الفصل الثاني

لكن لمَّا عادت مارتا بعد يومَين لم يكن معها إبَر حياكة وصوف. أقبلت عقب وقت الغداء وهي في غاية الأناقة مُرتديةً قبعةً قوقازية مائلةً بطريقة لا مُبالية، لا بدَّ أنها استغرقت في تثبيتها عدة دقائق أمام المرآة، بعد الغداء مباشرةً.

«لن أبقى طويلًا يا عزيزي. أنا في طريقي إلى المسرح. إنه الحفل النهاري، وليَكُن الله في عوني. صواني الشاي والأغبياء. يَجب علينا اعتلاء خشبة المسرح المُرعِبة لنُلقيَ كلماتٍ لم يعُد لها أي معنًى لنا. لا أظنُّ أن هذه المسرحية ستتوقف يومًا ما. ستصير مثل مسرحيات نيويورك التي تُعرَض لمدة عشر سنوات لا لسنةٍ واحدة. إنه أمرٌ مُخيف للغاية. لن يقوى عقل المرء على مُواصلة هذا الأمر. ضاعت الكلمات من جيفري في مُنتصَف الفصل الثاني ليلة أمس. كادت عيناه تَخرُجان من مَحجرَيهما. ظننتُ لوهلةٍ أنه أُصيب بسكتةٍ دماغية. قال لاحقًا إنه لا يتذكَّر أيًّا مما حدث بين ظهوره على خشبة المسرح والمرحلة التي وجد فيها نفسه في منتصف الفصل.»

«تقصدين فقدانًا مؤقتًا للذاكرة؟»

«لا. أوه، لا. بل فقط أن يتصرَّف المرء على نحوٍ آلي. يقول كلمات دوره ويؤدي الحركات بينما يُفكر في شيءٍ آخر طوال الوقت.»

«إن صحَّت الروايات، فليس هذا بأمرٍ غير مُعتاد على المُمثِّلين.»

«لو كان باعتدال، لا. يمكن لجوني جارسون أن يُخبرك بعدد الأوراق في المنزل بينما يجهش بالبكاء على قدَم أحدهم. لكن هذا يختلف عن أن تكون «شاردًا» طيلة نصف فصل. أتُصدِّق أن جيفري طرد ابنه من المنزل وتشاجر مع مُديرة منزله واتَّهم زوجته بخيانته مع أعز أصدقائه، وكل هذا وهو لا يعي ما يفعل؟»

«وماذا كان يعي؟»

«يقول إنه كان قد قرَّر أن يُؤجِّر شقَّته في بارك لين لدولي داسر، وأن يشتريَ منزل تشارلز الثاني الكائن في ريتشموند، والذي عرضته عائلة لاتيمر للبيع لأنه نال منصب المُحافِظ. كان قد فكَّر في مسألة قلَّة الحمَّامات، وقرَّر أن الغُرفة الصغيرة في الطابق العُلوي التي يُغطِّيها ورق الحائط الصيني الذي يرجع إلى القرن الثامن عشر ستكون مناسبة جدًّا. يمكنهم إزالة ورق الحائط الجميل واستخدامه في تزيين الغُرفة الصغيرة الكئيبة في الطابق السُّفلي في مؤخرة المنزل. فجدران هذه الغُرفة الصغيرة المُملَّة مُغطاة بالأُطر الفيكتورية. كان قد أعاد النظر أيضًا في أمر نظام الصرف، وتساءل عما إذا كان لدَيه ما يكفي من المال لتغيير البلاط القديم، ثم راح يُخمِّن نوع المَوقد الذي لديهم في المطبخ. كان قد قرَّر لتوِّه التخلُّص من الشُّجَيرات النامية عند البوَّابة عندما وجد نفسه وجهًا لوجهٍ أمامي، على خشبة المسرح، في حضور تسعمائة وسبعة وثمانين شخصًا في منتصف حوار مسرحي. لا عَجب في جُحوظ عينَيه. أرى أنك تمكَّنتَ من قراءة كتاب واحد على الأقل من الكُتب التي أحضرتُها لك، لو جاز للغلاف المُجعَّد أن يكون معيارًا.»

«أجل. الذي يحتوي على صورة جبل. لقد كان هبةً من الرب. لقد أمضيتُ ساعاتٍ أُشاهد الصور. لا شيء يُضاهي الجبال في سرعة وضعها الأمور في نصابها الصحيح.»

«أجد النجومَ أفضل في هذا الأمر.»

«أوه، لا. النجوم تختزل مكانة المرء إلى مجرد أميبا. النجوم تَسلُبنا آخِر ما تبقَّى من كبريائنا البشرية، آخر بصيص من ثِقتنا بذواتنا. أما الجبال الجليدية فهي مقياسٌ رائع يُناسب الإنسان. لقد استلقيتُ وأخذت أتأمَّل قمة جبل إيفرست، وشكرتُ الربَّ على أنني لم أتسلَّق تلك المُرتفَعات الشديدة الانحدار. إن فِراشًا في مُستشفًى يعدل ملاذًا دافئًا ومُريحًا وآمنًا إذا ما قُورِن بالجبال، أما «القزمة» و«الأمازونية» فهما من أرقى مُنجَزات الحضارة.»

«أه، حسنًا، إليك المزيد من الصور.»

فتحت مارتا الظرف الذي كانت تحمله وألقت مجموعةً من الأوراق فوق صدره.

«ما هذا؟»

أجابت مارتا في ابتهاج: «وجوه.» وتابعَت: «عشرات الوجوه من أجلك. وجوه رجال ونساء وأطفال. جميع الأنماط والحالات والأحجام.»

التقط إحدى هذه الأوراق التي على صدره وتأمَّلها. كانت نموذجًا محفورًا لوجهٍ يعود إلى القرن الخامس عشر. وجه امرأة.

«من هذه؟»

«لوكريسيا بورجيا. أليست لطيفة؟»

«ربما، لكن أتُلمِّحين إلى أنه كان يُوجَد غموض بشأنها؟»

«أوه، أجل. لا أحد يعرف على وجه اليقين هل كانت أداةً في يد أخيها أم شريكةً له.»

طرح صورة لوكريسيا جانبًا والتقط ورقةً أخرى. تبيَّن أنها صورة لولدٍ صغير في ثيابٍ تعود إلى القرن الثامن عشر، وقد كُتِب أسفلها بحروفٍ باهتة: لويس السابع عشر.

قالت مارتا: «والآن يُوجَد لُغزٌ مُمتع من أجلك. الدوفين.» وأضافت تسأله: «هل فرَّ هاربًا أم مات في الأَسر؟»

«من أين جئتِ بكل هذه الصور؟»

«لقد أخرجتُ جيمس من جُحره في متحف فيكتوريا وألبرت، وأجبرتُه أن يَصحبني إلى إحدى المطابع. كنتُ أعرف أنه سيكون مُلمًّا بشيء كهذا، كما أنني على يقينٍ أنَّ ما من شيءٍ يُثير اهتمامه في متحف فيكتوريا وألبرت.»

بدا أن مارتا كان لدَيها يقينٌ لا يُساوِره شك في أن مُوظفًا حكوميًّا لن يجد غضاضةً في ترك عمله والتنقُّل بين المطابع من أجل إرضائها، فقط لأنه تَصادَف أنه كان كاتبًا مسرحيًّا وخبيرًا في البورتريهات.

قلبَ جرانت صورةً فوتوغرافية لوجهٍ يعود إلى العصر الإليزابيثي. كان رَجلًا في ثوبٍ مخملي مُرصَّع باللؤلؤ. أدار الصورة ونظر إلى الجزء الخلفي منها ليعرف هُويَّة هذا الشخص، واكتشف أنه إيرل ليستر.

قال: «إذَن هذا روبين صديق إليزابيث.» وتابَع: «لا أظنُّ أنني شاهدتُ صورةً شخصية له من قبل.»

نظرت مارتا إلى الوجه المُمتلئ الذي يشعُّ رجولةً وقالت: «خطر لي للمرَّة الأولى أن واحدةً من مآسي التاريخ الكبرى هي أنَّ أفْضل الرسَّامين لم يُقدِموا على رسمك إلا بعد أن مرَّ ريعان شبابك. لا بدَّ أن روبين كان رجلًا بكلِّ ما تحمله الكلمة من معانٍ. يقولون إن هنري الثامن كان باهرًا في شبابه، لكن كيف هو الآن؟ مجرد شيء على بطاقات اللعب. نعرف هذه الأيام كيف بدا تينيسون قبل أن يُعفيَ تلك اللحية المُرعِبة. يجب أن أُغادِر سريعًا. لقد تأخَّرت في الواقع. كنتُ أتناول الغداء في بليج، وجاءني الكثيرون ليتحدَّثوا معي لدرجة أنني لم أستطع أن أُغادِر مُبكِّرًا كما كنتُ أنوي.»

قال جرانت وهو يرمق القُبَّعة: «أرجو أن تكوني قد أثَرتِ إعجاب مُضيفك.»

«أوه، أجل. إنها مُلمَّة بالقبعات. ألقت نظرةً واحدة وقالت: «جاك تو، على ما أظن.»

قال جرانت مُندهِشًا: «إنها!»

«أجل. مادلين مارش. أنا مَن دعوتُها إلى الغداء. لا تندهش هكذا؛ هذا ليس تصرُّفًا لبقًا. إذا كنتَ مُصرًّا على أن تعرف، فأنا أتطلَّع إلى أن تكتب لي تلك المسرحية التي تتناول حياة الليدي بليسنجتون. لكن جرى الكثير من المُناقشات بحيث لم تتسنَّ لي فرصة لأن أُثير إعجابها. لكنني قدَّمتُ لها وجبةً رائعة. يُذكِّرني هذا بتوني بيتميكر الذي كان يستضيف رفقةً من سبعة أشخاص. الكثير من قنانيِّ الخمر. كيف تتخيَّل أنه يُواصِل ما يفعل؟»

أجاب جرانت: «لنقصِ الأدلة»، وضحكت مارتا وغادرت.

عمَّ السكون المكان، فعاد إلى التفكير في روبين صديق إليزابيث. ما الغموض الذي كان يُحيط بروبين؟

أوه، أجل. آيمي روبزارت، بالطبع.

حسنًا، لم يَكُن مُهتمًّا بآيمي روبزارت. لم يَكُن يُبالي بكيفية سقوطها من أعلى الدَّرَج، ولا بسبب سقوطها.

لكنه أمضى وقتًا سعيدًا للغاية عصر ذلك اليوم مع بقية الوجوه. لطالَما استمتع بمُشاهَدة الوجوه قبل التحاقه بالشرطة بزمنٍ طويل، وفي أعوامه التي أمضاها في سكوتلاند يارد كان قد تبيَّن أن ذلك الشغف يُمثِّل متعةً شخصية ومِيزةً مِهنية على السواء. يَذكُر أنه جاء في أيامه الأولى مع رئيس الشرطة أثناء طابور عرض للمُشتبَه فيهم. لم يَكُن مسئولًا عن تلك القضية، وكان كلاهما مُنشغِلًا بشأنٍ آخر، لكنهما بَقِيا في خلفية هذا الموقف وشاهَدا رجلًا وامرأة يمرَّان، كلٌّ على حِدة، على صفٍّ مُكوَّن من اثنَي عشر رجلًا لا يميزهم أي شيء، باحثَين عن الجاني الذي كانت الشرطة تأمُل في التعرُّف عليه.

همس رئيس الشرطة إلى جرانت قائلًا: «أيُّهم تشامي، أتعرف؟»

أجاب جرانت: «لا أعرف، ولكن بوسعي التخمين.»

«هل بوسعك ذلك؟ أيُّهم حسب ظنك؟»

«الثالث من اليسار.»

«ما التهمة؟»

«لا أدري. لا أدري أيَّ شيء عنها.»

رمَقه رئيس الشرطة بنظرةِ استمتاع، لكن عندما أخفق كلٌّ من الرجل والمرأة في التعرُّف على الجاني وغادَرا، وتحوَّل الطابور إلى مجموعة من الأشخاص الذين يتجاذبون أطراف الحديث ويرفعون ياقاتهم ويُحكِمون ربطات أعناقهم، قبل العودة إلى الشارع وحياتهم اليومية التي كانوا قد استُدعوا منها لمساعدة القانون، كان الشخص الذي لم يتحرَّك هو الثالث من اليسار. بقيَ هذا الرجل مُنتظرًا في استسلام لمن يقوده إلى زنزانته مُجدَّدًا.

قال رئيس الشرطة: «يا إلهي!» وأردف: «احتمالٌ نِسبته واحد إلى اثنَي عشر، ونجحتَ فيه. كان هذا عرضًا رائعًا»، ثم التفت إلى المفتش المحلي مُفسرًا: «لقد تعرَّف على المُشتبَه به من بين المجموعة.»

تساءل المفتش بقليل من الدهشة: «هل كنتَ تعرفه؟» وأضاف: «إنه لم يتورَّط في مشكلاتٍ من قبلُ مُطلَقًا، حسب عِلمنا.»

«لا، لم أرَه قطُّ مِن قبل. أنا حتى لا أعرف التُّهمة المُوجَّهة إليه.»

«ما الذي جعلك تختاره إذَن؟»

تردَّد جرانت، مُحلِّلًا لأولِ مرةٍ العملية التي يتبعها في الاختبار. لم تَكُن المسألة مسألةَ استدلال. لم يَقُل: «وجه الرجل يحمل هذه السمة أو تلك؛ لذلك فهو الشخص المتهَم.» كان اختياره مدفوعًا بالغريزة في المقام الأول؛ كان السبب كامنًا في عقله الباطن. أخيرًا، بعد أن سبَر أغوار عقله الباطن، اندفع يقول: «كان الوحيد من بين الاثنَي عشر الذي يخلو وجهه من أي خطوط.»

ضحِكا من تفسيره. لكن ما إن أخرج جرانت السر إلى النور، حتى تعرَّف على كيفية عمل غريزته وأدرك المُبرِّر الكامن خلفها. أضاف: «قد يبدو الأمر ساذجًا، لكنه ليس كذلك.» وأردف: «البالغ الوحيد دون خطوط في وجهه على الإطلاق هو الأحمق.»

قاطَعه المُفتِّش قائلًا: «فريمان ليس أحمق، خُذها منِّي.» وتابَع: «إنه فتًى مُراوِغٌ شديد الحذَر، صدِّقني.»

«لم أقصد ذلك. أقصد أن الأحمق شخصٌ غير مسئول. الأحمق مثالٌ لانعدام المسئولية. جميع الرجال الاثنَي عشر في هذا العرض كانوا في الثلاثينيات من أعمارهم، لكن واحدًا فقط كان وجهه ينمُّ عن انعدام المسئولية. لذا تعرَّفتُ عليه فورًا.»

بعد تلك الواقعة أصبح مُفتِّشو سكوتلاند يارد يُردِّدون دعابةً ظريفة يَصِفون فيها كيف يُمكِن لجرانت أن «يتعرَّف عليهم من أول نظرة». ذات مرة قال له مُساعِد المُفوِّض ساخرًا: «لا تَقُل لي أيُّها المفتش إنك تُصدِّق أنه يُوجَد ما يُسمى بالوجه الإجرامي.»

لكن جرانت أجاب حينها بالنفي؛ فهو لم يكن بهذه البساطة. وقال: «لو كان يُوجَد نوعٌ واحد من الجرائم، فربما كان ذلك مُمكنًا يا سيدي، لكن الجرائم تتنوَّع بتنوُّع الطبائع البشرية، ولو حاوَل أحد رجال الشرطة تصنيف الوجوه فسوف تخيب مَساعيه. يُمكنك أن تُخمِّن كيف يبدو النمط المُعتاد من النساء السيئات السُّمعة بمجرد السير في بوند ستريت في أيِّ يومٍ ما بين الساعة الخامسة والسادسة، ومع ذلك تبدو أسوأ النساء سُمعة في لندن مثلَ قديسةٍ بريئة.»

ردَّ مُساعِد المُفوِّض، وقد تعرَّف على السيدة المقصودة دون أدنى صعوبة: «لم تعُد تبدو بهذه البراءة مُؤخرًا؛ فهي تُفرِط في شرب الخمر هذه الأيام»؛ ثم تحوَّلت دفة الحديث إلى أمورٍ أخرى.

لكنَّ شغف جرانت بالوجوه استمرَّ وتعاظَم حتى تحوَّل إلى دراسةٍ واعية. كان مسألةً تُعنى بدراسة سجلات الحالات والمقارنات. كما قال جرانت، لا يمكن تصنيف الوجوه، لكن من الممكن تحديد سِمات وجوه الأفراد. على سبيل المثال، في إعادة نشر لوقائع محاكمة شهيرة، حيث عُرِضَت صورٌ فوتوغرافية للفاعلين الرئيسيين في القضية من أجل الصالح العام، لم يكن يُوجَد أدنى شك فيما يتعلق بتمييز المتهَمين عن القاضي. في بعض الأحيان، ربما بدا مُمكنًا أن يتبادل المُحامون والمتهَمون أماكنهم؛ فالمحامون في نهاية المطاف عينةٌ عشوائية من البشرية، عُرضة للأهواء والطمع كبقية البشر، أمَّا القاضي فكان يتمتع بمِيزةٍ خاصة؛ النزاهة والتجرد. لذا، فحتى إن لم يرتدِ ذلك الشَّعر المُستعار، فلا يمكن أن يخلط المرء بينه وبين المتهَم في قفص الاتهام، الذي كان يفتقر إلى النزاهة والتجرد.

كان من الواضح أن جيمس، الذي كانت ماريا قد أخرجَته من «جُحره»، قد استمتع بوقته، وأبقت هذه المجموعة المُختارة من صور الجُناة، أو ضحاياهم، جرانت مُستمتِعًا إلى أن أحضرت «القزمة» له الشاي. بينما كان يُرتِّب أغطية فِراشه استعدادًا لوضعها في خِزانته لمسَت يده صورةً كانت قد انزلقت عن صدره، وبقيَت طوال العصر على غطاء الفراش دون أن يُلاحظها. التقطها جرانت وتأمَّلها.

كانت صورة بورتريه لرَجلٍ يرتدي قَلَنسُوةً مخملية وصدريَّة ذات أكمام مشقوقة على طِرازِ أواخر القرن الخامس عشر. كان رجلًا في الخامسة والثلاثين أو السادسة والثلاثين من عمره، نحيلًا وحليق اللحية. كان يرتدي ياقةً فخمة مُرصَّعة بالمجوهرات، ويُصوِّره الرسم وهو يضع خاتمًا في بِنْصِر يده اليُمني. لكنه لم يكن ينظر إلى الخاتم. بل كان ينظر إلى الفراغ.

من بين جميع البورتريهات التي شاهَدها جرانت عصر هذا اليوم، كان هذا البورتريه الأكثر تفردًا. بدا كأن الفنَّان بذل جهده ليُعبِّر على قماش القُنب عن شيء لم تكن موهبته كافية لتُترجِمه إلى رسم. فقد أعجزه هذا التعبير الذي تنطق به العينان؛ هذا التعبير الآسِر البالغ التفرُّد. وكذا الفم؛ لم يعرف كيف يجعل شفتَين رفيعتَين هكذا ومُتَّسعتَين هكذا تبدوان كأنهما تتحركان؛ لذلك بدا الفم مُتخشِّبًا ودالًّا على إخفاق الفنَّان. ما أجاد في تصويره كان البنية العظمية للوجه؛ عظام الوجنتَين القوية، والتجاويف بينها، والذقن البالغ الاتساع للدلالة على القوة.

تأنَّى جرانت قبل أن يَقلب الصورة ليتأمَّل الوجه للحظةٍ أخرى. قاضٍ؟ جندي؟ أمير؟ كان الرجل الذي صوَّرته ريشة الرسَّام شخصًا مُعتادًا على تحمُّلِ مسئوليةٍ عظيمة، ولدَيه إحساس بالمسئولية يُظهره في ممارسته لسُلطاته. شخصٌ ذو ضميرٍ يقِظ للغاية. مُحارِب، وربما كان توَّاقًا للكمال. رجلٌ يبدو هادئًا في العموم، لكنه يهتمُّ بالتفاصيل. مُعرَّض للإصابة بقرح المعدة. يبدو لجرانت أيضًا أنه شخصٌ عانى من اعتلال صحته أثناء طفولته. كانت لدَيه تلك النظرة التي يتعذَّر وصفها، والتي تُخلِّفها مُعاناة الطفولة، أقل وضوحًا من النظرة على وجوه المُقعَدين، لكنها تُماثِلها في كونها محتومةً لا مَهرب منها. استوعب الفنَّان تلك النظرة وترجمها بريشته. الجَفن السُّفلي مُتورِّم قليلًا، وكأنه جفن طفل أفرط في النوم، تكوين البشرة؛ نظرة رجل مُسنٍّ على وجهٍ يافع.

قلَب الصورة بحثًا عن اسم صاحب البورتريه.

كانت هذه الكلمات مطبوعة في الخلف: «ريتشارد الثالث. من البورتريهات المعروضة في المَعرِض الوطني للبورتريهات. بريشة رسَّام مجهول.»

ريتشارد الثالث.

إذَن كان هذا هو صاحب البورتريه. ريتشارد الثالث. الأحدب. وحش قصص الطفولة. مُدمِّر البراءة. كان اسمه مُرادفًا للشر.

قلَب الورقة مرةً أخرى وتأمَّلها. أكان ذلك ما حاوَل الرسَّام إيصاله عندما رسم تلك العينَين؟ هل رأى في تلك العينَين نظرة رجل مُعذَّب؟

عكف طويلًا على النظر إلى ذلك الوجه؛ إلى هاتَين العينَين غير العاديتين. كانتا عينَين واسعتَين، قريبتَين من حاجبَيهما، أما الحاجبان ففيهما ذلك العُبوس المهموم والقلق الزائد. كانتا تبدوان للوهلة الأولى كأنهما تُحدِّقان، لكن عندما تتأمَّلهما تُدرِك أنهما في الحقيقة شاردتان، تكادان تكونان تائهتَين.

لما عادت «القزمة» بصينية الشاي كان لا يزال يُحدِّق في البورتريه. لم يكن قد صادَف شيئًا كهذا لسنوات. لا تعدو الموناليزا أن تكون مُلصَقًا إعلانيًّا مُقارنةً به.

فحَصت «القزمة» فنجان الشاي الذي لم يُمَس، وأمسكت الإبريق بيدٍ مُتمرِّسة وقد بدا التذمُّر على وجهها. دلَّت ملامح وجهها على أن لديها أنشطةً أجدى نفعًا من إحضار صوان لا يعبأ بها.

دفع إليها البورتريه.

سألها عن رأيها بشأنه. لو كان هذا الرجل أحدَ مَرضاها، فكيف كان سيغدو حُكمُها على شخصيَّته؟

علَّقت «القزمة» بوضوحٍ وحزم: «كبدٌ عليل»، ثم رفعت الصينية بضجرٍ مُبتعدةً تدقُّ الأرض بكعبَيها في اعتراض، وشعرها الأشقر المُموَّج يتطاير.

لكن الجرَّاح، الذي أقبل في لُطف وعفوية يتناقضان مع برود «القزمة»، كان له رأيٌ آخر. دعاه جرانت لرؤية البورتريه، فألقى عليه نظرةً فاحصة دامت بُرهةً ثم قال:

«الْتِهابُ سِنجابيَّةِ النُّخاع.»

قال جرانت: «شلل أطفال؟» وتذكَّر فجأةً أن ريتشارد الثالث كانت لدَيه ذراعٌ ضامرة.

تساءل الجرَّاح: «من هذا؟»

«ريتشارد الثالث.»

«حقًّا؟ هذا مُثير للاهتمام.»

«هل كنتَ تعلم أنه كانت لدَيه ذراعٌ ضامرة؟»

«حقًّا؟ لم أتذكَّر ذلك. كنتُ أظنُّ أنه كان أحدب.»

«كان كذلك بالفعل.»

«ما أذكره بالفعل هو أنه وُلِد مُكتمِل الأسنان، وكان يأكل الضفادع حية. حسنًا، يبدو أن تشخيصي صحيح على غير العادة.»

«غريب. لمَ اخترتَ شلل الأطفال؟»

«لا أدري بالضبط، ولكن ما دمتَ تطلب مني الآن أن أكون مُحدَّدًا، فأظن أنه ذلك السمت البادي على الوجه. إنه السمت الذي تراه على وجوه الأطفال المُقعَدين. إن كان مولودًا بالحدَب فهذا هو السبب غالبًا لشلل الأطفال. لقد لاحظتُ أن الفنَّان لم يُظهِر الحدب.»

«أجل. لا بدَّ أن يكون لدى رسَّامي البلاط قليلٌ من اللباقة. لقد كان أوليفر كرومويل أول من طلب من الرسَّامين تصوير «البثور وغيرها من العيوب».»

استطرد الجرَّاح وهو يتأمَّل في شرودٍ الجبيرة المُثبَّتة على ساق جرانت: «لو طلبتَ رأيي، فإنني أرى أن كرومويل هو مَن بدأ هذا التواضع المُتصنَّع الذي نُعاني منه جميعًا الآن. «أنا رجل عادي؛ رجل جادٌّ وعملي.» وبلا أدب ولا لباقة ولا كرم أيضًا.» ضغط الجرَّاح على أخمص جرانت غير عابئ. استطرد: «إنه مرض مُتفشٍّ. انحرافٌ مُريع. في بعض مناطق الولايات المتحدة، حسبما أعلم، حياة المرء السياسية تُعادِل ذَهابه إلى بعض الدوائر الانتخابية مُرتديًا رابطة عُنقه ومِعطفه. أي أن تكون مُعتدًّا بنفسك. هذا هو النموذج الذي يُحتذى به»، ثم أضاف، مُشيرًا إلى الأخمص الكبير لقدَم جرانت: «يبدو في صحةٍ جيدة للغاية»، ثم عاد من تلقاء نفسه إلى البورتريه المُستقر على غطاء الفِراش.

قال: «مُثيرة للاهتمام مسألة إصابته بشلل الأطفال. ربما كان مُصابًا بالفعل بشلل الأطفال؛ وهو ما يُفسِّر الذراع الضامرة.» ظلَّ يتأمَّل البورتريه دون أن يُحرِّك ساكنًا. ثُم أضاف: «مُثير للاهتمام، على أي حال. بورتريه لقاتل. هل ترى فيه نمط القتلة؟»

«لا يُوجَد نمط للقتلة. الناس يَقتلون للكثير من الأسباب المختلفة. لكنني لا أذكُر أي قاتل يُشبِهه، سواء من واقع خِبراتي الشخصية أو من سجلَّات القضايا التي اطَّلعتُ عليها.»

«ليس له مُنافِس في فئته بالتأكيد، أليس كذلك؟ لا بدَّ أنه لم يكن يعرف معنى وخزِ الضمير.»

«لا.»

«رأيتُ أوليفر يؤدي دَورَه ذات مرة. كان التقديم الأكثر إبهارًا للشر المُطلَق. كان طوال الوقت على وشْكِ أن ينقلب إلى مسخٍ مُشوَّه، لكنه لم يفعل قط.»

ردَّ جرانت: «عندما أريتُك البورتريه، قبل أن تعرف من هو، هل خطرَت له فكرة الشر؟»

أجاب الجرَّاح: «لا، لا، خطرت لي فكرة المرض.»

«أمرٌ غريب، أليس كذلك؟ ولا أنا فكرتُ في الشر. الآن بعدما عرفتُ من هو، وقرأت اسمه خلف الصورة، لا يَسعُني التفكير إلا في الشر.»

«أظنُّ أن الشر كالجمال في عين الرائي. حسنًا، سأطمئنُّ عليك مُجدَّدًا قُرْب نهاية الأسبوع. ليس لديك آلامٌ تشكو منها حاليًّا، أليس كذلك؟»

رحل الجرَّاح، كما أقبل، في لُطف وعفوية.

لم يخطر على بال جرانت أن البورتريه كان قد قُدِّم له ليكون بمثابة جُزء من تحرٍّ جنائي إلا بعد أن تأمَّله بإمعانٍ مُتحيِّر (استفزَّه أنه حسب واحدًا من أشهر القتلة في التاريخ قاضيًا؛ فنقلُ شخص من قفص الاتهام إلى مِنصَّة القاضي هو حماقةٌ صادمة).

ما الغموض الذي أحاط بريتشارد الثالث؟

ثم تذكَّر. لقد قتَل ريتشارد ابنَي أخيه، لكن لم يكتشف أحدٌ كيفية مَقتلهما. فقد اختفيا فحسب. اختفى الصبيَّان، لو أسعفَته ذاكرته، بينما كان ريتشارد خارج لندن. أرسل ريتشارد شخصًا ما لتنفيذ مُخطَّطه. لكن اللُّغز المُتعلِّق بمصير الصبيَّين لم يُحَلَّ قط. ظهر هيكلان عظميان — أسفلَ دَرجٍ ما — في عهد تشارلز الثاني، ودُفِنا. سلَّم الجميع جدلًا أن الهيكلَين العظميَّين كانا بقايا الأميرَين الصغيرَين، لكن لم يُثبِت أحدٌ ذلك.

كان صادمًا مدى ضآلة المعلومات التاريخية التي بقيَت في ذاكرته بعد تحصيله قسطًا وافرًا من التعليم والثقافة. كل ما كان يعرفه عن ريتشارد الثالث أنه الأخ الأصغر لإدوارد الرابع. إدوارد هذا كان شابًّا أشقر لا يَقلُّ طوله عن ست أقدام، ذا مظهرٍ حسَن لافت للأنظار، وأساليب في التودُّد إلى النساء أكثر لفتًا للأنظار؛ أما ريتشارد ذاك فكان رجلًا أحدبَ اغتصب العرش من وليِّ العهد عَقِب وفاة أخيه، وخطَّط لقتلِ وليِّ العهد وأخيه الصغير ليُجنِّب نفسه أيَّةَ متاعب أُخرى. كان يعرف أيضًا أن ريتشارد مات في معركة بوسوورث وهو يَصيح طالبًا جوادًا ليَركبه، وأنه كان الأخير في تسلسُل وراثة العرش. كان آخِر سلالة أُسرة بلانتاجانت.

لطالَما طوى طلَّاب المدارس الصفحةَ الأخيرة من سيرة حياة ريتشارد الثالث بارتياح؛ لأنه عندها تكون قد انتهت أخيرًا حروب الوردتَين، ويُمكنهم الانتقال إلى أُسرة تيودور التي كانت، على رتابتها، يَسهُل تتبُّعها.

عندما أقبلت «القزمة» لتجهيزه قبل النوم، سألها جرانت: «ألم يُصادف يومًا ما أن اقتنيتِ كتاب تاريخ؟»

«كتاب تاريخ؟ لا. ماذا عساي أن أصنع بكتاب عن التاريخ؟» لم يكن هذا سؤالًا حقيقيًّا، لذلك لم يُحاوِل جرانت أن يُقدِّم إجابة. بدا أن سكوته أثار غيظها.

أضافت على الفور: «إن كنتَ ترغب حقًّا في كتاب تاريخ فيُمكِنك أن تطلب ذلك من المُمرِّضة دارول وهي تُحضِر لك العشاء. فهي تحتفظ بكل كتبها المدرسية على أحد أرفُف غُرفتها، ومن المُحتمل جدًّا أن تجد كتاب تاريخ بينها.»

كم بدا بديهيًّا أن تحتفظ الأمازونية بكتبها المدرسية! هذا ما جال في خاطر جرانت. لا تزال مُشتاقة إلى مدرستها مِثلما تشتاق إلى جلوسترشير كُلما أزهر النرجس البرِّي. عندما دلفت إلى الغُرفة بخطواتها المُتثاقِلة حاملةً بودنج الجبن ويخنة الراوند، نظر إليها جرانت بتسامحٍ كاد يصل إلى درجة المحبَّة. لم تعُد في نظره تلك المرأة الضخمة التي تُشبِه أنفاسها صوت مِضخَّة الشفط، بل صارت مصدرًا مُحتملًا للسرور.

أوه، أجل، كان لديها، كما قالت، كتاب تاريخ. بل تظنُّ أن لدَيها كتابَين. فقد احتفظت بكل كتبها المدرسية؛ لأنها كانت تحب المدرسة.

كاد جرانت أن يسألها عما إذا كانت لا تزال مُحتفظةً بعرائسها، لكنه منع نفسه في الوقت المناسب.

قالت: «وبالطبع أحببتُ التاريخ.» وأضافت: «كان مادَّتي المُفضَّلة. ريتشارد قلب الأسد كان بطلي.»

علَّق جرانت: «وغدٌ لا يُطاق.»

فردَّت «الأمازونية»، كأنَّ كلماته جرحَتها: «أوه، لا!»

أضاف جرانت بقسوة: «رَجلٌ جامح الطُّموح.» واستطرد: «يقطع أرجاء الكرة الأرضية جيئةً وذهابًا كأنه سهمٌ ناريٌّ رديء الصُّنع. هل ينتهي دوامكِ الآن؟»

«متى أنهيتُ إيصال الصواني.»

«أيُمكنكِ أن تجدي لي ذلك الكتاب الليلة؟»

«يُفترَض بكَ أن تنام لا أن تبقى ساهرًا تقرأ كتب التاريخ.»

«ربما يَحسُن بي أيضًا أن أقرأ بعضًا من التاريخ بدلًا من التحديق في السقف. هل ستُحضِرينه لي؟»

«لا أظنُّ أن بوسعي أن أقطع كل هذه المسافة إلى مَسكن المُمرِّضات ثُم أعود ثانيةً الليلة من أجل شخصٍ يتحدَّث بوقاحة عن قلب الأسد.»

قال جرانت: «حسنًا، طبيعتي لا تُؤهِّلني أن أكون شهيدًا. قلب الأسد، من وجهة نظري، هو نموذج الفروسية، وفارس لا غبار عليه، وقائدٌ مِثالي، وحاصل على وسام الخدمة المُتميزة ثلاث مرَّات. هل ستجلبين لي الكتاب الآن؟»

فردَّت، وهي تُسوِّي أحد أركان الفِراش بيدٍ ضخمة، وقد أعجبها ما قاله: «يبدو لي أنك في حاجةٍ ماسَّة إلى قراءة القليل من التاريخ؛ لذا سوف أُحضِر لك الكتاب عندما أمرُّ من هنا. سأخرج إلى دار السينما على أية حال.»

مضَت ساعة تقريبًا قبل أن تُعاوِد الظهور مرةً أخرى بهيئتها الضخمة مُرتديةً مِعطفًا مصنوعًا من وبَر الإبل. كانت مصابيح الغُرفة قد انطفأت فتجسَّدَت في ضوء مِصباح القراءة الخاص بجرانت كأنها إحدى الجِنِّيات الطيِّبات.

بادَرَته قائلةً: «كنتُ آمُل أن تكون قد نِمت. لا أظن حقًّا أنه يَحسُن بك البدء في هذَين الكتابَين الليلة.»

فردَّ جرانت: «إن كان يُوجَد شيء يُمكن أن يُساعدني على النوم فهو كتاب عن التاريخ الإنجليزي. لذا يُمكنكِ أن تُمسِكي بيدِ أحدهم بضميرٍ مُرتاح.»

«سأخرج مع المُمرِّضة باروز.»

«لا يزال بإمكانكِ أن تُمسِكي بيد أحدهم.»

فردَّت بلهجةٍ تفيض صبرًا: «لا صبر لي على تَحمُّلك»، ثم تراجعت مُختفيةً في الظلام.

كانت قد أحضرت كتابَين.

كان أحدهما من نوعية كُتُب التاريخ التي تُعرَف باسم «القارئ التاريخي». علاقة هذه الكتب بالتاريخ كعلاقة كتاب «قصص من الكتاب المُقدَّس» بالكتاب المُقدَّس. وبَّخ كنوت حاشيته على الشاطئ، وأحرق ألفريد الكعكات، وفرش رالي عباءته من أجل إليزابيث، وودَّع نيلسون هاردي في مَقصورته على متن سفينته فيكتوري، وكل ذلك كان مكتوبًا بخطٍّ كبيرٍ واضح مُنمَّق، وكل جملة تُشكِّل فقرةً كاملة. كانت تَعقُب كلَّ فصل صفحةٌ كاملة من الرسوم التوضيحية.

كان ثمة شيءٌ ما مُؤثِّر على نحوٍ غريب في احتفاظ «الأمازونية» بهذه الكتابات الطفولية. انتقل جرانت إلى الصفحة الأولى ليرى ما إذا كان اسمُها مكتوبًا. في الصفحة الأولى وجد الآتي:
«إلا دارول»،
الصف الثالث،
مدرسة نيو بريدج الثانوية،
نيو بريدج،
جلوسترشير،
إنجلترا،
أوروبا،
العالم،
الكون.

وكانت هذه الكلمات مُحاطة بمجموعةٍ مُنتقاة من الرسوم المنقولة والمُلوَّنة.

تساءل جرانت عمَّا إذا كان جميع الأطفال يفعلون ذلك؟ يكتبون أسماءهم بهذه الكيفية ويُمضون أوقاتهم في الفصول في نقل الرسوم. كان يفعل ذلك بالطبع. وجعله منظر هذه المُربَّعات ذات الألوان الأولية الفاقعة يسترجع ذكريات الطفولة كما لم يفعل أيُّ شيءٍ آخر منذ سنواتٍ كثيرة. كان قد نسيَ مُتعة نقل الرسوم. تلك اللحظة المُفعَمة بالنشوة المُذهِلة عندما تشرع في نزع ورقة الكربون وتجد الرسم مِثاليًّا. لا يضمُّ عالَم البالِغين إلا القليل من مِثل هذه اللحظات المُرضية. ربما كان أقرب الأمثلة على هذه اللحظات هو لحظة تسديدك كرةَ الجولف في الحفرة من ضربةٍ واحدة. أو لحظة شدِّ خَيط سنَّارتك وإدراكك أن السمكة قد عَلِقت بالخُطَّاف.

سُرَّ جرانت كثيرًا بهذا الكتاب الصغير حتى إنه راح يتصفَّحه في وقت فراغه. أخذ جرانت يقرأ بجديةٍ كل قصة من قصصه الطفولية. في نهاية المطاف، كان هذا هو التاريخ الذي يتذكره كل شخصٌ بالغ. كان هذا ما يتبقَّى في وِجدانه عندما تتلاشى من وعيه الرسوم الجمركية والضرائب، وضرائب السُّفن، وليتورجيا لاود، ومؤامرة راي هاوس، وتشريعات السنوات الثلاث، وهذه الفوضى الطويلة من الانشقاقات والاضطرابات والمعاهدات والخيانات.

حين أتى على قصة ريتشارد الثالث وجدها بعنوان «أميرَا البرج»، ويبدو أنَّ الفتاة لم ترَ الأميرَين إلا بديلًا غير كفء لقلب الأسد؛ إذ ملأت بقلمها الفراغ داخل كل حرف O طوال القصة بظلالٍ مُتقَنة. جاءت القصة مصحوبةً برسم للأميرَين الأشقرَين وهما يلعبان معًا تحت أشعَّة الشمس المُتسلِّلة من بين قُضبان النافذة، وقد ارتدى كلٌّ منهما عويناتٍ عفا عليها الزمن، وفي الصفحة البيضاء في خلفية الرسم لعب أحدٌ ما لُعبة X-O. لم يكن الأميران، من وجهة نظر الفتاة، إلا شخصيَّتَين مُخيِّبتَين للآمال.

على الرغم من ذلك، كانت القصة الصغيرة مُثيرة للاهتمام جدًّا. كانت بَشِعة بما يكفي لإسعاد قلب أي طفل. الطفلان البريئان؛ والعم شِرِّير. العناصر الكلاسيكية لقصةٍ ذات بساطة كلاسيكية.

كانت لها أيضًا رسالةٌ أخلاقية. كانت القصة التحذيرية المُثلى.

لكن الملك لم يجنِ أي مَكسب من هذه الفعلة الشنيعة. فقد فَزِع الشعب الإنجليزي من قسوته ووحشيَّته وقرَّر خلعه من العرش. أرسلوا إلى أحد أقربائه البعيدِين، وهو هنري تيودور، الذي كان يعيش في فرنسا، طالبين منه الحضور ليُتوِّجوه ملكًا بدلًا من ريتشارد. مات ريتشارد ببسالة في المعركة التي نتجت عن ذلك، لكنه كان قد جعل اسمه مكروهًا في جميع أنحاء البلاد، وتخلَّى عنه كثيرون ليُقاتِلوا في صفوف خصمه.

حسنًا، كان الكتاب مُنمَّقًا وجيِّد التنظيم لكن دون بَهرجة. سردٌ للوقائع في أبسط صوره.

انتقل جرانت إلى الكتاب الثاني.

كان الكتاب الثاني كتاب تاريخ مدرسي لا أكثر ولا أقل. كان يضمُّ تاريخ إنجلترا على مدار ألفَي عام مُقسَّمًا بعناية إلى أقسام لتسهيل الرجوع إليه. كانت الأقسام، كالعادة، هي العهود الملكية. لا غرابة في أن المرء كان يُلحِق كل شخصية تاريخية بعهدٍ مُعيَّن، مُتناسيًا أن بعض الشخصيات عرَفت أكثر من ملك وعاشت في ظلِّ أكثر من عهدٍ ملكي. اعتاد المرء أن يُصنِّفهم تلقائيًّا إلى خانات. «بيبس»: تشارلز الثاني. «شكسبير»: إليزابيث. «مارلبورو»: الملكة آن. لم يَخطُر على بال المرء قطُّ أن شخصًا قد رأى الملكة إليزابيث ربما يكون قد استطاع أن يرى جورج الأول أيضًا. لقد درَجْنا منذ طفولتنا على فكرة العهود الملكية.

ومع ذلك كان هذا التقليد يُبسِّط الأمور بالفعل عندما تكون مجرد شُرطي بساقٍ مُصابة وعمودٍ فقري مُعتل، يُفتش عن بعض المعلومات حول ملوك راحِلين مُحاولًا أن يمنع نفسه من أن يُصاب بالجنون.

فُوجِئ عندما وجد أنَّ عهد ريتشارد الثالث كان بالِغَ القِصَر. أن تصير واحدًا من أشهر الحُكام في تاريخ إنجلترا المُمتدِّ لألفَي عام، وأن تحتلَّ هذه المكانة خلال عامَين فقط، لهُوَ أمرٌ يُنبئ بشخصيةٍ بارعة. حتى وإن لم ينجح ريتشارد في اكتساب الحُلفاء فقد صنع تأثيرًا في حياة الناس بلا أدنى شك.

ذهب الكتاب أيضًا إلى أن ريتشارد كان ذا شخصيةٍ قوية.

كان ريتشارد رَجلًا عظيم القُدرات، لكنه كان مُنعدِم الضمير تمامًا حين يتعلق الأمر بالوسائل. فقد ادَّعى بجرأةٍ أحقيَّته بالعرش مُستندًا إلى حجةٍ سخيفة مُفادُها أن زواج أخيه من إليزابيث وودفيل غير قانوني؛ ومن ثَم فإن ولدَيهما غير شرعيَّين. وافَق على حُكمه الناسُ الذين خشوا من أقليَّة، واستهلَّ عهده بالتقدُّم نحو الجنوب حيث لقيَ تَرْحابًا. لكن خلال هذا التقدُّم، اختفى الأميران الصغيران اللذان كانا يعيشان في البرج، وقيل إنهما قُتِلا. اندلع بعد ذلك تمردٌ خطير، لكن ريتشارد قمعَه بوحشيَّةٍ بالغة. سعيًا إلى استعادة بعض من شعبيَّته المُتراجِعة، عقد ريتشارد برلمانًا مرَّر قوانين مُفيدة ضد التبرُّعات الإلزامية للملك ونظام النفقة والكسوة.

لكن تمرُّدًا ثانيًا اندلع. اتَّخذ هذا التمرُّد شكل الغزو؛ إذ جاء مصحوبًا بالقوات الفرنسية، وقادَه زعيم أسرة لانكستر، هنري تيودور. تلاقى هنري وريتشارد في بوسوورث بالقُرب من ليسترشير؛ حيث أدَّت خيانة الأخوَين ستانلي إلى ترجيح كفَّة هنري. لقيَ ريتشارد حتفه أثناء المعركة، بعدما قاتَل ببسالة، تاركًا سُمعةً لا تقلُّ سوءًا عن سُمعة جون.

بحقِّ السماء، ماذا كانت قيمة قرارات إلغاء التبرُّعات الإلزامية للملك ونظام النفقة والكسوة؟

وكيف رضيَ الإنجليز بأن تُقرِّر لهم القوات الفرنسية من يلي ريتشارد على عرش إنجلترا؟

لكن لا شك في أن فرنسا أيام حروب الوردتَين كانت لا تزال بمنزلة جزءٍ شِبه مُنفصل عن إنجلترا؛ إذ كان المُواطن الإنجليزي أقلَّ اغترابًا في فرنسا عنه في أيرلندا. فالإنجليز أثناء القرن الخامس عشر كانوا يذهبون إلى فرنسا باعتبارها وجهةً مُعتادة إليهم، أما أيرلندا فلم يكونوا يطئون أرضها إلا مُكرَهين.

رقد جرانت يُفكِّر في إنجلترا. ذلك البلد الذي شُنَّت من أجله حروب الوردتَين. إنجلترا الخضراء؛ بلا عمود مِدخنة واحد من كمبرلاند وصولًا إلى كورنوول. إنجلترا بلا أسيِجة، وبغاباتٍ تحفل بالطرائد وسبخاتٍ شاسعة مليئة بالطيور البرِّية. إنجلترا التي كانت تضمُّ ثُلَّة من المباني تتكرَّر الترتيب بنفسه كل بضعة أميال بلا نهاية: قلعة ثم كنيسة ثم أكواخ، دير ثم كنيسة ثم أكواخ، ضيعة ثم كنيسة ثم أكواخ. الأراضي المزروعة حول مجموعة المباني، ثم الغطاء الأخضر المُمتد فيما وراء ذلك. غطاءٌ أخضر مُتصل لا انقطاع له. الممرَّات المحفورة بعُمق وتمتدُّ من مجموعة إلى مجموعة، مُتحولةً إلى مُستنقَعات مُوحِلة شتاءً وحُفَر بيضاء مُغبرَّة صيفًا، تُزيِّنها الورود البرِّية أو تكسوها ثمار الزعرور الحمراء مع تعاقُب الفصول.

على مدار ثلاثين عامًا، وفوق هذه الأرض الخضراء غير المُزدحِمة، دارت حروب الوردتَين. لكنها كانت أخذًا بالثأر أكثر منها حربًا. كانت تُشبِه الصراع بين عائلتَي مونتاج وكابوليت؛ لم تكن تُهمُّ كثيرًا المُواطن الإنجليزي العادي. ما كنتَ ستجد من يتدافعون على بابك يطلبون معرفةَ ما إذا كنتَ تنتمي إلى آل يورك أم إلى آل لانكستر، ويَسوقونك إلى أحد معسكرات الاعتقال إن تبيَّن أن جوابك لم يَرُق لهم. كانت حربًا صغيرة مُركَّزة، تكاد تكون حفلًا خاصًّا. كانوا يخوضون معركة في حديقة منزلك، وحوَّلوا مطبخك إلى نقطة إسعاف ميدانية، ثم ينتقلون إلى مكان ما هنا أو هناك ليخوضوا معركةً أخرى، ثم يتنامى إلى سمعك بعد بضعة أسابيع ما جرى خلال هذه المعركة، فتنشب مشاجرة أُسرية حول ما تمخَّضَت عنه؛ لأن زوجتك كانت تؤيد في الغالب لانكستر، وربما كُنتَ أنت تؤيد يورك، والأمر برُمَّته أشبه بمتابعة فريقَي كرة قدم مُتنافسَين. ما كنت ستُعانيه من اضطهاد لكونك مؤيدًا لآل لانكستر أو آل يورك لن يزيد عما قد تُلاقيه من اضطهاد لتشجيعك فريق أرسنال أو تشيلسي.

ظل يُفكر في حال إنجلترا الخضراء تلك حتى غلبه النوم.

ولم يزدَد معرفةً على الإطلاق بالأميرَين الصغيرَين ومصيرهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤