السيد عبد الرحمن الكواكبي (١٢٦٥–١٣٢٠هـ، ١٨٤٨–١٩٠٢م)

١

من بيت في «حلب» يعتز بنسبه وحسبه وعلمه وجاهه وماله، فأسرة الكواكبي كانت فيها نقابة الأشراف في حلب، ولها مدرسة تسمى المدرسة الكواكبية، وأبوه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب والمدرسة الكواكبية فيها.

تعاون على تربية بيته وما في تقاليده من عزة وإباء وشمم وأنفة من الصغائر وخالة له تعهدته بعد وفاة والدته وهو صغير. وكانت من نوادر النساء في الشرق، عرفت بالأدب والكياسة وكبر العقل. فطرته التي فطر عليها ميل إلى الحق، وحب الخير والاستجابة للتربية الصالحة.

كل هذا جعل منه رجلًا يستعصي على ناقد الأخلاق نقده، مؤدب اللسان فلا تؤخذ عليه هفوة، يزن الكلمة قبل أن ينطق بها وزنًا دقيقًا، حتى لو ألقى عليه السلام لفكر في الإجابة، متزن في حديثه، إذا قاطعه أحد سكت وانتظر حتى يتم حديثه، ثم يصل ما انقطع من كلامه، فيؤدب بذلك محدثه، نزيه النفس لا يخدعها مطمع ولا يغريها منصب، شجاع فيما يقول ويفعل، مهما جرت عليه شجاعته من سجن وضياع مال وتشريد، وهو — مع أنفته وعزته وصلفه١ على الكبراء — متواضع للبائسين والفقراء، يقف دائمًا بجانب الضعفاء، يشع على من يجالسه الاتزان والتفكير الهادي، وحب الحق ونصرة المبدأ، والتضحية للفضيلة.

تعلم كما كان يتعلم ناشئة زمانه الدينيون، لغة عربية ودين في مدرسة أسرته بحلب — «المدرسة الكواكبية» — وكانت مدرسة تسير على الطريقة الأزهرية فيما يقرأ من كتب، وما يتبع من منهج، ولكنه أكمل نفسه بقراءته بعض العلوم الرياضية والطبيعية، وأحضر له والده من الفارسية والتركية، وطالع بنفسه كثيرًا من الكتب التاريخية، وعنى بدراسة قوانين الدولة العثمانية.

فلما أتم دراسته انغمس في الحياة العملية، وتنوعت أعماله، وتباينت اتجاهاته، فمن محرر لجريدة رسمية، إلى رئيس كتاب المحكمة الشرعية، على قاض شرعي في بلدة من البلاد السورية، إلى رئيس البلدية. ثم هو بين الحين والحين يعتزل الوظائف الحكومية فينشئ لنفسه جريدة في «حلب» اسمها الشهباء، أو يشتغل بالأعمال التجارية، أو يقوم بمشروعات عمرانية، ومن كل ذلك يستفيد خبرة وتجربة بالحياة. وفي كل الأعمال الحكومية والحرة يصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحكام، وفساد رجال الإدارة، فينازلهم وينازلونه، ويحاربهم ويحاربونه، وينتصر عليهم حينًا، وينتصرون عليه حينًا، وسلاحه دائمًا النزاهة والعدل والاستقامة، وسلاحهم دائمًا الدسائس واتهامه بخروجه على النظام، ودعوته للشغب، وما شاكل ذلك مما هو عادة الظالمين، وكانت البلاد التي يعيش فيها موبوءة بحكم «عبد الحميد» لا يستطيع أن يعيش فيها حر صريح، ولا ينجح فيها تاجر نزيه، ولا موظف جريء مستقيم، وهذا النوع من الحكم عدو كل كفاية، وقاتل كل نبوغ!

ارتفع شأنه في بلده، فكان يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، والمشاكل لحلها، ورجال الحكومة أنفسهم يستشيرونه فيما غمض عليهم، وهو في كل ذلك جريء فيما يقول، لا يقر ظالمًا على ظلمه، ولا يسالم جائرًا لمنصبه أو جاهه. من أجل هذا غاضب «عارف باشا» والي «حلب» وأخذ يعدد سيئاته وينقم عليه تصرفاته، ويحرض الناس على رفع صوتهم معه بالشكوى منه لرؤسائه في الآستانة، فانتقم «عارف باشا» لنفسه، فزور على «الكواكبي» أوراقًا واتهمه بأنه يسعى لتسليم «حلب» لدولة أجنبية، وحبسه وطلب محاكمته، فبذل الكواكبي ورجاله جهدًا كبيرًا ليحاكم في ولاية غير ولاية «حلب»، وحوكم في بيروت، فحكم ببراءته، وظهرت خيانة الوالي ومكايده فعزل.

وكان من أعداء «الكواكبي» أيضًا «أبو الهدى الصيادي» الذي سبق وصفه في ترجمة «عبد الله نديم» لأن «الكواكبي» أبى الاعتراف بصحة نسبه. ولاعتداء «أبي الهدى» على بيتهم بأخذ نقابة الأشراف لنفسه منهم، فكان «أبو الهدى» أيضًا يدس له، ويغري ولاة الأمر به.

فكان من نتيجة محاكمته على التهمة التي اتهمه بها «عارف باشا»، ومن معاكسة «أبي الهدى» وأعوانه له حتى في تجاربه، إن خسر ألوف الجنيهات من ماله، فاحتمل ذلك بنفس قوية لا تجزع ولا تتحول.

وأنصع صفحة في تاريخ حياته قوة شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم وتلمس العلاج لهم؛ فعكف على مطالعة تاريخهم في ماضيهم وحاضرهم، وما كتبه الكتاب المحدثون في ذلك في الكتب والمجلات والجرائد، ودرس أحوال المسلمين في المملكة العثمانية. ثم رحلته إلى كثير من بلاد المسلمين، فساح في سواحل إفريقيا الشرقية، وسواحل آسيا الغربية؛ ودخل بلاد العرب وجال فيها، واجتمع برؤساء قبائلها، ونزل بالهند وعرف حالها، وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية، وحالتها الزراعية، ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة؛ ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته. ولكنه عاجلته منيته.

نشر نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والجرائد، ثم جمعت في كتابين: اسم أحدهما «طبائع الاستبداد»، والآخر «أم القرى»: الأول في نقد الحكومات الإسلامية، والثاني أغلبه في نقد الشعوب الإسلامية.

لقد كان الحديث في مثل هذه الموضوعات التي مسها «الكواكبي» في «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» من الموضوعات المحرمة، لأنها تمس نظام الحكم من قريب، وتفهم الشعوب حقوقهم وواجباتهم، وتقفهم على مناحي الظلم والعدل، وتهيئتهم للمطالبة بالحقوق إذا سلبت، والقيام بالواجبات إذا أهملت، وهذا أبغض شيء لدى الحاكم المستبد، لذلك رأينا الشرق من بعد ابن خلدون أغلق هذا الباب، ولم يفتحه أي باحث بعده، وصار كتاب ابن خلدون مقدمة بلا نتيجة. والعلوم التي حوفظ عليها واستمرت دراستها هي علم النحو والصرف واللغة والفقه، لأنها لا تمس الحاكم من قريب ولا بعيد، ولا تفهم الناس أين هم من حاكمهم وأين حاكمهم منهم. والأدب مداح للملوك والحكام، يجعل ظلمهم عدلا وفسادهم صلاحًا، فإذا أعطاهم الحاكم قليلًا مما سلبه من أمتهم هللوا وكبروا، وعجبوا من كرمه الحاتمي، وسخائه الذي لا نظير له. والمؤرخون لا يؤرخون إلا شخصه في حياته وأعماله وحروبه وزوجاته وأولاده، أما الشعب فلا شيء إلا أن يكون مزرعة للحكام. وأحب علم إلى الحكام المستبدين وادعاهم لنصرته هو ما لا يتصل بالحكم ونظامه، ورجال الدين المقربون هم الذين يدعون إلى التسليم بالقضاء والقدر، ويستطيعون أن يولدوا المعاني من مثل «السلطان ظل الله في أرضه». أما علم الاجتماع وعلم السياسة والاقتصاد فلم يعرفه الشرق بعد ابن خلدون بتاتًا.

كان هذا في الشرق، على حين أن الغربيين بدأوا بعد ابن خلدون يبحثون في المجتمعات بحثًا واسعًا، يتعرفون علل الجماعات وأمراضها وأنواع الحكومات ومزايا كل شكل وعيوبه، ويتحررون من القيود، ولا يعبثون بالتضحيات في سبيل الحريات، ويبني لاحقهم على ما وصل إليه سابقهم.

وبلغ الضيق في الشرق منتهاه في عهد السلطان عبد الحميد، ولكن شدة الضغط تولد الانفجار، والقسوة تفتق الحيلة. وتوالي الاضطهاد يولد البغضاء، فكثرت في هذا العهد الجمعيات السرية تعمل لتحرير البلاد العثمانية من الظلم، وتعمل لوضع نظام ديمقراطي لا يكون فيه السلطان الحاكم بأمره، وفر كثير من العثمانيين إلى أوربا يدرسون نظم الحكم الأوربي وما وصلت إليه أوربا من البحوث الاجتماعية، وأخذوا يكتبون ذلك في جرائدهم ومجلاتهم التي يحررونها خارج الحدود العثمانية، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها. وأخذت مصر بعد انفصالها من حكم العثمانيين تؤوي الأحرار، وتؤيد القول في نقد نظام الحكم، وظهرت في الجرائد والمجلات مقالات بالعربية في تشريح أحوال الجماعات وأصول الحكومات، وترجم إلى العربية «أصول النواميس والشرائع» لمنتسكيو. وبدأت موجات البحث الاجتماعي في أوربا تصل إلى الشرق من طريق الترجمة وطريق المثقفين في أوربا.

في هذا الوسط طلع الكواكبي، وكان ظهوره بكتابيه جرأة كبيرة. لقد استفاد مما نقل عن الغرب، ولم يكن يعرف لغة أوربية، إنما يعرف العربية والتركية والفارسية، فاستفاد مما نقل إليها، ومما كان يترجم له في هذا الباب خاصة. وقد ظهر أثر هذا الاقتباس في كتابه «طبائع الاستبداد». أما كتابه «أم القرى» فبحث مبتكر يدل على كبر عقله، وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي.

أما كتاب «طبائع الاستبداد»، فقد نشر — أولًا — مقالات في بعض الصحف عندما كان في مصر سنة ١٣١٨هـ، ثم جمعها في كتاب وقال في أوله:

«إني نشرت في بعض أبحاثًا علمية سياسية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، منها ما درسته، ومنها ما اقتبسته، غير قاصد بها ظالمًا بعينه، ولا حكومة مخصصة، إنما أردت بذلك تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار، ولا على الأقدار، ثم أضفت إليها بعض زيادات، وحولتها إلى هيئة هذا الكتاب».

وقد اقتبس فيه كثير من أقوال «الفيري» ولا أعرف كيف وصلت إليه وألفيري، كاتب إيطالي عاش من سنة ١٧٤٩–١٨٠٣، من بيت نبيل وقد ساح في أوربا نحو سبع سنوات، ودرس كتب فولتير وروسو ومنتسكيرو، وتشبع بآرائهم الحرة وتعشق الحرية وكره الاستبداد أشد الكره، ووجه أدبه للتغني بالحرية ومناهضة الاستبداد، ينطق بذلك أبطال رواياته، ويبثه في كتاباته. ولكن الكواكبي هضمها وعدلها بما يناسب البيئة الشرقية والعقلية الإسلامية، وزاد عليها من تجاربه وآرائه.

٢

وكتاب «طبائع الاستبداد» يدور حول تعريف الاستبداد بأنه «صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب». ويأتي هذا من كون الحكومة مطلقة التصرف، ولا يقيدها قانون ولا إرادة أمة أو أنها مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال هذه القيود والسير على ما تهوى؛ والحكومة ميالة بطبعها إلى الاستبداد، لا يصدها عنه إلا وضعها تحت المراقبة الشديدة ومحاسبتها محاسبة لا تسامح فيها، وإلا قوة الرأي العام وعظمة سلطانه.

والمستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدها عن النطق بالحق ومطالبتها به.

والمستبد عدو الحق، وعدو الحرية وقاتلها.

والمستبد يود أن تكون رعيته بقرًا تحلب، وكلابًا تتذلل وتتملق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه: هل خلقت خادمة له، أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة أن تقف في وجه الظالم المستبد، تقول له أريد الشر، ثم هي مستعدة لأن تتبع القول بالعمل، فإن الظالم إذا رأى المظلوم قويًا لم يجرؤ ظلمه.

وقد بحث بحثًا مستفيضًا في علاقة الاستبداد بالدين، ونقل عن الإفرنج رأيهم في أن الاستبداد في السياسة متولد من الاستبداد في الدين أو مساير له. فكثير من الأديان تبث في نفوس الناس الخشية من قوة عظيمة لا تدرك كنهها العقول، وتهددهم بالعذاب بعد الممات تهديدًا ترتعد منه الفرائص،٢ ثم تفتح بابًا للخلاص والنجاة بالالتجاء إلى الأحبار والقسس والمشايخ، بالذلة لهم، والاعتراف أمامهم، وطلب الغفران منهم. والمستبدون السياسيون يتبعون هذه الطريقة فيسترهبون الناس بالتعالي والتعاظم، ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، حتى لا يجدوا ملجأ إلا التزلف لهم وتملقهم! وعوام الناس يختلط عليهم في أذهانهم الإله المعبود والمستبدون من الحكم، فيتشابه عندهم استحقاق التعظيم، وينزهونهم عن سؤالهم عما يفعلون ولا يرون لهم حقًا في مراقبتهم على أعمالهم، كما أنه ليس لهم حق في مراقبة الله فيما يفعل!! ولهذا خلعوا على المستبد صفات الله كولي النعم، والعظيم الشأن، والجليل القدر، وما إلى ذلك! وما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك فيها الله أو تربطه برباط مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله!!

ولقد رأى «الكواكبي» أن الإسلام في جوهره الأصيل لا ينطبق عليه هذا القول، فهو مبني على قواعد الحرية السياسية متوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو مؤسس على أصول ديمقراطية (أي المراعاة التامة للمصلحة العامة)، وعلى شورى أرستقراطية، أي شورى الخواص، وهم أهل الحل والعقد، فالقرآن مملوء بتعاليم تقضي بأمانة الاستبداد، والتمسك بالعدل، والخضوع لنظام الشورى، من مثل: «وشاورهم في الأمر، وأمرهم شورى بينهم» حتى في القصص، من مثل: «ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون». ومظهر هذا كان في أيام النبي والخلفاء الراشدين. ثم لا يعرف الإسلام سلطة دينية، ولا اعترافًا، ولا بيع غفران، ولا منزلة خاصة لرجال الدين. ولكن دخل عليه من الفساد ما دخل على كل دين، فتفرقت كلمة المسلمين وانقسموا شيعًا، وتحول الحكم من نظام شورى إلى الاستبداد، فصغرت نفوس الناس وخفت صوتهم، وأضاعوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي به يراقب أولو الأمر في الأمة، فصار أمر المسلمين إلى ما نرى.

ولم يتعرض «المؤلف» للرد على الشطر الأول، وهو ما يوحيه تصوير الله بالقوة والعظمة والسيطرة من خضوع النفوس للمستبد. وعندي أن الإسلام يجعل «لا إله إلا الله» محور الدين، تتكرر في كل آذان وفي كل مناسبة، كان كفيلا أن يذكر النفوس دائمًا بأن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تذل لأحد سواه، وأن هذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة أمام من سواه. ولكن بتوالي القرون؛ ودخول الدخيل من العقائد، أصبحت «لا إله إلا الله» عند أكثر المسلمين كلمة جوفاء لا روح فيها، تبعث الضعف ولا تبعث القوة، وتبيح أن يشرك مع الله الحاكم المستبد والرئيس المستبد، بل المال والجاه والمنصب، فكل هذه وأمثالها أصبحت آلهة مع الله، وفقد المدلول الحق للا إله إلا الله!!

ثم أبان أن الحاكم المستبد يخشى العلم، لأن العلم نور، وهو يريد أن تعيش الرعية في الظلام، لأن الجهل يمكنه من بسط سلطانه، (وروي أن حاكمًا مستبدًا شرقيًا كان له مرب سويسري فقال له يومًا بعد أن تأمر:٣ «ليتك تعني بتربية الشعب وتعليمه!» فقال الأ مير: «كلا! إني إن علمته صعب عليَّ حكمه»!).
والحاكم المستبد لا يخشى علوم اللغة والأدب، ولا علوم الدين المتعلقة بالمعاد،٤ بل هو يستخدم العلماء من هذا القبيل لتأييده في استبداده، بسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدته، إنما ترتعد فرائصه من الفلسفة العقلية، ودراسة حقوق الأمم، وعلوم السياسة والاجتماع، والتاريخ المفصل، والقدرة على الخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تنير الدنيا وتثير النفوس على الظالم، وتعرف الإنسان ما هو الإنسان، وما هي حقوقه، وكيف يطلبها، وكيف ينالها، وكيف يحفظها، فإن المستبد سارق، والعلماء من هذا القبيل يكشفون السرقة.

ولذلك يكون الحاكم المستبد وهؤلاء العلماء في صراع دائم، العلماء يحاولون الإنارة، والمستبد يحاول إطفاءها، وكلاهما يحاول كسب عامة الشعب، فالمستبد يخفيهم ليستسلموا، وهؤلاء العلماء ينيرونهم ليقولوا ويفعلوا.

والحاكم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم: يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم ويضرب بعضهم ببعض فيصفونه بحسن السياسة والكياسة، ويسرف في أموالهم فيقولون إنه كريم، ويقتلهم ولا يمثل بهم فيقولون إنه رحيم، وإن نقم عليه بعض الأباة،٥ قاتلهم بهم كأنهم بغاة!!.٦

والحاكم المستبد يخاف رعيته كما تخافه رعيته، بل خوفه منهم أشد، لأنه يخافهم عن علم، وهم يخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قياس درجة استبداد الحاكم بمقدار حذره، ودرجة عدله بمقدار طمأنينته، كما يستدلون على أصالة الاستبداد في الأمة بترف الحكام. وإمعانهم في البذخ، وكثرة الحجاب. ومن دلائل تغلل الاستبداد في الأمة استكناه لغتها، فإن كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع كاللغة الفارسية، دلت على تاريخها القديم في الاستبداد. وإن قلت — كالعربية قبل امتزاجها بغيرها دلت على الحرية.

وعلى الجملة فأخوف ما يخاف المستبد من العلم، العلم الذي يعلم أن الحرية أفضل من الحياة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وقيمتها والعبودية وضررها.

وقد كان «الكواكبي» في كل هذا يقرأ نتائج القرائح التي كتبت في الاستبداد، وينظر إلى الدولة العثمانية في عهده ويستملي منها آراءه وأحكامه.

ثم عرض للاستبداد والمجد، ويعني بالمجد رغبة الإنسان أن تكون له منزلة حب واحترام في قلوب الناس، وهو مطلب طبيعي شريف، ويبلغ عند بعض الأفراد درجة تجعلهم يتساءلون: أيهما أقوى، الحرص على المجد أم الحرص على الحياة؟ و«الكواكبي» من قبيل من يرى الحرص على المجد أقوى وأوجب من الحرص على الحياة، ولذلك عاب على ابن خلدون رأيه في تقديم الحرص على الحياة عندما نقد ابن خلدون الإمام الحسين بن علي وأمثاله، وقال إنهم يعرضون أنفسهم للموت بخروجهم في فئة قليلة على الخليفة ذي السلطان والعدد والعِدد، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة. فقال الكواكبي: إنهم معذورون، لأنهم يفضلون الموت كرامًا على حياة الذل التي كان يحياها ابن خلدون، وهم في ذلك ككرام سباع الطير والوحوش التي تأبى التناسل في أقفاص الأسر، وتحاول الانتحار تخلصًا من قيود الذل. وغضبة الكواكبي على ابن خلدون سببها عصبيته لأهل البيت، إذ كان من الأشراف، وفيه نزعة لحب المجد ولو كان فيه فقد الحياة. فابن خلدون يتحدث بالعقل، والكواكبي يتحدث بالعاطفة.

والمجد أنواع: «مجد الكرم» وهو بذل المال في سبيل المصلحة العامة، وهو أضعف أنواع المجد، و«مجد العلم» وهو نشر العلم النافع برغم عوائق السلطات. و«مجد النبالة» وهو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق، وهذا أعلى المجد ويقابل المجد التمجد، أي المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبدًا صغيرًا في كنف المستبد الأعظم، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد، ولا تميز بعض الأفراد إلا بخدمة عامة للأمة أو عمل عظيم يوافق إليه. أما في الحكومات المستبدة فالمتمجدون أعداء للعدل، أنصار للظلم، ينتخبهم المستبد الأعظم ليقوي بهم سلطانه، ويختارهم من ضعاف النفوس ويستغويهم بالمناصب والمراتب، وأكثر ما يعتمد على المعرقين في التمجد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم مرض الاستبداد، ومن هنا ظهرت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب. والحكومة المستبدة يظهر استبدادها في كل فروعها، ومن المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشارع؛ ولا يكون كل صنف من هؤلاء إلا من أسفل طبقته، لأنه لا يهمهم المجد باستجلاب محبة الناس، إنما يهمهم التمجد باكتساب ثقة رئيسهم المستبد؛ والوزير في الحكومة الاستبدادية وزير المستبد الأعظم لا وزير الأمة، وكذلك من تحته من أعوانه، فالهيئة كلها تتمجد ولا تمجد، وكلهم شركاء في جريمة الضغط على الأمة وظلمها. والاستبداد يقتل المجد ويحيي التمجد!!

وهذا حق، فالحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعًا من السيادة الكاذبة وتجعل أولي الأمر سلسلة تبدأ من المستبد الأعظم إلى الشرطي في الشارع، كل يخنع لمن فوقه ويستبد بمن تحته، وعلى العكس من ذلك الحكومة الديمقراطية ديمقراطية صحيحة، فهي تشعر كل شخص في الدولة بالعزة التي يحميها العدل، وبأن له نصيبًا في حكم بلاده، وصوتًا مسموعًا فيما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك وأن حكومته ليست قائمة إلا برأيه ورأي أمثاله، إن شعروا يومًا بجورها أسقطوها، سلطة الرأي العام فيها فوق سلطان الحكومة والبرلمان وكل سلطان.

ثم عرض للاستبداد والمال، ويعني بذلك الحكومة الاستبدادية وأثرها في الثروة أو الحالة الاقتصادية في البلاد. وهو في هذا الموضوع يرى الخير في نوع معتدل من الاشتراكية، نعم لا ينبغي أن يتساوى العالم الذي أنفق زهرة حياته في تحصيل العلم النافع، أو الصانع الماهر في صنعة مفيدة، وذلك الجاهل الخامل النائم في ظل الحائط، ولكن العدالة تقضي أن يأخذ الراقي بيد السافل والغني بيد الفقير، فيقربه من منزلته، ويقاربه في معيشته؛ وقد مال الإسلام إلى هذا النوع، ففرض الزكاة (٢٫٥٪) من رءوس الأموال تعطي للفقراء وذي الحاجة، وحرم الربا، لأنه وإن أجازه الاقتصاديون لأسباب معقولة اقتصاديًا (للقيام بالأعمال الكبيرة، ولأن الأموال المتداولة في السوق لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسمًا منها، ولأن كثيرًا من القادرين على العمل لا يجدون رءوس المال) فإن الدين ورجال الأخلاق ينظرون إليه من حيث ضرره الأخلاقي، لأنه متى انتشر قسم الناس إلى عبيد وسادة، وكان سببًا في ضياع استقلال الأمم الضعيفة.

والحكومة الاستبدادية سبب في اختلال نظام الثروة فهي تجعل رجال السياسة والدين ومن يلحق بهم يتمتعون بحظ عظيم من مال الدولة، مع أن عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، وهي تخصص المال الكثير لترف المستبد وسرفه، وتغدق على صنائعها،٧ ومن يستخدم لتحصيل شهواتها، ومن يعنيها على طغيانها، وسائر أفراد الشعب في شقاء وبؤس؟

ثم الحكومات المستبدة تيسر للسفلة طرق الغنى بالسرقة والتعدي على الحقوق العامة ويكفي أحدهم أن يتصل بباب أحد المستبدين ويتقرب من أعتابه، ويتوسل إلى ذلك بالتملق وشهادة الزور وخدمة الشهوات والتجسس، ليسهل له الحصول على الثروة الطائلة من دم الشعب.

٣

عرض «الكواكبي» بعد ذلك لأثر الاستبداد في فساد الأخلاق، فالاستبداد يتصرف في أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الفاضلة فيضعفها أو يفسدها. فهو يفقد الإنسان عاطفة الحب، فهو لا يحب قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه، وهو ضعيف الحب لأسرته لأنه ليس سعيدًا فيها، وهو لا يركن إلى صديقه لأنه قد يأتي عليه يوم يكون فيه عونًا على الاستبداد ومصدر شر له.

الإنسان في ظل الاستبداد لا ينعم بلذة العزة والشمم والرجولة، فلا يذوق إلا اللذة البهيمية لأنه لا يعرف غيرها.

والاستبداد يلعب بالأخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل: فيسمي النصح فضولًا، والشهامة تجبرًا، والحمية طيشًا، والإنسانية حمقًا، والرحمة مرضًا، كما يسمي النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفًا، والنذالة دماثة وظرفًا.

والاستبداد أفسد عقول المؤرخين، فسموا الجبابرة الفاتحين عظماء أجلاء، مع أنه لم يصدر عنهم إلا الإسراف في القتل والتخريب، ثم أشادوا بذكر السلف تملقًا للخلف.

والاستبداد يفقد الثبات في الخلق، فقد يكون الرجل شجاعًا كريمًا، فيصبح بعوامل الاستبداد جبانًا بخيلًا، ولا أخلاق ما لم تكن ثابتة مطردة!

وأقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ويعين الأشرار على فجورهم، آمنين حتى من الانتقاد والفضيحة، لأن أكثر أعمالهم تظل مستورة، لا يجرؤ الناس على قول الحق أمامهم خوف العقبى.

وأقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ وما إلى ذلك، وهو عهد الاستبداد غير مقدور لغير ذوي المتعة، وقليل ما هم، ويصبح الوعظ والإرشاد ملقًا ورياء.

في الحكومات التي نجت من الاستبداد أطلقت حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، ورئي أن الفوضى في ذلك خير من تحديد الحرية، لأنه متى وضعت القيود نفذ منها الحكام، وتوسعوا فيها حتى خلقوا منها سلسلة من حديد يخنقون بها الحرية.

والاستبداد يفقد الناس ثقة بعضهم ببعض، ويحل الخوف محل الثقة، فيقل التعاون بين الأفراد، والتعاون حياة الأمم.

والأنبياء سلكوا في تكوين الأخلاق مسلكًا خاصًا، فبدءوا بفك العقول من تعظيم غير الله، وذلك بتقوية الإيمان المفطور عليه الإنسان، ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته وحريته في أفكاره، وبذلك هدموا حصون الاستبداد. ثم أبانوا أنه مكلف بقانون الإنسانية، واتباع المبادئ التي ترقيه وترقي جنسه — وكذلك فعل السياسيون الأقدمون من الحكماء.

أما الغربيون المحدثون فوضعوا الأخلاق غير مرتكزة على الدين، ولكن على ما أودع فطرة الإنسان من ضمير وحب نظام، وساعدهم على ذلك انتشار العلم عندهم والرغبة في التقدم، واستعانوا على ذلك بالوطنية.

ثم عرض للاستبداد والتربية — والتربية تنمية الاستعداد جسمًا ونفسًا وعقلًا وهي قادرة أن تبلغ بالإنسان أعلى حد من الرقي لو صلحت.

والحكومة العادلة تعني بتربية الأمة من وقت تكون الجنين، بل قبله، بسن قوانين للزواج الصالح، ثم بالعناية بالقابلات والأطباء، ثم بفتح بيوت اللقطاء ثم بإنشاء المكاتب والمدارس وتنظيم خططها متدرجة إلى أعلى مرتبة؛ ثم تسهيل الاجتماعات، والإشراف على المسارح، ثم تشجيع النوادي وإنشاء المكتبات، وإعلان شأن النوابغ بإقامة النصب ونحوها، ثم بتنمية المشاعر القوية بشتى أنواعها وتيسير الأعمال وغير ذلك.

أما الحياة في الحكومات المستبدة فمجرد نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والحرجات،٨ يسطو عليها الغرض والحرق، وتحطمها العواطف والأيدي والقواصف.

في الحكومة العادلة يعيش الإنسان حرًا نشيطًا يسره النجاح ولا تقبضه الخيبة، وفي الحكومة المستبدة يعيش خاملًا خامدًا، ضائع القصد حائرًا.

الأسير المعذب يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وقد جنى على المسلمين علماؤهم، فأفهموهم أن الدنيا سجن المؤمن، وأن المؤمن مصاب، وإذا أحب الله عبدًا ابتلاه، وهكذا مما ابتدعوه. ويتغافلون عن حديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا» وحديث معناه: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها»! وكل هذه المثبطات تحول الأذهان من معرفة أسباب الشقاء إلى إلقائها على عاتق القضاء والقدر. وقد أحكموا هذه المكيدة باختراع الأحاديث التي تجعل الخضوع للحاكم المستبد دينا.

وعلى الجملة فالتربية الصحيحة لا تمكن من ظل الاستبداد!

ثم الاستبداد — على الإجمال — يمنع الترقي؛ والترقي الحيوي الذي يسعى إليه الإنسان هو — أولًا — الترقي في الجسم صحة وتلذذًا، ثم الترقي في الاجتماع بالعائلة والعشيرة، ثم الترقي في القوة بالعلم والمال، ثم الترقي في الملكات بالخصال والمفاخر. وهناك نوع آخر من الترقي الروحي، وهو الاعتقاد بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى يترقى إليها سلم الرحمة والإحسان — والاستبداد بالأمة عدو ذلك كله، بل هو تحول الميل الطبيعي فيها إلى طلب التعقل، حتى لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور! وعندئذ يكون الاستبداد كالعلق يمتص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها، والاستبداد يجعل الأمة منحطة في الإحساس، منحطة في الإدراك، منحطة في الأخلاق، وهو يضغط عليها فتكون كدود تحت صخرة، والمشفقون عليها يجب أن يسعوا في رفع الصخرة ولو حتى بالأظافر ذرة بعد ذرة!!

وهنا ضرب مثلًا يصح أن يخطب به الخطباء في الناس ليستيقظوا، فوضع خطبة نموذجية لتنبيه المشاعر. ثم قال: إن الرقي الذي ينشده في ظل العدل هو أن يكون الشخص أمينًا على جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن المحافظة عليه، أمينًا على ملذاته الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة بإيجاد أسبابها، أمينًا على حريته فلا يعتدي عليها، أمينًا على نفوذه كأنه سلطان عزيز لا يمانع في تنفيذ مقاصده النافعة، أمينًا على ماله وشرفه؛ وما منحته الطبيعة من مزايا، فما لم تتحقق هذه فالحكومة مستبدة ليست بيئة لترقي شعبها.

وأخيرًا ما وسائل التخلص من الاستبداد؟ يرى هو أن الاستبداد لا يقاوم بالقوة، إنما يقاوم باللين وبالتدريج، ببث الشعور بالظلم، وهذا يكون بالتعليم والتحميس، ذلك لأن الاستبداد محفوف بأنواع القوات: كقوة الجند، وقوة المال، وقوة رجال الدين، وقوة الأغنياء، فإذا قوبل بالقوة كانت فتنة تحصد الناس، وإنما الواجب المقاومة بالحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة. والاستبداد مع اعتماده على هذه القوات كلها يضعف أمام الوسائل المحكمة في قلبه، كما قيل: كم من جبار عنيد جدله٩ ملوم صغير!!

ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يحل محله؛ ومعرفة الغاية معرفة دقيقة واضحة؛ ومتى وضحت الغاية المرسومة يجب السعي في إقناع الناس بها واستجلاب رضاهم عنها وحملهم على النداء بها، ويجب أن ينشر ذلك في كل الطبقات حتى يصبح عقيدة، فيتلهفوا جميعًا على نيل الحرية وتحقيق المثل الذي ينشدونه: عندئذ لا يسع المستبد إلا الإجابة طوعًا أو كرهًا.

وقد حدد في ثنايا كتابه، ماذا يقصد بالحكومة المستبدة، فقال: إنها تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق، كما تشمل حكومة الجميع لو منتخبًا إذا استبد، بل قد يكون هذا الحكم أضر من استبداد الفرد. ويدخل في أنواع الاستبداد أنواع الاستعمار، فالمستعمر تاجر لا يرى إلا مصلحته؛ ولا عبرة بأسماء أنواع الحكومات إنما العبرة بحقيقتها، وكل أمة فيها لون من ألوان الاستبداد، ولكنها تختلف فيه كمية وكيفية، فبعضها يمسه الاستبداد مسًا خفيفًا، وبعضها تغرق فيه من قدمها إلى مفرق رأسها. والغرب سبق إلى تقدير معنى الحرية والعدالة؛ ولكنه لا يأخذ بيد الشرق؛ بل يستغله لمصلحته، وواجب الغرب أن يرعى للشرق سابق فضله، فيأخذ بيده ليخرجه إلى أرض الحياة، ويعامله معاملة الأخ لأخيه، لا السيد لعبده ليتعاونا بعد على السير بالإنسانية.

وبهذا ينتهي الكتاب؛ وهو فيه قوي مخلص مملوء غيرة وأسفًا وتلهفًا على رفع نير الاستبداد عن الشرق؛ وهو أن استمد الفكرة من العرب؛ فهو يبسطها ويعدلها ويعني بتطبيقها، وقد يؤخذ عليه عصر نفسه في دائرة النظريات. وكان الكتاب يكون أوقع في النفس لو ملأه بالشواهد وما رأى وسمع من أحداث وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظريات بالشواهد لكان كتابه أكثر فائدة وأعم نفعًا، ولكن يظهر أن قد منعه من ذلك أنه أراد أن يستتر فأخفى اسمه ولم يضعه على الكتاب؛ وقال في مقدمة الكتاب: إنه لم يقصد ظالمًا بعينه ولا حكومة مخصوصة، ولو أتى بالشواهد لدل على الحكومة التي قصدها، ودل بذلك على نفسه، وما كان في ذلك من ضرر، بل كان فيه كل النفع؛ ولكن الأمور تقدر بأوقاتها وظروفها، وهو فيما اكتنفه من ظروف كان في عرضه النظريات فقط شجاعًا جريئًا.

٤

أما كتابه الثاني «أم القرى» فأدل على الابتكار وأوضح في إظهار الشخصية، يقف فيه من المسلمين موقف الطبيب من المريض، يفحص داءه ويتعرف أسبابه، ويصف علاجه في أسلوب قصصي جذاب، تحدث فيه عن جمعية من المسلمين عقدت في مكة حضرها ممثل أو أكثر لكل قطر إسلامي، فعضو شامي، وعضو سكندري، ومصري ومقدسي ويمني وبصري ونجدي ومدني ومكي وتونسي وفاسي وإنجليزي ورومي وكردي وتبريزي وتتري وقازاني وتركي وأفغاني وهندي وسندي وصيني، وأسندت رياسة الجمعية للعضو المكي، والسكرتارية للسيد الفراتي — وعني به الكواكبي نفسه — واجتمعوا كلهم قبيل الحج في مكان متطرف في مكة يتداولون في حال المسلمين؛ وكان أول اجتماع لهم في ١٥ ذي القعدة سنة ١٣١٦هـ.

فهل كانت هذه الجمعية حقيقة أو هي من نسيج خياله؟ يقول هو: إن لها أصلًا من الحقيقة، وإن الخيال تممها، فهل هذا صحيح، أو هو من قبيل تأييد الخيال كما يفعل كثير من الروائيين؟ أرجح الرأي الثاني.

على كل حال انعقدت الجمعية — فيما يقول — ووضع الرئيس منهج البحث، وهو الكتمان، لأنه أدعى إلى إفضاء كل ما في نفسه في صراحة، وتناسى الاختلاف في المذاهب، فلا سني وشيعي، ولا شافعي وحنفي، فالكل مسلم. ثم التحرر من اليأس في الإصلاح، فهذه أمم كثيرة كالرومان واليونان واليابان، استرجعت مجدها بعد تمام ضعفها، خصوصًا وأن الظواهر كلها تدل على أن الزمان قد استدار، وبدأت تظهر أعراض الصحة على المسلمين، ومن أعظم الظواهر انعقاد مثل هذه الجمعية ووضع برنامج المؤتمر، يتلخص في بحث موضع الداء في المسلمين وأعراضه وجراثيمه ودوائه وكيفية استعماله، إلخ.

قال الرئيس: إن أوضح عرض من أعراض مرض المسلمين فتورهم، وهو فتور عام شامل لجميع المسلمين في جميع أقطار الأرض، لا يسلم منه إلا أفراد شذاذ، حتى لا يكاد يوجد إقليما متجاوران، أو ناحيتان في إقليم، أو قريتان في ناحية، أو بيتان في قرية، أهل أحدهما مسلمون وأهل الآخر غير مسلمين، إلا والمسلمون أقل من جيرانهم نشاطًا وانتظامًا، وأقل إتقانًا من نظرائهم في كل فن وصنعة — مع أن المسلمين في جميع الحواضر متميزون عن غيرهم من جيرانهم في المزايا الخلقية مثل الأمانة والشجاعة والسخاء — حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان! فما هو السبب؟

وقد لفت نظره العضو الهندي إلى أنه مع تسليمه بما قال الرئيس، يود أن يستثني بعض حالات فيها المسلمون خير من جيرانهم، كبعض الوثنيين في الهند، والصابئة في العراق، فوافقه الرئيس وشكره على ملاحظته.

ثم أخذوا — بعد التسليم بوجود العرض — يبحثون في الأسباب وذهبوا في ذلك كل مذهب، فالشامي رأى أن سبب الفتور يرجع إلى ما أصاب المسلمين من عقيدة جبرية، فهذه العقيدة في القضاء والقدر على هذا النحو آلت إلى الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالبة النفسية كحب المجد والرياسة، والإقدام على عظائم الأمور، فأصبح المسلم كميت قبل أن يموت. والعقيدة بهذا الشكل مثبطة معطلة لا يرضاها عقل، ولم يأت بها شرع.

والمقدسي رأى السبب تحول نوع السياسة الإسلامية من ديمقراطية إلى استبدادية، فأفسدت العقول وأماتت الأخلاق.

ورد التونسي بأن بعض الأمم الأوربية محكومة بحكومة استبدادية ولم يمنع ذلك من تقدمها، وإنما السبب في نظره الأمراء المترفون الذين لم يرعوا للأمة حقوقها.

وقال الرومي: إن تحميل الأمراء التبعة كلها غير سديد، فما هم إلا نفر قليل من الأمة. والسبب الحقيقي في نظره فقدان المسلمين الحرية بجميع أنواعها: من حرية التعليم، وحرية الخطابة، وحرية البحث العلمي، فبفقد الحرية تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس؛ وتختل القوانين وتسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور.

ورأى التبريزي أن السبب ترك المسلمين أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاسترسل الأمراء في أهوائهم وشهواتهم، وعدمت المراقبة عليهم.

وقال الفاسي: إن السبب هو إهمال الناس الاهتمام بالدين، حتى لم يبقى له أثر إلا على أطراف الألسن، وأمراؤهم مثلهم لا يتراءون بالدين إلا بقصد تمكين سلطانهم على البسطاء من الأمة، هذا إلى ظلمهم وجورهم. وقد كان المسلمون أعزاء يوم توثقت بينهم الرابطة الدينية، فلما انحلت ضاعت الأخلاق ففتروا وخمدوا.

وأجاب المدني بأن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفي سببًا لهذا الفتور العام. وعنده أن السبب تدليس رجال الدين وغلاة المتصوفين الذين لونوا الدين بلون سيئ فأضاعوه وأضاعوا أهله، وذلك أن العلماء العاملين أهل لكل تجلة واحترام، فلما حسدهم من لا يستحق هذه المنزلة سلكوا مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف المقدرة إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر وقليل المال إلى التظاهر بزينة اللباس والأثاث، فأفسد هؤلاء الدين بما أدخلوا فيه ما ليس منه، كالعلم اللدني،١٠ وترتيب المقامات، ووراثة السر، والرهبنة، والتظاهر بالعفة، والتبرك بالآثار، والكرامة على الله، والتصرف في القدر. فسحروا عقول الجهلاء، واختلبوا قلوب الضعفاء كالنساء، والنساء بذرن هذه البذور الضارة في أبنائهن وبناتهن، فماتت النفوس وخرفت العقول. وهؤلاء المدلسون وجدوا في بغداد ومصر والشام وغمرو السوق في الآستانة، وسرى التدليس من هذه العواصم إلى جميع الآفاق فأصبح المرض عامًا.

وانضم الرومي إلى هذا الرأي وزاده إيضاحًا، فقال: إن داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين والجهال المتعممين، وبلغ أمرهم في البلاد العثمانية أن صارت الألقاب العلمية منحة رسمية تعطى للجهال، حتى للأميين والأطفال (كمشيخة الطرق عندنا). فقد يكون طفلًا ويمنح بالوراثة لقب «أعلم العلماء المحققين»، ثم «أفضل الفضلاء المدققين»، ثم، وثم … حتى يوصف بأنه «أعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء المتورعين، وينبوع الفضل واليقين»، وأكثرهم لا يحسنون حتى قراءة ألقابهم. وطبيعي أن هؤلاء يقابلون السلطان بالمثل، فهو صاحب العظمة والإجلال، المنزه عن النظير والمثال، مهبط الإلهامات، مصدر الكرامات، سلطان السلاطين، مالك رقاب العالمين.

وأصبح التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية سلعًا تباع وتشترى، وتوهب وتورث. وتسلط هؤلاء المتعممون على المجالس والإرادات، واتخذ الأمراء من ذلك وسيلة يتعذرون بها عند الدولة الأجنبية بأن الرأي العام — وعلى رأسه المعممون لا يقبلون الإصلاح المدني.

أجاب الكردي بأن هذا الداء خاص ببعض الولايات: ولكن عرض الفتور عام في الولايات الإسلامية التي فيها هذا الشأن وغيره، فلا بد أن يكون السبب شيئًا أعم من ذلك. وعندي أن السبب هو أن المسلمين أصيبوا باقتصارهم على العلوم الدينية وإهمالهم العلوم الدنيوية، كالرياضة والطبيعة والكيمياء، على حين أن هذه العلوم نمت في الغرب وترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في جميع الشئون المادية والأدبية، حتى صارت عندهم كالشمس، لا حياة لهم إلا بنورها، وأصبح المسلمون في أشد الحاجة إليها في جميع أمورهم: من تربية الطفل إلى سياسة الدولة. ومن عمل الإبرة إلى عمل المدافع والبوارج. ومن استخدام اليد إلى استخدام الأسلاك والبخار — فابتعاد المسلمين إلى الآن عن هذه العلوم النافعة الحيوية. جعلهم أحط من غيرهم من الأمم. وكلما تمادت الأيام بعدت النسبة بينهم وبين جيرانهم.

أجاب الإسكندري: إن هذا يصلح سببًا، ولكن ليس كل السبب، لأن فقد العلوم لا يصلح سببًا لفقد الإحساس الشريف والأخلاق العالية، وإنما السبب نومنا ويأسنا.

قال التتري: إن هذا شكاية حال لا شرح أسباب؛ إنما السبب عندي فقدان القادة والزعماء؛ فلا أمير حازم يسوق الأمة طوعا أو كرها إلى الرشاد؛ ولا زعيم مخلص تنقاد له الأمراء والناس، ولا رأي عام يجمع الناس على غرض نبيل.

والأفغاني يرى أن سبب الفتور الفقر، وهو قائد كل شر، ورائد كل فساد، فمنه الجهل، ومنه الانحطاط الخلقي، ومنه تتشتت الآراء حتى في الدين، فليس ينقصنا عن الأمم الحية إلا القوة المالية؛ ولكن المال لا يأتي إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تنتشر في الأمة إلا بالمال؛ وبهذا تحدث مشكلة الدور، ويجب أن تبحث عن حلها.

أجاب المسلم الإنجليزي: إن الفقر في المملكة الإسلامية ليس طبيعيًا، فهي بلاد غنية، لو نفذت تعاليم الإسلام فيها من تحصيل الزكاة والكفارات وما إلى ذلك وصرفت في وجوهها لخفت وطأة الفقر؛ وإنما سبب الفتور في نظره وفقد الاجتماعات والمفاوضات وتبادل الآراء فنسى المسلمون حكمة تشريع الجمعة والجماعات والحج، وصارت الخطب التي تلقى تافهة لا قيمة لها، وكان الغرض منها التحدث في الأحوال الطارئة. وبلغ من سوء رأيهم أنهم عدوا التحدث في الأمور العامة فضولا، والكلام فيها في المساجد لغوًا، فلما انعدم الكلام في المصالح العامة أصبح كل شخص لا يهتم إلا بنفسه، ولا اهتمام له بالصالح العام ولا بغير ذلك من الشئون، حتى لو بلغهم خبر تخريب الكعبة — لا قدر الله — ما زادوا على أن يقطبوا جبينهم لحظة وينتهي الأمر. والأمم الحية في الوقت الحاضر تهيئ الفرص للاجتماعات ومبادلة الآراء ما أمكن، بكثرة النوادي والمجتمعات، وتنظيم الرحلات والسياحات، وكثرة الخطب والمحاضرات حتى في المتنزهات، وعقد المؤتمرات للمناسبات، وتذكيرهم بتاريخهم وأهم أحداثهم، وبثهم في الأغاني والأناشيد ما يبعث على حب البلاد والحرية ويحمس للخير العام.

ورأى الصيني أن السبب هو تكبر الأمراء وميلهم للعلماء المتملقين المنافقين، الذين يتصاغرون لديهم، ويتذللون لهم، ويحرفون أحكام الدين ليوفقوها على أهوائهم، فماذا يرجى من علماء دين يسترون بدينهم دنياهم، ويقبلون يد الأمير لتقبل العامة أيديهم، ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على ألوف من الضعفاء، فأفضل الجهاد عند الله الحط من قدر العلماء المنافقين عند العامة وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين. وعندنا في الصين رجال حكماء نبلاء لهم نوع من السيادة حتى على العلماء، وهؤلاء هم الذين يسمون في الإسلام أهل الحل والعقد وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله نبيه بمشاورتهم؛ وتاريخ المسلمين يدل على ارتباط القوة والضعف بمنزلة أهل الحل والعقد في الأمة. والخلاصة أن سبب الفتور استحكام الاستبداد في الأمراء، وانعدام أهل الحل والعقد من الأمة.

وقال النجدي: إن سبب فتور المسلمين الدين الحاضر نفسه، بدليل التلازم؛ فالدين الحاضر ليس دين السلف: إن الدين الحاضر ترك إعداد القوة بالعلم والمال والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك مما بينه إخواننا. قد يقول قائل: إن كان دين دخل عليه التغيير ولم يؤثر في أهله الفتور؛ بل قال كثير من رجال الغرب إنهم ما أخذوا في الترقي إلا بعد فصلهم الدين عن شئون الحياة الدنيا. والجواب أن كل أمة لا بد لها من نظام ثابت تسير عليه، ويلائم نفسها وبيئتها وعلاقاتها التجارية والسياسة، والقانون الطبيعي الذي يتفق والطبيعة البشرية هو إذعان الإنسان لقوة غالبة هي الله الذي يوحي به الإلهام الفطري؛ ولهذه الفطرة علاقة عظمى بتنظيم شئون حياته، وهي أقوى وأفضل وازع — وكل الأديان راجعة إلى أصل صحيح واحد، فإذا تغير أو فسد؛ فسد الناس لاختلال هذا الوازع، قال تعالى: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا»، «والأمة كلما قربت من الأصل الصحيح والمبادئ الصحيحة قربت من الكمال».

وهنا أعلن الرئيس أن البحث في أعراض الداء وأسبابه قد نضج أو كاد، فيكتفي فيه بهذا القدر، ويجب نقل البحث إلى موضوع آخر، قال: وكلمة أخينا النجدي تلهمنا الموضوع الآتي الذي نبحثه، وهو: ما هو الإسلام الصحيح؟

٥

بعد هذا انتقل بحث المؤتمر إلى تحديد «الإسلام الصحيح» وما دخل عليه من تغيير؛ وقد أفاض في ذلك العضو النجدي، فقال: «إن الإيمان بالله أمر فطري في البشر، وحاجتهم إلى الرسل لإرشادهم إلى كيفية الإيمان، ويختلف الناس في تصور الله، والعقول البشرية مهما قويت واتسعت لا تتحمل إدراك صفات الله الأزلية المجردة عن المادة والزمان والمكان، فاحتاجت إلى من يرشدها».

وأساس الإسلام جملتان: «لا إله إلا الله» و«محمد رسول الله»، وثمرة الإيمان بالأولى عتق العقول من الأسر، وثمرة الثانية الاهتداء بمحمد في تعاليمه التي تحول بين المرء ونزوعه إلى الشرك.

ولكن إدراك التوحيد والاحتفاظ به عسير على النفس، فسرعان ما يخرج منه إلى الشرك. والشرك أنواع ثلاثة «شرك في الذات» وذلك في عقيدة الحلول، و«شرك في الملك» كاعتقاد الناس في بعض المخلوقات المشاركة في تدبير شئون الكون، و«شرك في الصفات» بإسباغ صفات الكمال على بعض المخلوقات.

وقد فشا في المسلمين هذا الشرك، كتعظيم القبور، وبناء المساجد والمشاهد عليها، والطواف بها والإسراج لها١١ والتذلل، وكدعوى أن هناك علمًا علم الباطن خص به بعض الناس، واتخاذ الدين لهوًا ولعبًا بالتغني والرقص، ولبس الأخضر والأحمر، واستخدام الجن والشياطين، فكل هذه وأمثالها شرك محض أو مظنة إشراك.

وعرض للإسلام — غير الشرك — أمران خطيران: وهما التشدد في الدين بعد ما كان يسرًا سهلًا، فكانت كل فرقة تأتي تزيد في هذا التشدد حتى صار عسرًا صعبًا، والأمر الثاني تشويش الدين بكثرة المذاهب والشيع وطرق التصوف.

وقد لاحظ الرئيس أن عضوين من الأعضاء لم يتحدثا، فرغب أن يسمع صوتهما، وهم العضو السندي والعضو القازاني، فأما السندي فقد تكلم في التصوف والذي دعا إليه، وما فيه من حق وما فيه من باطل، وأما القازاني فقص عليهم قصة جرت بين مسيحي روسي أسلم ومفتي قازان، تدور حول دعوة المفتي إلى تقليد السلف والاقتصار على ما قالوا، ودعوة الروسي المسلم إلى ضرورة الاجتهاد وعدم التقليد، وحكى ما جرى بينهما من حجج وأدلة، وأخيرًا انتصر المسلم الروسي المستشرق على المفتي، فاقتنع بأن التقليد ضار حمل عليه الكسل، وأن الاجتهاد واجب، ولكن يحتاج القيام به إلى جد وعناء.

ثم دعا الرئيس السيد الفراتي السكرتير، وهو «الكواكبي» لتلخيص المحاضر السابقة للمؤتمر وتعداد أسباب فتور المسلمين، وكلفه أن يزيد عليها من الأسباب ما يراه إن وجد غير ما ذكره الأعضاء، فلخص أسباب فتور المسلمين في:

  • (١)
    أسباب دينية: أهمها عقيدة الجبر، ونشر ما يدعو إلى التزهيد في الدنيا، وترك السعي والعمل، واختلاف المسلمين فرقًا وشيعًا، وإضاعة سماحة الدين، وتشديد الفقهاء المتأخرين، وإدخالهم في تعاليمه الخرافات والأوهام، وعدم المطابقة بين القول والعمل في الدين، وتهوين غلالة الصوفية شأن الدين وجعله لهوًا ولعبًا، والتوسع في تأويل النصوص، والتحايل على التحرر من الواجبات، وإيهام الدجالين الناس أن في الدين أمورًا سرية، واعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين، وتطرق الشرك إلى عقيدة التوحيد، وتهاون العلماء في تأييدها، والغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة والحج.
  • (٢)
    وأسباب سياسية: أهمها السياسة الخالية من المسئولية، وحرمان الأمة حرية القول والعمل، وفقدانها الأمن والأمل وفقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة وميل الأمراء للعلماء المدلسين، واعتبار العلم صدقة يحسن بها الأمراء على الخاصة، وإبعادهم للناصحين وتقريبهم للمتملقين.
  • (٣)
    وأسباب خلقية: من الاستغراق في الجهل والارتياح إليه، واستيلاء اليأس على النفوس، والإخلاد١٢ إلى الخمول، وفساد التعليم، وفساد النظام المالي، وإهمال طلب الحقوق العامة جنبًا، وتفضيل الوظائف على الصنائع، والتباعد عن المداولات في الشئون العامة.

وقد زاد السكرتير أشياء على ما سبق، أهمها: الغفلة عن تنظيم شئون الحياة، وعدم توزيع الأعمال توزيعًا عادلًا، وعدم العناية بتعليم النساء وتهذيبهن وانتشار داء التواكل.

ولم يرض المؤتمر بالاكتفاء بالبحث في الأمراض وعلاجها، بل اقترح إنشاء جمعية دائمة تعني بإصلاح المسلمين، ويشرف على تنفيذ برنامجها في الإصلاح وهذه الجمعية تؤلف من مائة عضو: عشرة عاملين، وعشرة مستشارين، وثمانين فخريين ولا عدد للأعضاء المساعدين المحتسبين، واشترط في الأعضاء العاملين شروطًا دقيقة: من العفة والأمانة والإخلاص وسعة العلم والقدرة على التأثير وإمكان التفرغ للعمل لأغراض المؤتمر، وجعل مركزها في مكة، ولها شعب في الآستانة ومصر وعدن والشام وطهران وتفليس وكابل وكلكتا وسنغافورة وتونس ومراكش وغيرها. والجمعية لا تكون تابعة لحكومة ما، ولا تتقيد بمذهب ديني خاص، ويكون شعارها: «لا نعبد إلا الله»، ويكون من أهم أغراضها تعميم التعليم بين المسلمين، والترغيب في العلوم والفنون النافعة، وإيجاد المدارس العالية يتخصص كل منها للتوسع في فرع من فروع العلم، وتوحيد أصول التعليم، ووضع مناهج للرقي بالأخلاق وتنفيذها، وإنشاء مجلة شهرية للجمعية لتأييد أغراضها إلخ إلخ.

وقد اتفقوا على أن يكون مركز الجمعية المؤقت هو مصر، لتقدمها في العلم والحرية، ولأنها أسبق الأمم الإسلامية في ذلك.

وانقض المؤتمر بعد أن اجتمع اثني عشر اجتماعًا وصل فيها إلى النتائج الآتية:
  • (١)

    المسلمون في حالة فتور عام.

  • (٢)

    يجب تدارك هذا الفتور.

  • (٣)

    جرثومة الداء الجهل.

  • (٤)

    الدواء تنوير الأفكار بالتعليم، وإيقاظ الشوق للترقي، وخصوصًا في الناشئة.

  • (٥)

    تأسيس الجمعيات التي تقوم بهذا العلاج.

  • (٦)

    المكلفون بذلك كل قادر على عمل، وخاصة نجباء الأمة من السراة والعلماء.

هذه نظرة الطائر إلى هذه الرواية العظيمة العميقة المفيدة، وهذا تفكير «الكواكبي» من نحو نصف قرن يشف عن سعة اطلاع، وصدق إخلاص، وسمو فكر، وبعد نظر، وشجاعة وصراحة، فإذا نحن اطلعنا على ما كان يكتب قبله في المجلات والصحف في مثل هذه الموضوعات رأيناها كانت أقرب إلى موضوعات إنشائية جوفاء، فنقلها هو إلى بحوث علمية، عملية، يحلل ويذكر العرض وسبب الداء وعلاجه في صبر وأناة واستقصاء.

كتاب «أم القرى» رواية جدية ليس فيها غرام وغزل، بل فيها غرام مؤلفه بالعالم الإسلامي، يعاني في سبيله ما يعاني المحب الهائم، ويود من صميم قلبه أن يصل محبوبه إلى أعلى درجات الكمال، ويضحي من أجله بماله الذي ضيعه عليه الظلمة لتمسكه بالحق، ويضحي بوطنه فيهجره لأنه لم يستطع أن يجهر برأيه في حلب فجهر به في مصر؛ ولا بأس فكل بلد إسلامي وطنه — كان يحب التخصص، وينادي بأن كل قادر يحصر نفسه في فرع من فروع العلم أو الفن حتى يتقنه، وطبق ذلك على نفسه، فلم يتوزع بين فقه ولغة، وما إلى ذلك، إنما وهب نفسه لإصلاح المسلمين، فدرس التاريخ الإسلامي في دقة وإمعان في البلاد الإسلامية سياحة فاحصة منقبة، ودرس كل قطر إسلامي ومزاياه وعيوبه، حتى إنه لما وضع روايته «أم القرى» أنطق كل عضو بعقلية قطره: وسلطة المتعممين؛ والإسكندري يشكو ضعف الأخلاق، والإنجليزي ينعي على المسلمين عدم المجتمعات وتبادل الرأي بالخطب والمحاضرات ونحو ذلك.

اكتوى السيد جمال الدين الأفغاني من السياسة الأوربية ولعبها بالمسلمين، فصب عليها جام غضبه، واستغرقت حملته على السياسة الإنجليزية أكبر قسم في العروة الوثقى، واكتوى الكواكبي بالسياسة العثمانية فكانت موضع نقده. نظر الأفغاني إلى العوامل الخارجية للمسلمين فدعاهم إلى أن يناهضوها، ونظر الكواكبي إلى المسلمين فدعاهم إلى إصلاحها، فإنها إن صلحت لم تستطع السياسة الخارجية أن تلعب بهم؛ ولذلك كانت معالجة الأفغاني للمسائل معالجة تأثر، تخرج من فمه الأقوال نارًا حامية، ومعالجة «الكوكبي» معالجة طبيب يفحص المرض في هدوء، ويكتب الدواء في أناة. الأفغاني غضوب، والكواكبي مشفق، الأفغاني داع إلى السيف، والكواكبي داع إلى المدرسة. ولعل هذا يرجع أيضًا إلى اختلاف المزاج، فالأ فغاني حاد الذكاء حاد الطبع، الكواكبي رزين الذكاء هادئ الطبع، إذا وضعت أمامهما عقبة تخطاها «الأفغاني» قبل، وتخطاها «الكواكبي» بعد. ولكن من خير نقطة تتخطى، فلا عجب إن كان للأفغاني دوي المدافع، وكان للكواكبي خرير الماء يعمل في بطء حتى يفتت الصخر!.

لو مكن له معرفة لغة أجنبية ووقف على ما وصلت إليه بحوث علم الاجتماع الحديث لكان له منبع فياض إلى جانب غزارة فكره.

وبينما الناس يعجبون بما ينشر من مقالات إصلاحية في المجلات والجرائد، ومجالس الفضلاء في مصر عامرة بحديثه وجدله ودفاعه المؤدب عن آرائه، إذا بالصحف المصرية تطلع بنبأ موته الفجائي يوم ٦ من ربيع الأول سنة ١٣٢٠، فأسف عليه كل من كان محبًا لإصلاح المسلمين، وبكاه إخوانه الذين كانوا يرون فيه رجلًا نبيل الخلق، سامي المقصد، عفي اللسان، نقي الضمير.

فرحمه الله!

١  صلفه: زهوه وتكبره.
٢  الفرائص جمع فريصة وهي: لحمة بين الجنب والكتف ترتعد عند الفزع.
٣  تأمر: تولى الحكم.
٤  المعاد: عودة الحياة في الدار الآخرة.
٥  الأباة: جمع أبي. وهو من يأبى الظلم ويستنكره.
٦  البغاة: جمع باغ، وهو المختدي والمنحرف عن الحق.
٧  الصنائع، جمع صنيعة، وهو: من تربيه وتخرجه وتختصه بعملك.
٨  الحرجات، جمع حرجة، وهي: مجتمع الشجر.
٩  جدله: صرعه.
١٠  اللدني: أي الذي يكون من لدن الله، يلقى في النفس دون تعلم أي تلقين.
١١  الإسراج: إيقاد السراج، وهو المصباح.
١٢  الإخلاد: الركون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤