الفصل الخامس

تبيَّن أن كتاب «زهرة رابي» كتابٌ أدبي، لكنه كان على الأقل أسهل في الإمساك به من كتاب تانر «التاريخ الدستوري لإنجلترا». عِلاوةً على ذلك، كان الكتاب هو أقربَ شكلٍ لائق للأدب التاريخي الذي هو عبارة عن مجرد تاريخ تتخلله مُحادَثات إن جاز التعبير. كان سيرةً خياليةً أكثر من كونه قصةً من نسج الخيال. وقد أمدَّته إيفيلين باين إليس، أيًّا من كانت، ببورتريهات وشجرة للعائلة، ويبدو أنها لم تكن تُحاوِل أن «تكتب بواقعية» كما كان جرانت هو وقريبته لورا يُطلِقان على ذلك في طفولتهما. لم تكن تُوجَد عبارات من قبيل «بحق العذراء» ولا «انعدام رحمة» أو «معدومي الضمير». كان الكتاب نزيهًا وفقًا لِما يُسلِّط عليه الضوء.

وما يُسلِّط عليه الضوء كان تثقيفيًّا أكثر من كتاب السيد تانر.

أكثر تثقيفًا بكثير.

كان في اعتقاد جرانت أن المرء حين لا يستطيع أن يعرف بشأن أحد الأشخاص، فإن ثانيَ أفضل طريقة للوقوف على تقدير له هي مُحاولة معرفة المزيد عن والدته.

لذا، إلى أن تتمكن مارتا من الإتيان له برواية توماس مور الشخصية عن ريتشارد، التي كانت مُبجَّلة ومعصومة من الخطأ، سيكتفي بسيسيلي نيفيل دوقة يورك، وسيكون في غاية السعادة.

نظر جرانت إلى شجرة العائلة، وفكَّر في أن الأخوَين من آل يورك، إدوارد وريتشارد، وإن كانا مُميَّزَين، كملِكَين، في تَجرِبتهما للحياة العادية، فإنهما لم يكونا أقل تميزًا في كونهما إنجليزيَّين. تُفكِّر جرانت في تربيتهما وتعجب. نيفيل وفيتزالان وبيرسي وهولاند ومورتيمر وكليفورد وأودلي بالإضافة إلى بلانتاجانت. والملكة إليزابيث (التي جعلت من كونها إنجليزيةً مصدر فخر لها) كانت إنجليزية حتى النخاع، إن كان المرء يَعدُّ المسحةَ الويلزية إنجليزية. لكن من بين كل الملوك الهُجَناء الذين ارتقَوا العرش بين الغزو وجورج المزارع — الذين كانوا نصف فرنسيين ونصف إسبان ونصف دنماركيين ونصف هولنديين ونصف بُرتغاليين — كان كلٌّ من إدوارد الرابع وريتشارد الثالث رائعَين فيما يتعلق بجودة تربيتهما.

ولاحظ أيضًا أنهما كانا يتربَّيان تربيةً ملَكية من جانب والدتهما بنفس القدر الذي كان من جانب والدهما. كان جد سيسيلي نيفيل هو جون جونت، وهو أول دوق للانكستر، والابن الثالث لإدوارد الثالث. أما جدَّا زوجها فكانا ابنَين آخرين من أبناء إدوارد الثالث. لذا، فقد شارَك ثلاثة من أصل خمسة من أبناء إدوارد الثالث في تربية الشقيقَين من آل يورك.

قالت الآنسة باين إليس: «أن تكون من آل نيفيل كان يعني أنك تتمتَّع ببعض الأهمية؛ لأن آل نيفيل كانوا من كبار مُلَّاك الأراضي. وأن تكون من آل نيفيل كان يعني أن تكون وسيمًا بصورةٍ شِبه مُؤكَّدة؛ وذلك لأن العائلة كانت جميلة المظهر. وأن تكون من آل نيفيل كان يعني أن تكون ذا شخصية؛ لأن العائلة امتازت في إبرازِ كلٍّ من شخصياتهم وطباعهم. وكان توحيد هذه العطايا لدى آل نيفيل بأفضل جودة في شخصٍ واحد من حُسن حظ سيسيلي نيفيل، التي كانت زهرة الشمال الوحيدة منذ وقتٍ طويل قبل أن يُجبَر الشمال على الاختيار بين الزهور البيضاء والحمراء.»

كان رأي الآنسة باين إليس أن الزواج من ريتشارد بلانتاجانت، دوق يورك، كان زواجًا مُتناسبًا قائمًا على الحُب. تلقَّى جرانت هذه النظرية بتشكُّكٍ يكاد يَصِل إلى حد الازدراء حتى لاحظ نتائج هذا الزواج. ففي القرن الخامس عشر، أن تَحدُث إضافةٌ سنوية للعائلة لم يكن دليلًا على أي شيء سوى الخصوبة. ولم تُبشِّر تلك العائلة الكبيرة التي أنجبتها سيسيلي نيفيل لزوجها الوسيم بشيءٍ أقرب إلى الحُب من التعايش. لكن في الوقت الذي كان دور المرأة فيه ينحصر في المُكوث في المنزل بخنوع وتقديم الرعاية في حجرة الاستذكار، كان تَرْحال سيسيلي نيفيل المُستمرُّ في الأرجاء بصُحبة زوجها بارزًا بما يكفي للإشارة إلى سعادةٍ غير عادية بتلك الصحبة. وما كان يشهد على مدى تلك الرحلات وانتظامها هو أماكن ولادة أطفالها. إذ وُلِدت طفلتها البِكر آن في فوثرينجهاي، وهو منزل العائلة في نورثهامبتونشير. أما هنري الذي مات رضيعًا فوُلِد في هاتفيلد. ووُلِد إدوارد في روان حيث كان الدوق لا يزال في الخدمة. وكذلك وُلِد كلٌّ من إدموند وإليزابيث في روان. ووُلِدت مارجريت في فوثرينجهاي. أما جون الذي مات صغيرًا فوُلِد في نيث، في ويلز. ووُلِد جورج في دبلن (وتساءل جرانت في نفسه، هل من المُمكن لهذا أن يُفسِّر العناد شِبه الأيرلندي لدى جورج الفائق الوصف؟). أما ريتشارد فوُلِد في فوثرينجهاي.

لم تجلس سيسيلي نيفيل في المنزل في نورثهامبتونشير في انتظار زيارة زوجها وسيدها حين يَستهويه ذلك. بل رافَقته حول عالَمهما الذي يقطنان فيه. كانت تُوجَد قرينةٌ قوية تصبُّ في صالح نظرية الآنسة باين إليس. فقد كانت تلك الزيجة في غاية النجاح بالفعل، وذلك بحسب أبرع التقديرات.

ربما يكون ذلك هو السبب وراء التفاني الأُسري في تلك الزيارات اليومية من جانب إدوارد إلى إخوته الصغار في نُزُل آل باستون. كانت عائلة يُورك مُتحدة ومُترابطة حتى قبل إصابتها بالمِحَن والبلايا.

وقد تأكَّدَت لدى جرانت صحة ذلك حين أتى بشكلٍ غير مُتوقَّع على خطاب بينما كان يُقلِّب الصفحات بإبهامه. كان خطابًا من الصبيَّين الأكبر سنًّا، إدوارد وإدموند، إلى أبيهما. كان الصبيَّان في قلعة لودلو يتلقَّيان تعليمهما؛ وفي يوم سبت من أسبوع عيد الفِصح، مُستغلَّين عودة الساعي، انفجر الصبيَّان في تَذمُّر صارخ من مُعلِّمهما ومن كراهة طبعه، وتوسَّلا لأبيهما أن يستمع إلى قصة الساعي ويليام سميث الذي عهدا إليه بكافة التفاصيل عن الاضطهاد الذي كانا يَلقيانه. قُدِّمت تلك الاستغاثة وانتهت بحاشيةٍ مُتَّسِمة بالتوقير، وشابت قليلًا الشكلياتِ فيها إشارتُهما إلى أنه كان لطيفًا من جانب أبيهما أن يُرسِل الثياب، لكنه نسسَ كتابَ أدعِيتهما.

لقد أوردت الآنسة باين إليس اليَقِظة الضمير مَرجِع هذا الخطاب (والذي تبيَّن أنه من أحد المخطوطات القطنية)، وأخذ جرانت يُقلِّب الصفحات من تحت إبهامه ببطءٍ أكثر؛ بحثًا عن المزيد. إذ كانت الأدلة الوقائعية هي صميم ما يرنو إليه رجل الشرطة.

لم يستطع جرانت أن يجد المزيد، لكنه أتى على مشهدٍ أُسري جعله يتوقَّف لحظة.

خرجت الدوقة تحت أشعة الشمس الحادَّة الرقيقة في لندن في صباح أحد أيام شهر ديسمبر، ووقفت على الدَّرَج تُراقبهم وهم يرحلون؛ زوجها، وأخوها، وابنها. أحضر ديرك وأبناء أخيه الجياد إلى الفناء، فطار الحمام والعصافير المُزقزِقة من المكان. راقبت الدوقة زوجها وهو يَمتطي الجواد في رصانة وتروٍّ كالمُعتاد، وظنَّت، بسبب كل تلك المشاعر التي أظهرها، أنه ماضٍ إلى فوثرينجهاي ليُلقيَ نظرةً على بعض الكِباش الجديدة وليس مُنطلقًا في حملة. كان أخوها سالزبوري يتصرَّف بحِدَّة على طريقة آل نيفيل؛ حيث كان مُدركًا قليلًا للحدث ويتعامل على قدره. نظرت الدوقة إليهما وابتسمت في نفسها. لكن إدموند كان من يشغل لُبَّها. كان إدموند ابنُ السابعة عشرة نحيلًا جدًّا وغير مُحنَّك وفي غاية الضَّعف. كان وجهه مُتورِّدًا من الفخر، ويشعُر بحماسةٍ تجاه الانطلاق إلى حملته الأولى. أرادت الدوقة أن تقول لزوجها: «اعتنِ بإدموند»، لكنها لم تستطع أن تفعل ذلك. ما كان زوجها ليفهم، وإن داعَب الشكُّ إدموند فسيغضب غضبًا شديدًا. ما دام إدوارد، الذي كان يَكبره بعامٍ واحد فقط، قائدًا بنفسه لجيش على حدود ويلز في هذه اللحظة تحديدًا، إذَن فإدموند كبير بما يكفي ليشهد الحرب بنفسه.

نظرت خلفها إلى أطفالها الثلاثة الأصغر الذين كانوا قد خرجوا في إثرها؛ مارجريت وجورج المُتماسكين اللطيفين، وخلفهما بخطوة كعادته ريتشارد، طفلها المبدول؛ بحاجبَيه الداكنين وشعره البُنِّي اللذَين جعلاه يبدو كزائر. راحت مارجريت الطَّلْقةَ المُحيَّا غير المُهندَمة تُشاهد الموقف بعينَين دامعتَين لفتاة في الرابعة عشرة من عمرها، وكان جورج يُشاهد بحسدٍ محموم وتمرُّد جامح؛ لأنه كان في الحادية عشرة من عمره فقط وليس له أهمية في لحظة الحرب والشجاعة هذه. ولم يُظهِر ريتشارد الصغير الرفيع أيَّ انفعال، لكن أُمَّه كانت تظن أنه يرتجف من الداخل كطبلة تُقرَع قرعًا خفيفًا.

خرجت الجياد الثلاثة من الفناء وسط جلبة انزلاق الحوافر وجلجلة صوت عتاد الحرب؛ ليلحقوا بالخدم الذين ينتظرونهم على الطريق، وأخذ الأطفال يُنادون عليهم ويتراقصون ويلوِّحون لهم أثناء خروجهم من البوَّابة.

أما سيسيلي، التي شاهدت في سابق العهد الكثيرَ من الرجال وكذلك الكثير من أفراد أُسرتها وهم يرحلون، فعادت إلى المنزل وهي تشعر بثقلٍ غريب على صدرها. إذ قال الصوت المُعارِض في عقلها: أيهم الذي لن يعود؟

لم تتَّجه مُخيِّلتها نحو أي شيء بفظاعة أن لا أحد منهم سيعود مرةً أخرى. أنها لن ترى أيًّا منهم ثانيةً.

لم تتصوَّر أنه قبل انتهاء العام سيُعلَّق رأس زوجها المقطوع، الذي تُوِّج بتاجٍ ورقي على سبيل الإهانة على بوَّابة ميكلجيت بار في يورك، وأن رأسَي أخيها وابنها سيُعلَّقان على البوَّابتَين الأُخريَين.

حسنًا، قد يكون هذا خيالًا، لكنه كان يُمثِّل لمحةً تنويرية عن ريتشارد. الطفل ذي الشعر الداكن في أسرةٍ شقراء. الطفل الذي «بدا كأنه زائر». «الطفل المبدول».

نحَّى جرانت سيسيلي نيفيل جانبًا في الوقت الراهن، وراح يُقلِّب في الكتاب بحثًا عن ابنها ريتشارد. لكن بدا أنَّ الآنسة باين إليس لم تكن تُبدي اهتمامًا كبيرًا بريتشارد. لم يكن ريتشارد سوى آخر عنقود العائلة. أما الشابُّ اليافع الرائع الذي ترعرع على الطرف الآخر من العنقود فكان أقربَ إلى ما تُفضله. كان إدوارد هو الأقرب إلى الصدارة. انتصر، مع قريبه ورويك، ابن سالزبوري، في معركة توتون، ومع ذكرى ضراوة لانكستر التي لم تزَل حاضرة في ذهنه ورأس والده الذي كان لا يزال مُعلَّقًا على ميكلجيت بار، قدَّم إدوارد دليلًا على سماحته التي كانت من شِيَمه. مُنِحت الرحمة في توتون لكلِّ من طلبها. تُوِّج ملكًا على إنجلترا في كنيسة ويستمنستر آبي (ونصَّب صبيَّين صغيرَين عادا إلى الوطن من منفاهما في أوترخت دوقين لكلارينس وجلوستر على التوالي). ثُم دَفن أباه وأخاه في مشهدٍ مَهيب في كنيسة فوثرينجهاي (مع أن ريتشارد، البالغ من العمر حينها ثلاثة عشر عامًا، كان هو من انتقل مع الموكب الجنائزي من يوركشاير، خلال خمسة أيام من أيام شهر يوليو الساطعة بشمس المجد، إلى نورثهامبتونشير، بعد ما يَقرُب من ستة أعوام من وقوفه على عتبة قلعة بينارد في لندن يُشاهدهما وهما يرحلان).

ولم تسمح الآنسة باين إليس بعودة ريتشارد إلى القصة مرةً أُخرى إلا بعد تتويج إدوارد ببعض الوقت. كان حينها يتلقى تعليمه مع أقاربه من آل نيفيل في قلعة ميديلهام، بيوركشاير.

بينما كان ريتشارد مُمتطيًا جواده في ظل القلعة، مُبتعدًا عن ضوء الشمس المباشر والرياح الشديدة في وينسليديل، بدا له أن المكان يَلفُّه جوٌّ غريب. كان الحُراس يتحدثون بنبرةٍ عالية تنمُّ عن الإثارة في نقطة الحراسة على البوَّابة، وبدَوا مُرتبِكين من ظهوره. تركهم خلفه وقد رانَ عليهم صمتٌ مُفاجئ، وتابَع المُضيَّ بجواده حتى وصل إلى بلاطٍ صامت كان ينبغي به أن يعجَّ بالنشاط في مثل هذه الساعة من اليوم. إذ كان وقت الطعام سيحلُّ قريبًا، وكان الطعام وكذلك العادة يُعيدان كلَّ قاطني قلعة ميديلهام من أعمالهم المُختلفة، كما أعاداه من رحلة صيده بالصقر من أجل تناول وجبة الطعام المسائية. هذا الصمت وذلك التراجع لم يكونا مُعتادَين. سار ريتشارد بجواده إلى الإسطبل، لكن لم يكن هناك أحد ليُعطيَه إيَّاه. وبينما كان يحلُّ السَّرج لاحظ جوادًا يُعاني بشدة في المَربط المُجاور؛ جوادًا لم يكن ينتمي إلى قلعة ميديلهام؛ جوادًا مُتعَبًا بشدة لدرجة أنه لم يأكل، وكان رأسه مُطأطأً بين رُكبتَيه من الجَزع.

مسح ريتشارد حِصانه وغطَّاه وأحضر له شيئًا من التبن والماء الصافي، وتركه وهو يُفكِّر في ذلك الحِصان المُرهَق المُضطرِب وذاك السكون الغريب. وحين توقَّف عند مدخل الباب سمع أصواتًا من بعيدٍ آتية من الردهة الكبرى، وفكَّر في نفسه إن كان عليه أن يذهب إلى هناك ويستفسر عما يَحدُث قبل أن يصعد الدرج إلى مَهجعه. وأثناء وقوفه مُترددًا جاءه صوتٌ يُحاول جذب انتباهه على الدرَج من فوقه.

رفع ناظرَيه فإذا به يرى رأس قريبته آن تُطلُّ من شُرفة السُّلَّم، وكانت ضفيرتاها الطويلتان تتدلَّيان من رأسها كأنهما أحبال جرس.

قالت بصوتٍ يكاد يقترب من الهمس: «ريتشارد!» وأردفت تسأله: «هل سمعت؟»

فسألها: «هل ثَمة خَطب؟» وتابَع: «ما الأمر؟»

وبينما كان يصعد الدرج نحوها أمسكت بيده وجرَّته إلى الأعلى نحو غُرفة الدراسة في السطح.

سألها: «ولكن ما الأمر؟» وهو يميل نحو الخلف مُعترضًا على إلحاحها. واستطرد: «ما الذي حدث؟ هل هو شيء مُريع إلى حدِّ أنكِ لا تستطيعين أن تُخبريني به هنا؟!»

دفعَتْه إلى داخل غُرفة الدراسة وأغلقت الباب خلفها.

«إنه إدوارد!»

«إدوارد؟ أهو مُتوعِّك؟»

«لا! «فضيحة»!»

قال ريتشارد بنبرة ارتياح: «أوه.» وسألها: «ما الأمر؟ عشيقةٌ جديدة؟» إذ كان إدوارد والفضائح صِنوَين لا ينفصمان أبدًا.

«أسوأ من ذلك بكثير! أوه، أسوأ بكثير جدًّا. إنه مُتزوج.»

قال ريتشارد غيرَ مُصدِّق تمامًا، حتى إنه بدا هادئًا: «متزوج؟» وأردف: «لا يمكن.»

«لكنه بالفعل مُتزوج. جاء الخبر من لندن قبل ساعة.»

قال ريتشارد بإصرار: «لا يمكن أن يكون مُتزوجًا.» وتابَع: «لأن زواج الملك مسألةٌ طويلة. مسألة عقود واتفاقيات. مسألة يتدخَّل فيها حتى البرلمان، بحسب ظني. ما الذي يجعلك تظنين أنه قد تزوَّج؟»

قالت آن وقد نَفِد صبرها من تلقِّيه ذلك الخبر بهدوء: «ليس ظنًّا.» وأضافت: «إن الردهة الكبرى تضجُّ بالعائلة كلها، وهم يتبادلون الحديث بغضبٍ جامح حول هذه المسألة.»

«آن! هل كنت تتسمَّعين عبر الباب؟»

«أوه، لا تدَّعي الصلاح هكذا. لم أكُن بحاجة إلى أن أتسمَّع على أي حال. يمكنك أن تسمعهم من الضفة الأخرى من النهر. لقد تزوَّج الليدي جراي!»

«من تقصدين بالليدي جراي؟ أهي الليدي جراي من جروبي؟»

«أجل.»

«لكن لا يُمكنه ذلك. إن لدَيها من الأطفال اثنَين، وهي كبيرة في السن بعض الشيء.»

«إنها أكبر من إدوارد بخمسة أعوام، وسمعتُ أنها رائعة الجمال.»

«متى حدث هذا؟»

«إنهما مُتزوِّجان منذ خمسة أشهُر. تزوَّجا سرًّا في مقاطعة نورثهامبتونشير.»

«لكنني كنت أظنُّ أنه سيتزوَّج أخت ملك فرنسا.»

قالت آن بنبرةٍ تحمل الكثير من المعاني: «وهكذا ظن أبي.»

«أجل، أجل، هذا يجعل الأمور في غاية الإحراج له، صحيح؛ بعد كل هذه المفاوضات.»

«يقول الرسول الذي أتى من لندن إنه يُرغي ويُزبد. ليس فقط لأن ذلك يجعله يبدو كالأحمق. يبدو أن لديها مجموعة من الأقارب وهو يكرههم جميعًا.»

«لا بد أن إدوارد ممسوس.» في عينَي ريتشارد، الذي كان يَعتبر إدوارد بطلًا ويُحبه لدرجة العبودية، كان كل شيء يفعله إدوارد صواب. هذه الحماقة، هذه الحماقة التي لا يمكن إنكارها ولا تبريرها، لا تأتي إلا من مس.

قال ريتشارد: «سيَفطُر هذا قلب أُمي.» تذكَّر ريتشارد شجاعة أُمه حين قُتِل والده وإدموند، وحين وصل جيش لانكستر إلى بوَّابات لندن. لم تنتحب ولم تكتسِ بوشاح الشفقة على الذات. بل رتَّبت أن يذهب هو وجورج إلى أوترخت، وكأنها تُرتِّب لهما أن يرحلا إلى المدرسة. ربما لن يتمكنوا من رؤية بعضهم بعضًا مرةً أخرى، لكنها كانت تشغل نفسها بتحضير ملابس دافئة لهما من أجل رحلتهم الشتوية عبر القناة بعينَين هادئتَين غير دامعتَين.

كيف لها أن تتحمَّل هذه الضربة الإضافية؟ هذه الحماقة المُدمِّرة. هذا الطيش القاصم.

قالت آن، برِقَّة: «أجل، مسكينة أنتِ أيتها العمَّة سيسيلي. هذه فظاعة من قِبَل إدوارد؛ أن يتسبَّب في الألم لكل من حوله بهذا الشكل. هذا فظيع.»

لكن إدوارد كان لا يزال الرجل المعصوم من الخطأ. وإن ارتكب إدوارد فعلًا خاطئًا فهذا لأنه مريض، أو ممسوس، أو مسحور. كان إدوارد لا يزال يَحظى بولاء ريتشارد؛ ولائه العميق الذي يكاد يَصِل إلى حدِّ التقديس.

لم يزدَدْ ذلك الولاء بعد مرور سنوات إلا عُمقًا؛ ولاء ناضج قائم على التقدير والتقبُّل.

ثم انتقلت القصة إلى سيسيلي نيفيل وما كانت فيه من مُعاناة، وجهودها من أجل إحلال نوع من النظام على العلاقة بين ابنها إدوارد، الذي اختلطت لديه مشاعر السعادة بالخِزي والخجل، وابن أخيها ورويك، الذي كان يستشيط غضبًا. كما كان يُوجَد أيضًا وصفٌ مُطوَّل لتلك المرأة ذات الجمال الفاضل الراسخ والشعر «المُذهَّب» الشهير، التي نجحت فيما فشلت فيه فتَياتٌ أُخريات أكثر جمالًا وكياسة؛ وكذلك وصف لتتويجها في ريدينج آبي (يقودها إلى العرش ورويك الذي كان يحتجُّ في صمت، والذي لم يستطع أن يتوقَّف عن ملاحظة الطائفة الكبيرة التي أتت من وودفيل لرؤية أُختهم إليزابيث وهي تُتوَّج ملكة لإنجلترا).

المرة التالية التي ظهر ريتشارد فيها في القصة كانت حين كان ينطلق من لين دُونَ بنسٍ واحد في جَيبه، في سفينةٍ هولندية تَصادفَ وجودها في الميناء حين كانت ثَمة حاجة لها. كان معه أخوه إدوارد، وصديق إدوارد اللورد هيستنجز، وبضعة أتباع. ولم يكن أيٌّ منهم يملك أيَّ شيءٍ سوى ملابسهم، وبعد القليل من الجدال وافَق ربَّان السفينة على القبول بعباءةِ إدوارد، التي يحفُّها الفرو، أُجرةً للركوب.

قرَّر ورويك أخيرًا أنه لا يستطيع أن يُطيق عشيرة وودفيل أكثر من ذلك. لقد ساعَد في تنصيب ابن عمومته إدوارد على عرش إنجلترا، وبنفس السهولة يُمكِن له أن يخلعه عن العرش. لتحقيق هذا حصل على مساعدةِ كل نسل آل نيفيل، وكذلك المساعدة الحثيثة من جورج الفائق الوصف، الذي كان قد قرَّر أن كونه وريثًا لنصف أراضي عائلة مونتاج ونيفيل وبوشامب عن طريق الزواج بابنة ورويك الأخرى إيزابيل هو رهانٌ أفضل من كونه مُواليًا لأخيه إدوارد. وفي غضون أحد عشر يومًا أصبح ورويك سيد إنجلترا وسط حالة من الذهول، بينما كان إدوارد وريتشارد يخوضان الوحل في شهر أكتوبر بين ألكامار ولاهاي.

ومن ذلك الحين فصاعدًا، كان ريتشارد موجودًا دائمًا في خلفية القصة. كان موجودًا عبر ذلك الشتاء الكئيب في مدينة بروج. وكان مُقيمًا مع مارجريت في بورجندي؛ لأن مارجريت التي كانت قد وقفت إلى جواره هو وجورج على درجات قلعة بينارد تُشاهد معهما بعينَين دامعتَين أباها وهو يُغادر، كانت هي نفسها حينئذٍ دوقة بورجندي الجديدة. شعرت مارجريت الطيبة القلب بالحزن والفزع، كما كان سيَحدُث مع الكثير من الناس في المستقبل جرَّاء تصرُّفات جورج غير المُبرَّرة، وكرَّست نفسها للعمل التبشيري بينما جمعت المال من أجلها ومن أجل أخوَيها الرائعَين.

لم يكن يُمكن حتى لاهتمام الآنسة باين إليس بإدوارد المهيب أن يسمح لها بإخفاء أنَّ الجهد الحقيقي المبذول لتجهيز السفن التي استؤجرت بأموال مارجريت كان من قِبَل ريتشارد؛ ريتشارد الذي لم يكن قد بلغ من العمر ثمانية عشر عامًا بعد. وحين وجد إدوارد نفسه بصُحبة حفنة سخيفة من أتباعه يُعسكرون مرةً أخرى في مرجةٍ إنجليزية لمُواجهة جورج وجيشه، كان ريتشارد هو من ذهب إلى معسكر جورج الذي كانت مارجريت قد أثَّرت فيه، وتحدَّث إليه وأقنعه بالدخول في تَحالُف مرةً أخرى؛ وبهذا ترك الطريق إلى لندن مفتوحًا أمامهم.

ارتأى جرانت أن هذا التصرُّف الأخير لم يكن إنجازًا عظيمًا. إذ كان واضحًا أن من الممكن إقناع جورج بأي شيء. فجورج بفِطرته كان سهل المِراس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤