الفصل الثامن

قالت مارتا حين أتَته مرةً ثانية: «حسنًا، ما رأيك في حمَلي المُزغب؟»

«كان في «غاية» اللُّطف منكِ أن تبحثي عنه لأجلي.»

«لم يكن يتعيَّن عليَّ البحث عنه. إنه موجود في الجوار دائمًا. بل إنه يعيش في المسرح حرفيًّا. لا بدَّ أنه رأى مسرحية «إلى البحر في وعاء» خمسمائة مرة؛ ذلك أنه يكون في مُقدِّمة الصفوف حين لا يكون في غُرفة ملابس أتلانتا. أتمنَّى لو تزوَّجا، حينها قد لا نراه إلا قليلًا. (إنهما حتى لا يعيشان معًا. إن قصتهما بريئة تمامًا).» ثم تخلَّت عن نبرة «المُمثلة» في صوتها لحظةً لتقول: «إنهما يبدوان لَطيفَين في الواقع. وبطريقةٍ ما هما أشبَهُ بتوءم أكثرَ من كونهما عاشِقَين. فبينهما ثقة لا تتزعزع؛ ذلك الاعتماد على النصف الآخر من أجل تحقيق كِيان مُتكامل. وهما لا يتنازعان أبدًا أو حتى يتشاجران، بحسب ما أرى. إنها علاقةٌ بريئة كما قلت. هل كان برينت هو من أحضر لك هذه؟»

ونكزت كتابات أوليفانت الضخمة المُصمَتة بإصبعها بتشكُّك.

«أجل، تركَها مع الحارس من أجلي.»

«تبدو عسيرةً على الاستيعاب.»

«لنقُل إنها غير جذَّابة بعض الشيء. من السهل استيعابها بمجرد أن يشرع المرء فيها. تاريخٌ مكتوب من أجل التلاميذ. وقائع مُفصَّلة منذ البداية.»

«يا لَلاشمئزاز!»

«على الأقل عرَفت من أين حصل السير توماس مور المُبجَّل والمُعظَّم على روايته عن ريتشارد.»

«حقًّا؟ من أين؟»

«من شخص يُدعى جون مورتون.»

«لم أسمع به قط.»

«ولا أنا، لكن هذا جهل منَّا.»

«من كان إذَن؟»

«كان رئيس أساقفة كانتربري في عهد هنري السابع. وألدُّ أعداء ريتشارد.»

لو كانت مارتا تستطيع الصفير، لصفَّرت تعليقًا على ذلك.

قالت: «كان «ذلك» إذَن مصدره الموثوق.»

«كان ذلك هو مصدره الموثوق. وقد بُنِيت كل الروايات اللاحقة عن ريتشارد على هذه الرواية. فمن تلك القصة أبدَعَ هولينشيد تأريخه، ومن تلك القصة رسم شكسبير شخصيته.»

«إذَن هي روايةُ شخصٍ كان يكره ريتشارد. لم أكُن أعرف ذلك. لماذا نقل السير توماس القديس عن مورتون وليس عن شخصٍ آخر؟»

«أيًّا كان الشخص الذي كان سينقل عنه، كانت ستُصبح رواية من منظورٍ تيودوري. لكن يبدو أنه نقل عن مورتون لأنه كان يعيش في منزله حين كان صبيًّا. وبالطبع كان مورتون «مُعايشًا» للأحداث كثيرًا؛ لذا كان من الطبيعي أن يكتب رواية شاهد عِيان يمكن له الحصول عليها منه مباشرةً.»

نكزَت مارتا كتابات أوليفانت بإصبعها مرةً أخرى. وقالت: «هل يُقرُّ مُؤرِّخك البدينُ المُملُّ أن هذه النسخة من الرواية مُتحامِلة ومُتحيِّزة؟»

«أوليفانت؟ تلميحًا فقط. وللأمانة، فإنه في حزن وتشوُّش بشأن ريتشارد. ففي الصفحة نفسها التي يقول فيها إنه كان إداريًّا وجنرالًا مُثيرًا للإعجاب، وذا سمعة طيبة ويتَّسم بالرزانة والفضيلة والشهرة الواسعة على عكس آل وودفيل المغرورين (أقارب الملكة)، يقول إنه كان «مُنعدِم الضمير مُجرَّدًا من المبادئ، وعلى استعداد لإراقة أي قدر من الدماء من أجل الوصول إلى التاج الذي صار في يده». وفي إحدى الصفحات يقول على مضض: «ثَمة أسباب تدعو لافتراض أنه لم يكن مُنعدِم الضمير»، ثم في صفحةٍ بعدها ينقل الصورة التي رسمها مور عن رجلٍ مُعذَّب بأفعاله لدرجة أن النوم يُجافيه. وهكذا.»

«هل يُفضِّل أوليفانت البدين المُملُّ وُروده الحمراء إذَن؟»

«أوه، لا أظن ذلك. لا أظن أنه مُؤيِّد لآل لانكستر بوعي منه. رغم أنني أرى الآن بعد إعادة تفكير أنه مُتسامح جدًّا مع استيلاء هنري على العرش. لا أتذكَّر أنه ذكر بقسوةٍ في أي موضع من الكتاب أن هنري لم يكن له أدنى حقٍّ في مُطالبته بالعرش.»

«من وضعه على العرش إذَن؟ أقصد هنري.»

«بقية آل لانكستر وآل وودفيل المغرورين، يدعمهم، حسب ظنِّي، بلدٌ ثائر لمَقتل الصبيَّين. من الواضح أن أيَّ شخص يحمل ذرةً من دم آل لانكستر في عروقه كان سيفعل ذلك. كان هنري نفسه حاذقًا بما يكفي ليتذرَّع في مُطالبته بالعرش ﺑ «الغزو» في المرتبة الأولى، ودماء آل لانكستر التي تجري في عروقه في المرتبة الثانية. De jure belli et de jure Lancastriae «بموجب حق الحرب وحق آل لانكستر». كانت أمُّه الوريثة لابنٍ غير شرعي للابن الثالث لإدوارد الثالث.»

«كل ما أعرفه عن هنري السابع أنه كان فاحِشَ الثراء وشديدَ البخل. أتعرف قصة كيبلينج الرائعة عن مَنحِه رُتبةَ نبيل لأحد الحِرفيين؛ ليس لأنه أدَّى له عملًا رائعًا، وإنما لأنه وفَّر عليه تكلفة بعض أعمال الزخرفة؟»

«فعلها بسيفٍ صدِئٍ من خلف ستارة مُزركَشة. لا بدَّ أنكِ واحدة من النساء القليلات اللواتي يعرفن كيبلينج.»

«أوه، أنا امرأةٌ استثنائية للغاية من نواحٍ شتَّى. إذَن أنت لم تقترب من اكتشاف شخصية ريتشارد أكثر ممَّا كنت؟»

«لا. أنا مُتحيِّر تمامًا مِثل السير كوثبرت أوليفانت، بارَكه الرب. الفارق الوحيد بيننا أنني أعرف أنني مُتحير بينما لا يبدو عليه أنه مُدرِك لحيرته.»

«هل رأيت حمَلي المُزغب كثيرًا؟»

«لم أرَه منذ زيارته الأولى، وكانت منذ ثلاثة أيام. بدأتُ أتساءل إن كان قد ندم على الوعد الذي قطعه.»

«أوه، لا. أنا واثقة من أنه ليس ذلك. فالإخلاص عقيدته ولواؤه.»

«مثل ريتشارد.»

«ريتشارد؟»

«كان شعاره بالفرنسية: Loyaulté me lie. أي الولاء لوائي.»

جاء صوتُ طَرقٍ مُتردِّد على الباب، واستجابةً لدعوة جرانت، دخل برينت كارادين بمِعطفه الواسع كالعادة.

«أوه! يبدو أنني جئتُ في وقتٍ غير مناسب. لم أكُن أعلم أنكِ هنا يا آنسة هالارد. قابلت «تمثال الحرية» في الممرِّ هناك، وكانت تظنُّ أنكَ وحدك يا سيد جرانت.»

عرَف جرانت المقصودة بتمثال الحرية من دون صعوبة. وقالت مارتا إنها على وَشْك الذهاب، وإن برينت على أي حال يُعَدُّ زائرًا يُحتفى به أكثر مما هي عليه في هذه الآونة. وإنها ستُغادرهم في سلام من أجل أن يُكمِلا بحثهما عن روح القاتل.

وحين انحنى لها برينت صوب الباب في أدب تحيَّةً لها، عاد وجلس على كُرسي الزائر بالطريقة نفسها التي يتصرَّف بها رجلٌ إنجليزي حين يجلس إلى شرابه بعد أن تُغادِر النساء الطاولة. وتساءل جرانت في نفسه إن كان حتى ذلك الأمريكي الذي تُسيطِر عليه امرأةٌ يشعر بارتياح لا واعٍ عند جلوسه في مجلسٍ يخلو من النساء. إجابةً على تساؤل برينت بخصوص مدى ما كان يُحقِّقه جرانت من تقدُّم مع أوليفانت، قال جرانت إنه وجد السير كوثبرت سهل الفَهم على نحوٍ مُثير للإعجاب.

«لقد اكتشفتُ بالصدفة هُويَّة القط والجُرَذ. كانا فارسَين يَحظيان باحترامٍ كبير في البلاد بأَسْرها؛ ويليام كاتسبي وريتشارد راتكليف. كان كاتسبي رئيس مجلس العموم، وكان راتكليف أحد مبعوثي السلام مع اسكتلندا. من الغريب كيف أنَّ لحن الكلمات يجعل أغنيةً سياسية مُقفَّاة خبيثة. كان الخنزير بالطبع هو علامة ريتشارد. الخنزير الأبيض. هل تتردَّد على حاناتنا الإنجليزية؟»

«بالتأكيد. أظنُّ أن هذه واحدةٌ من الأشياء التي تتفوَّقون فيها علينا.»

«اغفر لنا سوء حالة أنابيب المياه من أجل الجِعة في حانة ذا بور.»

«ما كنت لأصل إلى حدِّ القول بأنني أغفر ذلك. لِنَقل إنني سأغضُّ الطرف عنها.»

«هذا من كريم طبعك. حسنًا، ثَمة شيءٌ آخر عليك أن تغضَّ الطرف عنه. نظريَّتك تلك عن أن ريتشارد كان يكره أخاه بسبب التباين بين وسامته وظهرِ ريتشارد الأحدب. فمسألة أنه كان أحدبَ خُرافة، طبقًا للسير كوثبرت. وأيضًا مسألة الذراع الضامرة. يبدو أنه لم يكن يُعاني من تشوُّهٍ ظاهر. لا شيء ذو أهمية على الأقل. كانت كتفه اليسرى مُنخفضًا عن كتفه اليمنى، هذا كل شيء. هل توصَّلتَ إلى المؤرِّخ المُعاصر؟»

«لا يُوجَد مُؤرِّخ مُعاصر.»

«على الإطلاق؟»

«ليس بالمعنى الذي تقصده. كان يُوجَد كُتَّاب مُعاصرون لريتشارد، لكنهم كتبوا بعد وفاته. من أجل آل تيودور. مما يُبعِدهم عن الساحة. يُوجَد تأريخ للوقائع على يد راهب، مكتوب باللاتينية في مكانٍ ما ويُعَدُّ مُعاصرًا، لكنني لم أتمكَّن من الحصول عليه بعد. لكنني اكتشفتُ شيئًا ما؛ وهو أن الرواية عن ريتشارد الثالث منسوبة للسير توماس مور ليس لأنه كتبَها، بل لأن المخطوطة وُجِدت بين أوراقه. كانت نسخةً غير مُنتهية لروايةٍ تظهر في مكانٍ آخر بشكلها النهائي.»

أخذ جرانت يُفكِّر في هذا باهتمام وقال: «عجبًا!» وتابَع: «أتقصد أنها كانت نسخةَ المخطوطة الخاصَّة بمور؟»

«أجل. بخطِّ يده هو. كُتِبت حين كان في الخامسة والثلاثين من عمره. في تلك الأثناء، قبل أن تكون الطباعة اختراعًا شائعًا، كان نَسخُ مخطوطات من الكتب هو الشيء المُعتاد.»

«أجل. إذَن إن أتتِ المعلومات من جون مورتون، وهذا صحيح بالفعل، فمن المُرجَّح بالمِثل أنَّ من كتبَ الرواية هو مورتون.»

«أجل.»

«الأمر الذي يُفسِّر بالطبع الافتقار إلى المنطق. ما كان شخصٌ مُتسلق مِثل مورتون سيَخجل على الإطلاق من نقل شائعات الخدم. أتعرف شيئًا عن مورتون؟»

«لا.»

«كان مُحاميًا تحوَّل إلى رجل كنيسة، وهو أحد أكبر المُدافِعين عن التعدُّديَّة في التاريخ المُسجَّل. اختار جانب آل لانكستر، وظلَّ إلى جوارهم حتى كان من الواضح أن إدوارد الرابع قد عاد إلى البلاد مُنتصِرًا. عندئذٍ تصالَح مع آل يورك وعيَّنه إدوارد في منصب أسقف إيلي. والربُّ وحدَه يعلم عدد الأبرشيات التي تولَّاها إلى جانب ذلك. لكن بعد جلوس ريتشارد على العرش دعم آل وودفيل أولًا، ثم هنري تيودور بعد ذلك، وانتهى به المطاف مُرتديًا قبعة كاردينال بصفته أسقف هنري السابع على …»

فقال الفتى بابتهاج: «مهلًا!» وأردف: «بالطبع أعرف مورتون. كان هو مورتون صاحب «شوكة مورتون». «لا يُمكن أن تكون تُنفق الكثير من المال؛ لذا ما رأيك في أن تُعطيَنا شيئًا لأجل الملك؛ أو أنت تنفق الكثير من المال، لا بد أنك ثري؛ لذا ما رأيك في أن تُعطيَنا شيئًا لأجل الملك؟»»

«أجل. هو مورتون ذلك. أفضل أداة تعذيب لدى هنري. وقد فكَّرت للتوِّ في سبب حمله لضغينةٍ شخصية تجاه ريتشارد قبل مَقتل الصبيَّين بوقتٍ طويل.»

«وما هو؟»

«أخذ إدوارد رشوةً كبيرة من لويس الحادي عشر لعقد سلام شائن مع فرنسا. كان ريتشارد حانقًا للغاية من ذلك — كان أمرًا شائنًا حقًّا — فنفض يده عن الأمر. وتضمَّن ذلك رفض عرض بمبلغٍ كبير من المال. لكن مورتون كان يُؤيِّد كلًّا من الصفقة والمَبلغ المالي. وبالفعل أخذ منحةً مُنتظمة من لويس. كانت منحةً كبيرة جدًّا. ألْفَا جنيهٍ ذهبي في العام. ولا أظنُّ أن تعليقات ريتشارد العلنية تراجعت كثيرًا، حتى مع الرشوة الكبيرة التي حصل عليها صائد الذهب.»

«لا. لا أظن ذلك.»

«وبالطبع ما كان مورتون ليَحصُل على ترقيةٍ في ظلِّ حُكم ريتشارد الصارم مِثلما نال في ظلِّ حُكم إدوارد الليِّن العريكة. لذا كان سيأخذ جانب آل وودفيل، حتى ولو لم تَحدُث جريمةُ قتل.»

فقال الفتى: «بشأن تلك الجريمة …»، ثم صمت.

«ماذا عنها؟»

«بشأن جريمة قتل هذَين الصبيَّين، أليس من الغريب أن لا أحد يتحدَّث عنها؟»

«ماذا تقصد بقولك: لا أحد يتحدث عنها؟»

«في الأيام الثلاثة الماضية كنتُ أتصفَّح أوراقًا بحثيةً مُعاصرة؛ خطابات وما إلى ذلك. ولا أحد يَذكُرها على الإطلاق.»

«ربما كانوا خائفين من فعل ذلك. كان من الحكمة في ذلك الوقت أن يحترز المرء.»

«أجل، لكن هذا يُخبِرك بشيءٍ أكثر غرابة. أنت تعرف أن هنري طرح مشروع قانون بإدانة ريتشارد، بعد معركة بوسوورث. أقصد أمام البرلمان. في الواقع، كان يَتَّهم ريتشارد بالوحشية والطغيان لكنه لم يأتِ حتى على ذكر جريمة القتل.»

قال جرانت مذهولًا: «ماذا؟!»

«أجل، يحقُّ لك أن تُذهَل من ذلك.»

«هل أنت واثقٌ من هذا؟»

«واثق تمامًا.»

«لكن هنري استولى على البُرج فور وصوله إلى لندن بعد معركة بوسوورث. وإن كان الصبيَّان قد فُقِدا فمن غير المُصدَّق ألا يُذيع الخبر على الفور. كان هذا ورقةً رابحة في جُعبته.» ثم استلقى جرانت برهةً في صمتٍ ممزوج بالدهشة، وأخذت العصافير تتشاجر بصوتٍ عالٍ على عتبة النافذة. ثم قال: «لا أستطيع أن أفهم الأمر.» وتابَع: «ما التفسير المُحتمَل لعدم مُطالبته بالإعدام استنادًا إلى حقيقة أنَّ الصبيَّين كانا مفقودَين؟»

عدَّل برينت ساقَيه الطويلتين إلى وضعٍ مُريح أكثر. وقال: «يُوجَد تفسيرٌ واحد فقط.» واستطرد: «وهو أن الصبيَّين لم يكونا مفقودَين.»

ساد الصمت فترةً أطول هذه المرة، فيما راح يُحدِّق كلٌّ منهما في الآخر.

فقال جرانت: «أوه، لا، هذا غير منطقي.» وأضاف: «لا بد من وجودِ تفسيرٍ واضح لا نستطيع رؤيته.»

«مثل ماذا على سبيل المثال؟»

«لا أعرف. لم أحظَ بوقتٍ لأُفكِّر.»

«كان لديَّ ثلاثة أيام تقريبًا لأُفكِّر في الأمر، ولم أتوصَّل بعدُ إلى سببٍ مُناسب. «لا شيء» سيتناسب مع الوقائع عدا استنتاج أن الصبيَّين كانا على قيد الحياة حين استولى هنري على البرج. كان قانون الإدانة مُجرَّدًا من الضمير تمامًا؛ وُجِّه فيه الاتهام إلى أتباع ريتشارد، الأتباع الأوفياء لملك مُكرَّس يُقاتلون الغُزاة، بالخيانة. لقد تضمَّن ذلك القانون كلَّ اتهامٍ يمكن لهنري أن يُوجِّهه إلى ريتشارد. وكان أسوأ ما يُمكن أن يُتَّهم به ريتشارد هو الوحشيةَ والطغيان المعروفَين عنه. لم يُؤتَ حتى على ذِكر الصبيَّين.»

«هذا مُذهِل.»

«إنه لا يُصدَّق. لكنه حقيقةٌ واقعة.»

«ما يعنيه هذا أنه لم يكن يُوجَد «أي اتهام مُعاصر» على الإطلاق.»

«هذا صحيح تقريبًا.»

«لكن، مهلًا. شُنِق تيريل بتُهمة ارتكاب جريمة القتل. لقد اعترف بذلك قبل إعدامه. مهلًا.» ثم مدَّ يده إلى كتاب أوليفانت وراح يُقلِّب الصفحات بسرعة بحثًا عن الموضع. وتابع: «يُوجَد سردٌ مُفصَّل عن هذا في موضعٍ ما. لم يكن ثَمة لغز في الأمر. حتى «تمثال الحرية» كانت تعرف بهذا الأمر.»

«من؟»

«المُمرِّضة التي التقيتَ بها في المَمر. كان تيريل هو من ارتكب جريمة القتل، وثبتت عليه التُّهمة واعترف بها قبل إعدامه.»

«أكان هذا حين استولى هنري على لندن إذَن؟»

«مهلًا. ها هي.» ثُم أخذ يقرأ الفقرة سريعًا. وأردف: «لا، كان ذلك في عام ١٥٠٢.» ثم انتبه فجأةً إلى ما قاله للتوِّ، فكرَّر جُملته بنبرة تنمُّ عن الارتباك والحَيرة: «في عام … ١٥٠٢.»

«لكن … لكن … لكن ذلك كان …»

«أجل. بعدما يَقرُب من عشرين عامًا.»

أخذ برينت يتحسَّس جيوبه بحثًا عن علبة سجائره، وأخرجها ثم بسرعةٍ وضعها جانبًا مرةً أُخرى.

فقال جرانت: «يُمكنك التدخين إذا أردت.» وأضاف: «أما أنا فبحاجة إلى شرابٍ قوي. لا أظنُّ أنَّ عقلي يعمل بكفاءة. أشعُر بنفس ما كنت أشعر به وأنا طفلٌ حين كنتُ معصوب العينَين وأجول في الأرجاء ونحن نلعب لعبة الغُمَّيضة.»

قال كارادين: «أجل». ثم أخرج سيجارةً وأشعلها. وتابع قائلًا: «تشعر بأنك في ظلامٍ دامس، وبأنك مُشوَّش الذهن جدًّا.»

وراح يُحدِّق في العصافير.

قال جرانت بعد بُرهة: «لا يمكن لكُتبٍ مدرسية يَبلُغ عددها أربعين مليونًا أن تكون مُخطئة.»

«ألا يمكن أن تكون مُخطئة؟»

«أيمكن ذلك؟!»

«كنتُ أظنُّ أن ذلك ليس مُمكنًا، لكنني لستُ واثقًا تمامًا في هذه الآونة.»

«ألستَ مُتعجِّلًا قليلًا في تشكُّكك؟»

«أوه، لم يكن هذا ما جعلني أتشكَّك.»

«ماذا كان إذَن؟»

«مسألةٌ صغيرة تُدعى مذبحة بوسطن. هل سمعتَ بها من قبل؟»

«بالطبع.»

«حسنًا، اكتشفتُ بالصدفة البحتة، حين كنتُ أبحث عن شيء في الكلية، أن مذبحة بوسطن كانت تتألَّف من مجموعة من الغوغاء الذين كانوا يُلقون بالحجارة على أحد الحُرَّاس. كان مجموع الضحايا أربعة قتلى. لقد تربَّيتُ على تصديق مذبحة بوسطن يا سيد جرانت. صدري الذي يَبلُغ عرضه ثمانية وعشرين إنشًا كان يتنشَّق الهواء ملء رئتيَّ على هذه الذكرى. دمي الأحمر المُفعَم بالبُغض كان يغلي من فكرة سقوط مدنيِّين عُزَّل تحت وطأة نيران القوات البريطانية. لا يمكنك أن تتخيَّل كم كان صادمًا لي أن أجد أن خُلاصة الأمر في الواقع أنها كانت مُشاجرةً لم تكن لتستحقَّ أكثر من تقريرٍ محلي لو كانت صدامًا بين الشرطة ومُضرِبين عن العمل في أي إضراب أمريكي.»

وإذ لم يُبدِ جرانت ردًّا على ذلك، حوَّل برينت عينَيه بعيدًا عن الضوء ليرى كيف كان ردُّ فعل جرانت على حديثه. لكن جرانت كان يُحدِّق في السقف كما لو كان يُشاهد أنماطًا تتشكل عليه.

فتطوَّع كارادين بتكملة حديثه قائلًا: «لهذا السبب راقَ لي إجراء الأبحاث كثيرًا.» ثم أرجع ظهره مُستقرًّا في جِلسته مُحدِّقًا في العصافير.

بعد بُرهة مدَّ جرانت يده من دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة، فأعطاه كارادين سيجارةً وأشعلها له.

أخذا يُدخِّنان في صمت.

وكان جرانت هو من قاطَع زقزقة العصافير.

قال: «تونيباندي.»

«ما هذا؟»

لكن جرانت كان لا يزال شاردًا.

ثم قال: «في نهاية المطاف، رأيتُ فعلًا أمرًا كهذا أثناء العمل في شبابي»، مُوجِّهًا حديثه إلى السقف وليس إلى كارادين. وأضاف: «إنه تونيباندي.»

فسأله برينت: «وماذا يكون تونيباندي هذا بحقِّ السماء؟» وأردف: «يبدو لي كعقارٍ مُسجَّل. هل طفلك عَكِر المزاج؟ هل يتورَّد وجهه الصغير، وينفعل بسرعة، وتُنهَك أطرافه بسهولة؟ أعطِ الصغيرَ قُرص تونيباندي، وشاهِدْ نتائجه المُذهِلة.» ثم حين لم يَجدْ جوابًا من جرانت، قال: «لا بأس إذَن؛ احتفِظ بتونيباندي الخاص بك. ما كنتُ لآخُذه هدية.»

فقال جرانت، بنفس نبرته شِبه النائمة: «تونيباندي مكانٌ في جنوب ويلز.»

«أحسستُ أنه عقارٌ ما.»

«إن ذهبتَ إلى جنوب ويلز، ستسمع أنه في عام ١٩١٠ استخدمت الحكومة القوات لإرداء عُمَّال المناجم الويلزيين الذين كانوا يُضرِبون من أجل حقوقهم. وستسمع على الأرجح أن وينستون تشرشل، الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية حينها، كان مسئولًا. سيُخبرونك هناك أن جنوب ويلز لن تنسى تونيباندي أبدًا!»

تخلَّى كارادين عن نبرة الوقاحة التي كان يتكلَّم بها.

وقال: «أكان الأمر مُشابهًا لذلك؟»

«الوقائع الفعلية هي كالآتي. كان القِسم الأكثر خشونةً من حشد وادي روندا قد خرج عن السيطرة إلى حدٍّ كبير. كانت المتاجر تتعرض للنهب والممتلكات للتخريب. فأرسل رئيس شرطة جلامورجان إلى وزارة الداخلية يطلب قوات الجيش لحماية المُوالِين لهم. إذا ظنَّ رئيس الشرطة أن الموقف خطير لدرجةِ طلب المساعدة من الجيش، فعندئذٍ تكون الخيارات أمام وزير الداخلية محدودة جدًّا في المسألة. لكن تشرشل كان يشعر بالهلع من احتمال أن تُواجِه قوات الجيش حشودَ مُثيري الشغب وتُضطر إلى إطلاق النار عليهم، حتى إنه أوقف حركة القوات وأرسل بدلًا منها قوة شرطة خالصة ومُتمرِّسة من شرطة العاصمة، ولم يكن هؤلاء مُسلَّحين بشيء إلا معاطفهم الواقية من المطر المرفوعة الأكمام. ظلَّت قوات الجيش بوصفها قواتٍ احتياطية، وكان الاحتكاك مع مُثيري الشغب يَحدُث كله من قِبَل رجال شرطة لندن غير المُسلَّحين. كان الدم المُراق الوحيد في الحادثة بأَسرِها دمًا سالَ من أنفِ واحد أو اثنين. وُجِّه عرَضًا انتقادٌ حادٌّ وشديد اللهجة إلى وزير الداخلية في مجلس العموم بدعوى «تدخُّله غير المسبوق». كانت تلك هي حادثة تونيباندي. تلك هي حادثة إطلاق النار على يد القوات، والتي لن تنساها ويلز أبدًا.»

قال كارادين وهو يُفكِّر: «أجل.» وأردف: «أجل. الأمر مُماثل تقريبًا لمسألة بوسطن. شخصٌ ما يُحوِّل مسألةً بسيطة إلى حدثٍ ضخم من أجل أهداف سياسية.»

«ليست النقطة الأساسية هنا أن الحدثَين مُتماثلان. النقطة الأساسية أن «كل شخص» كان موجودًا هناك يعلم أن القصة هُراء، ومع ذلك لم يَحدُث مُطلَقًا أنْ عارَضها أحد. ولن تُتدارك أبدًا في الوقت الحالي. إنها قصةٌ غير حقيقية تمامًا ارتقت إلى منزلة الأسطورة، في حين أن الرجل الذي كان يعرف أنها غير حقيقية اكتفى بالمشاهدة ولم يقُل شيئًا.»

«أجل. ذلك أمرٌ مُثير للاهتمام جدًّا. التاريخ حين يُصنَع.»

«أجل. التاريخ.»

«لنَسلُك النهج البحثي. ففي نهاية المطاف، لا تَكمُن حقيقة أي شيء على الإطلاق في سرد أحدهم عنه. إنما تَكمُن في الوقائع الصغيرة في ذلك الوقت. إعلان في صحيفة. بيع لأحد المنازل. سعر أحد الخواتم.»

تابَع جرانت تحديقه في السقف، وعاد صخب العصافير إلى الحجرة.

قال جرانت، بعدما أدار رأسه أخيرًا محاولًا فهم تعبير وجه زائره: «ما الذي يُبهجك؟»

«هذه هي المرة الأولى التي أراك تبدو فيها رجل شرطة.»

«أنا أشعر كرَجلِ شرطة. وأُفكِّر كرَجلِ شرطة. وأطرح على نفسي السؤال الذي يطرحه كل رجل شرطة على نفسه في كل واقعةِ قتل: من المُستفيد؟ وللمرة الأولى يَخطُر ببالي أن النظرية السطحية القائلة بأن ريتشارد تخلَّص من الصبيَّين ليُصبح في وضعٍ أكثر أمنًا على العرش هي محض هراء. لنفترض أنه تخلَّص من الصبيَّين. كان لا يزال يُوجَد أخوات الصبيَّين الخمسة بينه وبين العرش. ناهيك عن ذِكر ولدَي جورج؛ الصبي والفتاة. حُظِر ابن جورج وابنته جرَّاء فقدان أهلية والدهما، لكن ما أفهمه أن فُقدان الأهلية يُمكن أن يُعكَس، أو يُلغى، أو شيء من هذا القبيل. وإن كانت مُطالبة ريتشارد بالعرش هشَّة، فإن كل أولئك الأشخاص كانوا يَحولون بينه وبين تأمين نفسه على العرش.»

«وهل بقوا جميعًا على قيد الحياة؟»

«لا أعرف. لكنني سأهتمُّ بمعرفة ذلك. لا شكَّ في أن الأخت الكبرى للصبيَّين بقيَت على قيد الحياة؛ لأنها أصبحت ملكة إنجلترا بصفتها زوجة هنري.»

«انظر يا سيد جرانت، لنَعُد أنا وأنت إلى بداية الأمر. من دون كتب تاريخ أو روايات حديثة أو رأيِ أيِّ أحد عن أي شيء. الحقيقة ليست في الروايات، وإنما في دفاتر الحسابات.»

قال جرانت مُجاملًا إيَّاه: «هذه عبارةٌ مُنمَّقة.» وتابَع يسأله: «هل تعني شيئًا؟»

«إنها تعني كل شيء. التاريخ الحقيقي مكتوب بأشكالٍ لا يُقصد بها أن تتَّخذ شكل التاريخ. إنه مكتوب في حسابات الخِزانة، ونفقات المخصصات الملكية، وفي الخطابات الشخصية، والسجلَّات العقارية. إنْ أصرَّ أحدٌ ما، مثلًا، أن الليدي ووسيت لم تلِد طفلًا قط، ووجدتَ في دفتر الحسابات مُدخلًا باسم: «من أجل الابن الذي وُلِد لزوجتي عشيةَ عيد القدِّيس ميخائيل: خمس ياردات من شريطٍ أزرق، بأربعة بنساتٍ ونصف البنس»، فمن المقبول منطقيًّا أن تستنتج أن زوجتي رُزقت بمولودٍ عشية عيد القدِّيس ميخائيل.»

«أجل. فهمت. حسنًا، من أين نبدأ؟»

«أنت المُحقِّق. ما أنا إلا باحث.»

«أخصائي أبحاث.»

«شكرًا لك. ماذا تريد أن تعرف؟»

«حسنًا، بدايةً سيكون مُفيدًا، ناهيك عن كونه وجيهًا، أن نعرف كيف تعامل الأشخاص الرئيسيون المَعنيُّون بالمسألة مع وفاة إدوارد. أقصد إدوارد الرابع. لقد كان موته غير مُتوقَّع، ولا بد أنه فاجأ الجميع. أريد أن أعرف كيف كانت ردةُ فعل الأشخاص المَعنيِّين.»

«ذلك سهل ومباشر. أتصوَّر أنك تقصد ما فعلوه وليس ما ظنُّوه.»

«أجل، بالطبع.»

«المؤرخون فقط هم من يقولون لك ما ظنوه. أما الباحثون فيتمسَّكون بما فعلوه.»

«ما فعلوه هو كل ما أريد معرفته. فأنا دائمًا ما أُومِن بالمَثل القديم الذي يقول بأن الأفعال أبلَغُ من الأقوال.»

«بالمناسبة، ما الذي يقول السير توماس القديس إن ريتشارد فعله حين سمع بأن أخاه قد مات؟» أراد برينت أن يعرف ذلك.

«السير توماس المُعظَّم (واسمه الحركي جون مورتون) يقول إن ريتشارد انشغل بمحاولة فتنة الملكة وإقناعها بألا تُرسِل مجموعةَ حراسةٍ كبيرة لمرافقة الأمير الصبي من لودلو؛ وفي تلك الأثناء كان يُعِد مكيدةً لاختطاف الصبي في طريقه إلى لندن.»

«إذَن، طبقًا لكلام مور المُعظَّم، كان ريتشارد ينوي منذ البداية أن يحلَّ محلَّ الصبي.»

«أوه، أجل.»

«حسنًا، على الأقل سنكتشف عما قريب من كان أين، وماذا كان يفعل، سواء كنَّا نستطيع أن نستنتج نيَّاتهم أم لا.»

«هذا هو ما أريد. بالضبط.»

فقال الفتى بسخرية: «شرطي!» وتابَع: «أين كنتَ في تمام الخامسة مساء يوم الخامس عشر من الشهر الجاري؟»

فقال جرانت مُطَمئنًا إيَّاه: «هذه الطريقة تُفلِح.» وكرَّر: «هذه الطريقة تُفلِح.»

«حسنًا، سأنصرف أنا أيضًا إلى العمل. وسأُعرِّج عليك مرةً أخرى بمجرد أن أحصل على المعلومات التي تريدها. أنا مُمتنٌّ لك كثيرًا يا سيد جرانت. هذا أفضل بكثير من موضوع الفلاحين.»

ابتعدَ الفتى مُختفيًا في الغيام المُتجمِّع في ظهيرة اليوم الشتوي، وكان مِعطفه الذي يُشبِه ذيل الثوب يُضفي طابعًا وجلالًا أكاديميًّا على جسده النحيل اليافع.

أضاء جرانت مصباحه، وراح يتفحَّص الأنماط التي عكسَتها الإضاءة على السقف كأنه لم يرَها من قبل.

كانت مسألةً فريدة ومُمتعةً أنه صادَف الفتى عرَضًا دون أي جهد منه. كان الأمر غير مُتوقَّع بقدرِ ما كان مُحيِّرًا.

ما السبب المُحتمل الذي يمكن أن يُفسِّر ذلك الافتقار إلى وجود اتِّهام من قِبل المُعاصرين؟

لم يكن هنري حتى في حاجة إلى دليل على أن ريتشارد كان هو نفسه المسئول. كان الصبيَّان تحت رعاية ريتشارد. وإن لم يُعثَر عليهما عندما استُولي على البرج، فعندئذٍ كان ذلك سيُصبح أفضل وأجدى لتلطيخ سمعة غريمه الميت من اتهامات الوحشية والطغيان المُبتذَلة.

تناول جرانت طعامه دون أن يعيَ ولو للحظةٍ واحدة مذاقَه أو طبيعته.

ولم يدرك أنه تناوَل الطعام إلا حين قالت «الأمازونية» بلُطف وهي تُبعد الصينية: «لا أُصدِّق، تلك إشارةٌ طيبة. لقد تناولت إصبعَي الكفتة عن آخرهما!»

طوال ساعة أُخرى، راقَب نمط إضاءة المصباح على السقف وهو يستعرض المسألة في ذهنه، فأخذ يتفقَّدها ويتفقَّدها من كل الزوايا بحثًا عن صدعٍ صغير قد يُشير إلى سبيلٍ يؤدِّي به إلى لُبِّها.

في النهاية صرفَ انتباهه تمامًا عن المشكلة، وهو ما كان من عادته حين يتبيَّن له أن لُغزًا ما كان مُعقَّدًا ومُتملِّصًا ومُحكَمًا على نحوٍ يفوق قُدرته على إيجاد حل فوري له. إنْ نام ليلته مؤجِّلًا التفكير في المسألة، فقد يتبيَّن له في الغد أحد الأوجُه التي غفل عنها.

بحث عن شيءٍ يمكن أن يمنع ذهنه من العودة إلى قانون الإدانة ذاك، فرأى كومة الخطابات في انتظار أن يتسلَّمها. كانت خطاباتٍ لطيفةً بتمنِّيات بالصحة والعافية من كل صنوف الناس، ومنهم قلة من الأشخاص الذين سُجِنوا مرَّاتٍ عديدة. كان السُّجناء السابقون المُحبَّبون نوعًا عفا عليه الزمن، وكانوا يتناقصون أكثر فأكثر كل يوم. أخذ مكانَهم مُجرمون يافعون مُتهوِّرون لا يتمتَّعون بأي قدر من الإنسانية في نفوسهم المُتمحوِرة حول ذواتهم، وجُهَّال كجِراء الكلاب، وعديمو الرحمة مِثل مِنشار دائري. كان اللصوص القُدامى المُحترفون ميَّالين لأن يعملوا مُنفرِدين شأنَ أعضاء أي مهنة أخرى، وكانوا أقلَّ شرًّا. كانوا رجالًا هادئين صغار الحجم يُفضِّلون الحياة الأسرية، ويهتمُّون بالإجازات الأُسرية وبصحة أطفالهم؛ أو عُزابًا غريبي الأطوار مُتفرِّغين لطيور الزينة، أو متاجر الكتب المُستعمَلة، أو أنظمة الرهانات المُعقَّدة التي لا تُخطئ. كانوا أنواعًا عتيقة الطِّراز.

ما كان أحد المجرمين المُعاصرين ليكتب خطابًا يقول في إنه يتأسف لتوقُّف أحد رجال الشرطة عن العمل مُؤقَّتًا. ما كانت مِثل هذه الفكرة لتخطر ببالِ مُجرمٍ حديث قط.

أن يكتب المرءُ خطابًا وهو راقد على ظهره هو عملٌ شاقٌّ، وتهرَّب جرانت من ذلك. لكنَّ الظرف في أعلى الكومة كان بخطِّ يد قريبته لورا، وستُصاب لورا بالقلق إن لم تتلقَّ جوابًا منه. كان هو ولورا يُمضِيان عُطلة فصل الصيف معًا حين كانا صغارًا، وكانا مُتحابَّين قليلًا أثناء أحد فصول الصيف التي أمضياها في هايلاند؛ مما ربطهما برباط لم ينقطع قط. كان حريًّا به أن يُرسِل إلى لورا رسالةً قصيرة يُخبرها فيها أنه على قيد الحياة.

قرأ جرانت خطابها مرةً أخرى وهو مُبتسمٌ بعض الشيء، وأخذ صوت ماء بحيرة تورلي يتردَّد في أُذنَيه، وينساب مَشهده تحت عينَيه، وكان بمقدوره أن يَشْتمَّ الرائحة الطيِّبة الباردة لنباتات الخَلَنج في هايلاند في فصل الشتاء، ونسيَ لبرهةٍ أنه مريض في المستشفى، وأن الحياة بائسة ومُملَّة وخانقة.

يُرسِل بات ما من شأنه أن يكون عاطفةً عميقة لو أنه كان أكبر في العمر بعض الشيء أو أصغر. إذ يقول، كونه في التاسعة من عمره: «أخبري آلان أنني سألتُ عنه»، وأن صنارة صيد من اختراعه تنتظره ليُقدِّمها له حين يأتيهم في إجازةٍ مرضيَّة. إنه يشعر بقليل من الخزي الآن في المدرسة، بعد أن عَلِم أن الاسكتلنديين تخلَّوا عن تشارلز الأول حين قرَّروا أنه لم يعُد ينتمي إلى هذه الأمة. لذا فهو، حسبما فهمت، يقوم بإضرابٍ احتجاجي قوامه رجلٌ واحد ضد كل الأشياء الاسكتلندية، ولن يتعلَّم التاريخ، ولن يُغنِّيَ أي أغنية، ولن يَدرُس أي جغرافيا مُتعلقة بهذا البلد البائس. وحين كان في طريقه ليَخلد إلى الفِراش ليلة أمس، أعلن بات أنه قرَّر أنه سيتقدَّم بطلب للحصول على الجنسية النرويجية.

أمسك جرانت بورق الرسائل من فوق الطاولة وكتب بقلم رَصاص:

عزيزتي لورا

هل ستتفاجئين بشِدَّة إن علِمتِ أن أميرَي البُرج نجَوَا من ريتشارد الثالث؟

كعهدي دائمًا
آلان

ملحوظة: كدتُ أتعافى تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤