الفصل السادس

لم يكَد جرانت يَفرُغ من كتاب «وردة رابي» ومن مسرَّات الأدب المحظورة حتى وصل طردٌ من مارتا، في صباح اليوم التالي عند الساعة الحادية عشرة تقريبًا، يحتوي على التسلية التاريخية الأكثر احترامًا كما سجَّلها السير توماس المُبجَّل.

ومع الكتاب كانت تُوجَد رسالةٌ مكتوبة بخطِّ يد مارتا الكبير الممدود على ورق مُفكرتها القوي الباهظ الثمن.

«كان عليَّ أن أُرسِل هذا بدلًا من أن أُحضره. فأنا في غاية الانشغال. أظنُّ أنَّني أوصلت إم. إم. إلى نقطة الخلاف الشائكة فيما يخصُّ بليسنجتون. لم يكن يُوجَد أيٌّ من كتابات توماس مور في أيٍّ من متاجر الكتب؛ لذا ذهبت إلى المكتبة العامة. لا أعرف لمَ لا يُفكِّر المرء أبدًا في المكتبات العامة. ربما لأننا نتوقَّع أن نجد الكتب لزجة الملمس. أظنُّ أن هذا الكتاب يبدو نظيفًا وغير لزج إلى حدٍّ كبير. أمامك مهلة أربعة عشر يومًا. يبدو هذا كمُدَّة عقوبة أكثر ممَّا يبدو كمُدَّة إقراض. آمُل أن اهتمامك بالأحدب هذا يعني أن الوخْز صار أقلَّ إزعاجًا. حتى ألقاك قريبًا.»

مارتا.

بدا الكتاب بالفعل نظيفًا وغير رطب، وإن بدا عتيقًا بعض الشيء. لكن بعد القراءة الخفيفة لكتاب «وردة رابي»، بدت هذه الطبعة غير مُثيرة، وبدت فقرات الكتاب الجامدة بغيضة. غَيْر أنه انقضَّ على الكتاب باهتمامٍ بالغ. ففي نهاية المطاف، كان هذا الكتاب فيما يختصُّ بريتشارد الثالث هو «أصل الحكاية».

عاد جرانت من انغماسه في الكتاب بعد ساعة مُتحيرًا بشكلٍ غامض، وشاعرًا بعدم الارتياح. لم يكن السبب أن الأمر سبَّب له مفاجأة؛ إذ كانت الوقائع كما توقَّعها إلى حدٍّ كبير. لكن كان السبب أنه لم يكن يتوقَّع أن يكتب السير توماس بهذا الأسلوب.

«كانت راحته منغصةً أثناء الليالي، فكان يرقد لوقتٍ طويل مُستيقظًا غارقًا في التفكير، مُرهَقًا حدَّ الألم من الهمِّ والسهر، كان يغفو ولا ينام بعُمق. وهكذا راح قلبه غير المُطمئن يتقلَّب ويتداعى باستمرار؛ بسبب تذكُّره العاصف لأبشع أفعاله، والتأثير الشاقِّ لذلك عليه.»

كان ذلك لا بأس به. لكن حين أضاف أنه «كان قد عرف هذا السِّر من خادمات الغُرف لديه»، شعر جرانت فجأةً بالنفور. فاحت من الصفحات رائحة الثرثرة والنميمة التي تَحدُث عند الدَّرَج الخلفي، كما فاحت رائحة الخدم الذين يتجسَّسون. لذلك تحوَّل دون أن يعيَ من التعاطف مع المُعلِّق المُتعجرِف إلى المخلوق المعذَّب الذي يرقد على سريره وقد جافاه النوم. بدا القاتل ذا منزلة ومكانةٍ أكبر من تلك التي كان يتحلَّى بها الرجل الذي كان يكتب عنه.

الأمر الذي كان خاطئًا تمامًا.

شعر جرانت أيضًا بعدم الارتياح الذي ملأه حين استمع إلى شاهدٍ يقصُّ قصةً مثالية كان يَعلَم أنها مَعيبة في مرحلةٍ ما.

وكان ذلك بالتأكيد مُثيرًا لحَيرة ورِيبة كبيرتَين. ما الخَطب الذي يمكن أن يكون في سردٍ شخصي لرَجلٍ كان مُبجَّلًا بسبب نزاهته كما كان توماس مور يُبجَّل طيلةَ أربعة قرون؟

ارتأى جرانت أنَّ ريتشارد، الذي ظهَر في سرد مور، شخصٌ كانت رئيسة المُمرِّضات ستتعرَّف عليه. رجل في غاية التوتُّر، وقادر على فعل شرور عظيمة وإحداث مُعاناة هائلة. «لم يكن ذهنه يهدأ قط، ولم يكن يظنُّ أنه بمأمن قط. كانت عيناه تتجوَّلان في الأرجاء، وجسده مؤمَّنًا دائمًا على نحوٍ غير ظاهر، ويدُه دائمًا على خنجره، ومُحيَّاه وأسلوبه كمُحيَّا وأسلوب شخص على استعداد لأن يُهاجِم مرةً أخرى.»

وبالطبع كان موجودًا ذلك المشهد الدرامي، إن لم يُوصَف بالهستيري، الذي تذكَّره جرانت من أيَّام صباه، والذي يتذكَّره كل تلميذ على الأرجح. مشهد المجلس في البرج قبل أن يُقدِّم مُطالبته للتاج. تحدِّي ريتشارد المُفاجئ لهيستنجز فيما يتعلق بالجزاء المُلائم لرَجلٍ دبَّر لموت حامي المملكة. الادعاء الجنوني بأن زوجة إدوارد وعشيقته (جين شور) كانتا مسئولتَين عن ذراعه الضامرة بسِحرهما. ضرَب الطاولة في فورة غضبه؛ الأمر الذي كان فيه إشارة إلى أتباعه للاندفاع وإلقاء القبض على اللورد هيستنجز واللورد ستانلي وجون مورتون أسقف إيلي. والإسراع بهيستنجز إلى الساحة، وقطع رأسه على قطعةِ خشب كانت موجودة بالجوار بعد وقتٍ ضئيل للغاية من اعترافه أمام أول قس أمكنَ العثور عليه.

كانت تلك بالتأكيد صورة رجل يتصرَّف أولًا بدافع الغضب والخوف والانتقام، ثم يتأسَّف بعد ذلك.

لكن بدا أنه كان قادرًا على اقترافِ آثامٍ مدروسة أكثر. إذ جعل الدكتور شو، شقيق اللورد مايور، يُلقي موعظةً في الثاني والعشرين من شهر يونيو عند صليب القديس بولس، عن النص الآتي: «لا ينبغي أن تتوطَّد جذور اللُّقَطاء». حيث أكَّد الدكتور شُو أن كلًّا من إدوارد وجورج كانا ابنَي دوقة يورك من رَجلٍ مجهول، وأن ريتشارد هو الابن الشرعي الوحيد لدوق ودوقة يورك.

كان هذا سخيفًا في حدِّ ذاته ومُستبعَدًا جدًّا، حتى إن جرانت عاد وقرأه مرةً أخرى. لكنه كان لا يزال يُوحي بالشيء نفسه. وهو أن ريتشارد خاض في عِرض أُمه على مَسمع من العامة ومن أجل مصلحته المادية الشخصية، بعملٍ شائن لا يُصدَّق.

حسنًا، لقد قالها السير توماس مور. وإن كان أحدٌ يعرف عن هذا الأمر شيئًا فهو توماس مور. وإن كان أحدٌ يعرف كيف يختار وينتقي من بين أصحاب المصداقية في سردِ واقعةٍ ما فلا بدَّ أن يكون توماس مور، رئيس مجلس لوردات إنجلترا.

قال السير توماس إنَّ أُم ريتشارد اشتكت بمرارة من التشهير والافتراء اللذَين رماها بهما ابنُها. ارتأى جرانت أن هذا كان أمرًا مفهومًا من جانبها على وجه العموم.

أما عن الدكتور شو فقد سيطر عليه الندم. سيطر عليه بشدة لدرجة أنه «في غضون أيام كان قد ذبل ومات».

قال جرانت في نفسه إنه ربما يكون قد أُصيبَ بسكتة على الأرجح. ولا عَجب كثيرًا في ذلك. لا بدَّ أن وقوفه وسرده تلك القصة على مسامع حشد من اللندنيِّين كان يحتاج إلى جرأةٍ كبيرة.

أما رواية السير توماس عن أُمراء البرج فكانت مُشابهة لرواية «الأمازونية»، لكن نسخة السير توماس كانت أكثر تفصيلًا. كان ريتشارد قد ألمح إلى روبرت براكينبيري، آمِر البرج، بأنَّ اختفاء الأميرَين قد يكون أمرًا محمودًا، لكن براكينبيري ما كان ليُشارك في مثل هذا الفعل بأيِّ شكل من الأشكال. لذا فقد انتظر ريتشارد حتى ذهب إلى ورويك، وذلك أثناء تقدُّمه عبر إنجلترا بعد تتويجه، ثم أرسل تيريل إلى لندن بأوامر تقضي بأن يتسلَّم مِفتاح البرج لليلةٍ واحدة. وأثناء تلك الليلة أقدم خسيسان، هما دايتون وفوريست، وكان أحدهما سائسًا والآخر سجَّانًا، على قتل الصبيَّين خنقًا.

عند هذه النقطة أتت «القزمة» ومعها غداؤه، وأخذت الكتاب من يده؛ وبينما كان يتناول فطيرةَ الراعي من الصحن إلى فمه بالشوكة راح يُفكِّر مرةً أخرى في وجه الرجل الذي في قفص الاتهام. الأخ الأصغر المُخلِص الحليم الذي تحوَّل إلى وحش.

وحين عادت القزمة لتأخذ صحنه قال: «هل كنتِ تعرفين أن ريتشارد الثالث كان شخصًا ذا شعبيةٍ كبيرة للغاية في عصره؟ أقصد قبل أن يرتقيَ على العرش.»

نظرت «القزمة» بنظرةِ بُغْض إلى الصورة.

«كان دائمًا كالثعبان بين العُشب، إن سألتني رأيي. كان ناعمًا كالأفعى، هكذا كان؛ ناعمًا كالأفعى. كان يتحيَّن فُرصته.»

يتحيَّن الفرصة لماذا؟ تساءل جرانت، بينما كان صوتُ نقرِ خطواتها يُعلن غيابها في المَمر. لم يكن ليتسنَّى له أن يعرف أن أخاه إدوارد سيموت فجأةً وهو لا يزال في سنِّ الأربعين المُبكرة. لم يكن بِمقدوره أن يتوقَّع (حتى بعد فترة طفولة تشارَكا فيها مودةً حميمةً غير معهودة) أنَّ مُجرَيات الأحداث ستنتهي بمُصادرة أملاك جورج وحِرمان ابنَيه من ولاية العرش. لم يكن يُوجَد مغزًى «لتحيُّن الفرصة» إن لم يكن يُوجَد ما تُتحيَّن الفرصة لأجله. أثبتت المرأة الجميلة ذات الجمال القوي الراسخ والشعر المُذهَّب أنها ملكةٌ بديعة، باستثناء المسألة المُستعصية المُتمثِّلة في مُحاباتها لأقاربها، وكانت قد أنجبت لإدوارد مجموعةً كبيرة من الأطفال الأصحَّاء، من بينهم ولدان. وقد وقفت تلك المجموعة كلها مع جورج وابنه وابنته، بين ريتشارد والعرش. كان من المُستبعَد بالتأكيد أنَّ رجلًا مشغولًا بإدارة شمال إنجلترا، أو بشنِّ الحملات (بنجاحٍ باهر) على الاسكتلنديين، كان سيحظى بفائضِ اهتمامٍ كبير ليكون «ناعمًا كالأفعى».

إذَن، ما الذي غيَّره جذريًّا في وقتٍ قصير للغاية؟

مدَّ جرانت يده لكتاب «وردة رابي» ليرى ما تقوله الآنسة باين إليس حول التحول البغيض لأصغر أبناء سيسيلي نيفيل. لكن تلك الكاتبة المُراوغة كانت قد تجنَّبت الحديث عن هذه المسألة. لقد أرادت أن يكون الكتاب سعيدًا، ولو كانت قد سارت به إلى خاتمته المنطقية لكانت قد جعلت منه مأساةً لا إصلاح لها. لذا فقد اختتمَته بخاتمةٍ باهرة مُدوِّية بأن جعلت آخر فصول الكتاب عن ظهور إليزابيث اليافعة، كُبرى أطفال إدوارد. وبهذا تجنَّبَت مأساة إخوة إليزابيث الصغار، وكذلك هزيمة ريتشارد ومَقتله في المعركة.

وهكذا انتهى الكتاب بحفل في القصر، وبإليزابيث اليافعة المُتورِّدة السعيدة، بمظهرٍ رائع في فستانٍ أبيض وعِقدٍ من اللؤلؤ كان هو الأول لها، وهي ترقص حافيةً كأميرات الحكايات الخيالية. كان ريتشارد وآن، وابنهما الصغير الرقيق، قد أتَوا من قلعة ميديلهام من أجل حضور المناسبة. لكن لم يكن جورج ولا إيزابيل حاضرَين. كانت إيزابيل قد ماتت أثناء المخاض قبل سنوات، بطريقةٍ غامضة وغير محزون عليها من جانب جورج. كان جورج أيضًا قد مات بطريقةٍ غامضة، ولكن مع ذلك الانحراف الذي كان سمةً مُميزة لجورج، كان قد اكتسب جرَّاء ذلك الغموض شهرةً خالدة.

لقد كانت حياة جورج عبارة عن انتقال من أحد مظاهر الإسراف الروحي المُذهِل إلى الذي يليه. وفي كل مرة، لا بدَّ أن أُسرته كانت تقول: «حسنًا، ذلك أخيرًا هو مُنتهى الشناعة؛ فحتى جورج نفسه لا يُمكنه أن يُفكِّر في أيِّ شيءٍ أكثر حماقةً من هذا.» وفي كل مرة كان جورج يُفاجئهم. إذ لم يكن يُوجَد حدٌّ لقُدرة جورج على إتيان السلوكيات الغريبة.

ربما كانت البذرة قد زُرِعت حينما نصَّبه ورويك، أثناء انغماسه الأول في المعاصي بصُحبة زوج أُمه، وريثًا للملِك هنري السادس المجنون المسكين الأُلعوبة، الذي كان ورويك قد أعاده إلى العرش نكايةً بابن عمومته إدوارد. كانت كلٌّ من آمال ورويك لرؤية ابنته ملكةً وكذلك مَزاعم جورج في ولاية العرش، قد ذهبت أدراجَ الرياح في تلك الليلة التي ذهب فيها ريتشارد إلى مُعسكر لانكستر، وتحدَّث إلى جورج. لكن ربما تبيَّن أن مَذاق الشعور بالأهمية كان كثيرًا للغاية على رَجلٍ نهِمٍ للمُتَع بطبيعته. ففي السنوات التالية كانت العائلة دائمًا ما تعترض نزوات جورج المُفاجئة، أو تُنقِذه من أحدث حماقاته.

حين ماتت إيزابيل كان مُتأكدًا من أنها سُمِّمت على يدِ خادمتها، وأن ابنه الرضيع سُمِّم على يدِ خادمةٍ أُخرى. أما إدوارد، فظنًّا منه أن هذه المسالة مُهمَّة بما يكفي لأن تُنظَر أمام محكمة لندنية، أرسل أمرًا مكتوبًا ليكتشف أن جورج حاكَم كِلتا الخادمتَين في جلساتٍ بسيطة مُكوَّنة من قُضاته هو وشنقَهما. فحاكَم إدوارد، الذي كان قد استشاط غضبًا من تلك الفعلة، اثنَين من أهل بيت جورج بتُهمة الخيانة، وكأنه يُحذِّره من مَغبَّة أفعاله؛ ولكن بدلًا من أن يفهم جورج التلميح أعلن أن هذه كانت جريمة قتل ارتُكِبت على يد القضاء، وأخذ يتنقَّل هنا وهناك مُتفوِّهًا بهذا الحديث جهرًا، وباتِّقادٍ كبير عائبًا في الذات الملكية.

ثم قرَّر أنه يريد الزواج من أكثر وريثات أوروبا ثراءً، التي كانت ابنةَ زوج مارجريت، الشابَّة ماري دوقة بورجندي. ظنَّت مارجريت الطيِّبة أنه سيكون من اللطيف أن تحظى بأخيها في بورجندي، لكن إدوارد كان قد رتَّب لدعم عرض الزواج الذي قدَّمه ماكسميليان إمبراطور النمسا، وكان جورج مصدرَ إحراجٍ مُستمر.

وحين لم يُسفِر تدبير بورجندي عن أي شيء، كانت العائلة تأمُل في أن تحظى بقليل من السلام. ففي نهاية المطاف، كان جورج يملك نصف أراضي نيفيل، ولم يكن في حاجةٍ أن يتزوَّج مرةً أُخرى لا من أجل الثراء ولا الأطفال. لكن جورج دبَّر خطةً جديدة للزواج من مارجريت، أُخت جيمس الثالث ملك اسكتلندا.

أخيرًا ارتقى جنون العظمة لديه من مفاوضاتٍ سِرِّية أُجريت باسمه مع وفودٍ ملكية أجنبية إلى المُجاهرة بعرض القانون البرلماني الصادر عن آل لانكستر، والذي كان قد أعلنه وريثًا للعرش بعد هنري السادس. أدَّى هذا بطبيعة الحال إلى مُثوله أمام برلمانٍ آخر أصعب في الانقياد بكثير.

كانت المحاكمة لافتةً للنظر لسببٍ رئيسي هو النزاع الكلامي المُلتهِب بين الأخوَين إدوارد وجورج، لكن حين تمَّت الموافقة على قانون الإدانة، وهو الأمر الذي كان مُتوقَّعًا، ساد السكون لبعض الوقت. كان حِرمان جورج من منزلته أمرًا مرغوبًا فيه وضروريًّا بالفعل. لكن إعدامه كان أمرًا مُختلِفًا كلِّيةً.

وبينما مرَّت الأيام من دون تنفيذ الحُكم، أرسل مجلس العموم تذكيرًا. وفي اليوم التالي أُعلِن أن جورج دوق كلارينس قد مات في البرج.

قالت لندن إنه غرِق في برميلٍ كبير من براميل نبيذ مالمسي. وما كان مجرد تعليق من الكوكني على مصيرِ رَجلٍ سِكِّير راح ينتقل عبر التاريخ، وجعل من جورج، الذي لا يستحقُّ، شخصًا خالدًا.

لم يكن جورج في الحفلة في ويستمنستر، والتأكيد الذي ورد في آخر فصول الآنسة باين إليس لم يكن عن سيسيلي نيفيل بصفتها أُمًّا للأبناء، بل كان عن كون سيسيلي نيفيل الجدَّة لمجموعةٍ كبيرة من الأطفال. ربما يكون جورج قد مات فاقدًا للمصداقية، على كومةِ أوراقٍ جافَّة سقطت من شجرة صداقات ضعيفة، لكن ابنه، ورويك الشاب، كان صبيًّا دمِثًا شريفًا، وكانت مارجريت الصغيرة ابنة العشر سنوات تُظهِر بالفعل أمارات الجمال التقليدي لآل نيفيل. أما إدموند الذي مات في إحدى المعارك وهو في السابعة عشرة من عمره، فقد يبدو مَضيعةً غاشمة لحياةٍ شابَّة، لكن لتحقيق التوازن في هذا الصدد كان موجودًا الطفل الرقيق الذي لم تُفكر قطُّ في تربيته، وكان له ابن يتبَعه. كان ريتشارد في العشرينيات من عمره لا يزال يبدو ضعيفًا كما لو كان يُمكن للمرء أن يَقسِمه إلى نصفَين، لكنه كان صلب العود راسخًا كجذور نبات الخلنج، وربما سيكبُر ابنه ذو المظهر الهشِّ ليُصبح صلبًا مِثله. أما عن إدوارد، الطويل البنية ذي الشعر الأشقر، فقد يختلط الأمر على الناس ويرَون وسامته فظاظة، وودَّه فُتورًا، لكنَّ ابنَيه الصغيرَين وبناته الخمس كانوا يَجمعون بين كل السمات الشخصية لأجدادهم، وكذلك حُسن مظهرهم.

بصفتها جدةً كان بوسعها أن تَنظُر إلى هذا الحشد من الأطفال بِعَين الفخر، وبصفتها أميرةً من أميرات إنجلترا، كان بوسعها أن تَنظُر إليهم بعَين الثقة والطمأنينة. إذ كان التاج آمنًا في سلالة يورك لأجيالٍ قادمة.

ولو أنَّ أحدًا في ذلك الحفل نظر في كرةٍ بلُّورية، وأخبر سيسيلي نيفيل بأن سلالة يورك، بل وحتى سلالة بلانتاجانت بأَسرِها، ستزول إلى الأبد، لكانت عدَّت ذلك ضربًا من ضروب الجنون أو الخيانة.

لكن ما لم تسعَ الآنسة باين إليس إلى التستُّر عليه أو التغاضي عنه هو سيادة عشيرة وودفيل وسيطرتها على تجمُّع نيفيل وبلانتاجانت.

جالت سيسيلي نيفيل بعَينها حول الغُرفة، وتمنَّت لو أن زوجة ابنها إليزابيث كانت قد نَعِمت بقلبٍ أقلَّ كرمًا أو بعلاقاتٍ أقل. إذ كان قد تبيَّن أن الزواج المُتناسِب مع آل وودفيل كان أكثر سعادةً ممَّا كان أيُّ أحدٍ يجرؤ على أن يأمُل بكثير؛ فقد كانت إليزابيث زوجةً رائعة، لكن نتاج ذلك الزواج لم يكن سعيد الحظ كثيرًا. ربما كان من المُحتَّم أن تذهب الوصاية على الصبيَّين إلى أخيها الأكبر؛ وإن كان ريفرز مُحدَث نعمة بعضَ الشيء في حُبِّه للتَّباهي المُبتذل، وكذلك كثير الطموح، فإنه إنسانٌ مُهذَّب، ويتمتع بشخصيةٍ مُثيرة للإعجاب بما يسمح له أن يحصل على الوصاية على الصبيَّين أثناء أيام دراستهما في لودلو. أما عن البقية، وهم أربعة أشقَّاء وسبع شقيقات واثنان من الأبناء من زوجها الأول، فكانوا حقًّا كثيرين جدًّا لدرجة أن نِصف عددهم قد لا يكون قد أقدم على الزواج قبل أن تُوافيَها مَنيَّتها.

تخطَّت سيسيلي بعينَيها الأطفال وهم يضحكون في صخب، وتأمَّلت البالغين الواقفين حول طاولة العشاء. تزوَّجت آن وودفيل من وريث إيرل إسكس. وتزوَّجت إليانور وودفيل من وريث إيرل كينت. كما تزوَّجت مارجريت وودفيل من وريث إيرل أرونديل. وتزوَّجت كاثرين وودفيل من دوق بكنجهام. وتزوَّجت جاكيتا وودفيل من اللورد سترينج. وتزوَّجت ماري وودفيل من وريث اللورد هربرت. وتزوَّج جون وودفيل بصورةٍ مُخزية من أرملة نورفولك التي كانت كبيرةً في السنِّ بما يكفي لأن تكون في مقام جدَّته. كان من الطيِّب أن تُقوِّيَ روابط الدم الجديد هذه العائلة العريقة؛ فالدماء الجديدة دائمًا ما تتسرَّب إلى داخل العائلة، لكن لم يكن من الطيِّب أن يَحدُث هذا فجأةً وفي فيض من مصدرٍ واحد. كان الأمر أشبهَ بحُمَّى أصابت السلالة السياسية في البلاد؛ استحداث دخيلٌ من الصعب استيعابه. كان أمرًا طائشًا ومؤسفًا.

مهما يكُن. كانت ثَمة سنواتٌ طويلة قادمة يمكن خلالها استيعاب ذلك التدفُّق. هذه القوة الجديدة المُفاجئة في الجسد السياسي للبلاد ستتوقَّف عن كونها مُركَّزة، وستنتشر وتستقر، وستتوقف عن كونها مُقلِقة وخطيرة. فإدوارد مع كل لُطفه ودماثة خلقه كان يتمتَّع بمنطقٍ سليم وفطنة؛ سيُحافظ على استقرار الوضع في البلاد كما فعل طيلة زُهاء عشرين عامًا. لم يحكم أحدٌ إنجلترا بقوةٍ استبدادية أو بقبضةٍ خفيفة مِثلما فعل ابنها إدوارد الفطِن الخامل المُحِب للنساء.

سيكون كل شيء على ما يُرام في نهاية المطاف.

كانت على وشك أن تنهض لتنضمَّ إليهم في نِقاشهم عن الحلوى حتى لا يظنُّوا أنها انتقادية أو مُتحفِّظة، حين أتت حفيدتها إليزابيث لاهثةً وتضحك وهي تُفلِت من المناوشات مندفعةً نحو المقعد المُجاور لها وجلست فيه.

وقالت وهي تشهق: «أنا أكبر بكثير من الخَوض في هذه الأمور، كما أن هذا يُفسِد مَلابسي. أيَرُوق لكِ فستاني يا جدَّتي؟ كان عليَّ أن أتملَّق أبي لأحصُل عليه. قال إن فستاني الساتان البُنِّي القديم سيَفي بالغرض. ذلك الذي ارتديتُه حين أتت العمَّة مارجريت من بورجندي لزيارتنا. ذلك أسوأ ما يمكن أن يَحدُث حين يكون لديكِ أبٌ يُلاحظ ما ترتديه النساء. إنه يعلم أكثر من اللازم عما بداخل دولابي من ملابس. هل سمعتِ أن ابن ملك فرنسا الأكبر هجرَني؟ إن أبي غاضب، لكنَّني في غاية السعادة. لقد أشعلتُ عشر شمعات للقِدِّيسة كاثرين. كلَّفني ذلك كل ما تبقَّى لي من مصروف. لا أريد أن أترك إنجلترا. لا أريد أن أترك إنجلترا مُطلقًا. أيُمكنك أن تتدبَّري ذلك من أجلي، يا جدتي؟»

ابتسمت سيسيلي وقالت إنها ستُحاول.

«العجوز أنكاريت، التي تُخبر بالطالع، تقول إنني سأُصبح ملكة. لكن حيث إنه لا يُوجَد أمير ليتزوَّجني، فأنا لا أعرف كيف يمكن أن يَحدُث ذلك.» ثم سكتت برهةً، وأضافت بنبرةٍ أخفض: «قالت إنني سأُصبح ملكة إنجلترا. لكنني أتوقَّع أنها كانت ثمِلةً بعض الشيء. إنها مُولَعة جدًّا بتناول نبيذ هيبوكرا.»

كان من المُجحِف، بل ومن الافتقار إلى القدرة الفنية من جانب الآنسة باين إليس، أن تُلمِّح إلى أن إليزابيث هي الزوجة المُستقبلية لهنري السابع إن كانت غير مُستعدَّة بصفتها كاتبةً أن تُواجِه الأحداث المُؤسِفة وغير السارَّة التي تتخلل ذلك. فأن تفترض في قُرَّائها معرفةً بزواج إليزابيث من أول ملوك أُسرة تيودور، كان يعني أيضًا أن تفترض معرفتهم بمَقتل أخوَي إليزابيث. لذا سقط على المشهد الاحتفالي الذي اختارت أن تُنهيَ به قِصَّتها ظِلٌّ كئيب يدعو للانتباه.

لكن جرانت ارتأى أنَّ الكاتبة في المُجمَل قدَّمت عملًا جيدًا بما فيه الكفاية فيما يتعلق بالقصة، مُستندًا في حُكمه على ما قرأ منها. بل إنه قد يعود في وقتٍ ما ويقرأ الأجزاء التي كان قد تخطَّاها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤