الفصل الأول

استلقى جرانت على سريره الأبيض المُرتفِع وحدَّق في السقف. حدَّق فيه بنظرةِ بُغْض. لقد حَفِظ عن ظهرِ قلبٍ كل شرخ ضئيل أحدَثَه الزمن مُؤخَّرًا في سطحه النظيف الجميل. كان قد رسم بخياله خرائط على هذا السقف ومضى فيها مُستكشِفًا أنهارًا وجُزرًا وقارَّات. وقد اتَّخَذ من هذا السقف مادةً لألعاب التخمين واكتشف أشياء خفيةً؛ وُجوهًا وطيورًا وأسماكًا. لقد استخدَمه لإجراءِ حساباتٍ رياضية وأعاد اكتشاف طفولته؛ نظريات وزوايا ومُثلَّثات. لم يَعُد بوسعه تقريبًا أن يفعل أي شيء آخر سوى التحديق فيه. لقد كَرِه منظر هذا السقف.

كان جرانت قد اقترح على «القزمة» أن تُدير سريره قليلًا حتى يُتاح له استكشافُ رقعةٍ جديدة من السقف. لكن كان يبدو أن هذا سيُفسِد التناسق في الحجرة، وفي المستشفيات يحتلُّ التناسق مرتبةً تلي النظافة مباشرةً وتسبق الصلاح بمسافةٍ شاسعة. كان أيُّ شيءٍ خارج نمَط التماثل يُمثِّل انتهاكًا لحُرمة المستشفيات. لماذا لم يقرأ؟ هكذا تساءلت. لماذا لم يَمضِ في قراءة بعض من تلك الروايات الجديدة الباهظة التي دأب أصدقاؤه على جلبها له.

أجابها: «ما أكثرَ من يُولَدون في العالم، وما أكثر الكلمات التي يخطُّها البشر. تتدفق الملايين والملايين من هذه الكلمات من المطابع كلَّ دقيقة. إنها خاطرةٌ فظيعة.»

قالت القزمة: «تبدو مُتصلِّبَ الرأي.»

كانت «القزمة» هي المُمرِّضة إنجهام، وكانت في الواقع امرأةً لطيفة جدًّا يَبلُغ طولها خمس أقدام وبوصتَين، وكان كل شيء في مظهرها مُتناسبًا بدقة. أطلق عليها جرانت اسم «القزمة» من باب مُواساة نفسه لِكونه كان خاضعًا لتحكُّم امرأة، أشبهَ بتِمثالٍ جميل من خزف دِرِسدِن، كان يُمكِنه أن يحملها بيدٍ واحدة. بعبارةٍ أدقَّ عندما كان في كامل صحته. لم تَكُن تكتفي بأن تقول له ما كان بوسعه أن يفعله أو لا يفعله، بل كانت تتعامل مع طوله الذي كان يزيد على ست أقدام ببساطةٍ عفوية وجدَها جرانت مُهينة لكبريائه. على ما يبدو، لم تَكُن الأوزان تعني شيئًا لها. كانت تُلقي بحَشيَّات الأسِرَّة هنا وهناك في رشاقةِ وشُرودِ بهلوان في السيرك يُدير الأطباق الدوَّارة. في حال كانت خارج وقت مُناوَبتها، كانت ترعاه «الأمازونية»، وهي إلهةٌ ذات ذراعَين تُشبهان غُصن شجرة زان. كانت «الأمازونية» هي المُمرِّضة دارول، القادمة من مقاطعة جلوسترشير، والتي كانت تُعاني من الحنين إلى مَسقط رأسها في كل مَوسم لتفتُّح النرجس البري. (كانت «القزمة» من بلدة ليثام سان آنز؛ لذا لم يَكُن لديها هراء النرجس البري.) كان لدَيها يدان ناعِمتان ضخمتان وعينان عطوفتان واسعتان كعيون البَقر، وكانت تبدو آسِفةً لحالِك على الدوام، لكن أقلَّ جهدٍ بَدني كان كفيلًا بأن يدفعها للتنفس وكأنها مِضخَّة شفط. إجمالًا، شعَرَ جرانت بأن مُعامَلته باعتباره حِملًا ثقيلًا تَحمِل من الإهانة أكثر ممَّا تَحمِله مُعامَلته كأنه عديم القيمة على الإطلاق.

كان جرانت طريح الفِراش، ويخضع لرعاية «القزمة» و«الأمازونية»؛ وذلك لسقوطه عبر بابٍ أُفقي خفي. كانت هذه الحادثة، بلا شك، في غاية المَهانة؛ بحيث بدَت أنفاس «الأمازونية» الثقيلة وسهولة قذف «القزمة» للأغراض مُقارَنةً بها مُجرَّد نتيجة طبيعية. كان السقوط عبر بابٍ أُفقي خفي أمرًا في غاية العبث؛ حدثًا صِبيانيًّا سخيفًا ينطوي على غرابةٍ مُنفِّرة. قُبَيل لحظة اختفائه من فوق السطح الطبيعي للأرض كان جرانت في مُطارَدةٍ حثيثة يُحاوِل اللحاق ببيني سكول، وكان مَشهد بيني وهو يُهرَع مُنعطِفًا مُرتميًا في أحضان السيرجنت ويليامز هو العزاء الوحيد الذي حمله هذا الموقف الذي لا يُطاق.

كان بيني حينئذٍ «مُبعَدًا» منذ ثلاث سنوات، وهو ما كان مُرضِيًا للغاية للقيادات، لكن بيني كان سيحصل على إطلاق سراح مُبكِّر لحُسن سيره وسلوكه. في المستشفيات، لم يكن يُوجَد إفراجٌ مُبكِّر لحُسن السير والسلوك.

توقَّف جرانت عن التحديق في السقف، وأدار عينَيه ليَنظُر شزرًا إلى كومة الكتب المُستقرَّة فوق الطاولة إلى جانب فِراشه؛ تلك الكومة البهيجة الباهظة الثمن التي لطالما حثَّته «القزمة» على الانتباه إليها. كان يعلو هذه الكومة كتاب تُزيِّن غِلافَه صورةٌ جميلة لمدينة فاليتا مُتَّشِحة بلونٍ زهري غير مُعتاد، تَسرُد فيه مُؤلِّفته لافينيا فيتش سنةً مليئة بالابتلاءات من حياةِ بطلةٍ بريئة. بالنظر إلى صورة «المرفأ الكبير» على الغلاف، لا بدَّ أن فاليري أو أنجيلا أو سيسيل أو دينيس كانت زوجةَ ضابطٍ بَحري. كان جرانت قد فتح الكتاب لا لشيء إلا لقراءة الرسالة الرقيقة التي كتبَتْها لافينيا بداخله.

أما في رواية «العَرَق والأُخدود»، فتجد مُؤلِّفتها، سيلاس ويكلي، واقعية، وتُسمِّي الأشياء بمُسمَّياتها طوال صفحات الرواية السبعمائة. كان بوسعك أن تُدرِك من الفقرة الأولى أنَّ الحال لم يتغيَّر كثيرًا منذ كتاب سيلاس الأخير: أمٌّ حُبلى بمولودها الحادي عشر في الطابق العُلوي، وأبٌ مخمور فاقد الوعي بعد كأسه التاسعة في الطابق السُّفلي، وابنٌ أكبر يغشُّ الحكومة داخل حظيرة البقر، وابنةٌ كُبرى يُضاجِعها عشيقها داخل مخزن التبن، أما باقي شخصيات الرواية فيختبئون داخل الإسطبل. تقاطرَت حبَّات المطر من بين عيدان قش السقف، وتحلَّل الروث فتصاعد منه البخار. لم تتخلَّ سيلاس قطُّ عن ذكر الروث. لم يَكُن ذنبها أنَّ بُخاره هو العنصر الوحيد في الصورة الذي كان يتحرك إلى أعلى. لو كان بإمكانها اكتشاف نوع من البخار ينحدر إلى أسفل لقدَّمَته في رواياتها.

تحت غِلاف رواية سيلاس بظلاله وإضاءاته المُوحِشة كانت تستقرُّ قصةٌ أنيقة تعجُّ بالزخارف الإدواردية والسخف الشديد التكلف، بعنوان «مُتلهِّفة إلى اللقاء». تدور هذه القصة حول الخطيئة كما يتناولها روبرت روج في أسلوبٍ خبيث مُتلاعِب بالألفاظ. دائمًا ما يَستدرجك روبرت روج إلى الضحك في الصفحات الثلاث الأولى. في الصفحة الثالثة تُلاحِظ أن روبرت قد تعلَّم من ذلك المخلوق الخبيث جدًّا (دون أن يكون شِرِّيرًا بالطبع)، جورج برنارد شو، أنَّ أسهل طريق لكي تبدوَ خفيفَ الظلِّ سريعَ البديهة هو أن تستخدم ذلك الأسلوب التقليديَّ الرخيص، وهو المُفارقات اللفظية. بعد ذلك يُمكِنك أن ترى النِّكات والفُكاهات آتيةً بعد ثلاث جُمَل.

كان الشيء ذو الغِلاف الأخضر الذي يسطع على امتداده وميضُ بنادق أحمر هو أحدث مُؤلَّفات أوسكار أوكلي. ثُلَّة من الأفظاظ يتشدَّقون بلكنةٍ أمريكية مُصطنَعة لا تمتُّ بِصِلة إلى خِفَّة الظل ولا إلى السخرية اللاذعة. شقراوات وقُضبان من الكروم ومُطارداتٌ خطرة. هُراءٌ مُثير للغاية.

أما «قضية فتَّاحة العُلَب المفقودة» لمُؤلِّفها جون جيمس مارك، فكانت أول صفحتَين فيها تحتويان على ثلاثة أخطاء في سير الأحداث، وعلى الأقل منحَت جرانت خمس دقائق مُمتعةً قضاها وهو يَصوغ رسالةً خيالية إلى مُؤلِّفها.

لم تُسعِفه الذاكرة في تَذكُّر عنوان الكتاب الأزرق الرفيع الراقد أسفل كومة الكتب. لكنه كان كتابًا جادًّا يضمُّ إحصاءات، حسبما ظن. كان عن ذُباب التسي تسي، أو السُّعرات الحرارية، أو السلوك الجنسي، أو ما شابَه.

حتى في ذلك الكتاب، كنتَ تَعرِف ما تتوقَّع قراءته في الصفحة التالية. أمَا عاد أحدٌ في هذا العالم يُغيِّر حكاياته بين الحين والآخر؟ هل صار الجميع في تلك الأيام مُولَعًا بالقوالب المُبتذَلة؟ كان كُتاب هذه الأيام يلتزمون التزامًا حثيثًا بأنماطٍ مُعيَّنة في كتاباتهم، حتى إن قُرَّاءهم أصبحوا يَتوقَّعونها. كان العامة يتحدَّثون عن «سيلاس ويكلي جديدة» أو «لافينيا فيتش جديدة»، تمامًا مِثلما كانوا يتحدَّثون عن «أداة بناء جديدة» أو «فرشاة شعر جديدة». لم يكونوا يقولون أبدًا «كتابٌ جديد بقلم فلان». لم يَكُن اهتمامهم مُوجَّهًا إلى الكِتاب، بل إلى حداثته. كانوا يعرفون جيدًا كيف سيبدو الكتاب.

أشاح جرانت بنظره بتقزُّز بعيدًا عن كومة الكُتب المُتنافِرة وهو يفكر في أنه ربما سيكون أمرًا حسنًا لو توقَّفَت مطابع العالَم جميعها لجيلٍ كامل. ينبغي أن يَحدُث تعليق للإنتاج الأدبي. يَحسُن أن يخترع أحد الرجال الخارقين شُعاعًا قادرًا على إيقافها كُلها في الوقت ذاته. عندئذٍ لن يُرسِل إليك أحدٌ كومةً من الهُراء السَّخيف بينما أنت مُسْتلقٍ على ظهرك، ولن تتوقَّع منك نِساءٌ تافهات مُتسلِّطات أن تقرأها.

سمع صوت الباب وهو يُفتَح، لكنه لم يُدِر نظرَه ليرى من القادم. كان قد أشاح بوجهه نحو الحائط، حرفيًّا ومجازِيًّا.

سمع صوت خطوات قادمة نحو فِراشه، فأغلق عينَيه ليتجنَّب أي مُحادَثة مُحتملة. لم يَكُن يرغب في هذه اللحظة في تعاطفِ مُمرِّضة جلوسترشير ولا في خِفَّة مُمرِّضة لانكشير. في اللحظة التالية، داعَب أنفَه إغراءٌ خافت يَحمِل نسمةً مُفعَمة بالحنين إلى الماضي قادمةً من كل حقول مدينة جراس. استنشَقها مُفكرًا فيها. كان يشمُّ رائحة الخُزامى من «القزمة» التي كانت تستخدم مسحوقًا بهذه الرائحة لجسمها، أمَّا «الأمازونية» فكانت تنبعث منها رائحة الصابون واليودوفورم. ما كان يَحُوم حول أنفه بسخاءٍ كان عطر لونكلو نوميرو سينك. كانت تُوجَد امرأةٌ واحدة فقط من بين معارفه تستخدم لونكلو نوميرو سينك. إنها مارتا هالارد.

فتح جرانت إحدى عينَيه واختلس النظر إليها. كان من الواضح أنها قد انحنَت لترى ما إذا كان نائمًا، وكانت الآن واقفةً في تردُّد — إن كان يمكن وصفُ أي شيء تفعله مارتا بالتردد — وانتباهها مُوجَّه إلى كومة الكتب الجاثمة فوق الطاولة، والتي لم يَكُن يَخفى مُطلَقًا على الناظر أنها لم تُقرأ بعد. كانت تَحمِل في إحدى ذراعَيها كتابَين جديدين، وفي الأُخرى باقةً كبيرة من زهور الليلك البيضاء. تساءل في نفسه عمَّا إذا كانت قد اختارت زهور الليلك البيضاء لأنها تُجسِّد رؤيتها للأزهار التي يَليق إهداؤها في الشتاء (كانت تُزيِّن غُرفة ملابسها في المسرح من شهر ديسمبر إلى مارس)، أو أنها اختارتها لأنها لن تُشتِّت الأنظار عن زِيِّها الأنيق بلونَيه الأسود والأبيض. كانت تَلبَس قُبَّعةً جديدة وعِقْدها اللؤلئيَّ المُعتاد؛ العِقد الذي كان جرانت يومًا ما السبب في استعادتها إياه. بدت بارعةَ الجمال، يعلوها بهاءٌ باريسي، وأبعد ما تكون عن روح المستشفيات.

قالت: «هل أيقظتُك يا آلان؟»

أجاب: «لا. لم أكُن نائمًا.»

قالت وهي تطرح الكتابَين إلى جانب أقرانهما المنبوذين: «يبدو أنني أُحضِر الماءَ إلى حارة السقَّائين.» وأردفَت: «آمُل أن تجد هذَين الكتابين أكثر إمتاعًا مما يبدو أنك وجدتَ في كومةِ الكتب هذه. ألم تُحاوِل أن تستسيغ رواية لافينيا ولو نزرًا قليلًا؟»

«لا أستطيع قراءة أي شيء.»

«أتشعر بألم؟»

«ألم مُبرِّح. لكن ليس في قدَمي ولا ظهري.»

«ماذا إذَن؟»

«إنه ما تدعوه قريبتي لورا «وخْز الملل».»

قالت: «يا لك من مِسكين يا آلان! وكم هي على حق لورا!» التقطت مجموعةً من أزهار النرجس من كوبٍ زُجاجي كان كبيرًا للغاية مُقارنةً بحجمها، وألقتها في الحوض مع واحدة من أفضل إيماءاتها، وشرَعَت في إبدالها بزهور الليلك. واستطردت: «يتوقَّع المرء أن يكون الملل شعورًا هائلًا يبتلع المرء، ولكنه ليس كذلك بالطبع. إنه شيءٌ مُزعِج صغير.»

«إنه شيءٌ تافِه صغير. شيءٌ تافِه مُزعِج. إنه يُشبِه التعرُّض للضرب بسياطٍ من نبات القراص.»

«لمَ لا تُجرِّب شيئًا جديدًا؟»

«أتقصدين الاستفادة من وقتي؟»

«أقصد الاهتمام بعقلك. هذا فضلًا عن رُوحك ومزاجك. لعلك تشرع في دراسة إحدى الفلسفات. يُمكِنك أن تُمارِس اليوجا أو شيئًا من هذا القبيل. لكني لا أظن أنَّ تأمُّل التفكير في الأمور المجردة هو أفضل ما يمكن أن تشغل به عقلًا تحليليًّا كعقلك.»

«فكَّرتُ بالفعل في العودة إلى دراسة الجبر. تَشغلني فكرة أنني لم أُوفِّ الجبر حقَّه أبدًا وقتما كنتُ طالبًا بالمدرسة. لكنني أجريتُ الكثير من الدراسات الهندسية على هذا السقف اللَّعين، حتى إنني سئمتُ الرياضيات قليلًا.»

«حسنًا، لا أظن أنه من المُجدي أن أقترح لعب أحاجي الصور المُقطعة على شخص في مِثل وضعك. ماذا عن الكلمات المُتقاطِعة؟ بوسعي أن أُحضِر لك كتاب كلمات مُتقاطعة، إن ودِدتَ ذلك.»

«لا سمح الله.»

«بإمكانك ابتكارها بالطبع. سمعتُ أن ابتكارها أكثر إمتاعًا من حلِّها.»

«ربما. لكن يَلزمُني قاموس يَزِن عِدَّة أرطال. إلى جانب ذلك، لطالما كرِهتُ البحث عن شيء في الكتب المَرجعية.»

«أتلعب الشِّطرنج؟ لا أذكُر ذلك. ما رأيُك في حلِّ ألغاز الشطرنج؟ الدور في اللعب على الأبيض ويموت الملك في ثلاث حركات، أو ما شابَه ذلك.»

«اهتمامي الوحيد بالشطرنج اهتمامٌ فني.»

«فني؟»

«القِطع المُنمَّقة رائعة الزخرفة، الحِصان والبيادق وما شابَه. بديعة للغاية.»

«رائع. يُمكِنني أن أُحضِر لك رُقعة شِطرنج لتلعب بها. حسنًا، لنستبعِدِ الشِّطرنج. يُمكِنك أن تُجريَ بعض البحث الأكاديمي. ذلك يُشبِه الرياضيات إلى حدٍّ ما. إيجاد حل لمُشكلة بلا حل.»

«تقصدين جريمةً ما؟ أحفظ جميع سجلَّات القضايا عن ظهر قلب. ولا يُوجَد المزيد مما يُمكِن أن يبذله أحد حيالَ أيٍّ منها. بالتأكيد ليس على يدِ أحدٍ مُمدَّد على ظهره.»

«لم أعنِ قضيةً من مِلفَّات سكوتلاند يارد. قصدتُ شيئًا أكثر — ماذا يُطلَق عليه؟ — شيئًا كلاسيكيًّا. أقصد شيئًا حيَّر العالَم على مدار عصور.»

«مِثل ماذا، مثلًا؟»

«رسائل الصندوق، مثلًا.»

«ليس ماري، ملكة اسكتلندا!»

«ولمَ لا؟» تساءلت مارتا التي كانت، مِثل كل المُمثِّلات، ترى ماري ستيوارت عبر طبقات من حُجبٍ بيضاء.

«قد تستهويني النساء السيئات، أمَّا السخيفات فلا أهتمُّ بهنَّ مُطلَقًا.»

ردَّت مارتا بصوتٍ خفيض غاضب: «سخيفات؟»

«سخيفات للغاية.»

«أوه، آلان! كيف تجرؤ على قول هذا؟»

«لو كانت قد ارتدَت نوعًا آخر من أغطية الرأس لَمَا كان قد التفت إليها أحد على الإطلاق. إن تلك القُبَّعة هي التي تُغْري الرجال.»

«أتظنُّ أنها لو كانت اختارت قَلَنسُوةً شمسية لأصبحت قصة حبها أقلَّ عظمة؟»

«لم تكن قصة حُبها عظيمة على الإطلاق، في أي قلنسوة ارتدَت.»

بدت على ملامح مارتا الصدمة بقدْرِ ما أتاح لها ما أمضَته من عُمرها على خشبة المسرح وساعة استغرقَتْها في وضع مساحيق التجميل بعناية.

«لمَ تظنُّ ذلك؟»

«كان طولُ ماري ستيوارت ست أقدام. أغلب النساء الفارعات الطول باردات المشاعر. اسألي أيَّ طبيب.»

وبينما كان يقول تلك الكلمات تساءل في نفسه عن السبب في أنه لم يَخطُر على باله، طَوالَ كل تلك السنوات منذ اختارته مارتا رفيقًا احتياطيًّا لها عندما دعَتْها الحاجة إلى رفيق، أن يتساءل عما إذا كانت نظرتها العقلانية الشهيرة نحو الرِّجال لها علاقة بطول قامتها. لكن مارتا لم تكن قد توصَّلَت إلى أي وجهٍ للتشابه بينها وبين ماري؛ إذ كان ذِهنها لا يزال مُنشغلًا بملكتها المُفضَّلة.

«على الأقل كانت شهيدة. يجب أن تُقرَّ لها بذلك.»

«شهيدة في سبيل ماذا؟»

«دينها.»

«بل كانت شهيدة الروماتيزم ليس إلا. لقد تزوَّجَت دارنلي دون إذْن البابا، ثم تزوَّجَت إيرل بوثويل وَفقًا للطقوس البروتستانتية.»

«بعد لحظة ستقول لي إنها لم تُسجَن!»

«مُشكلتكِ أنكِ تتخيَّلينها حبيسةَ غُرفة ضيِّقة في قِمة إحدى القِلاع، لا ترى العالَم إلا من وراء قُضبان النافذة، ولا يُؤنِس وَحشتَها سوى خادمةٍ عجوز وفيَّة تُشارِكها صلواتها. الحقيقة أنه كان لدَيها حاشية تتألَّف من سِتِّين خادمًا شخصيًّا. ولمَّا تقلَّص هذا العدد إلى ثلاثين خادمًا — ويا له من عددٍ قليل! — تذمَّرَت بشدة، وكادت تموت كمدًا عندما تقلَّص العدد إلى أمينَي سرٍّ وعِدَّة نساء وعامل تطريز وطاهٍ أو اثنَين. وكان على إليزابيث أن تتحمَّل تكاليف كل هذا من مالها الخاص. ظلَّت تتحمَّل التكاليف طيلة عشرين عامًا، وطيلة عشرين عامًا مضت ماري ستيوارت تَعرِض تاج اسكتلندا في جميع أنحاء أوروبا على أي شخص لديه استعداد لإشعال ثورة وإعادتها إلى العرش الذي فقدَته، أو إلى العرش الذي كانت إليزابيث تعتليه.»

تطلَّع إلى مارتا فوجدها تبتسم.

سألَته: «هل هو أفضل حالًا قليلًا الآن؟»

«ما هو؟»

«الوخز.»

ضَحِك جرانت.

«أجل. لقد نسيتُ أمره لدقيقةٍ كاملة. على الأقل ذلك إنجازٌ وحيد يُمكِن أن يُنسَب إلى ماري ستيوارت!»

«كيف تعرف كل هذه المعلومات عن ماري؟»

«كتبتُ مقالًا عنها في عامِي الدراسي الأخير.»

«وأستنتج أنك لم تُعجَب بها.»

«لم يُعجِبني ما اكتشفتُه عنها.»

«إذَن لا ترى أن حياتها كانت مأساوية.»

«بل مأساوية للغاية. لكن لا أقصد أنها كانت مأساوية على أي نحو يُصوِّرها به الاعتقاد الشائع بين الناس. تَكمُن مأساوية قِصتها في كونها وُلِدت ملكةً بعقلية ربَّة منزل ضيِّقة الأُفق. إن محاولة النَّيل من السيدة تيودور المُقيمة في الشارع المُجاوِر بلا ضرر والمُسلِّية؛ فربما تؤدي بكِ إلى إفراط لا داعيَ له في الشراء بالتقسيط، لكنها لن تؤثر على غيرك. لكن عندما تستخدمين الأسلوب ذاته مع الممالك، فالنتيجة كارثية. إذا كنتِ لا تَجدين غضاضة في إغراق بلد تَعْداده عشرة ملايين نسمة بالديون لكي تنالي من خَصمٍ ملَكي، فسوف ينتهي بكِ الحال إلى أن تصيري فاشلةً بلا صديق.» لَبِث جرانت يُفكر في الأمر بُرهة. وأردف: «كانت ستُحقِّق نجاحًا ساحقًا لو كانت مُعلِّمة في مدرسة للبنات.»

«أنت قاسي القلب!»

«كنت أقصد المعنى الطيِّب. كانت زميلاتها سيُحبِبنها، وكانت ستعشقها كل التلميذات. هذا ما قصدته بوصف حياتها بالمأساوية.»

«آه، حسنًا. يبدو أن رسائل الصندوق ليست خيارًا مُناسبًا. ما الخيارات الأخرى المُتاحة؟ الرجل ذو القناع الحديدي.»

«لا أتذكَّر من كان هذا الشخص، لكن لا يُمكِن أن يروق لي أي إنسان يَستتر خلف قطعة من الصفيح. لا يُمكِنني أن أهتمَّ بأي إنسان على الإطلاق دون أن أرى وجهه.»

«آه، أجل. نسيتُ شغفك بالوجوه. كان آل بورجيا يمتلكون وجوهًا رائعة. أظنُّ أنهم سيُقدِّمون لك لغزًا صغيرًا أو لُغزَين تُزجِّي بهما وقتك بالبحث عن حلول لهما. أو لَدَيك بيركن واربيك، بالطبع. انتحال الشخصية أمرٌ مُذهل دائمًا. أكان هو حقًّا أم لا؟ لعبةٌ مُمتعة. لا يمكن أبدًا ترجيح أي الاحتمالَين على الآخر على وجه اليقين. كلما دفعْتَه إلى أسفل ارتدَّ إلى أعلى، مثل واحدة من ألعاب اليويو للأطفال.»

انفتح الباب فإذا بوجهِ السيدة تينكر الودود يبدو من فُرجة الباب تعلوه قُبَّعتها العتيقة الأكثر دفئًا وحميمية. ظلَّت السيدة تينكر تَلبَس القُبعة ذاتها منذ بدأت ترعى جرانت، ولم يَكَد يتخيَّل شكلها في أي قُبعة أخرى. كان يعرف أنها تمتلك بالفعل قُبعةً أخرى؛ لأنها اقترنت بشيءٍ أشارت إليه بوصف «أزرقي». كان «أزرقها» شيئًا عابرًا، بالمَعنيَين المُباشِر والمجازي، ولم يظهر قطُّ في بيته رقم ١٩ تينبي كورت. كان ارتداؤه يُصاحبه وعيٌ شعائري، وكانت السيدة تينكر تستخدمه حال ارتدائه كمِعيار للحُكم على الوقائع. («هل استمتعتِ به يا تينك؟ كيف كان؟» «لا يستحقُّ ارتداء أزرقي.») ارتدَته في حفل زفاف الأميرة إليزابيث، وفي مناسباتٍ ملكيةٍ مُتنوعة أخرى، وظهرت لثانيتَين مُرتديةً إيَّاه في شريطٍ إخباري يُوثِّق قصَّ دوقة كِنت لشريطِ مشروعٍ ما، لكن بالنسبة إلى جرانت فقد كان مُجرَّد لازمة من لوازم السُّمعة؛ مِعيارًا للقيمة الاجتماعية لمناسبةٍ ما. كان الشيء يُصنَّف من ناحية كونه يستحقُّ ارتداء «أزرقي» أم لا.

بادرَت السيدة تينكر قائلةً: «سمعتُ أن لدَيك زائرة، وكنتُ أستعدُّ للمغادرة عندما خطر لي أن الصوت يبدو مألوفًا، فقلتُ لنفسي: «إنها الآنسة هالارد ولا أحد غيرها.» لذا دخلتُ.»

كانت تحمل عدة حقائب ورقية وحُزمةً صغيرة مُحكَمة من شقائق النعمان. ألقَت على مارتا تحية امرأة لامرأة، فقد كانت تُساعد المُمثِّلات في شبابها على اختيار أزيائهن؛ ولذا لم تُكنَّ تعظيمًا مُبالَغًا فيه لربَّات المسرح، ونظرَت شزرًا إلى التنسيق الجميل لفروع الليلك التي أينعَت بفضل رعاية مارتا. لم تلحظ مارتا هذه النظرة، لكنها رأت باقة زهور شقائق النعمان الصغيرة، فتسلَّمت دفَّة الموقف وكأنه شيءٌ تدرَّبَت عليه من قبل.

«لقد أهدرتُ نقودي الشحيحة على شراء الليلك الأبيض من أجلك، وها هي السيدة تينكر تُثير استيائي بإحضار زنابق الحقل.»

ردَّت السيدة تينكر بارتياب: «زنابق؟»

«تلك هي زنابق سليمان في كل مجده. تلك التي لا تتعب ولا تَغزِل.»

لم تكن السيدة تينكر تذهب إلى الكنيسة إلا لحفلات الزفاف والتعميد، لكنها كانت تنتمي إلى جيلٍ كان يُرسَل إلى مدارس الأحد. نظرت بشغفٍ جديد إلى حَفْنة المجد الصغيرة التي كان يضمُّها قُفَّازها الصوفي.

«حسنًا. لم أكُن أعرف ذلك على الإطلاق. تبدو هكذا أكثر منطقية، أليس كذلك؟ كنتُ أتخيَّلها دائمًا مِثل نباتات اللوف. حقول وحقول من اللوف. إنها باهظة الثمن، كما تعرفين، لكنها تبعث على الكآبة قليلًا. إذَن فقد كانت مُلوَّنة؟ حسنًا، لماذا لا يقولون ذلك؟ لماذا يُطلِقون عليها زنابق؟»

مضت الاثنتان في الحديث عن الترجمة، وكيف يمكن لترجمة الكتاب المُقدَّس أن تكون مُضلِّلة (قالت السيدة تينكر: «دائمًا ما تساءلتُ عن معنى «ارمِ خُبزك على وجه الماء».») وانقضت اللحظة المُحرِجة.

بينما كانتا لا تزالان مُنهمِكتَين في الحديث عن الكتاب المُقدَّس، أقبلت «القزمة» بزهريَّاتٍ إضافية. لاحَظ جرانت أنَّ الزهريَّات كانت مُصمَّمة بحيث تحمل زهور الليلك لا شقائق النعمان. كانت الزهريات لفتةَ تقدير لمارتا؛ مُقدِّمةً لمزيد من التواصل. لكن مارتا لم تكن تعبأ قطُّ بالنساء ما لم يكن لهنَّ نفعٌ فوري لها، أما أسلوبها مع السيدة تينكر فكان من باب اللَّباقة الاجتماعية ليس غير؛ استجابة شَرطية. إذَن فقد اختُزلَت «القزمة» من كونها طرفًا في علاقةٍ اجتماعية إلى مجرد أداة وظيفية. جمعَت أزهار النرجس المُلقاة في الحوض وأعادتها إلى إحدى الزهريَّات في خضوع. كان مشهد «القزمة» وهي خاضعةٌ أجملَ ما رأى جرانت وقرَّت به عينه منذ وقتٍ طويل.

بعد أن أنهت مارتا تنسيق زهور الليلك ووضعتها حيث يُمكِنه أن يراها، بادرَته قائلةً: «حسنًا، سأترك السيدة تينكر لتُطعِمك كل الأطايب التي تضمُّها هذه الحقائب الورقية. عزيزتي السيدة تينكر، أيُمكِن أن تحتويَ إحدى هذه الحقائب على أيٍّ من كعكاتك الرائعة؟»

انتشَت السيدة تينكر وتألَّق وجهها.

«أترغبين في كعكة أم اثنتَين؟ أتت طازجةً من الفرن منذ قليل، ما قولكِ؟»

«حسنًا، يجب عليَّ بالطبع بعد ذلك أن أُكفِّر عن تناولي إيَّاها؛ فهذه الكعكات الدسمة تُسبِّب السمنة، لكن أعطيني اثنتَين أضعهما في حقيبتي لأتناولهما مع الشاي في المسرح.»

اختارت كعكتَين بتأنٍّ مُصطنَع («أُحِبُّها بحوافَّ بُنِّية قليلًا») وألقَتهما في حقيبتها، وقالت: «حسنًا، وداعًا يا آلان. سوف أعودك بعد يوم أو يومَين وأبدأ في تعليمك حياكة جورب. أعتقد أنه ما من شيءٍ أكثر تهدئةً للأعصاب من الحياكة. أليس كذلك أيَّتها المُمرِّضة؟»

«أوه، أجل. أجل، بالفعل. كثير من مرضاي من الرجال يُمارِسون الحياكة. يجدونها وسيلةً لطيفة جدًّا لتَزجِية الوقت.»

بعثَت مارتا إليه قُبلةً من عند باب الغُرفة وغادرت، تتبعها «القزمة» في احترام.

قالت السيدة تينكر، وهي تشرع في فتح حقائبها الورقية: «سوف أندهش لو كانت هذه الوقِحة لا تعيش حياةً ماجنة.» لم تكن تُشير إلى مارتا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤