مقدمة الكتاب

بقلم  أحمد حافظ عوض

لكل شيء تاريخ، وللتاريخ تاريخ، ولهذا الكتاب تاريخ؟

وأول ما يجب أن يبدأ به، بعد حمد الله وشكره على توفيقه وإلهامه، هو ذكر السبب الذي دعا إلى وضع هذا الكتاب أو تاريخ الفكرة فيه، وكيف تقلَّبت به الأحوال، حتى ظهر على هذا الشكل والمنوال.

وفي اعتقادي أن مصارحة الناس بالحقيقة عن فكرة وضع كتاب، أو إتمام عمل من الأعمال العامة التي تعيش بعد صاحبها، أو يقدر لها الخلود بين النفائش الأدبية، والآثار القومية، لمِمَّا يساعد الأجيال الخالفة على تقدير الكتاب، وتقدير ظروف واضعه، وتجلو صدأ الحقيقة عن قيمة العمل ومنزلته، في الفترة الزمنية التي وضع فيها هيكله، وتم فيها بناؤه، وتلك مهمة تاريخية أيضًا، وكأنها تاريخ للتاريخ!

•••

منذ عدة سنوات قام بنفسي خاطر أن أضع كتابًا في تاريخ مصر الأحدث؛ أي: في القرن التاسع عشر، يبتدئ بالحملة الفرنسية، وينتهي بعهد اللورد كرومر.

ولكن هذا الخاطر لم يتجسَّم، ولم يأخذ شكلًا محددًا، ولم تساعد الحياة الصحفية القلقة، التي قضت عليَّ بها المقادير، على الانقطاع لعمل كهذا، خصوصًا وأنا أطمع — فيما أطمع — أن لا أضع كتابًا في التاريخ، على الأسلوب الذي اعتاده كُتاب اللغة العربية، من جمع وتنسيق، بغير بحث ولا تدقيق ولا تحقيق، ممَّا يحتاج إلى دراسة وانقطاع، ومحاكاة للأسلوب الغربي الحديث في كتابة التاريخ والخوض في عبابه.

وكل ما كان له من الأثر في نفسي، من جراء تلك الفكرة، الرغبة في الاطِّلاع على الكتب الإفرنجية التي وضعها المؤلِّفون والسياح عن تلك الفترة، من العهد الأول؛ أي: قبيل الحملة الفرنسية وخلالها وبعدها، وبقيت هذه الرغبة تتنازعني بشدة مرة، وبلطف أخرى، ثم تعقبها فترة إهمال وترك، حسبما تتلقفني أيدي المقادير من حياتي التي أشرت إليها.

ومرت عدة سنوات ولم أجمع إرادتي مرة للجلوس على مكتب لوضع خطة لتنفيذ ذلك العمل الذي ملت إليه، وهكذا بقيت فكرة وضع هذا التاريخ أشبه بما وصفه اللورد روزيري — في كتابه عن نابوليون في سانت هيلين — «بشيطان أدبي»١ متسلط على جسمي، أغالبه ويغالبني، وأطارده ويطاردني، حتى أراد الله ولا راد لإرادته، أن يندلع لهيب الحرب الأوروبية الكبرى في شهر أغسطس سنة ١٩١٤.

وكنت في ذلك الوقت أتولى رياسة تحرير جريدة المؤيد بعد وفاة مؤسسها المرحوم الشيخ علي يوسف، وكان المؤيد لسان حال السراي الخديوية، وصلتي الشخصية والعمومية بسمو الخديو السابق عباس حلمي باشا معروفة، ولها في تاريخ مصر السياسي صحيفة ذات قيمة عظيمة لم يؤن بعد أوان نشرها، فكان من مقتضى هذه العلاقة، أن يصيبني رشاش من النكبة التي أصابته بفقدان عرشه وملكه، ففقدت كل ما لدي، وكل عمل أتكسب منه، فتركت تحرير المؤيد، ونار الحرب مشتعلة، والظروف قاسية، والريبة بين الناس فاشية، وسيف السلطة العسكرية مصلت على الرقاب، ولي زوج وأولاد صغار، أخشى أن يحال بيني وبينهم بالنفي أو الاعتقال، فاخترت العزلة، مع التلطف والاحتيال، وانتقلت بأسرتي إلى الإسكندرية، ثم قضت بعد ذلك السلطة العسكرية الإنجليزية بأن لا أبرح ذلك الثغر، وأن أبقى فيه تحت إشرافها وسيطرتها، حتى تضع الحرب أوزارها.

وحمدت الله، «الذي لا يحمد على مكروه سواه» على الخلاص من النفي أو الأسر أو الاعتقال، إلى غير ذلك من ضروب الاضطهاد التي لاقاها المشتغلون بالسياسة الوطنية، وخصوصًا كل من كانت لهم علاقة مثل علاقتي، أو أقل منها بكثير، مع سمو عباس باشا حلمي الخديوي السابق.

ومع أنني كنت في بيتي، مع زوجي وولدي في مدينة واسعة الأكناف، إلا أنني كنت مع هذا أقاسي ألم الاعتقال والضغط على الحرية، ورضوخي للاستبداد، واضطراري إلى الانتقال عن الحياة العمومية، الصحفية والسياسية.

فتحرك في صدري ذلك «الشيطان الأدبي»، وذكرني بكتاب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، ووسوس إليَّ بأن الاشتغال بتأليف هذا الكتاب مما يساعد على قطع رقبة الفراغ بسيف العمل، فكان من أثر ذلك أنني استعنت بالله وبدأت في وضع الهيكل الذي يُشاد عليه بناء الكتاب، وقسمته في الهيكل إلى أربعة أجزاء بحيث يكون في كل جزء رجل أو رجلان كبيران، الأول عن الحملة الفرنسية حتى خروج الفرنسيين من مصر بيد الترك والإنجليز، وبطلا هذا الجزء نابوليون بونابرت وكليبر، والثاني من خروج الفرنسيين إلى وفاة محمد علي وبطلاه محمد علي وإبراهيم، والثالث من وفاة محمد علي إلى الاحتلال الإنجليزي، ورجله إسماعيل، والرابع من الاحتلال البريطاني إلى الحرب الأوروبية وبطلاه عباس وكروم.

هكذا كان الهيكل، وهكذا كانت النية!

•••

وبدأت أبحث وأنقب، وأجمع وأرتب، ثم بدأت أكتب، فرأيت أنه لا بد لبيان الحالة السياسية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية، التي كانت عليها مصر قبل قدوم الحملة الفرنسية، من أن أضع مقدمة وافية، واستطردت في ذلك، وخصوصًا لما وقعت في يدي كتب قيمة قديمة لم أكن قد قرأتها، وفيها معلومات غريبة، مثل كتاب «ثورة علي بك الكبير» المشار إليها في هذا الكتاب، وغيره من كتب السياح مثل قولني، وبروس، وبراون، وسونيتي، وسافاري، ودينون، فطال البحث حتى بلغ في المقدمة أربعًا وستين صحيفة من هذه الطبعة بحرفها الصغير هذا.

ثم رأيت من الضروري أن أضع للقارئ العربي مقدمة أخرى عن تاريخ «فكرة الحملة الفرنسية» على مصر، وأسبابها السياسية والدولية، وكيف تطورت الفكرة في عصور مختلفة، وكان لا بد كذلك من فصل موجز وافٍ عن نشأة وتاريخ نابوليون الذي فتح مصر للعالم الأوروبي، وكان له في هذه الديار، وفي العالم أجمع شأن عظيم.

ولا بد من بيان كيف اختمرت فكرة الحملة في رأسه، وهل جاء مصر راغبًا أو مكرهًا، واستغرق هذا البحث وذاك ما يقرب من مائة صحيفة.

كل ذلك قبل الدخول في الحملة الفرنسية.

وتفتحت معي الأبواب، وتشعبت المسال، ووجدت نفسي أسبح في بحر خضم من عويص المباحث، ومختلف الكتب والرسائل، والمذكرات الشخصية والعمومية عن الحملة الفرنسية، بحيث لم أصل — بعد مزاولة العمل خلال سنوات أربع، تتخللها فترات انقطاع واشتغال بشئون الحياة — إلى نقطة يحسن الوقوف عندها، إلا نقطة مبارحة نابوليون أرض مصر، وجاء ذلك في هذا المجلد الضخم بهذا الحرف الصغير!

وكل ذلك لم يرد على نصف الجزء الأول من هيكل الكتاب كما كنت قد رسمته وصورته في مخيلتي، فوقفت ثم أخذت أبحث عن كتب لم أطلع عليها، ومذكرات لم تصل يدي إليها، فاتسع المجال، وانفسح ميدان الخيال.

•••

وألقت الحرب أوزارها وارتفع كابوس الاعتقال، فطويت صحائف الكراريس والمسودات والتعليقات والمذكرات، وهرعت إلى ميدان العمل في النهضة الوطنية، والحركة السياسية والصحافية، على أمل أن أعود إلى الكتاب فأتمه وأكمل ما فيه من نقص في فرصة أخرى.

ومرت على ذلك سنوات خمس والكتاب في صحائف مبعثرة، وأوراق متناثرة، ومذكرات ومقتطفات متنوعة، وتعليقات متوزعة … وقد مل شيطاني، وهجر دماغي؛ لأنها امتلأت كخلية النحل، بكثير من المشاكل التي تلهي عنه، وكدت أنسى ما كتبته حتى أهملته، لولا حنين كان يتولاني من آن لآخر، ولولا أن زوجي الفاضلة كانت تذكرني به في أوقات مختلفة؛ لأنها اشتركت فيه معي بروحها، وبمساعدتها لي في تعريب بعض القطع من الفرنسية إلى العربية، في الأيام التي قضيتها معها في شبه منفى بالإسكندرية، ومع كل هذا فلم أقدم على مباشرة طبع الكتاب أو تنقيحه؛ لأنني اعتقدت أنه عمل ناقص، وأنه ليس في مقدوري ولا من رغبتي أن أتمه، وكنت أسوف، وأؤمل أن أنقطع له مرة أخرى، ولكن الفرص لم تتهيأ والظروف لم تساعد.

وحدث أنني مرضت ذات مرة في صيف العام الماضي وتولاني يأس من الحياة وخيل لي أن المنية عدت قاب قوسين أو أدنى، فكان أشد ما يحزنني أنني قد أموت قبل أن أبرز للوجود هذا الذي عملته! فلما مَنَّ الله بالشفاء نظرت إلى مسودات هذا الكتاب، وقلت في نفسي: قد أمرض ثانية وأموت ولا يتم هذا العمل ولا يُطبع ولا يُنشر، وهيهات أن يتولى إنسان تنقيحه وطبعه بعدي، وهكذا يزول من الوجود أثر من عمل أجهدت فيه نفسي، وانصرفت إليه بكل ما في روحي من لذة معنوية ورغبة صادقة أدبية ووطنية.

فخطر لي أن أبدأ بطبع ما كتبت وأن أكتفي بما إليه وصلت، ولئن يظهر هذا العمل، على غير إرادتي، ناقصًا — أو بعبارة أخرى، أقل مما كانت تصبو إليه نفسي، وتتوجه إليه مطامعي — فذلك أولى من أن لا يظهر مطلقًا، وأولى من أن تعدو عليه العوادي فتذهب به كأن لم يكن، وكأن لم أقض في مزاولته عدة سنين من زهرة الحياة!

واختمر هذا الرأي بنفسي فأقدمت، وشرعت في طبع ما كتبت، وأنا آسف على أن الزمن لم يسمح لي بأن أصل بالكتاب إلى ما أردت، أو ما إليه طمحت!

ومع ذلك كانت تعاودني رغبة الإصلاح والإتقان فكنت أمعن في البحث والفحص، وكثيرًا ما كنت أوقف الملزمة أسبوعًا وأسبوعين حتى أحقق بعض النقط في بعض المصادر التي كنت أعثر عليها في المكاتب، ثم أحور وأغتر، وأزيد وأنقص، وقد صبر معي القائمون «بمطبعة مصر» صبرًا جميلًا يشكرون عليه، حتى وصلت إلى النتيجة التي يراها القارئ بين يديه.

وها هو الآن بين يدي قراء اللغة العربية وأترك لهم الحكم عليه وعلى قيمته وحقه في المنزلة التاريخية والعمل الأدبي، وكيفما كان حكمهم الذي يصدرونه عليه، فإنني واثق من شيء واحد، وهو أنهم سيعترفون معي أنني وضعت أسلوبًا جديدًا في كتابة التاريخ العربي، وأنني رسمت خطة لمن يريد أن يقتفي أثرها ويزيد في تحسينها وإتقانها، وأنني بعراة أوجز قد أزلت بعض الأنقاض، ورفعت قليلًا من الأتربة المتراكمة في طريق من يريد السير في إتمام هذا العمل.

ويرى القارئ في هذا الكتاب إشارة إلى ما كابدته وقاسيته من صعوبة البحث، ومن إظهار الأسف من أن الحكومة المصرية، وكُتاب اللغة العربية منذ زمن محمد علي، لم يظهروا أقل عناية بوضع كتاب مفصل عن تاريخ الحملة الفرنسية، من المصادر العديدة والمجلدات الضخمة الموضوعة عن هذه الفترة باللغة الفرنسية، مع تحقيق كان أقرب سهولة في أيام محمد علي باشا وإبراهيم باشا مثلًا، منه في هذا الزمن بعد طول المدة وانقراض الذين عاشوا في تلك الأيام القريبة، فأوجه نظر القارئ إلى تلك الملاحظة.

ومن هذا البيان يظهر للقارئ المفكر أنني في هذا الكتاب لم أقم إلا بنصف الجزء الأول من الأجزاء الأربعة التي وضعتها هيكلًا لكتاب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، فهل من يقدم على إتمام الأجزاء الباقية على هذا النمط أو أحسن منه؟ أما أنا فلا أؤمل أن أوفق للزيادة على هذا الذي فعلت، إلا أن يشاء الله غير ذلك.

•••

ولما لم يعد الكتاب تاريخًا كاملًا لمصر في القرن التاسع عشر، كما أردت، ولم يصبح تاريخًا كاملًا للحملة الفرنسية من بدئها إلى نهايتها، اخترت له اسمه الحالي «فتح مصر الحديث»؛ لأن اليوم الذي وطئت فيه قدم نابوليون بونابرت أرض مصر بحملته، كان يومًا فاصلًا بين القديم والحديث، وكان فتحًا لباب مصر ومسألتها على مصراعيه للتدخل الأوروبي، وقد قلت في هذا الصدد:

«كان ظهور السفن الفرنسية، بمن نقل من جنود وضباط وقواد وعلماء، وذخائر وبنادق ومدافع، فاتحة عصر جديد لمصر، بدأ بالاحتلال الفرنسي، تحت قيادة أعظم القواد الحربيين الذين أظهرهم هذا الوجود، ثم عقب بالنزاع بين أوروبا، حول هذه البقعة المسماة وادي النيل … ذلك النزاع الذي ما برح يظهر على جميع الأشكال، وغريب الأحوال، من مطاردة الفرنسيين وإخراجهم، إلى معاضدة المماليك، بإنزال قوة إنكليزية على الشواطئ المصرية، ثم بمقاومة محمد علي، وإيقافه عند حد لا يتعداه، في مشروعاته ومطامعه، ثم بالمعارضة في فتح قنال السويس، إلى التدخل في أمور مصر المالية، حتى كانت الثورة العربية، والاحتلال الإنكليزي والحماية الظاهرة، والمقنعة … كل هذه الحوادث والمشاكل خلقها وضع فرنسا قدمها في مصر، فإنه من ذلك الحين، أوجست إنكلترا خيفة من تعاظم نفوذ أية دولة أوروبية في وادي النيل، أو تقوية أية سلطة محلية، مما قد يكون عائقًا في تنفيذ سياستها القاضية بأن يكون طريقها إلى الهند في يدها … فكان لها القدح المغلي في كل هاتيك الحوادث والمشاكل، إلى أن استقر قدمها في مصر، عقب الثورة العرابية … ومع ذلك فستبقي مصر سببًا لمشاكل أوروبا ومنازعاتها وحروبها، حتى تنال استقلالها التام بطريقة تجعل الباب مفتوحًا، والثقة في التساوي كاملة، أو يحكم الله بأمر من عنده وهو خير الحاكمين».

•••

لهذا سميته «فتح مصر الحديث»؛ أي: فتحها للنزاع الدولي, والمدنية الأوروبية، والمستقبل السعيد لوادي النيل من البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة فكتوريا نيانزا.

ولن يقف في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، بهمة الجيل الجديد، والقومية الحديثة والتقدم إلى الأمام أحد، كائنًا من يكون!

هذا هو اعتقادي في مستقبل مصر الكبرى، أضعه أمام أبنائنا وأحفادنا منارًا يُهتدى به، وغاية تتوجه إليها النفوس والقلوب والعقول.

والله سبحانه وتعالى يحقق للناس ما يتوجهون إليه بإخلاص ومثابرة وعزم صادق.

القاهرة في ١١ ديسمبر سنة ١٩٢٥

هوامش

(١) Literary Ghost.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤