الفصل الرابع عشر

ما حدث أن جرانت لم يكن قد قام من مَرقده حين جاء كارادين، لكنه كان جالسًا مُعتدلًا.

فقال لبرينت: «لا يُمكنك أن تتخيَّل كم يبدو هذا الجدار المُقابل خلَّابًا، بعد السقف. وكم يبدو العالم صغيرًا وغريبًا وهو في وضعيته الصحيحة.»

تأثَّر جرانت بابتهاج كارادين الواضح في هذه الأثناء، ومرَّ وقتٌ قبل أن يَشرعا في العمل. كان جرانت هو من توجَّب أن يقول: «حسنٌ، كيف أبلى ورثة آل يورك في ظلِّ حكم هنري السابع؟»

قال الشابُّ وهو يُخرِج رِزمة ملاحظاته المعتادة ويسحب كرسيًّا بعَقفِ إصبع قدَمه اليُمنى في عارضة الكرسي: «أوه، أجل.». ثم جلس على الكرسي. وقال: «من أين أبدأ؟»

«نحن نعرف ما حل بإليزابيث. لقد تزوَّجها هنري، وكانت ملكة إنجلترا حتى ماتت فأقدمَ على محاولة أن يتزوَّج جوانا المجنونة ملكة إسبانيا.»

«أجل. تزوَّجت إليزابيث من هنري في ربيع عام ١٤٨٦؛ في شهر يناير بالأحرى، بعد خمسة أشهُر من معركة بوسوورث، وماتت في ربيع عام ١٥٠٣.»

«سبعة عشر عامًا. مسكينةٌ إليزابيث. لا بدَّ أن تلك السنوات مرَّت كأنها سبعون عامًا مع هنري. إذ كان الرجل ما يُشار إليه تخفيفًا بأنه «عديم القيمة». لنُكمِل مع بقية أفراد الأُسرة. أقصد أطفال إدوارد. مصير الطفلَين مجهول. ماذا حلَّ بسيسيلي؟»

«كانت مُتزوجة من عمِّه المُسنِّ اللورد ويليس، وأُرسلت لتعيش في لينكولنشاير. أمَّا آن وكاثرين، اللتان كانتا طفلتَين، فقد أُعدَّتا لتتزوَّجا من اثنَين من أفاضل آل لانكستر حين كانتا كبيرتَين بما يكفي. بريدجيت، الصغرى، أصبحت راهبة في دارتفورد.»

«أمورٌ مألوفة جدًّا، حتى الآن. من يأتي بعد ذلك؟ ابن جورج.»

«أجل. ورويك الصغير. سُجِن في البرج مدى الحياة، وأُعدِم بزعم تخطيطه للهرب.»

«هكذا إذَن. ماذا عن ابنة جورج؟ مارجريت؟»

«أصبحت كونتيسة سالزبوري. وكان إعدامها على يد هنري الثامن بتهمةٍ مُلفَّقة يُعدُّ مثالًا كلاسيكيًّا على القتل القضائي.»

«وماذا عن ابن إليزابيث؟ الوريث البديل؟»

«جون دي لا بول. ذهب ليعيش مع عمَّته في بورجندي حتى …»

«ليعيش مع مارجريت، أخت ريتشارد.»

«أجل. مات في انتفاضة سيمنِل. لكن كان له أخٌ أصغر لم تضعه في تلك القائمة. وقد أُعدِم على يد هنري الثامن. كان قد استسلم لهنري السابع في ظل وثيقة ضمان عدم تعرُّض؛ لذا أظنُّ أن هنري فكَّر أن خَرْقها قد يُفسد حظَّه. على أي حال كان قد أوشك أن يستنفد كلَّ رصيده من الحظ. أما هنري الثامن فلم يُجازف. ولم يتوقَّف عند دي لا بول. كان يُوجَد أربعةٌ آخرون أغفَلتَهم من هذه القائمة. إكستر، وسوري، وبكنجهام، ومونتاج. تخلَّص الرجل من هؤلاء جميعًا.»

«وماذا عن ابن ريتشارد؟ جون؟ ابن السِّفاح.»

«منحَه هنري السابع معاشًا قدرُه عشرون جنيهًا في العام، لكنه كان أول من قُتِل من هؤلاء.»

«بأي تُهمة؟»

«بتُهمة أنه كان مَوضع شك لتَلقِّيه دعوةً للذهاب إلى أيرلندا.»

«أنت تمزح.»

«لا أمزح. كانت أيرلندا هي محلَّ تركيز المُوالِين للتمرُّد. وكانت أُسرة يورك شهيرةً جدًّا في أيرلندا، وحصوله على دعوة من تلك الجهة كان بمثابة الحصول على شهادة وفاة في نظر هنري. رغم أنني لا أستطيع أن أرى سببًا لانزعاج هنري من جون الشاب. إذ كان «شابًّا مُتِّسمًا بالحيوية وحسَن التصرُّف» طبقًا لما ذُكِر في كتاب «العهود» بالمناسبة.»

قال جرانت بنبرةٍ لاذِعة للغاية: «كانت حُجَّته في المطالبة بالعرش أفضل من حجة هنري. إذ كان هو الابن غير الشرعي الوحيد للملك. بينما كان هنري هو حفيدَ ابنٍ غير شرعي لأصغر أبناء الملك.»

ساد الصمت بُرهة.

ثم قال كارادين قاطعًا الصمت: «أجل.»

«أجل على ماذا؟»

«على ما تظن.»

«يبدو الأمر كذلك، حقًّا. فهما الوحيدان اللذان يغيبان عن القائمة.»

ساد الصمت مرةً أخرى.

ثم قال جرانت بعد قليل: «كانت جرائم القتل كلها قضائية. قتل تحت مِظلَّة القانون. لكن لا يمكن للمرء أن يُطبِّق عقوبة الإعدام بحقِّ طفلَين صغيرَين.»

«لا، لا يمكن له ذلك»، قال كارادين مُوافقًا إيَّاه، وتابَع مُراقبته للعصافير. «كان من المُحتَّم أن يتمَّ الأمر بطريقةٍ أخرى. ففي نهاية المطاف، كان الصبيَّان هما المُهمَّين.»

«كانا هما الشخصيتَين الرئيسيتَين.»

«كيف نبدأ إذَن؟»

«كما فعلنا في حالة خلافة ريتشارد على العرش. اكتشِف أين كان الجميع في الشهور الأولى من حُكم هنري وماذا كانوا يفعلون. لنقل في السنة الأولى من حُكمه. سيكون ثَمة كسر للنمط عند أحدهم، تمامًا كما حدث أثناء تحضيرات تتويج الصبي.»

«حسنًا.»

«هل توصَّلت إلى أي شيء عن تيريل؟ من كان؟»

«أجل. لم يكن كما تصوَّرته مُطلقًا. كنت قد تصوَّرت أنه عالة من نوعٍ ما؛ ألم تفعل؟»

«بلى، أظنُّني تصوَّرته كذلك. ألم يكن عالة؟»

«لا. كان شخصًا ذا حيثية. اسمه السير جيمس تيريل من جيبينج. وكان عضوًا في العديد من … اللجان، كما أظن أنكم تُطلِقون عليها، أثناء حكم إدوارد الرابع. وقد تقلَّد لقب قائد فُرسان، أيًّا كان ما يعنيه ذلك، أثناء حصار بيرويك. وقد أبلى بلاءً حسنًا في ظل حُكم ريتشارد، لكنني لا أستطيع أن أجد دليلًا على أنه حضر معركة بوسووث. إذ أتى الكثيرون مُتأخِّرين للغاية إلى المعركة — أكنت تعرف ذلك؟ — لذا لا أظن أن هذا يعني شيئًا خاصًّا. على كل حال، لم يكن من نوعية الخادم الخنوع كما تصوَّرتُه دومًا.»

«هذا مُثير للاهتمام. كيف أبلى في ظلِّ حُكم هنري السابع؟»

«في الواقع، هذا هو الأمر المُثير للاهتمام. إذ يبدو أنه ازدهر كثيرًا في ظل حكم هنري؛ كونه كان خادمًا أمينًا وناجحًا لآل يورك. عيَّنه هنري آمرًا على حصن جوينيس. ثم أُرسِل سفيرًا لروما. وكان من بين المُفوِّضين للتفاوض بشأن معاهدة إتابلس. ومنحَه هنري عوائد بعض الأراضي في ويلز مدى الحياة، لكنه حمله على التنازل عنها مُقابل عوائد أراضي بلدية جوينيس التي كانت بنفس القيمة، لا يُمكنني أن أفهم سبب ذلك.»

فقال جرانت: «أنا أفهم السبب.»

«حقًّا؟»

«ألم تُلاحِظ أن كل مَراتب الشرف والسلطات التي مُنِحت له كانت جميعها خارج إنجلترا؟ حتى مكافأته المُتمثِّلة في عوائد الأرض.»

«أجل، هكذا هي فعلًا. ماذا تفهم من ذلك إذَن؟»

«لا شيء في الوقت الراهن. ربما أنه وجد جوينيس أفضل بسبب الْتِهاب الشُّعَب الهوائية الذي كان مُصابًا به. يمكن للمرء أن يتعمَّق أكثر من اللازم في القراءات فيما يتعلق بالمعاملات التاريخية. إنها، مِثل مسرحيات شكسبير، تفتح الباب أمام عددٍ لا حصر له تقريبًا من التفسيرات والتأويلات. كم دامت فترة الهناء هذه بينه وبين هنري السابع؟»

«أوه، فترة طويلة إلى حدٍّ كبير. كان كل شيء على خير ما يُرام حتى عام ١٥٠٢.»

«وما الذي حدث في عام ١٥٠٢؟»

«تناهى إلى سمع هنري أنه كان يستعدُّ لمساعدة أحد أفراد آل يورك في البرج على الهرب إلى ألمانيا. فأرسل حامية كاليه على بَكْرة أبيها لمُحاصَرة حصن جوينيس. لكن ذلك لم يكن سريعًا بما يكفي من وجهة نظره، فأرسل القيِّم على الخاتم الملكي؛ أتعرِف ما يعنيه هذا اللقب؟»

فأومأ جرانت إيجابًا.

«أرسل القيِّم على الخاتم الملكي — يا لها من تسمياتٍ تلك التي اخترعتموها أيها الإنجليز من أجل مسئوليكم الرسميين — ليَعرض عليه ضمان عدم التعرض إن أتى على متن مَركب إلى كاليه وتشاور مع وزير الخِزانة.»

«دعني أَحزِر.»

«لا داعي، أليس كذلك؟ انتهى به الأمر في زنزانة في البرج. وقُطِع رأسه «على عجل ودون محاكمة» يوم الإثنين المُوافق السادس من شهر مايو لعام ١٥٠٣.»

«وماذا عن اعترافه؟»

«لم يكن يُوجَد اعتراف.»

«ماذا؟!»

«لا تَنظُر إليَّ هكذا. أنا لست بمسئول.»

«لكنني كنت أظنُّ أنه اعترف بقتله للصبيَّين.»

«أجل، وذلك طبقًا لرواياتٍ عديدة. لكنها روايات عن اعتراف، وليست … ليست نصًّا له، إن كنت تفهم ما أرمي إليه.»

«أتعنى أن هنري لم يَنشُر اعترافًا؟»

«لا. روى مُؤرِّخه الأجير بوليدور فيرجيل سردًا عن كيفية وقوع جريمة القتل. بعد أن كان تيريل قد مات.»

«لكن إن كان تيريل قد اعترف بأنه قتل الصبيَّين بتحريض من ريتشارد، فلماذا لم يُتَّهم بالجريمة ويُحاكَم علنيًّا عليها؟»

«لا أتصوَّر سببًا لذلك.»

«دعني أستوضح هذا. لم تكن تُوجَد أنباء عن اعتراف تيريل حتى مات.»

«لا، لم تكن تُوجَد.»

«يعترف تيريل أنه، قبل وقتٍ طويل في عام ١٤٨٣، أي قبل ما يَقرُب من عشرين عامًا، هُرِع إلى لندن من ورويك، وأخذ مفاتيح البرج من الآمر عليه … نسيت اسمه …»

«براكينبيري. السير روبرت براكينبيري.»

«أجل. أخذ مفاتيح البرج من السير روبرت براكينبيري لليلةٍ واحدة، وقتل الصبيَّين، وسلَّمه المفاتيح مرةً أخرى وعاد ليُبلغ ريتشارد. اعترف بفعل هذا؛ ومن ثَم وضع نهاية للُغزٍ دام طويلًا، ومع ذلك لم يُتعامَل معه علنًا.»

«على الإطلاق.»

«كنت سأكرَه أن أذهب إلى المحكمة بحكاية كهذه.»

«ما كنتُ لأُفكِّر في الأمر حتى. إنها أكذَبُ ما سمعتُ من حكايات.»

«ألم يُحضِروا براكينبيري حتى ليُثبِت أو ينفيَ قصة تسليم المفاتيح؟»

«قُتِل براكينبيري في بوسوورث.»

«إذَن كان الرجل ميتًا أيضًا، وهو ما كان مُلائمًا.» اضطجع جرانت وأخذ يُفكِّر في الأمر. وتابَع قائلًا: «أتعلَم، إن كان براكينبيري قد مات في معركة بوسوورث، فلدينا دليلٌ صغير في صالحنا.»

«كيف؟ ما هو؟»

«إن كان هذا قد حدث فعلًا؛ أقصد إن كانت المفاتيح قد سُلِّمت لليلةٍ واحدة بناءً على أمر ريتشارد، إذَن فلا بد أن الكثير من المُوظَّفين الصغار في البرج كانوا على علم بذلك. ومن غير المعقول أن أحد هؤلاء لم يكن على استعداد ليقصَّ القصة على مسامع هنري حين استولى على البرج. خاصةً إن كان الصبيَّان مفقودَين. كان براكينبيري ميتًا. وكذلك كان ريتشارد. فمن المُنتظَر من الشخص التالي في ترتيب إمرة البرج أن يُقدِّم الصبيَّين. وحين لم يظهرا لا بدَّ أنه قال: «سلَّم آمر البرج المفاتيح لليلةٍ واحدة، واختفى الصبيَّان منذ ذلك الحين.» ولا بدَّ أنه جرَت مُطارَدة بلا هوادة للرجل الذي تسلَّم المفاتيح. كان من شأنه أن يُصبح الدليل الأول في حُجَّة هنري ضد ريتشارد، وإيجاد ذلك الرجل كان سيَغدو بمثابة مَدعاة لتفاخُر هنري.»

«ليس ذلك فحسب، لكن تيريل كان معروفًا بين أهل البرج بحيث لم يكن يمكن له أن يمرَّ من دون أن يُلاحظه أحد. وفي لندن الصغيرة في تلك الآونة، لا بدَّ أنه كان شخصيةً شهيرة للغاية.»

«أجل. لو كانت تلك الحكاية صحيحة، لَحُوكِم تيريل وأُعدِم علنًا بتهمة قتل الطفلَين في عام ١٤٨٥. إذ لم يكن لدى تيريل من يحميه.» مدَّ يده نحو سجائره. وأكمل: «إذَن ما يتبقى لنا هو أنَّ هنري أعدَم تيريل في عام ١٥٠٢، وأعلن على لسان مُؤرِّخيه الوُدعاء أن تيريل اعترف بأنه قتل الأميرَين قبل عشرين عامًا.»

«أجل.»

«ولم يُقدِّم، في أي وقت ولا أي مكان، أي مُسوِّغ لعدم مُحاكَمة تيريل على فعلته الشنيعة التي اعترف بها.»

«لا. ليس بحسب ما توصلتُ إليه. كان يمضي في طُرقٍ مُنحرِفة جانبية دائمًا مثل سرطان بحر. لم يكن مباشرًا في أي شيء، حتى في القتل. كان من المُحتَّم التمويهُ عليه ليبدوَ كأنه شيءٌ آخر. انتظرَ سنواتٍ طوالًا ليَجد عُذرًا قانونيًّا من نوعٍ ما للتمويه على جريمة قتل. كان الرجل ذا عقل مُلتوٍ. أتعرِف ماذا كان أول فعل رسمي له بصفته هنري السابع؟»

«لا.»

«أنْ أعدَم بعض الرجال الذين كانوا يُقاتلون في صفِّ ريتشارد في معركة بوسوورث بتهمة الخيانة. وهل تَعرِف كيف تمكَّن من إضفاء صبغة قانونية على خيانتهم؟ بتأريخ توقيت جلوسه على العرش من اليوم السابق لمعركة بوسوورث. إن عقلًا قادرًا على الإتيان بتصرفٍ ذكي من هذا العيار لهو عقلٌ قادر على أي شيء.» ثم أخذ السيجارة التي كان جرانت يُقدِّمها له. وأكمل في ابتهاجٍ رصين: «أوه، لا، لم ينجُ بفعلته. إذ وضع الإنجليز، بارَكهم الرب، حدًّا لذلك. أخبروه بأن عليه أن يتوقف.»

«وكيف ذلك؟»

«قدَّموا له، بأسلوبهم الإنجليزي اللطيف الدَّمِث، قانونًا برلمانيًّا ينصُّ على أنه لا يجوز إدانة أي شخص يخدم صاحب السيادة الراهنة على البلاد بالخيانة، ولا ينبغي أن يُعاقَب بمصادرة أملاكه ولا بالسجن، وجعلوه يُوافق عليه. هذا تصرُّف إنجليزي للغاية؛ ذلك التهذيب القاسي. لا هتافات في الشارع ولا إلقاء للأحجار؛ لأنهم لم يَرُق لهم ما فعله بشأن الخيانة. مجرد قانون لطيف ومنطقي وكيِّس وعليه أن يتقبَّله ويَرُوق له. أُراهن أنَّ غضب هنري ازداد شيئًا فشيئًا من ذلك. حسنًا، ينبغي أن أذهب الآن. من الرائع حقًّا أن أراك مُعتدلًا في جلستك وتُدوِّن ملحوظات. أظنُّ أننا سنقوم بتلك الرحلة إلى جرينتش عمَّا قريب. ماذا يُوجَد في جرينتش؟»

«بعض أشكال العمارة الجميلة ونهرٌ مُوحِل بديع.»

«هذا كل شيء؟»

«وبعض الحانات الجيدة.»

«سنذهب حتمًا إلى جرينتش.»

وحين غادَر انزلق جرانت في سريره، وأخذ يُدخِّن سيجارةً تلوَ الأخرى وهو يُفكِّر بعُمق في قصة الورثة من آل يورك الذين ازدهرت حياتهم في عهد ريتشارد الثالث، ولقُوا حتفَهم في عهد هنري السابع.

ربما كان بعضهم قد «نال ما يستحقُّه». فتقرير كارادين كان، في نهاية المطاف، مُختصرًا؛ لم يكن فيه تلطيف ولا حمَّال أوجُه. لكن الأمر المؤكَّد أنها كانت مصادفةً غريبة للغاية أنَّ كل الأشخاص الذين اعترضوا طريق آل تيودور إلى العرش قد قُطِع دابرهم بهذه الطريقة التي كانت تصبُّ تمامًا في مصلحة آل تيودور.

نظر، دون تحمُّس كبير، إلى الكتاب الذي كان قد أحضره له كارادين الشاب. كان اسمه «حياة ريتشارد الثالث وحكمه»، من تأليف شخص يُدعى جيمس جيردنر. كان كارادين قد أكَّد له أنه سيَجد الدكتور جيردنر جديرًا بالوقت الذي سيَقضيه في قراءة كتابه. إذ كان الدكتور جيردنر، طبقًا لبرينت، «صوتًا صارخًا في البرية».

لم يبدُ الكتاب لجرانت مُمتعًا بدرجةٍ كبيرة، لكن أي شيء عن ريتشارد كان أفضل من شيء عن أي شخص آخر؛ لذا بدأ جرانت يتصفَّحه، وسُرعان ما أدرك ما كان برينت يقصده حين قال إن ذلك الدكتور كان «صوتًا صارخًا في البرية». كان الدكتور جيردنر مؤمنًا بإصرار بأن ريتشارد قاتل، ولكن لأنه كان كاتبًا أمينًا، ومُثقَّفًا ونزيهًا وفقًا لمعاييره، فلم يكن من شِيَمه أن يطمس الحقائق. كان مشهد محاولات الدكتور جيردنر البهلوانية للتوفيق بين ما بين يدَيه من حقائق ونظريَّته أكثر شيء مُسلٍّ شَهِده جرانت منذ وقتٍ طويل.

أقرَّ الدكتور جيردنر من دون إحساس واضح بالتناقض بحكمة ريتشارد الكبيرة وسخائه وشجاعته واقتداره وجاذبيَّته وشعبيته والثقة التي كان يبعث عليها حتى عند أعدائه المهزومين، وفي السياق نفسه أورد افتراءه الحقير على والدته وذبحه لطفلَين ضعيفَين. قال الدكتور الفاضل إنَّ المرويَّات المأثورة تقول ذلك، وأورد بوقارٍ المرويات المُريعة وأيَّدها. لم يكن يُوجَد خبث أو خسَّة في شخصيته، طبقًا لكلام الدكتور، لكنه كان قاتلًا لطفلَين بريئَين. حتى أعداؤه كانوا يَثِقون في عدله، لكنه قتل ابنَي أخيه. وكانت نزاهته مُلفِتة ولا غبار عليها، لكنه قتلَ لتحقيق مكاسب.

كان الدكتور جيردنر ببهلوانيَّته أعجوبةً لا مثيل لها في المرونة. بتعجُّبٍ تساءلَ جرانت أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، بأي جزءٍ من عقلهم كان المؤرخون يُفكِّرون. إنهم بكل تأكيد لا يَصِلون إلى ما يَصِلون إليه من استنتاجاتٍ عن طريق عمليةٍ منطقية معروفة لدى البشر. لم يُصادِف جرانت في صفحات الروايات ولا الكتب الواقعية، ولا في الحياة بلا شك، أيَّ إنسانٍ كان يُشبِه ولو من بعيدٍ شخصيةَ ريتشارد حسبما وصفها الدكتور جيردنر، ولا شخصية إليزابيث وودفيل حسبما كتب أوليفانت.

لعله كان يُوجَد شيء من الصحة في نظرية لورا القائلة بأن الطبيعة البشرية تجد صعوبة في التخلي عن المعتقدات المسبقة. وأن ثَمة معارضةً داخلية غامضة وغير مفهومة وامتعاضًا من انقلاب الحقائق المُسلَّم بها. كان الدكتور جيردنر بالتأكيد يُسحَب كطفلٍ خائف باليد التي كانت تجرُّه نحو المحتوم.

كان جرانت يعرف حق المعرفة أن رجالًا جذَّابين يتمتَّعون بقدرٍ كبير من النزاهة ارتكبوا جرائم قتل في أوانهم. لكن ليس ذلك النوع من جرائم القتل، وليس لأجل تلك النوعية من الأسباب. إن الرَّجل من النوعية التي صوَّرها الدكتور جيردنر في كتابه «حياة ريتشارد الثالث وتاريخه»، يُمكن أن يقتل فقط حين تضطرب حياته الشخصية بفعلِ حدثٍ مُزلزِل. فقد يقتل زوجته حين يكتشف خيانتها له فجأةً. أو يقتل شريكه الذي تُدمِّر مُضارَباته السِّرية شركتَهما ومُستقبَل أطفاله. أي جريمة قتل سيرتكبها ستكون ناتجةً عن انفعالٍ حادٍّ ولن تكون عن تخطيط أبدًا، ولن تكون أبدًا جريمةَ قتلٍ عمدي عن سبق إصرار وترصُّد.

لا يمكن للمرء أن يقول: لأن ريتشارد يتمتع بصفات كذا وكذا، فمن ثَم لا يُمكنه أن يرتكب جريمة قتل. لكن يُمكن للمرء أن يقول: لأن ريتشارد يتمتع بهذه الصفات؛ فمن ثَم لا يُمكنه أن يرتكب جريمة القتل هذه.

كانت جريمة القتل ستكون ساذجةً سخيفة، جريمة قتل الأميرَين الصبيَّين، وكان ريتشارد رجلًا ذا اقتدار وحكمة بارزَين. كانت الجريمة هي جريمة قتل عمد بما يَفُوق الوصف، وكان الرجل يتمتَّع بقدرٍ عظيم من النزاهة والاستقامة. كانت جريمة تنمُّ عن غِلظة القلب، وقد كان رجُلًا معروفًا عنه حُنوُّه وطيبة قلبه.

يمكن للمرء أن يخوض في قائمة الفضائل التي يتمتَّع بها، والتي تحظى بالاعتراف بصحتها، ويجد أن كل فضيلة منها جعلت من مشاركته في هذه الجريمة أمرًا مُستبعَدًا إلى أقصى حد. وبوضع هذه الفضائل جميعًا في الاعتبار نجد أنها تُشكِّل جدارًا من الاستحالة يرتفع إلى سماء الخيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤