الفصل التاسع

سأل جرانت الجرَّاح في صباح اليوم التالي: «أتعرِف أن مشروع القانون بإدانة ريتشارد الثالث الذي عُرِض على البرلمان لم يذكر جريمة قتل أميرَي البرج؟»

قال الجرَّاح: «حقًّا؟» وتابَع: «هذا غريب، أليس كذلك؟»

«في غاية الغرابة. هل يمكنك التفكير في تفسير؟»

«ربما محاولة تقليل حجم الفضيحة. من أجل الأسرة.»

«لم يَخلُفه على العرش أحدٌ من أُسرته. كان الأخيرَ من نسله. لقد خلفه أول فرد من آل تيودور. هنري السابع.»

«أجل، بالطبع. لقد نسيتُ ذلك. لم أكُن بارعًا يومًا في التاريخ. اعتدتُ استغلال حصة التاريخ في أداء واجبي المنزلي في الجبر. إنهم يعجزون عن أن يجعلوا التاريخ شائقًا ومُمتعًا في المدارس. ربما يُساعدهم في ذلك استخدام المزيد من الصور.» ثم رفع ناظرَيه نحو صورة ريتشارد وعاد إلى فحصه الطبي. وقال: «يَسرُّني أن أقول إنك تبدو بصحةٍ جيدة للغاية. ألا يُوجَد ألمٌ تشتكي منه الآن؟»

ثم غادَر الجرَّاح بلُطف وعفوية. كان الجرَّاح مُهتمًّا بالوجوه لأنها كانت جزءًا من مهنته، لكن التاريخ كان مجرد شيء يستخدمه لأغراضٍ أخرى؛ شيء نحَّاه جانبًا تحت مكتبه المدرسي من أجل الجبر. كان يُوجَد أحياء تحت رعايته، ومستقبلهم بين يدَيه، لم يكن لدَيه فائض في ذهنه ليوفِّره من أجل التفكير في مشكلاتٍ نظريَّة.

كما كان لدى رئيسة المُمرِّضات هي أيضًا أمورٌ أكثر إلحاحًا. إذ راحت تستمتع في أدب وكياسة فيما كان يعرض عليها ما تعسَّر عليه فهمه، لكنه رأى منها انطباعًا يُوحي بأنها قد تقول: «لو كنت مكانك لزرتُ الاختصاصيَّ الاجتماعي لهذا الشأن». لم تكن المسألة تُهمُّها. كانت رئيسة المُمرِّضات تنظر من عليائها الملكي إلى خلية النحل الكبيرة التي تعجُّ من تحتها بالنشاط، الذي كان كله مُهمًّا ومُلحًّا؛ فلم يكن من المتوقَّع منها أن تُركِّز على شيء من أكثر من أربعمائة عام مضت.

أراد جرانت أن يقول: «لكن حريٌّ بكِ أنتِ من بين كل الناس أن تكوني مُهتمَّة بما يمكن أن يحدث لأبناء الطبقة الملكية، مع حالة الضعف التي عليها أهلية سُمْعتكِ. غدًا يمكن لهمسةٍ أن تُدمِّركِ.» لكنه كان مُدركًا بالفعل على نحوٍ أشعره بالذنب أن تعطيل رئيسة المُمرضات بأشياء غير ذات أهمية لها يعني إطالة أمد صباحها الطويل أصلًا من دون عُذر أو سبب.

لم تكُن «القزمة» تعلم ما يَعنيه قانون الإدانة، وأوضحت أنها لم تكن تهتمُّ لذلك.

قالت وهي تميل برأسها نحو البورتريه: «أضحيتَ مَهووسًا بتلك الصورة.» واستطردت: «ليس ذلك صحيًّا. لماذا لا تقرأ بعضًا من تلك الكتب المُمتعة؟»

حتى مارتا، التي تطلَّع إلى زيارتها حتى يطرح عليها هذا الافتراض الجديد والغريب ويرى ردَّة فِعلها، كانت غاضبة للغاية من مادلين مارش لدرجة أنها لم تُولِه أيَّ اهتمام.

«بعد أن وعدتني فعليًّا أنها ستكتب المسرحية! بعد كل لقاءاتنا وكل الخُطط التي وضعتها من أجل أن ينتهيَ ذلك الشيء الذي لا ينتهي. كنت حتى قد تحدثتُ مع جاك عن الملابس! والآن تقرَّر أنها يجب أن تكتب واحدة من رواياتها البوليسية المريعة تلك. تقول إن عليها أن تكتبها بينما لا تزال غضَّة في مُخيِّلتها، أيًّا كان ما يَعنيه ذلك.»

استمع جرانت في تعاطف إلى فجيعة مارتا؛ فالمسرحيات الجيدة هي أندَرُ سلعة في العالم، ويستحقُّ كُتاب المسرحيات الجيِّدون وزنهم من البلاتين، لكن الأمر لجرانت كان أشبه بمشاهدة شيء من النافذة. كان القرن الخامس عشر أكثر واقعيةً عنده في هذا الصباح من أي شيء يحدث في شارع شافتسبري.

قال مُواسيًا لها: «لا أظنُّ أن تأليف روايتها البوليسية سيستغرق منها وقتًا طويلًا.»

«أوه، لا. إنها تكتبها في ستة أسابيع أو نحو ذلك. لكن بعد أن خرجَت عن الطَّوق، أنَّى لي أن أعرف إن كنتُ سأتمكن من جعلها تكتب هذه المسرحية أم لا. يُريد توني سافيلا منها أن تكتب مسرحية مارلبورو من أجله، وأنت تعرف كيف يكون توني حين يرغب في شيءٍ ما بشِدَّة. يمكنه أن يُقنع الحَمَام عند قوس الأميرالية بفعلِ ما يريد.»

ثم عادت للحديث عن قرار الإدانة باقتضابٍ قبل أن تتركه وتغادر.

حيث قالت وهي عند الباب: «لا بدَّ أنه يُوجَد تفسير لذلك يا عزيزي.»

أراد جرانت أن يَصيح فيها، وهي تُغادر، أنه يُوجَد تفسير «بالطبع»، ولكن ما هو؟ الأمر مُنافٍ لأيِّ منطق واحتمال. يقول المؤرِّخون إن جريمة القتل تسبَّبت في شعورٍ كبير بالاشمئزاز والنفور من ريتشارد، وإنَّ العامة في إنجلترا كرِهوه بسببها، وكان ذلك هو السبب في ترحيبهم بشخصٍ غريب في مكانه. ومع ذلك حين عُرِضت أعماله الشِّريرة على المجلس النيابي لم يُؤتَ على ذِكر تلك الجريمة.

كان ريتشارد قد مات حين أُعِدَّت تلك الشكاية، وكان أتباعه إما هاربين أو في المنفى؛ كان لدى أعدائه كامل الحرية في أن يُوجهوا له أيَّ تهمة تَخطُر ببالهم. ومع ذلك «لم يتبادر إلى أذهانهم تلك الجريمة المُثيرة».

لماذا؟

قيل إن فضيحة اختفاء الصبيَّين كان يتردَّد صداها في أرجاء البلاد. كما كانت الفضيحة حديثة العهد. وحين جمع أعداؤه جرائمه المزعومة في حق الأخلاق والدولة، لم يُضمِّنوا بينها أكثر أخطائه خِزيًا وشرًّا.

لماذا؟

كان هنري في حاجة لكل مِثقال ريشة من أفضلية في حداثة تَولِّيه العرش المُتزعزِع. كان هنري غير معروف في البلاد بأَسرِها، ولم يكُن لديه حق بحسب رابطة الدم في أن يكون في مكانه هذا. لكنه لم يستخدم الأفضلية الساحقة التي كان من الممكن أن تمنحه إيَّاها جريمة ريتشارد الشهيرة.

لماذا؟

كان هنري يَخلُف رجلًا ذائع الصيت، معروفًا بشخصه لكل الناس من منطقة مارشيز أوف ويلز وحتى الحدود مع اسكتلندا، رجلًا أحبَّه الجميع وأُعجِبوا به حتى اختفاء ابنَي أخيه. لكنه أغفل استخدام الأفضلية الحقيقية الوحيدة التي كان يتحلى بها في مواجهة ريتشارد؛ ذلك الشيء المَقيت الذي لا يُغتفَر.

لماذا؟

وحدَها «الأمازونية» بدت مُهتمَّة بأمر التناقض الذي كان يشغل ذهنها، وكانت مُغتمَّة من احتمال وجود أي خطأ، ليس بدافع أي مشاعر إيجابية تجاه ريتشارد، وإنما بسبب رُوحها اليقِظة الضمير. كان من شأن «الأمازونية» أن تقطع الردهة كلها وتعود مُجدَّدًا من أجل أن تنزع ورقةً مفكوكة من التقويم كان أحدهم قد نسيَ أن ينزعها. لكنَّ غريزتها التي تدفعها للقلق كانت أقلَّ قوةً من غريزتها التي تدفعها للمُواساة.

إذ قالت في محاولة لتهدئته: «لست في حاجة لأن تجزع حيالَ ذلك.» وتابَعت: «سيكون ثَمة تفسيرٌ بسيط للغاية لم تُفكِّر فيه. وسيأتيك هذا التفسير في وقتٍ آخر تكون فيه مشغولًا في التفكير في شيءٍ مُختلف تمامًا. إنني عادةً ما أتذكَّر أين وضعت الأشياء التي نسيتُ مكانها بهذه الطريقة. أحيانًا أكون في غُرفة المؤن أضع الغلَّاية، أو أتولَّى عدَّ الضمادات المُعقَّمة بينما تُوزِّعها الأخت المُمرضة، وفجأةً أقول لنفسي: «يا إلهي، لقد تركتُ كذا في جيب مِعطف بربيري.» أعني، أيًّا كان ذلك الشيء. لذا لستَ بحاجة لأن تجزع حيالَ الأمر.»

كان السيرجنت ويليامز في براري إسكس يُساعد الشرطة المحليَّة في تحديد الجاني الذي ضرب صاحبة متجر كبيرة في السن على رأسها بمِقياس الوزن النحاسي وتركها صريعةً بين أربطة الأحذية وحلوى عِرق السوس؛ لذا لم يكن باستطاعته أن يجد عونًا من سكوتلاند يارد.

لم يجد عونًا من أي أحد حتى عاوَد كارادين الشابُّ الزيارة بعد ثلاثة أيام. ظنَّ جرانت أن لامُبالاته الطبيعية كانت ذات صبغةٍ أعمق من المُعتاد؛ كاد أن يبدوَ عليه مظهر الاحتفاء بذاته. وإذ كان شابًّا مُهذَّبًا حسَن التربية فقد سأل في أدب عن التقدُّم الذي يُحرِزه جرانت على مستوى صحته الجسدية، وبعد أن اطمأنَّ على ذلك أخرج من جيب مِعطفه الرَّحب بعضَ الأوراق وراح يَنظُر إلى زميله من خلال نظَّارته ذات الإطار السميك.

علَّق في سرور: «ما كنتُ لأقبل بكتُب مور المُعظَّم هدية.»

«لم يُعرَض عليك أي منها. ولا يُوجَد مُشترون لها.»

«إنه مُخطِئ وغير دقيق. مُخطِئ تمامًا.»

«لقد توقَّعتُ ذلك. لننظُر إلى الوقائع. أيُمكنك أن تبدأ باليوم الذي مات فيه إدوارد؟»

«بالطبع. مات إدوارد في التاسع من شهر أبريل عام ١٤٨٣. في لندن. أعني في ويستمنستر؛ لم تكن ويستمنستر جزءًا من لندن حينها. كانت الملكة وبناتها يَعِشنَ هناك، «وكذلك» الصبي الأصغر، حسبما أظن. أما الأمير الصغير فكان يستذكر دروسه في قلعة لودلو في كنف أخي الملكة، اللورد ريفرز. أكنتَ تعرف أن أقارب الملكة كانوا في صدارة المشهد إلى حدٍّ كبير؟ كان المكان يعجُّ بآل وودفيل.»

«أجل، أعرف. أكمل. أين كان ريتشارد؟»

«على الحدود الاسكتلندية.»

«ماذا؟!»

«أجل، قلت: على الحدود الاسكتلندية. بُوغِت بالخبر. لكن هل يصيح مُطالِبًا بجواد ويذهب مُتأخرًا إلى لندن؟ لم يفعل.»

«ماذا فعل؟»

«رتَّب لإقامة قدَّاس على روح الميت في يورك، استُدعيَ إليه كل نُبلاء الشمال، وفي حضورهم أقسم على الولاء للأمير الصغير.»

قال جرانت بنبرةٍ جافة: «مُثير للاهتمام.» وسأل: «ماذا فعل ريفرز؟ أخو الملكة؟»

«في الرابع والعشرين من شهر أبريل انطلق بصُحبة الأمير إلى لندن. وكان معهما ألفا رجلٍ وعتادٌ كبير.»

«فيمَ كانت حاجته للعتاد؟»

«لا تسألني. إنما أنا باحث. استولى دورست، أكبر أبناء الملكة من زواجها الأول، على مُستودَع الأسلحة وثروات البرج، وبدأ يُجهِّز السفن ليُسيطر على القنال الإنجليزي. وأُصدرَت قرارات المجلس باسم ريفرز ودورست، «عم الملك» و«شقيق أم الملك» على الترتيب، دون أيِّ ذِكر لريتشارد. الأمر الذي كان غير طبيعي حين تتذكَّر، إن كنتَ تعلم، أن إدوارد في وصيته كان قد عيَّن ريتشارد وصيًّا على الصبيِّ وحاميًا للمملكة في حال كان الصبيُّ قاصرًا. لاحظ، ريتشارد وحدَه، دون أي مُعاون.»

«أجل، هذا من شِيَمه على الأقل. لا بد أنه كان يَثِق دائمًا في ريتشارد. بصفته الشخصية وبصفته رجل إدارة. هل أقبل ريتشارد صوب الجنوب بصُحبةِ جيشٍ صغير أيضًا؟»

«لا. أتى بصحبة ستمائة رجل من نُبلاء الشمال، وكانوا جميعهم في حالة من الحزن الشديد. وصل ريتشارد إلى نورثهامبتون في التاسع والعشرين من أبريل. من الواضح أنه تَوقَّع أن يلحقَ بحشد لودلو هناك، لكن هذه المعلومة لا تعدو كونها كلامًا منقولًا، وليس لدينا دليل عليها سوى قول المؤرخ. أما عن موكب لودلو، الذي كان يتألف من ريفرز والأمير الصغير، فقد ذهب إلى ستوني ستراتفورد من دون أن ينتظر ريتشارد. وكان الشخص الذي الْتَقى به في الواقع في نورثهامبتون هو دوق بكنجهام وبصحبته ثلاثمائة رجل. أتعرِف دوق بكنجهام؟»

«معرفة سطحية. كان صديقًا لإدوارد.»

«أجل. وقد جاء من لندن على عجل.»

«وهو على علم بالخبر وبما كان يجري من أحداث.»

«هذا استنتاجٌ مقبول. ما كان ليأتي بصحبة ثلاثمائة رجل لمجرد أن يُعرب عن تعازيه. على أي حال، انعقد مجلس هناك في التوِّ واللحظة؛ كان لديه ما يلزم لعقد مجلس شرعي من حاشيته وحاشية دوق بكنجهام، وألقى القبض على ريفرز ومُساعديه الثلاثة وأُرسِلوا إلى الشمال، فيما أكمل ريتشارد رحلته مع الأمير الصغير إلى لندن. وقد وصلوا هناك في الرابع من شهر مايو.»

«هذا رائع جدًّا وواضح. والأكثر وضوحًا بين هذه الأمور برُمَّتها، مع أخذ عاملَي الوقت والمسافة في الاعتبار، أن رواية مور المُعظَّم عن كتابة ريتشارد لخطابات استمالة وإرسالها إلى الملكة من أجل إقناعها بأن تُرسِل موكبًا صغيرًا من أجل الصبي، هي محض هراء.»

«كلام فارغ.»

«بالفعل، لقد فعل ريتشارد ما يتوقَّع المرء منه أن يفعله. لا بد أنه كان بلا شك على علم ببنود وصية إدوارد. وأفعاله لا تُشير إلا إلى ما يتوقع المرء أن تُشير إليه؛ حزنه ورعايته للصبي. قدَّاس الصلاة على روح الميت وقسَمه بالولاء للصبي.»

«أجل.»

«أين يأتي التغيير في هذا النمط القويم؟ أقصد: في سلوك ريتشارد.»

«أوه، ليس لوقتٍ طويل. فحين وصل إلى لندن وجد أن الملكة والصبي الأصغر وبناتها وابنها من زواجها الأول ودورست قد انسحبوا جميعًا إلى ملاذٍ آمن في ويستمنستر. لكن فيما عدا ذلك بدت الأمور طبيعية.»

«هل أخذ الصبي إلى البرج؟»

تصفَّح كارادين ملاحظاته. وقال: «لا أتذكَّر. ربما لم أجد ذلك. كنت فقط … أوه، أجل، ها هي. لا، أخذ الصبي إلى قصر الأسقف في باحة كنيسة القديس بولس، وذهب هو بنفسه ليمكُث مع والدته في قلعة بينارد. أتعرف أين كانت تقع تلك القلعة؟ فأنا لا أعرف.»

«أجل. كانت استراحة آل يورك. وكانت تقع على ضفة النهر على بُعدِ مسافة قصيرة إلى الغرب من كنيسة القديس بولس.»

«أوه، حسنٌ إذَن، مكث هناك حتى الخامس من شهر يونيو، حين وصلت زوجته من الشمال وذهبا ليُقيما في منزلٍ يُدعى كروسبي بليس.»

«وما زال يُدعى كروسبي بليس. لقد نُقِل إلى تشيلسي، والنافذة التي وضعها ريتشارد فيه ربما لا تكون موجودةً هناك؛ لم أزُره مُؤخَّرًا، لكن المبنى موجود.»

قال كارادين مسرورًا: «حقًّا؟ سأذهب وأزوره في الحال. إنها حكايةٌ أُسرية للغاية حين تُفكِّر فيها، أليس كذلك. أن يمكث مع أُمِّه حتى تأتيَ زوجته إلى المدينة، ثم ينتقل ليَمكُث معها. هل كان كروسبي بليس مِلكًا لهم إذَن؟»

«كان ريتشارد قد استأجره، حسب ظني. كان مملوكًا لأحد أعضاء بلدية لندن. لذا لا تُوجَد إشارة على مُعارضة أن يكون ريتشارد حاميًا للبلاد ولا على تغيير في الخطط حين وصل إلى لندن.»

«أوه، لا. اعتُرِف به حاميًا للبلاد قبل حتى أن يصِل إلى لندن.»

«كيف تعرف ذلك؟»

«يُطلَق عليه لقب الحامي في قوائم التسجيل الحكومية في موضعَين، دعني أُلقي نظرة، الحادي والعشرين من شهر أبريل (كان هذا قبل مرور أسبوعَين على وفاة إدوارد) والثاني من شهر مايو (أي قبل يومَين من وصوله إلى لندن أصلًا.)»

«حسنًا؛ اقتنَعْت. ولم تحدُث جلبة؟ لا إشارة على وقوع قلاقل؟»

«ليس بحسب ما أمكنني أن أجد. في يوم الخامس من شهر يونيو أعطى ريتشارد أوامر مُفصَّلة بتنصيب الصبي في يوم الثاني والعشرين من الشهر نفسه. حتى إنه أرسل خطابات استدعاء إلى الأربعين إقطاعيًّا والذين نُصِّبوا فُرسانَ باث. يبدو أنه كان من عادة الملك أن يُنصِّبهم فرسانًا بمناسبة تتويجه.»

قال جرانت وهو غارق في التفكير: «يوم الخامس من الشهر.» وتابَع: «وحدَّد مَوعد التتويج في الثاني والعشرين. لم يترك لنفسه فسحةً من الوقت من أجل تبديل للأوضاع.»

«لا. يُوجَد حتى تسجيل بالأمر بملابس تتويج الصبي.»

«ثم ماذا بعد؟»

قال كارادين مُعتذرًا: «في الواقع، هذا هو أقصى ما توصَّلت إليه. حدث شيء أثناء انعقاد أحد المجالس — في الثامن من شهر يونيو بحسب ما أظن — لكن الرواية المُعاصرة لذلك مذكورة في «مذكرات» فيليب دي كومين، ولم أتمكَّن من الحصول على نسخة منها حتى الآن. لكن أحدهم قطع لي وعدًا بأن يُطلِعني غدًا على نسخة من طبعة ماندرو لعام ١٩٠١ لها. يبدو أن أسقف باث نقل بعض الأخبار إلى المجلس في الثامن من شهر يونيو. هل تعرف أسقف باث؟ كان اسمه ستيلينجتون.»

«لم أسمع به من قبل.»

«كان زميلًا لكلية أول سولز، أيًّا كانت، وكاهنًا ليورك، أيًّا كان معنى ذلك.»

«يبدو مُثقَّفًا ومُوقَّرًا.»

«حسنًا، سنرى.»

«هل توصَّلتَ إلى أي مؤرخ مُعاصر، غير كومين؟»

«لم أجد حتى الآن أحدًا كتب قبل وفاة ريتشارد. كان كومين مُنحازًا إلى الجانب الفرنسي، لكنه لم يكن مُنحازًا إلى آل تيودور؛ لذا هو موثوقٌ أكثر من رجلٍ إنجليزي يكتب عن ريتشارد في ظلِّ حُكم آل تيودور. لكنني حصلت على عيِّنةٍ رائعة من أجلك عن كيفية صناعة التاريخ. وجدتها حين كنت أبحث عن الكُتَّاب المُعاصرين. أتعرِف أن أحد الأشياء التي يروونها عن ريتشارد الثالث أنه قتل الابن الوحيد لهنري السادس بدمٍ بارد بعد معركة توکسبوري؟ حسنًا، صدِّق أو لا تصدِّق، تلك القصة مُختلَقة بالكامل. يمكنك أن تتتبَّعها منذ المرة الأولى التي رُوِيت فيها. إنها الرد المِثالي على من يدَّعون أنه يُوجَد دُخان من دون نار. صدِّقني أُحدِث هذا الدُّخان باحتكاك عصوَين جافَّتَين.»

«لكن ريتشارد كان مُجرَّدَ صبيٍّ وقت معركة توکسبوري.»

«أظن أنه كان في الثامنة عشرة من عمره. وكان مُقاتلًا رائعًا بحسب الروايات المعاصرة كلها. كان ابن هنري وريتشارد في نفس العمر. و«كل» الروايات المعاصرة، من كل الطبقات، مُجمِعة على أنه قُتِل أثناء المعركة. وهنا يبدأ المرح.»

راح كارادين يُقلِّب في ملاحظاته بنفاد صبر.

وقال: «تبًّا، ماذا فعلتُ بها؟ آه. ها هي. والآن اسمع. يكتب فابيان لهنري السابع، قائلًا إن الصبيَّ أُسِر وأُحضرَ أمام إدوارد الرابع، وإن إدوارد لطمه على وجهه بقفَّازه وقُتِل من فوره على يد خدم الملك. جميل؟ لكن بوليدور فيرجيل يقصُّ روايةً أفضل. يقول إن القتل حدث على يد جورج، دوق كلارينس، وريتشارد دوق جلاوسيستر، وويليام لورد هيستنجز بأنفسهم. وهال يُضيف دورست إلى القتلة. لكن هذا لم يكن مُرضيًا لهولينشيد؛ يُورِد هولينشيد أنَّ ريتشارد دوق جلاوسيستر كان هو من وجَّه الضربة الأولى. ما رأيك في ذلك؟ أعلى جودة من الزيف.»

«محض زيف. قصة درامية ليس بها كلمة واحدة حقيقية. إن كنت تُطيق سماع بضع جُمَل من كتاب مور المعظم، فسأعطيك عيِّنةً أخرى من كيفية صناعة التاريخ.»

«مور المعظم يُصيبني بالقرف الشديد لكنني سأسمع.»

بحث جرانت عن الفقرة التي أراد، ثم قرأ:

يذهب بعض الرجال الحكماء إلى القول بأن حركته [أي حركة ريتشارد]، التي نُفِّذت بسِرِّية لم تفتقر إلى المساعدة في أن تقود أخاه كلارينس إلى حتفه؛ الأمر الذي عارَضه علنًا، ولكن كما يعتقد البعض إلى حدٍّ ما، فإنه عارَض الأمر على نحوٍ أضعف من ذلك الذي كان حريصًا على صالحه. وأولئك الذين يفترضون ذلك يظنُّون أنه، لوقتٍ طويل في حياة الملك إدوارد، خطَّط لأن يكون الملك في حالة أنه تصادف أن شقيقه الملك (الذي ارتأى أن حياته المليئة بالأعمال الشريرة ينبغي أن تقصر) تُوفي (الأمر الذي حدث بالفعل) بينما كان طفلاه صغيرَين. ويفترضون أنه بسبب هذه النية كان مسرورًا بوفاة أخيه كلارينس، الذي كانت حاجاته الحياتية الضرورية قد أعاقته، سواءً كانت نيتُه أن يظلَّ وفيًّا لابن أخيه الملك الصغير أو أقدمَ على أن يُصبح ملكًا. لكن لا يُوجَد أمر مؤكَّد في هذه النقطة كلها، وأيًّا كان من يَحزُر بناءً على تخمينات يجوز أن يذهب بعيدًا للغاية أو يَقصُر إلى أبعدِ حد في تخمينه.

قال كارادين بعذوبة: «الخسيس الثرثار المُتملِّق الخَرِف العجوز.»

«هل أنت ذكي بما يكفي لتلتقط الجملة الإيجابية الوحيدة في كل ذلك التكهُّن؟»

«أوه، أجل.»

«هل لاحظتها؟ كان ذلك في غاية الذكاء منك. تعيَّن عليَّ أن أقرأها ثلاث مرَّات من قبل أن أصل إلى الواقعة الوحيدة غير المشفوعة بتحفُّظ.»

«أن ريتشارد عارَض علنًا قتل أخيه جورج.»

«أجل.»

قال كارادين مُعلِّقًا: «بالطبع مع كل تلك الجُمَل التي يقول فيها «يقول البعض»، فإن الانطباع الذي خلَّفه هو الانطباع المُعاكس تمامًا. لقد أخبرتك، ما كنتُ لأقبل أن يُهديَني أحدٌ كتاب مور المعظم.»

«أظنُّ أن علينا أن نتذكَّر أن هذا هو رواية جون مورتون وليس مور المعظم.»

«اسم مور المُعظم أفضل على الأسماع. عِلاوةً على أنه أُعجبَ بتلك الرواية لدرجة أنه نَسَخها.»

رقد جرانت، الذي كان يومًا ما جُنديًّا، يُفكِّر في المعالجة المُتخصصة لذلك الموقف الشائك في نورثهامبتون.

وقال: «كانت براعةً من جانبه أن يتخلَّص من الألفَي رجل المُصاحبين لريفرز من دون صدام مفتوح.»

«أتوقَّع أنهم فضَّلوا أخا الملك على أخي الملكة، إن كانوا قد واجهوا هذا الخيار.»

«أجل. وبالطبع يحظى الرجل المُحارِب بفرصة مع القوات أفضل من تلك التي يحظى بها رَجلٌ يكتب كتبًا.»

«هل كان ريفرز يكتب كُتبًا؟»

«كتب أوَّل كتاب طُبِع في إنجلترا. كان مُثقفًا للغاية.»

«حقًّا. يبدو أن ذلك لم يُعلِّمه ألا يجرب عقد اتفاقات مع رجلٍ كان برتبة بريجيدير في الثامنة عشرة من عمره، وبرتبة جنرال قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين. ذلك من الأمور التي فاجأتني.»

«مميزات ريتشارد بوصفه رَجلًا عسكريًّا؟»

«لا، شبابه. كنت دائمًا أُفكِّر فيه باعتباره رجلًا مُتبرِّمًا في منتصف العمر. كان لا يزال في الثانية والثلاثين من عمره حين قُتِل في بوسوورث.»

«قل لي: حين تولَّى ريتشارد الوصاية على الصبي، في ستوني ستراتفورد، هل تخلَّص بالكامل من حشد لودلو؟ أقصد، هل فُصِل الصبيُّ عن كل الأشخاص الذين كان قد نشأ معهم؟»

«أوه، لا. أتى معه إلى لندن مُعلِّمه الدكتور ألكوك. هذا واحد.»

«إذَن لم يتخلَّص بطريقةٍ مذعورة من كل من يمكن أن يتحيَّز إلى جانب آل وودفيل؛ كل من يُمكن أن يُؤثِّر على الصبي ضدَّه.»

«لا يبدو كذلك. لم يُقبَض إلا على الأشخاص الأربعة.»

«أجل. كانت تلك عمليةً بارعة فارقة تمامًا. وأنا أُهنئ ريتشارد بلانتاجانت.»

«بدأ الرجل يروق لي بالتأكيد. سأذهب الآن لأُلقيَ نظرةً على كروسبي بليس. أنا مسرور كثيرًا لفكرة أنني في الواقع سأزور مكانًا عاش فيه. وغدًا سأحصل على نُسخة كومين تلك، وسأُطلِعك على ما يقول بشأن الأحداث التي وقعت في إنجلترا في عام ١٤٨٣، وما قاله روبرت ستيلينجتون، أسقف باث، للمجلس في شهر يونيو من ذلك العام.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤