تعليم أولاد الأتراك دون المصريين، فعهد إلى علي مبارك في إدارة البقية الباقية القليلة من المدارس.

وكان طريفًا أن يزور يومًا أبويه في برنبال — بعد أن عاد إليها — وكان قد مضى عليه أربعة عشر عامًا لم ير أهله ولا بلده؛ إذ كانت المدرسة في مصر ثكنة عسكرية قاسية النظام، من كان فيها لا يزور ولا يزار، فأمضى سني الدراسة في مصر كسنيه في فرنسا، لا يرى أهله، حتى أتيحت له الفرصة فعرج على برنبال لابسًا بزته٤ العكسرية على النمط الفرنسي، متقلدًا سيفًا. وكان وهو في الطريق يسترجع أحداث الماضي: كيف كان في الكتاب، وكيف كان يضرب، وكيف كان يهرب، وكيف قسا عليه الكتبة الذين التحق بخدمتهم، وماذا تحمل من المشاق حتى وصل إلى مدرسة قصر العيني، وكيف كانت حياته في باريس ومتز؟ ودق الباب ليلًا فأجابته أمه: من؟ فقال: علي مبارك، فلم تصدق ونظرت إليه من خرق الباب، وسألته أسئلة تتعرف منها صدقه، حتى إذا فتحت الباب ورأته وقعت مغشيًا عليها، ثم أفاقت وهي تهذي، تبكي وتضحك وتزغرد، ثم يخرج من جيبه عشرة (بنتو) لتقيم الولائم وتدعو معارفها من أهل البلد. وكلهم مغتبط بما أنجبت برنبال من حاكم من الحكام.

توالت على «علي مبارك» أيام بؤس وأيام نعيم، وكانت حالة في مصر غير مستقرة، وكل الموظفين وخاصة كبارهم رهن بإشارة الحاكم ورهن بما يحاك حوله من دسائس، فيومًا يرضى فيرفع إلى السماء، ويومًا يغضب فينزله إلى الحضيض، والبيت الحاكم منشق على نفسه. إذا تقرب أحد إلى بعضه غضب عليه بعضه الآخر، يرضى محمد علي باشا وإبراهيم باشا عن الشيخ رفاعة الطهطاوي، فإذا جاء عباس غضب عليه وأخرجه من إدارة مدرسة الألسن وعينه ناظرًا لمدرسة ابتدائية تنشأ في الخرطوم، ويرضى عباس الأول عن علي مبارك ويقربه إليه، ويعهد إليه في تنفيذ أمور كثيرة، فإذا جاء سعيد باشا غضب على علي مبارك وأعاد الشيخ رفاعة الطهطاوي وقربه إليه.

ولما غضب سعيد باشا على «علي مبارك» ألحقه بالفرقة الحربية التي سافرت لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فأقام ببلاد تركيا (الآستانة والأناضول) نحو سنتين لقي فيهما عناء كبيرًا وشقاء جمًا فاحتمله في صبر وثبات، ومع هذا فقد استطاع في هذه المدة أن يتعلم اللغة التركية ويجيدها، وعاد إلى مصر يوظف حينًا ويطرد حينًا. فإذا طرد فكر في الأعمال الحرة، فاشتغل تاجرًا أحيانًا، يشتري من «الزاد» بعض السلع المدرسية التي تبيعها الحكومة بعد أن قللت من مدارسها ويبيعها بربح يكفل له رزقه، ويشتغل أحيانًا مهندسًا حرًا، يضع «تصميمات» منازل لمن شاء، وصمم أحيانًا على أن يعود إلى أهله في برنبال يعمل عمل الفلاحين ويعيش معيشتهم وعلى الله العوض فيما تعلم، وفي كل مرة لا يلبث طويلًا حتى يستدعي لوظيفة، ولا يلبث في وظيفة طويلًا حتى يطرد. ولما جاء إسماعيل باشا أعيدت الحياة العلمية وتوسع فيها، واستقر الحال بعلي مبارك في درجة ما، فكان هذا العهد أبرك عهوده، وأخصبها وأكثرها إنتاجًا — لقد عمل علي مبارك أعمالًا كثيرة تتصل بما اختص به من هندسة مدنية وحربية، فقد عهد إليه في «تصميم» شوارع وفتحها و«تصميم» ترع وإنشائها، وبناء جسور واستحكامات ومساجد وغير ذلك من أعمال هندسية عظيمة، ولكن كل ذلك لم يكن سر عظمته وصحيفة خلوده، إنما كان ذلك في شيء لم يتعلمه ولم يتلقه عن أستاذ، هو إصلاحه للتعليم في مصر بالوسائل المختلفة، وبناؤه في ذلك بناء ضخمًا يعد دعامة النهضة التعليمية في مصر — لقد أريد له أن يهندس المباني والاستحكامات فهندس هو طرق التربية والتعليم، ووضع تصميماتها، ووقف على تنفيذها في دقة وأحكام، حتى عد من كبار المصلحين.

لم يتعلم في مصر ولا في فرنسا البيداجوجيا ولا السيكولوجيا على معلم مختص، وإنما تعلمها من حسن استعداده وصدق نظره، ومن دروس في التربية الفاسدة تلقاها في الكتاب حين يضرب وفي مدرسة قصر العيني حين يعذب، ومدرسة أبي زعبل حين يلقى عليه الدرس فلا يفهم، هذا إلى طبيعة خيرة توحي إليه بالرحمة بالناس والإشفاق عليهم والألم من جهلهم. لقد وصف هو نفسه؛ إذ عهد إليه مرة في إدارة مدرسة فقال: «كنت ألتفت للتلاميذ، في مأكلها ومشربهم وملبسهم وتعليمهم، وكنت أباشر ذلك بنفسي، حتى أعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ولا يمضي يوم إلا وأدخل عند كل فرقة وأتفقد أحوالها، مع التشديد على الضابط والخدمة حتى الفراشين في القيام بما عليهم، فامتنع بذلك عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، ولم أكتف بذلك بل رتبت على نفسي دروسًا كنت ألقيها على التلامذة … وكان ما يحصل للتلامذة ومعلميهم من المكافآت والثناء والتشويق والترغيب داعيًا لهم لزيادة الجد والاجتهاد، وجرت بين المعلمين المودة والألفة، وتربت الأطفال على الأخوة، وغرس فيهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم بالنصيحة واللوم، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، وبالجملة كانت أغراضي فيهم أبوية، أنظر للجميع من معلم ومتعلم نظر الأب لأولاده. وإلى الآن أعتقد أن ذلك واجب على كل راع في رعيته، حتى يحصل الغرض من التربية. وقد تحقق لي نتيجة ما صرف من الهمة في تربيتهم والشفقة عليهم، حتى أنه لما تولى سعيد باشا ودعيت للسفر مع العساكر لمحاربة المكسوف مع الدولة العلية خرج جميع التلامذة كبيرهم وصغيرهم من المدرسة قهرًا عن ضباطهم لوداعي، وجعلوا يبكون وينتحبون انتحاب الولد على والده، حتى بكت عيني لبكائهم، ولكن انشرح صدري لمشاهدة ثمرات غرسي، وآثار تربيتي، فحمد الله».

كان التعليم المدني الذي أنشأه محمد علي في مصر تعليم أساسه الجيش: فالمدارس الحربية لتخريجه، ومدرسة الطب لطبيبه، والهندسة لتصميماته، والمدارس الصناعية لإمداده، والبعثات لسد حاجات، فإن جاءت من كل ذلك فائدة لغير الجيش، فبالتبع لا بالقصد، حتى أن المدارس كانت ثكنات عسكرية في نظامها ومأكلها وملبسها، ورتب المعلمين والنظار والمديرين رتب عسكرية، فملازم وصاغ وأميرالاي وميرمران إلخ، حتى الطلبة في البعثة في باريس لهم بيت يقيمون فيه يدار إدارة عسكرية، كل أنواع التعليم على هذا الوجه في القاهرة والإسكندرية فقط، أما المدن الأخرى والأرياف فليس لها حظ من هذا التعليم. وبجانب هذا التعليم تعليم آخر يبتدئ بالكتاب، وهو منتشر في القاهرة والمدن والقرى وينتهي بالأزهر، وهذا التعليم لا تعني به الحكومة ولا تتدخل فيه ولا يهمها أمره، وكل ما فعله عباس الأول وسعيد أن ضيقا التعليم المدني، حتى إذا جاء إسماعيل بدأ يتغير هذا النظام وينظر إلى التعليم نظرة أخرى غير النظرة الحربية، وكان من أكبر العاملين على هذا علي مبارك — فلو قلنا إنه حول التعليم من وجهة حربية إلى ثقافة شعبية، كان ذلك وصفًا مجملًا صادقًا.

رأى أن عماد التعليم الشعبي الكتاتيب في المدن والقرى، وهي حالة يرثى لها،٥ فكثير منها إما دكان أو «حاصل» أو في حجرة مظلمة بجانب مراحيض المسجد، والتلامذة يختلط صحيحهم بمريضهم، وقد يكون المرض معديًا، فأقرع وأبرص وأجرب ومحموم ينشرون العدوى في الأصحاء. يجلسون على حصير بال ويشربون بكوز واحد من زير واحد ويأكلون في الظهر من صحن واحد، وفقيه الكتاب كثيرًا ما يكون أعمى لا يحسن أن يرعى التلاميذ، ولا أن يدير شئونهم، وكل كفايته أن يحفظ القرآن ويحفظه من غير فهم، لا علم له بالدنيا ولا بالدين، ووسائل التأديب عنده ليست إلا السب والضرب.

بدأ علي مبارك — وقد عهد إليه في إدارة التعليم في عهد الخديوي إسماعيل — يصلح هذه الحال ويدخلها تحت الإشراف الحكومي، بعد أن كانت الحكومة لا تعني إلا بالمدارس الحربية، وما يعد لها. فقبض بيديه عليها، وأرسل من يحصي كل كتاتيب القطر ويصف حالة كل كتاب من صلاحية بنائه وعدم صلاحيته وعدد تلاميذه وحالة فقيهه وتبعيته لأوقاف أولًا ونحو ذلك، وقسمها بحسب ذلك إلى ثلاث درجات: جيدة ومتوسطة ورديئة، ووضع لها «لائحة» تسمى «لائحة رجب» — وهو تاريخ صدورها — تعد بحق خطوة خطيرة في تاريخ التعليم في مصر، عالج فيها كل المشاكل التي صادفته من مراعاة الأمور الصحية وتدبير المال اللازم ورفع مستوى الفقهاء — وقد سماهم «المؤدبين» — وبرامج التعليم ووسائل تشجيعه وإشراف الأهالي والمديريات في حمل بعض الأعباء المالية والتعليمية وتحويل بعض الكتاتيب الكبيرة الصالحة إلى مدارس ابتدائية، ووجه في تنفيذ ذلك كل قواه، وكثيرًا ما كان يعهد إليه — إلى إدارة المدارس — في إدارة الأشغال وإدارة الأوقاف، فيكون ناظر هذه جميعها (وزيرها) فيسخر الأشغال لإصلاح مباني المدارس والكتاتيب، ويصرف من مال الأوقاف على التعليم، حتى انتقل التعليم به نقلة جديدة.

نعم ليس كل الفصل في ذلك له وحده، فقد كانت البلاد تتوقف إلى إصلاح التعليم، وقد طالب به مجلس الشورى، وكان هذا الإصلاح يتفق وما رسم الخديوي إسماعيل من رغبة في تمدين البلاد، ولكن كان فضل علي مبارك أن يأخذه الفكرة الخيالية، فيحولها إلى حقائق واقعية، ويدرسها دراسة علمية، ويضع خططها وتصميمها كما تعود ذلك في التصميم الهندسي، ويبرزها على الوجود ويرعاها بعنايته.

إلى جانب الكتاتيب وفتحها وتنظيمها والمدارس وإنشائها شغلته مسألة المعلمين كيف يصلحهم، فقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية في المدارس رجال من الأزهر، والتعليم في الأزهر إذ ذاك على أسلوبه في القرون الوسطى، يعلم الكتب ولا يعلم العلم وغاية النابغ منهم أن يحسن فهم عبارة الكتاب لا فهم موضوع الكتاب، وهذا يؤدي إلى أنه لا يحسن تطبيق ما تعلم، فأكثرهم لا يحسن قراءة صفحة ولا أن يكتب موضوعًا، ولا أن يقيم وزنًا لبيت من شعر، كما وصفهم بذلك عبد الله باشا فكري في مقال كتبه، فكيف يصلحون بعد لتعليم الناشئة؟

إذا ذاك فكر على مبارك في إنشاء مدرسة يؤخذ لها من خيرة طلبة الأزهر بامتحان، ويختار لها خيرة العلماء من الأزهر وغيره، ويعلم طلبتها العلوم الدينية واللغوية وشيئًا من علوم الدنيا كالرياضة والجغرافيا والتاريخ والطبيعية والكيمياء، فكان من ذلك كله مدرسة دار العلوم. أما معلمو المواد الأخرى كالهندسة والحساب واللغات، فقد رأى أن يأخذهم ممن أتموا دروسهم في المدارس العالية كالمهندسخانة ومدرسة المحاسبة والإدارة بعد أن يقضوا مدة معيدين لأساتذتهم.

وفكر في الثقافة العامة بجانب التعليم في المدارس، فكان له من ذلك ثلاثة أشياء:
  • (١)

    قاعة للمحاضرات يحضرها من شاء، يحاضر فيها كبار الأساتذة من مصريين وأجانب، فيحاضر مثلًا الشيخ حسين المرصفي في الأدب وإسماعيل بك الفلكي في الفلك والشيخ عبد الرحمن البحراوي في الفقه، ومسيو بروكش في التاريخ العام وأحمد ندا في النبات، فإذا حاضر محاضر باللغة الأجنبية ألقيت محاضرته بعد ذلك باللغة العربية، وهذه المحاضرات يومية ما عدا أيام الجمع، وكل محاضرة ساعة ونصف ساعة، وبعض الموضوعات محاضرتان كل أسبوع وبعضها محاضرة واحدة.

  • (٢)

    إنشاء مجلة سميت «روضة المدارس المصرية» رأس تحرير الشيخ رفاعة الطهطاوي، وذكر في أول عدد منها أن مدير المدارس وهو علي باشا مبارك «جعلها ملحوظة بنظر نظارته لا يندرج فيها شيء إلا بإشارته» وطلب من الأساتذة أن يمدوها بالمقالات، وكان ينشر فيها بعض ما يلقى في قاعة المحاضرات وكان في العدد الأول منها مقال لعلي مبارك موضوعه «إنشاء دار الكتب الخديوية».

  • (٣)

    إنشاء دار الكتب، وقد كانت الكتب قبل ذلك متفرقة في المساجد أو الأماكن المهجورة عرضة للسرقة أو التلف، فجمعها في مكان واحد ورتبها وسهل الاستفادة منها وجعل لها قاعة مطالعة.

فكان من ذلك كله حركة علمية شعبية ساعدت على النهضة المصرية.

وأعانه على نجاحه في خططه ما كان يلقي من عطف وتشجيع من الخديوي إسماعيل، فهو يقر مقترحاته ويبذل المال لتنفيذ مشروعاته.

وناحية أخرى لها قيمتها في حياة علي باشا مبارك، وهي مجهوده الكبير في التأليف والتشجيع عليه، فقد نهضت البلاد في التعليم كما بينا، فكان لا بد من حركة في التأليف والترجمة تسايرها، وقد قام بقسط وافر في هذا الباب الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقام علي باشا مبارك بنصيبه الوافر أيضًا، فألف في مهنته الخاصة، وهي الهندسة، كتبًا للطلبة، وألف كتبًا أخرى في الثقافة العامة أهمها خططه لمصر المسماة «بالخطط التوفيقية» يصف فيها القاهرة وحاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها كما يصف مدن مصر وقرأها مرتبة على حروف الهجاء. وإذا ذكر قرية ذكر ترجمة من نبغ منها أو كانت له شهرة في ناحية ما، وذكر في ذلك كله أقوال المتقدمين والمتأخرين، فكان كتابًا جليل النفع عظيم القدر أكمل به خطط المقريزي وما حدث للقاهرة والمدن والقرى المصرية من تغيير بعده إلى يوم تأليفه، ووقع الكتاب في عشرين جزءًا أو خمسة مجلدات. كما ألف كتابًا سماه «علم الدين» وهو قصة لشيخ تربي في الأزهر وتتلمذ له مستشرق إنجليزي تعلم منه اللغة العربية ودعاه الإنجليزي أن يزور معه إنجلترا فلبى الدعوة، وكانا كلما مرا على شيء من القاهرة إلى الإسكندرية سأل الإنجليزي الشيخ علم الدين فأجابه، وبعد الإسكندرية انقلب الشيخ تلميذًا والإنجليزي معلمًا، يسأل الشيخ عن كل ما يجهل فيجيب الإنجليزي، وملأ الكتاب بمعلومات قيمة عن الشرق والغرب ومظاهر الحضارة الأوروبية، وكان غرضه من هذا الكتاب تفتيح أذهان الشرق لما في الغرب، فالشيخ علم الدين في أول القصة رجل أزهري جامد لا يعرف شيئًا من شئون الدنيا، فلما ساح في أوربا اتسع ذهنه ومرن عقله ورقيت أحكامه على الأشياء، ورأيناه يحضر دار التمثيل وينظر إلى المسرح بالمنظار. ومن طرائف علي مبارك أنه وهو وزير المعارف الخطير لم يستنكف أن ينظر إلى الأطفال في بدء تعلمهم للقراءة والكتابة ولم تعجبه طريقة تعليمهم، فأخذ نفسه بتأليف كتاب من جزأين، يعلم في أولهما حروف الهجاء وكيف تتركب، ويضع ثانيهما للتمرين على المطالعة السهلة في موضوعات مفيدة، إلى غير ذلك من الكتب، كما كان يستحث العلماء على التأليف في الموضوعات النافعة على أسلوب جديد يقرب المعلومات إلى الأذهان، وكان من أكبر من ساعده في تحقيق أغراضه في التأليف عبد الله باشا فكري.

وكان بيته في الحلمية الجديدة ناديًا عجيب الشأن، يجتمع فيه كل ليلة طلبة المدارس وأساتذتها من كل نوع حتى تمتلئ بهم الدار، وينتقل هو بينهم يخاطب كل جماعة منهم في شأن من شئون العلم يتناسب معهم، فيخاطب الطلبة في حالة مدارسهم ومقدار تحصيلهم للدرس، وما يتكون منه من نظم التدريس وما يقترحون لإصلاحها، ويخاطب المدرسين في تدريسهم وانتقاداته عليهم، ويستحثهم على التأليف في الموضوعات التي يقترحها، وما ينبغي أن تكون عليه الكتب في أيدي الطلبة، ويلتمس الفرص ليشرح لهم الأخطاء التي يقع فيها الطلبة ويقع فيها الأساتذة وتأخر الشرق وأسباب تأخره تقدم الغرب وأسباب تقدمه إلى غير ذلك. حدثني عبد العزيز باشا فهمي، قال:

«كنت يومًا في بيت علي باشا مبارك، والناس تموج في بيته، الحجر مزدحمة بالزوار، وعلي باشا يتصدر حجرة منها، فحضر مصطفى باشا رياض وكان ناظر النظار إذ ذاك، فأخذ يخوض في الناس حتى وصل إلى علي باشا مبارك فقال له: «ما هذا يا باشا؟» فقال له: «يا دولة الرئيس أنا في بلد يهاب الناس فيه أن يخاطبوا معاون إدارة أو مأمور مركز أو أي موظف حكومي، فإذا نحن جرأناهم علينا وعلينا وخاطبناهم، وخاطبونا، وأمكنهم أن يخاطبوا الموظفين في غير هيبة، وتعودوا أن يطالبوا بحقوقهم، وقالوا: أنا نجالس الناظر (الوزير) ونخاطبه، فلم لا نخاطب من هو أقل منه منزلة؟».

لم تكن خطط علي باشا مبارك في التعليم في المثل الأعلى، ولا كانت خالية من العيوب، ولكنها كانت خطوة مباركة صالحة لأن ترقى مع الزمان، ويصلح ما ظهر فيها عند التنفيذ من أخطاء، كما حدث ذلك فعلًا في وزارة رياض باشا من بعد، ولكن ساءت الحال في مصر بتدخل الأجنبي بدعوى حماية الدين، كما أسلفنا في ترجمة جمال الدين الأفغاني وجاءت الثورة العرابية وأعقبها الاحتلال الإنجليزي، فقبض الإنجليز على التعليم، وصبغوه الصبغة التي يريدونها.

لم يشترك علي مبارك في الثورة العرابية؛ إذ كان مزاجه ليس مزاجًا ثوريًا بحكم منشئه وتربيته — عكس مزاج الشيخ جمال الدين، الثوري العنيف — وكان مبدؤه الطاعة التامة لولي الأمر، مهما كان. أطاع عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وخدمهم في إخلاص، ولعله — كبعض المصلحين — يرى إن إصلاح التعليم خير أنواع الإصلاح، بل هو خير من الإصلاح السياسي، ويرى أن الإصلاح السياسي ما لم يرتكز على الإصلاح التعليمي فلا بقاء له ولا قيمة — لذلك لا نرى له إصبعًا ما في الثورة العرابية. ولقد اتهم كثير من عقلاء الأمة بمشايعة عرابي باشا، كعبد الله باشا فكري والشيخ محمد عبده، وغضب عليهما الخديوي توفيق، ولكن لم يتهم علي باشا مبارك في شيء ما، ولم يفقد رضا توفيق باشا وعطفه، وإنما فقد رضا عرابي باشا وحزبه، وكل ما أثر عنه في الثورة العرابية أنه تبرع يومًا بشيء من ماله لهذه الحركة، ولكن لعل ذلك كان تحت تأثير ضغط شديد عليه من الشبان المتحمسين. وزاده إيمانًا بحياده أنه لم يكن يؤمن بنجاح الثورة العرابية، على حسب ما كان يرى من ظروفه المحيطة به التي تمكنه من الاطلاع على شئون مصر والشرق والغرب. وقد روى الشيخ محمد عبده أنه حضر مجلسًا في بيت علي باشا مبارك كان فيه سلطان باشا — وقد أخذ سلطان باشا يشيد بذكره قوة الجيش المصري وما يمكن من زيادة عدده — فرد عليه علي باشا مبارك بأن حالة البلاد المالية لا تتحمل هذه الحرب ولا تساعد على النجاح فيها، ثم رأيناه في أثناء الثورة يذهب إلى بلده ويعمل في إصلاح أرضه، وعلى كل حال فالإنسان مطالب أن يعمل وفق ما يهديه إليه عقله وما يتناسب ومزاجه، وقد كان مزاج علي مبارك مزاجه هادئًا ناسبه أن يوجه أكثر قوته لإصلاح التعليم، ففعل. وربما كان أساس نجاحه شدة غيرته وقوة إخلاصه وعمق رغبته في خدمة وطنه.

وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر ألفت وزارة مصطفى رياض باشا وعهد فيها إلى علي مبارك في نظارة المعارف، ولكن ما أبعد الفرق بين الحالين، وما أشد الاختلاف بين العهدين — لقد كان في العهد الأول قبل الاحتلال حرًا طليقًا يفكر كما يشاء ويفعل ما يشاء ويدبر المال لمشروعاته كما يشاء، لا يقيده في ذلك كله إلا عرض العهد فليس حرًا ولا طليقًا ولا يفكر إلا إذا سمح له المستشار الإنجليزي بالتفكير، ولا يفعل إلا في الدائرة المحددة التي خطها المحتلون، وقد عبر هو عن ضيق صدره في ذلك بأسلوبه الناعم الهادئ، إذ يقول في هذه الحقبة: «وأنا الآن قائم بهذا الأمر على حسب المصالح، بقدر الإمكان، والله المستعان».

اصطدم بعد ذلك بالقيود التي قيدت بها المصالح الحكومية، وخاصة القيود المالية التي وضعها مستشار المالية ربما كان علي باشا مبارك والشيخ رفاعة الطهطاوي وعبد الله باشا فكري الفرسان الثلاثة في ميدان العلم في مصر في ذلك العصر، وأركان النهضة العلمية المصرية، ولكن كان لكل طابع ولكل ميزة، فعلي باشا مبارك يهتم بالمسائل الكلية في سياسة التعليم وتنظيمها وتخطيطها وتنفيذها، وإذا نظر إلى الجزئيات فلتطبيق الكليات عليها، والشيخ رفاعة ينظر إلى المسائل الجزئية ويعني بإصلاحها وتنفيذها، فإذا عهد إليه في إدارة مدرسة بث الروح فيها، ثم هو يؤلف ويترجم ويبعث تلاميذه على التأليف والترجمة، وبهذا أمد البلاد هو وتلاميذه بطائفة من الكتب النافعة كانت عماد النهضة، وعبد الله باشا فكري كاتب شاعر أديب مؤلف له قيمته في معرفة ما يناسب عصره من التأليف فيؤلف فيه، كان تلاميذ المدارس يعلمون الأدب من مقامات الحريري والنحو من كتاب شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فألف كتبه على نمط جديد، وكان تلاميذ المدارس الابتدائية، لا يجدون ما يطالعونه فألف لهم (الفوائد الفكرية) ثم كان أكبر عون لعلي باشا مبارك فيما ألف من كتب — فلكل من الفرسان الثلاثة مزية، ولكل فضل. رحمهم الله جميعًا.

١  يمسحون: يقيسون.
٢  نهمه: شدة رغبته.
٣  مواصفات: اصطلاحات.
٤  بذته: ثيابه.
٥  يرثى لها: تستوجب الرحمة والإشفاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤