الفصل الحادي عشر

استغرق جرانت في الخطاب استغراقًا مُمتعًا حتى أحضرت «الأمازونية» له الشاي. وأخذ يُصغي إلى عصافير القرن العشرين على حافة نافذته، وتعجَّب من أنه يقرأ عبارات تشكَّلت في عقل رجل قبل أكثر من أربعمائة عام. كم كان سيبدو رائعًا لريتشارد أن يقرأ أحدٌ ما ذلك الخطاب الحميمي القصير عن زوجة شور، وأن يُفكِّر فيه بعد أربعمائة عام.

قالت «الأمازونية»، وهي تدخُل حاملةً قِطعتَي خبز وجبنًا وكعكة روك: «وصلك خطاب، هذا لطيف حقًّا.»

حوَّل جرانت عينَيه عن كعكة الروك الرائعة الشكل والقوام، ووجد أنَّ الخطاب كان من لورا.

ففتحه في سرور.

عزيزي آلان (قالت لورا)

لا شيء (أُكرِّر: لا شيء) يُدهشني بشأن التاريخ. في اسكتلندا تماثيل كبيرة لشهيدتَين أُغرِقتا بسبب إيمانهما، مع أنَّ الحقيقة أنهما لم تُغرَقا مُطلقًا، ولم تكونا شهيدتَين بأي حال من الأحوال. لقد أُدِينتا بالخيانة؛ بالعمل لصالح الطابور الخامس من أجل الغزو المُتوقَّع من هولندا على ما أظن. اتُّهِمتا بتهمةٍ مدنية محضة على أي حال. وأوقف مجلس شورى الملك تنفيذ العقوبة بحقهما بناءً على الالتماس المقدَّم منهما، وهذا الأمر بوقف التنفيذ موجود في سجلَّات المجلس حتى يومِنا هذا.

لم يُثبِّط هذا بالطبع من عزيمة جامعي الشهداء الاسكتلنديين، ويمكن أن تجد قصة نهايتهما الحزينة، والتي تشتمل على حوارٍ يفطر القلب، في كل خِزانة كتب في اسكتلندا. وكل مجموعة بها حوارٌ مختلف تمامًا عن المجموعات الأخرى. وشاهد قبر إحداهما في فِناء كنيسة ويجتاون مكتوبًا عليه:

قُتِلت لإيمانها بالمسيح العلي،
رأس كنيسته، وبلا جُرمٍ
عدا أنَّها لم تتبع الأسقفية،
ولم تَنبذ المشيخية؛
فقُيِّدت إلى وتدٍ في البحر،
وتألَّمَت من أجل يسوع المسيح.

بل إنهما من مواضيع الخطب المشيخية البديعة، بحسب ما أعلم؛ رغم أنني أتحدَّث في هذه النقطة من مُنطلَق ما سمعت. ويأتي السياح ويهزُّون رءوسهم حُزنًا أمام التماثيل بما عليها من كتاباتٍ منقوشة مؤثرة، ويُمضي الجميع وقتًا مُثمرًا.

كل هذا رغم أن الجامع الأصلي للمادة، الذي جاب منطقة ويجتاون بعد أربعين عامًا فقط من الاستشهاد المزعوم وفي أوج انتصار المشيخية، يشتكي من أن «الكثيرين يُنكرون حدوث هذا»، وأنه لم يتمكن من إيجاد أي شاهد عِيان على الإطلاق.

يَسرُّني كثيرًا أنك تتماثل للشفاء، وهذا مصدر ارتياحٍ كبير لنا جميعًا. وإن تدبَّرت أمرك جيدًا يمكن أن تتزامن إجازتك المرضية مع مجيء الربيع. منسوب الماء مُنخفِض للغاية في هذه الآونة، لكن بحلول الوقت الذي ستتماثل فيه للشفاء تمامًا، ينبغي أن يكون عُمق المياه سارًّا لك أنت والأسماك.

مع حُبِّنا جميعًا،
لورا.

ملحوظة: قد يبدو هذا غريبًا، لكن حين تُخبر أحدًا بالوقائع الحقيقية لقصةٍ وهمية ينقم عليك وليس على من قصَّها. إن الناس لا يريدون أن يتكدَّر صفو أفكارهم. فهذا يُثير في نفوسهم شيئًا من عدم الارتياح المُبهَم في رأيي، وهم يمقتون هذا. لذا ينبذونه ويرفضون أن يُفكِّروا فيه. إن كانوا لا يُبالون وحسب فهذا طبيعي ومفهوم. لكن الأمر أقوى من ذلك، وأكثر تأكيدًا بكثير. إن الناس ينزعجون من ذلك.

وهذا أمر في غاية الغرابة حقًّا.

قال جرانت في نفسه، «المزيد» من الحكايات المختلَقة من قبيل حكاية تونيباندي.

بدأ يتعجَّب قائلًا لنفسه كم كان كتاب التاريخ المدرسي، الذي كان يُمثِّل له حتى الآن تاريخ إنجلترا، يحوي من الحكايات المختلَقة من قبيل حكاية تونيباندي.

بعد أن صار الآن مطَّلعًا على بعض الحقائق، عاد لقراءة كتاب مور المعظم. وذلك ليرى كيف ستبدو له الآن الفقرات ذات الصِّلة.

إن كانت تلك الفقرات، حين قرأها جرانت في ضوء ذهنه الناقد، قد بدت له وشايةً مُثيرة للفضول، وعبثية في بعض المواضع، فقد بدت له الآن بغيضةً وشائنة. كان جرانت يشعر الآن بما اعتاد بات ابن لورا الصغير أن يُطلِق عليه «البغض». كما كان مُتحيرًا أيضًا.

هذه كانت رواية مورتون للأحداث. مورتون الشاهد، والضالع في المكيدة. لا بد أن مورتون كان على علمٍ دقيق بما حدث ما بين بداية شهر يونيو ونهايته من ذلك العام. ومع ذلك لم يرِد ذِكر الليدي إليانور باتلر، ولا إشارة إلى قانون اللقب الملكي. طبقًا لكلام مورتون، كانت حجة ريتشارد أن إدوارد كان في السابق مُتزوِّجًا من خليلته إليزابيث لوسي. لكن مورتون أشار إلى أن إليزابيث لوسي نفت تمامًا أنها كانت مُتزوِّجة من الملك.

فلماذا كذب مورتون الكذبة وعاد ليَنفيَها؟

ما السبب وراء استبدال إليانور باتلر بإليزابيث لوسي؟

لأنه بإمكانه أن ينفيَ بحقٍّ أن لوسي تزوَّجَت من الملك، لكنه لم يستطع فِعل ذلك في حالة إليانور باتلر؟

من المؤكَّد أن الافتراض كان أنه يُهمُّ كثيرًا شخصًا مجهولًا أن يبدوَ ادِّعاء ريتشارد بعدم شرعية الأطفال واهيًا.

وبما أن مورتون كان يكتب، بخطِّ يد مور المُعظم، لصالح هنري السابع، فمن المُحتمل أن هذا الشخص المجهول هو هنري السابع نفسه. هنري السابع الذي كان قد أتلف وثيقة قانون اللقب الملكي ومنع أي أحد من الاحتفاظ بنسخة منها.

تذكَّر جرانت شيئًا كان كارادين قد قاله.

لقد تسبَّب هنري في إلغاء القانون «من دون أن يُقرأ».

كان من المُهم جدًّا لهنري ألا تتبادر إلى الأذهان محتويات ذلك القانون، حتى إنه تكفَّل بصورةٍ خاصة بإتلافه غير المُعلَن.

فلماذا كان هذا من الأهمية بمكان لهنري السابع؟

لماذا كان من المهم ﻟ «هنري» تحديد حقوق ريتشارد؟ لم تكن المسألة أنه كان بوسعه أن يقول: «حُجة ريتشارد مكذوبة؛ ولذا فإن حُجتي مقبولة.» أيًّا كان ادِّعاء هنري تيودور وزعمه الضعيف الهزيل فقد كان مصدره آل لانكستر، ولم يتدخَّل ورثة يورك في المسألة.

إذَن لماذا كان من الأهمية العُظمى لهنري أن تُنسى محتويات قانون اللقب الملكي؟

ما السبب في إخفاء إليانور باتلر، واستبدالها بسيدة لم يسبق لأحدٍ أن ألمح إلى أنها كانت مُتزوجة من الملك؟

استغرق جرانت بسعادة في التفكير في هذه المشكلة حتى قبل وقت تناول العشاء بالضبط، حين أتى الحارس ومعه رسالةٌ قصيرة له. قال الحارس، وهو يُسلمه ورقةً مطوية: «يقولون في المدخل الأمامي إن صديقك الأمريكي هذا ترك لك هذه.»

فقال جرانت: «شكرًا لك. ماذا تعرف عن ريتشارد الثالث؟»

«هل تُوجَد جائزة؟»

«لأجل ماذا؟»

«لأجل الاختبار.»

«لا، إنما الأمر مجرد إرضاء للفضول الفكري. ماذا تعرف عن ريتشارد الثالث؟»

«كان أوَّل من ارتكب عِدَّة جرائم قتل.»

«عدة جرائم؟ كنت أظنُّ أنه قتل ابنَي أخيه فحسب؟»

«لا، أوه، لا. لا أعرف الكثير عن التاريخ، لكني أعرف هذا. لقد قتل أخاه، وابن عمومته، والملك العجوز المسكين في البرج، ثم اختتم بقتل ابنَي أخيه الصغيرَين. إنه قاتل بالجملة.»

أخذ جرانت يُفكِّر في ذلك.

«إذا ما قلت لك إنه لم يقتل أحدًا قط، ماذا كنت لتقول؟»

«سأقول إن من حقك تمامًا أن تقول رأيك. فبعض الناس يعتقدون أن الأرض مُسطَّحة. وبعض الناس يعتقدون أن نهاية العالم ستحلُّ عام ٢٠٠٠. وبعض الناس يعتقدون أن الحياة بدأت قبل أقلَّ من خمسة آلاف عام. ستسمع أشياء أطرف من هذا بكثير عند قوس ماربل آرش في يوم الأحد.»

«أمَا كنت لتتدبَّر الفكرة على أنها مِثالٌ استثنائي؟»

«أجدها تبعث على التفكير فعلًا، لكنها ليست ممَّا يُمكنك أن تُطلِق عليه أمرًا معقولًا، إن جاز التعبير. لكن لا تدعني أعترض طريقك. حاوِل أن تطرحها على نطاقٍ أوسع. اذهب إلى قوس ماربل آرش يوم الأحد واعرضها على الناس هناك، وأراهنك أنك ستجد الكثير من المُناصِرين. بل ربما تبدأ حركة مُناصِرة للفكرة.»

ثم رفع الرجل يدَه في بتحيةٍ غريبة، وابتعد وهو يُهمهِم في نفسه؛ آمنًا منيعًا.

فكَّر جرانت في نفسه قائلًا: «فليُساعدني الرب، ليس ذلك ببعيد. إن تعمَّقتَ أكثر في هذه المسألة، فسأجد نفسي واقفًا على منبرٍ مُؤقَّت في قوس ماربل آرش.»

فتح رسالة كارادين وقرأ: «قلتَ إنك تُريد أن تعرف إن كان الورثة الآخرون للعرش قد نجَوا من ريتشارد. أقصد كما حدثَ مع الصبيَّين. نسيتُ أن أُخبرك: أعِدَّ لي بهم قائمةً حتى أتمكَّن من البحث عنهم. أظنُّ أن هذه القائمة ستكون ذات أهمية.»

حسنًا، حتى وإن مضى العالَم كله في طريقه مُهمهِمًا، بسرعة ولا مُبالاة، فعلى الأقل كان جرانت يحظى بالأمريكي الشابِّ إلى جواره.

طرح جرانت كتاب مور المُعظَّم جانبًا، بما فيه من روايات تُشبِه ما في صحف الأحد من مشاهد هستيرية واتهاماتٍ شائنة، ومدَّ يده إلى رواية الطالب الرصين للتاريخ حتى يتسنَّى له فهرسة المنافسين المُحتمَلين لريتشارد الثالث على ولاية عرش إنجلترا.

وبينما كان يضع كتاب مور ومورتون من يده، تذكَّر شيئًا.

ذلك المشهد الهستيري أثناء انعقاد المجلس في البرج الذي أورده مور، تلك الفورة المسعورة من جانب ريتشارد على الشعوذة التي كانت قد شلَّت ذراعه، كان ذلك في وجه جين شور.

كان التباين صاعقًا ومُدهشًا بين المشهد المَروي، الذي لا طائل من ورائه والمُنفِّر حتى للقارئ غير المُهتم، والطبيعة اللطيفة المُتحرِّرة، والتي تكاد تقترب من كونها عفوية، للخطاب الذي كان ريتشارد قد كتبه بالفعل عنها.

فكَّر جرانت في نفسه قائلًا مرةً أُخرى: «فليُساعدني الرب، إن كان عليَّ أن أختار بين رجلٍ كتب تلك الرواية ورجلٍ كتب ذلك الخطاب، فسأنحاز إلى جانب الرجل الذي كتب الخطاب، أيًّا كان ما فعله كلٌّ منهما إلى جانب ذلك.

جعله تفكيره في مورتون يؤجِّل إعداد قائمة الورثة من آل يورك إلى بعد أن يكتشف ما حلَّ في نهاية المطاف بجون مورتون. بدا لجرانت أن جون مورتون، بعد أن استفاد من رفاهية كونه ضيفًا في قصر بكنجهام لتنظيم جهود مشتركة بين آل وودفيل ولانكستر (والتي سيُحضِر خلالها هنري تيودور السفن والقوات من فرنسا، وسيلتقيه دورست وبقية آل وودفيل مع الناقِمين ممَّن يُمكنهم إقناعهم باتباعهم في إنجلترا)، هرب إلى أراضي صيده القديمة في منطقة إيلي، ومن هناك إلى أوروبا. ولم يعُد حتى جاء في أعقاب هنري الذي كان قد انتصر في معركتَي بوسوورث والتاج الملكي، وفي أثناء ذلك كان جون مورتون نفسه في طريقه إلى كانتربري، وقد حاز قبعة الكاردينال وخلوده بصفته مورتون صاحب «شوكة مورتون». وهي الشيء الوحيد تقريبًا الذي كان يتذكَّره أي تلميذ في مدرسة عن سيده هنري السابع.

طوالَ ما تبقَّى من المساء أخذ جرانت بسعادةٍ يتصفح كتب التاريخ على مهَل وعلى غير هُدًى، يجمع أسماء ورثة العرش.

كانوا كثيرين. أولاد إدوارد الخمسة، وابن جورج وابنته. وإن استُبعِد هؤلاء، الأولون لكونهم غير شرعيِّين، والأخيران لعدم الأهلية، كان يُوجَد شخص آخَر مُحتمل؛ وهو ابن أخته الكبرى إليزابيث. كانت إليزابيث هي دوقة سوفولك، وكان ابنها هو جون دي لا بول، إيرل لينكولن.

كان يُوجَد أيضًا في العائلة ولدٌ لم يتوقَّع جرانت وجوده. بدا أن ذلك الطفل الرقيق في ميديلهام لم يكن هو ابن ريتشارد الوحيد. إذ كان له ابنٌ آخر من علاقةٍ عاطفية؛ ولد يُدعى جون. جون من جلوستر. ولدٌ لم يكن له أهمية من حيث المنزلة أو المكانة، لكن وجوده كان مُعترَفًا به وكان يعيش في المنزل. كان هذا عصرًا يُقبَل فيه ابن السِّفاح من دون الشعور بالأسى. لا شكَّ في أن «الغازيَ» جعل ذلك الأمر دارجًا. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا روَّج الغُزاة لانعدام الضَّرَر من هذا الأمر. ربما من باب التعويض.

أعدَّ جرانت لنفسه مُذكِّرة مُساعِدة.

إدوارد:
إدوارد، أمير ويلز ريتشارد، دوق يورك إليزابيث
سيسيلي
آن
كاثرين
بريدجيت
إليزابيث:
جون دي لا بول، إيرل لينكولن
جورج:
إدوارد، إيرل ورويك
مارجريت، كونتيسة سالزبوري
ريتشارد:
جون من جلوستر

ثم نسخَها من أجل أن يستخدمها كارادين الشاب، وكان في أثناء ذلك يتساءل كيف تسنَّى لأي أحد، وريتشارد بالأخص، أن يتصور أن التخلُّص من ابنَي إدوارد سيُبقيه آمنًا من التمرد عليه. كان المكان، كما يمكن أن يُطلِق عليه كارادين الشاب، يعجُّ بالورثة. يعجُّ بِبُؤر (أم هي مراكز؟) الاستياء.

وللمرة الأولى لم يتجلَّ له فحسب انعدامُ جدوى قتل الصبيَّين، وإنما أيضًا أنها فكرة «حمقاء».

وإن كانت تُوجَد صفةٌ واحدة لم يكن من الممكن أن يتَّصف بها ريتشارد جلوستر، فهي من دون شكٍّ صفة الحُمق.

ثم بحث في كتاب أوليفانت ليرى ما يقوله عن ذلك الصدع الجلي في القصة.

قال أوليفانت: «من الغريب أنه لم يبدُ أن ريتشارد نشر أي خبر عن وفاة الصبيَّين.»

كان الأمر يعدو كونه غريبًا، كان غير معقول.

لو أن ريتشارد أراد اغتيال ابنَي أخيه فلا يُوجَد أدنى شكٍّ إذَن في أنه كان سيفعل ذلك باحترافية. كان يمكن أن يموتا بالحُمَّى، وكان جثماناهما سيُعرَضان أمام أعيُن العامة كما كان من المُعتاد أن يُفعَل مع الجثامين الملكية؛ حتى يعرف الجميع أنهما فارَقا الحياة.

لا يمكن لأحدٍ أن يقول إن شخصًا بعينه غير قادر على القتل — بعد سنواتٍ طويلة قضاها جرانت في حي إمبانكمنت أصبح يعرف ذلك يقينًا — لكن يمكن للمرء أن يكون واثقًا بأقصى درجات اليقين أن شخصًا بعينه لا يمكن أن يكون أحمق.

لكن أوليفانت لم يكن لدَيه شكوك فيما يتعلق بالجريمة. وطبقًا لما أورده أوليفانت فإن ريتشارد كان مُتوحِّشًا. ربما حين يُغطِّي مُؤرِّخ نطاقًا كبيرًا بحجم العصور الوسطى وعصر النهضة لا يمتلك من الوقت ما يكفي ليتوقَّف ويُحلل الأحداث بالتفصيل. قَبِل أوليفانت كلام مور المُعظَّم، حتى حين كان يتوقَّف على عَجل ليتساءل بشأنِ أمرٍ غريب هنا وهناك. لم يُلاحِظ أن تلك الأمور الغريبة كانت تُقوِّض أُسُس نظريته.

مُمسكًا بكتاب أوليفانت في يدِه، تابَع جرانت القراءة. تابَع القراءة عن التقدُّم بانتصارٍ عبر إنجلترا بعد التتويج. أوكسفورد، جلوستر، ورسستر، ورويك. لم يُسجَّل صوتُ مُنشقٍّ واحد في تلك الجولة. لم يجد سوى جوقة من المُبارِكين الشاكرين. كان يسود ابتهاج بأن حكومةً صالحة ستكون هي الحكومة التي ستستمرُّ في الحُكم لعُمرٍ مديدٍ قادم. وبأنه في نهاية المطاف، لم تؤدِّ بهم وفاة إدوارد إلى سنوات من التفكك وصراعٍ مدَني جديد على شخص ابنه.

ومع ذلك حدث، أثناء هذا النصر، وهذه التزكية المُجمَع عليها، وهذا التهليل العام، أنْ بعث ريتشارد (طِبقًا لما ذكَره أوليفانت المُتأثِّر بمور المعظم) بتيريل عائدًا إلى لندن ليقتل الصبيَّين اللذَين كانا يستذكران دروسهما في البرج. بين يومَي السابع والخامس عشر من شهر يوليو. في ورويك. في أوج شعوره بالأمان، في قلب مَعقل آل يورك على الحدود مع ويلز، دبَّر لقتل صبيَّين فاقِدَين للشرعية.

كانت هذه قصةً مُستبعَدة للغاية.

بدأ جرانت يتساءل إن كان المُؤرِّخون يتمتَّعون بعقولٍ لا تزيد في قُدرتها على حُسن التقدير عن تلك «العقول الفذَّة» التي كان قد التقاها، والتي تتَّسم بالسذاجة البالغة.

لا بد أن يكتشف ومن دون تأخير، إن كان تيريل قد نفَّذ تلك المَهمَّة في شهر يوليو من عام ١٤٨٥، فلماذا لم يتعرض للمُساءلة إلا بعد مرور عشرين عامًا. أين كان في تلك الأثناء؟

لكن صيف ريتشارد كان مِثل الأول من أبريل. يعجُّ بالوعود التي لم يتحقق منها أي شيء. في الخريف كان لزامًا عليه أن يُواجه غزو آل وودفيل ولانكستر المشترك، الذي كان مورتون قد أعدَّه قبل أن يُغادر هو نفسه هذه الشُّطآن. شعرَ مورتون بالفخر من جانب آل لانكستر في هذه المسألة؛ إذ أتَوا ومعهم أسطولٌ من السفن الفرنسية وجيش فرنسي. لكن جانب آل وودفيل لم يتمكَّن من أن يُقدِّم إلا تجمُّعات صغيرة ومُتفرقة في مراكز متباعدة؛ جيلدفورد، وسالزبوري، وميدستون، ونيوبيري، وإكسيتر، وبريكون. لم يرغب الإنجليز في المشاركة مع هنري تيودور الذي لم يكونوا يعرفونه، ولا مع آل وودفيل الذين كانوا يعرفونهم حق المعرفة. حتى الطقس الإنجليزي ما كان يُريد أن يُساندهم. وانجرفت آمال دورست في رؤية أخته غير الشقيقة إليزابيث ملكةً على إنجلترا بصفتها زوجة هنري تيودور في غمار فيضان نهر سيفرن. حاوَل هنري الرُّسوَّ جهة الغرب، لكنه وجد ديفون وكورنوول مُستاءَين من الفكرة. لذلك أبحر مُبتعِدًا باتجاه فرنسا مرةً أخرى، في انتظار يوم يكون حظُّه فيه مُواتيًا أكثر. وذهب دورست ليلحق بالحشد المُتزايد من المَنفيِّين من آل وودفيل الذين يتحلَّقون حول البلاط الملكي الفرنسي.

وهكذا انجرفت خُطة مورتون مع الأمطار الخريفية وعدم الاكتراث الإنجليزي، فأمكن لريتشارد أن ينعم بالسلام قليلًا، لكن مع قدوم الربيع وَطِئهم حزنٌ لم يتمكن أي شيء من مَحوِه. وهو موت ابنه.

قال المؤرِّخ: «قيل إن الملك أبدى أمارات حزن ممزوج باليأس؛ لم يكن وحشًا كاسرًا لدرجة أن يخلوَ من مشاعر الأُبوَّة.»

ولا من مشاعر كونه زوجًا كما يبدو. حيث أورد المؤرِّخون أن علامات المُعاناة نفسها بدت عليه بعد أقلَّ من عام، حين ماتت آن.

وبعد ذلك لم يكن أمامه سوى ترقُّبِ تجدُّد محاولات الغزو الذي كانت قد فَشِلت في السابق، وإبقاء إنجلترا في حالة دفاع، والقلق الذي تسبَّب فيه له استنزاف الخِزانة.

كان ريتشارد قد فعل أفضل ما بوسعه. فأعطى اسمه لبرلمانٍ نموذجي. وعقد سلامًا طال انتظاره مع اسكتلندا، ورتَّب لزواج بين ابنة أخيه وابن جيمس الثالث. وحاوَل جاهدًا أن يعقد سلامًا مع فرنسا، لكنه لم يُفلِح في ذلك. في البلاط الملكي الفرنسي كان هنري تيودور موجودًا، وهناك كان هنري تيودور هو الفتى المُدلَّل والمُفضَّل. كانت مسألةَ وقت فقط قبل أن يرسوَ هنري في إنجلترا، لكن هذه المرة بمُسانَدةٍ أفضل.

تذكَّر جرانت فجأةً الليدي ستانلي، أُم هنري الانفعالية المُنتمية لآل لانكستر. تُرى ما الدور الذي لعبته الليدي ستانلي في الغزو الذي أفسد صيف ريتشارد؟

وراح يبحث في الكتاب المطبوع حتى وجد ضالَّته.

كانت الليدي ستانلي قد وُجِدت مُذنِبة بتهمة التخابر مع ابنها والخيانة.

لكن تبيَّن مرةً أخرى أن ريتشارد كان مُتساهلًا جدًّا فيما يخصُّ مصلحته. إذ صُودِرت أملاك الليدي ستانلي، ولكن سُلِّمت لزوجها. وكذلك سُلِّمت إليه الليدي ستانلي نفسها. وذلك بغرض التحفُّظ عليها. لكن الطريف في الأمر أنه كان من شِبه المؤكَّد أن ستانلي نفسه كان على عِلم بالغزو مثل زوجته.

حقًّا، لم يكن الوحش يتصرَّف وفقًا لطبيعته.

بينما كان جرانت يستسلم للنوم قال له صوتٌ في عقله: «إن كان الصبيَّان قد قُتِلا في شهر يوليو، وكان الغزو المُشترك من آل وودفيل وآل لانكستر قد وقع في شهر أكتوبر، فلماذا لم يستخدموا مسألة مَقتل الصبيَّين وسيلة استنفار؟»

بالطبع كان قد خُطِّط للغزو قبل أن يكون هناك أي شيء عن قتل الصبيَّين؛ كان غزوًا كاملًا يشتمل على خمس عشرة سفينة وخمسة آلاف مُرتزق، ولا بد أن التحضير استغرق وقتًا طويلًا. لكن بحلول وقت الغزو لا بد أن الشائعات عن الفعل الشائن الذي ارتكبه ريتشارد كانت قد انتشرت إن كان ثَمة شائعات من الأساس. فلماذا لم يُذيعوا خبر جريمته في إنجلترا كلها، حتى يأتيَهم الناس وينضمُّوا إلى مَسعاهم ذُعرًا من شناعةِ ما ارتكبه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤