الفصل العاشر

الدور الأول (من ١ يوليو–١٣ أغسطس)

من احتلال الإسكندرية إلى واقعة أبي قير
لما احتل نابوليون الإسكندرية، وسار بجيشه حتى وصل إلى قصبة الديار المصرية، لم يكن يقوم بذهنه طول البقاء بمصر بالنسبة لذاته شخصيًّا؛ إذ المعروف أنه كان منذ سطعت شمس حياته، وتألق سنا مجده، ولاح كوكب شهرته في أوروبا، متطلعًا إلى السيادة على فرنسا، وبواسطتها على أوروبا، كما أدرك ذلك فعلًا بعدُ، ولذلك قالوا إنه لما أدرك أن حكومة الديركتوار تريد إبعاده عن فرنسا خوفًا من شهرته التي نالها، ومحبته التي تمكنت في قلب الشعب الفرنسي، بردت نار حماسته التي اشتعلت بفكرة فتح مصر، ولكنه كان قد تورط في الأمر من جهة، ومن جهة أخرى التفت يمنة ويسرة عله يجد طريقة لأخذ السلطة من يد أولئك الحكام، فرأى كما صرح بذلك «لبورين»، «أن الثمرة لم تنضج بعد»١ ققدم إلى مصر بحملته، وكان من أمره ما كان.

ونحن نريد أن نستنتج من هذا أنه لم يكن مصممًا على البقاء في مصر، وكانت عينه متطلعة دائمًا إلى فرنسا، فكان همه موجهًا إلى وضع نظام حكومة راقية في هذه الديار ليكتسب بها مودة الشعب المصري وثقته، ويسعى في التودد إلى حكومة الباب العالي، فيوفق بين احتلال فرنسا لمصر، وسيادة جلالة سلطان آل عثمان، كما سبق لنا بيان ذلك، وعلى هذه الفكرة سار في الخطة التي وضعها لنظام حكومة هذه الديار، إلى أن علم أن نلسون الإنكليزي قد دمر أسطوله في واقعة أبي قير «وكان علمه بذلك بالضبط يوم ١٣ أغسطس، وهو قادم من مطاردة إبراهيم بك في مديرية الشرقية»، فعرف أنه قد حيل بينه وبين العودة إلى فرنسا، وأن مواصلاته بوطنه، ومصدر الإمدادات، بل قل الحياة له ولجيشه، قد انقطعت فلجأ إلى اتخاذ خطة أخرى، والأصح أن يقال، إلى توسيع خطته الأولى مع المصريين، كما سنشرح ذلك في حينه.

قلنا إن خطته في الدور الأول كانت قائمة على وضع نظام راقٍ وحكومة عادلة لمصر مع التشديد على جيشه وضباطه بالمحافظة على العادات والآداب الشرقية، والتقاليد الإسلامية، فلذلك أصدر أمره يوم وصوله إلى القاهرة بتشكيل ديوان من علماء مصر وشيوخها، وهذه صورة لأمره الرسمي بتشكيل الديوان واختصاصاته.

معسكر القاهرة ٧ ترميدور سنة ٦ / ٢٦ يوليو سنة ١٧٩٨

بونابرت عضو المجتمع العلمي الأهلي وقائد عموم الجيش يأمر بما يأتي:
  • (أولًا): تحكم مدينة القاهرة بواسطة ديوان مشكل من تسعة أشخاص.
  • (ثانيًا): يتألف هذا الديوان من المشايخ، السادات، والشرقاوي، والصاوي، والبكري، والفيومي، والعريشي، وموسى السرسي، ونقيب الأشراف سيد عمر، ومحمد الأمير، وعليهم أن يجتمعوا في الساعة الخامسة مساء اليوم بمنزل «كخيا الشواهد» وعليهم أن ينتخبوا من بينهم رئيسًا لهم وينتخبوا سكرتيرًا «كاتم سر» من الخارج «أي: من غير دائرتهم» ويختاروا لهم كتبة تراجمة يعرفون الفرنساوية والعربية ولهذا الديوان حق تعيين اثنين من خيار الناس «أغات» لإدارة البوليس، وعليه أن ينتخب قومسيونًا مؤلفًا من ثلاثة آخرين يكلفون بمهمة دفن الموتى الموجودين في القاهرة وضواحيها.
  • (ثالثًا): يجتمع أعضاء هذا الديوان كل يوم من الظهر ويبقى منهم ثلاثة أعضاء على الدوام في دار المجلس.
  • (رابعًا): يقام على باب الديوان حرس فرنساوي وآخر تركي.
  • (خامسًا): على الجنرال برتبة وقومندان المدينة أن يكونا عند الساعة الخامسة مساء اليوم بدار الديوان لإجراء ما يلزم لأعضائه، ولكي يفهموهم أن لا يعملوا شيئًا ضد مصلحة الجيش.» ا.ﻫ.

•••

هذا نص أمر تشكيل واختصاصات الديوان الأول كما نشره «لاكررا» نقلًا عن النص المحفوظ بديوان الحربية في فرنسا تحت نمرة ٢٨٣٧، وهو يخالف في بعض الوجوه — وربما كان في شكله فقط — ما كتبه الجبرتي في هذا الصدد، فقد ذكر الشيخ الجبرتى «أنهم «الفرنسيس» أرسلوا يطلبون المشايخ والوجاقلية عند قائمقام صاري عسكر، فلما استقر بهم الجلوس خاطبوهم وتشاورا معهم في تعيين عشرة أنفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات، فوقع الاتفاق على الشرقاوي والبكري والصاوي والفيومي والسرسي والعريشي والدمنهوري والمهدي والشبراخيتي والدواخلي.»

فالستة أعضاء الأول، هم كما ورد في أمر نابوليون الرسمي، وأما الأربعة الآخرون فقد ذكر مكانهم ثلاثة فقط؛ عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ محمد الأمير، والسادات.

فأما السيد عمر مكرم فقد كان غائبا؛ لأنه خرج مع إبراهيم بك وأبي بكر باشا هاربًا من وجه الفرنسيس، ولم يعد إلى مصر إلا بعد خروجهم، فمن المحتمل أن يكون نابوليون قد ذكره ليبلغه ذلك، وهو لا يزال في بلبيس، فيرتاح خاطره فيحضر، وأنه انتخب واحدًا من العلماء الثلاثة الدمنهوري والشبراخيتي والدواخلي، وأما الشيخ محمد المهدي فمن المؤكد أنه انتخب ليكون «كاتم سر وباشكاتب الديوان الخصوصي» وأما شيخ السادات فقد ذكره نابوليون في أول أمره المشار إليه، ولكن لم يرد ذكره كعضو من أعضاء الديوان، في كتاب الجبرتي، وأما المعلم نقولا الترك، فقد خلط وخبط فقال: «ابتدأ نابوليون في النظامات لمدينة مصر فأحضر أولًا خمسة من الأسماء الكبار وهم الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ محمد المهدي والشيخ سليمان الفيومي، وأحضر معهم اثنين من الوجاقات وواحد من التجار وهم علي كتخدا باشي ويوسف شاويش باشي والسيد أحمد المحروقي، وأفرز إلى هؤلاء محلًّا معينًا، وعين لهم علائف «مرتبات» شهرية وأقامهم رؤساء في ديوان خصوصي.» ا.ﻫ.

ونحن لا نعرف شيئًا عن أولئك الاثنين من الوجاقلية؛ إذ لم نعثر على اسمهما في أي كتاب، ولكنا نعرف أن السيد أحمد المحروق لم يكن في القاهرة في ذلك الحين؛ لأنه فر مع إبراهيم بك، وبكير باشا، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد واقعة الصالحية في ١٢ أغسطس أي بعد نحو عشرين يومًا من هذا التاريخ، ومن الغريب أن يرد بعد هذا في رسالة نقولا الترك ذكر أسماء أعضاء الديوان الذين أمضوا على المنشور الذي وزعه نابوليون تحت أسمائهم ردًّا على المنشورات والأوراق التي كان يبعث بها إبراهيم بك ورجال الدولة لتحريض الأهالي على الفرنساويين «كما سيأتي ذلك في موضعه» وعددهم عشرة رجال وهم البكري والشرقاوي والصاوي والمهدي ومحمد الأمير والعريشي والفيومي والدواخلي والسرسي والدمنهوري، فلم يذكر من بينهم السادات، ولا الشيخ محمد الأمير مفتي المالكية، ولا الشيخ الدواخلي.

ولم يذكر الجبرتي الاختصاصات التي أعطاها نابوليون للديوان، ولكن ذكر أولًا أنه حضر مع المشايخ في جلسة الديوان مصطفى كتخدا الباشا «وكيل الباشا الوالي» والقاضي «التركي» وهذا من الأدلة الكبيرة على رغبة نابوليون في إتباع السياسة التي شرحناها من حيث اتفاقه مع الدولة ومحافظته على حقوق السيادة العثمانية، ثم قال الجبرتي: «وقلدوا محمد أغا المسلماني أغات مستحفظات «محافظ» وعلي أغا السواري والي الشرطة وحسن أغا محرم أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم؛ أي: «الفرنسيس» كانوا ممتنعين عن تقليد المناصب لجنس المماليك فعرفوهم أن السوقة في مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم.» وذكر الجبرتي أيضًا أنهم قلدوا محمد بك كتخدا لبونابرته ومن أرباب المشورة الخواجة موسى كافوا وكلاء الفرنساوي … «وصوابهما موسى كافوا وكاوي الفرنساوي» وعينوا مسيو جان بنو وكيلًا للديوان.

هذا فيما يختص بنظام إدارة حكومة القاهرة، أما فيما يختص بداخلية البلاد فلم يذكر الجبرتي شيئًا وكذلك لم نجد في كتاب المعلم نقولا الترك، ولا في كتاب البستاني الناقل عن كتب الفرنسيس، ولكن رأينا في المصادر الفرنسية، أن نابوليون ألقى عدة أسئلة على المشايخ أعضاء الديوان للاستفسار منهم عن أحسن الطرق لإدارة أحكام المديريات، فأجابوه على أسئلته بجوابات أعجبته وسر بها؛ ولذلك وضع النظام الآتي في أمر له بتاريخ ٢٧ يوليو، ومحفوظ أصله في مخابرات نابوليون بنمرة ٢٨٥٨ وهذا تعريبه:
  • المادة الأولى: يشكل في كل مديرية من مديريات القطر المصري ديوان مؤلف من سبعة أعضاء للنظر في شئون الأهالي، وليعرضوا علي كل شكوى تقدم لهم، وليمنعوا التعديات التي تقع من الأهالي على بعضهم، وليراقبوا المشبوهين وليعاقبوهم إذا اقتضى الحال بطلب قوة من قومندان الجهة الفرنساوي، وعلى هذا الديوان إرشاد الأهالي إلى ما يراه موافقًا لمصلحتهم.
  • المادة الثانية: يقيم في كل مديرية أغا من الإنكشارية تكون علاقاته متواصلة مع القومندان الفرنساوي، وتكون تحت أمرته قوة مؤلفة من سبعين رجلًا من أهالي البلاد مسلحين لكي يسيروا في البلاد لتوطيد دعائم الأمن وإدخال الناس في دائرة الطاعة والطمأنينة.
  • المادة الثالثة: يقيم في كل مديرية مدير لجباية أموال الميري وتحصيل جميع ضرائب الأطيان، وجمع إيرادات أملاك المماليك التي أصبحت الآن ملكًا للجمهورية الفرنسية، ويكون تحت إدارته العدد الكافي من العمال اللازمين لذلك.
  • المادة الرابعة: يعين مع المدير المشار إليه آنفًا وكيل فرنساوي للمخابرة مع إدارة ديوان المالية ولتنفيذ الأوامر التي تصدر له من هذه الجهة ويكون تابعًا لها. ا.ﻫ.
بونابرت

ووضع نابوليون عدا ذلك مذكرة تقضي بتثبيت جميع الملاك في أملاكهم، وبالمحافظة على الأوقاف التابعة للمساجد والمعاهد الدينية، وأن تستمر المعاملات التجارية والمدنية على ما كانت عليه، وأن يبقى السير في الأعمال القضائية على ما كان عليه.

•••

فأنت ترى من هذا النظام أن نابوليون قد وضع المهم من سلطة إدارة أمور البلاد في أيدي أبنائها، مكتفيًا بالرقابة العامة، ولكن البلاد كانت خالية من الرجال المصريين الذين يصلحون لتولى مهام هذه الشئون، بدليل اختيار أعضاء الديوان في القاهرة بعض رجال المماليك لتولي إدارة الأحكام، وقد ذكر المعلم نقولا الترك أن محمد أغا المسلماني الذي عين محافظًا لمدينة القاهرة أرمني اعتنق الإسلام، وتعيين أغا من الإنكشارية بقوة مسلحة تحت يده معناه بقاء السلطة الفعلية في أيدي أولئك العتاة الظالمين.

ومع وضع هذا النظام الشبيه بالدستوري في شكله، ومع عظيم تودد الفرنساويين للمشايخ والأعيان والعلماء والمسلمين عامة، فإن ذلك لم يمنعهم من فرض ضريبة فادحة على مدينة القاهرة فقد روى الجبرتي، أنهم في يوم السبت «٢٨ يونيو» اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة، وهي مقدار خمسمائة ألف ريال «مائة ألف جنيه» من التجار والمسلمين والنصارى والقبط والشوام وتجار الإفرنج أيضًا، وأما المعلم نقولا الترك فيقول في رسالته: «وكان أمير الجيوش بونابرته بعد دخوله إلى أرض مصر أحضر تجار ديوان البهار المعروف بديوان البن الوارد من الأقطار، وطلب منهم ألف وستمائة كيس، وطلب من الأقباط المباشرين الدواوين ألف وستمائة كيس، أخرى ومن تجار النصارى ثمانمائة كيس، وتسلم تلك الأربعة آلاف كيس ستة أيام ووعدهم بوفائها عندما يروق الحال ويتسع المجال.» ا.ﻫ، فإذا كانت قيمة الكيس كما ذكرها «بيريه» ستين جنيهًا، تكون الضريبة التي فرضها نابوليون على القاهرة ٢٤٠٠٠٠ جنيه.

ثم أخذوا أيضًا يجمعون الأموال بطرق شتى، ويحصلون على الغنائم ومقتنيات المماليك بأساليب عديدة، فمن ذلك أنهم نادوا على نساء أمراء المماليك بالأمان وأنهن يسكن بيوتهن، وإن كان عندهن شيء من متاع أزواجهن يظهرنه، فإن لم يكن عندهن شيء يصالحن على أنفسهن، ويأمن في دورهن! قال الجبرتي: «فظهرت الست نفيسة زوجة مراد بك وصالحت عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ قدره مائة وعشرون ألف ريال فرنساوي «٢٤٠٠٠ جنيه»!

ثم قال أيضًا: إنهم جمعوا أموالا طائلة من بقية نساء الأمراء، وصاروا يعملون عليهن إرهاصات وتخويفات، وكذلك مصالحات على الغز والأجناد المختلفين والغائبين والفارين فجمعوا بذلك أموالًا كثيرة.

ولم يكتفوا بكل هذا بل طلبوا الخيول والجمال والسلاح والأبقار فحصلت عليها مصالحات «أي: دفع الناس بدلها أموالًا».

وصاروا يفتشون الدور ويستخرجون الخبايا والودائع ويستعينون بالخدم للاستدلال على مستودعات أسيادهم، وفرضوا ضريبة أخرى غير السابقة على أهل الحرف من التجار في الأسواق، فلأي سبب كانوا يجمعون هذه الأموال، وبأي حق كانوا يصادرون الناس وفي أي شريعة يدفع النساء إتاوة للإقامة في دورهن؟ إن من حقوق الفاتح أن يغنم ما يقع في يده من الغنائم التي يتركها العدو في ميدان الحرب، وله حق مصادرة أملاك أعدائه الذين حاربوه وماتوا في ساحة الوغي، وله أن يجمع السلاح ويتقي شر الثورات والقلاقل، ولكن جمع هاتيك الأموال على ذلك الشكل مما يسيء إلى سمعة نابوليون وقواده وضباطه الذين جمعوا تلك الأموال، وقد روى بوريين عن نابوليون أنه عاد من حروبه في إيطاليا بمبلغ ثلاثة ملايين من الفرنكات، فلا شك أنه عاد من مصر بمثلها أو أكثر منها، وقل مثل ذلك عن القواد والضباط.

ولو أن هاتيك المصادرات وقعت على المماليك لقلنا تسلط الظالم على الظالم، ولكنها تعدت إلى أرباب الحرف من المصريين المساكين!

وفي الوقت الذي يتبجح كتاب الفرنساويين بأن بونابرت ما كاد يضع قدمه في مصر حتى أصدر أمره بالعفو عن الفارين، والسماح لنساء المماليك بالعودة إلى دورهن مطمئنين؛ نجد أنهم ما سمحوا لهن بالعودة إلا ليضربن عليهن هاتيك الضرائب الفادحة، ولقد روى الجبرتي في أوقات مختلفة روايات عن تعرض الفرنساويين لنساء المماليك ومصادرتهن، وخلق الأسباب لدعوتهن إلى منازل الحكام مما يخجل القلم من ذكرها، وحكاية عن زوجة رضوان كاشف، التي صالحت نفسها بألف وثلاثمائة ريال، ثم نهبوا بعد ذلك بيتها، بحجة التفتيش على السلاح، وأخذوا كل ما فيه، وقرروا عليها بعد إهانتها وإقامتها ثلاثة أيام عندهم أربعة آلاف ريال أخرى، ليست الوحيدة في بابها.

ولا غرابة في ذلك فما خرج الكثير من أولئك الضباط والمقطوعين من موظفي الجيش إلا بقصد الحصول على الثروة، وما نقول هذا من عندنا، فقد جاء في كتاب «ميو» الذي سبقت الإشارة إليه قوله في الصحيفة الثالثة من مذكراته ما يأتي تعريبه:

أي ميدان واسع فتح أمام أصحاب النفوس الثائرة التي نفذ منها الصبر وكان أصحاب المطامع يرقبون المستقبل لكي يزيدوا ثروتهم.

وكان كل منهم يأمل خيرًا في هذه الحملة العظيمة، وكان القائد العام يمنيهم غالبًا بالأقوال الخادعة ويدفع فيهم حب العظمة والثراء، وكان جنودنا قد اعتادوا في إيطاليا الثراء والغنى عن نفقات البلاد التي فتحت، وكانت مصر أمام أعينهم منجمًا مهملًا، وبلادًا عذراء لم تستغل بعد، ولم تمسها الأيدي العاملة. إلخ إلخ.

فعل الفرنساويون ما فعلوه لاغتصاب الأموال، وهم ثملون بخمرة الفوز في الوقت الذي كان فيه أسطول نلسون يغرق ويحرق أسطولهم في أبي قير في موقعة بحرية قضت على آمالهم في هذه الديار قضاء مبرمًا، فما كان أصدق قول الشاعر عليهم في تلك الآونة:

يا نائم الليل مسرورًا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارًا

في الوقت الذي كانت فيه العمارة الفرنساوية تلاقي البلاء من مواقع الإنكليز كان نابوليون في القاهرة يستعد لتجهيز حملة لمطاردة إبراهيم بك، ومن معه من المماليك النازلين في بلبيس.

في الدور الأول أيضًا بعد الواقعة

يخطئ من يظن أن الفرنساويين بمجرد قهرهم المماليك في واقعة إمبابة واستيلائهم على مدينة القاهرة عاصمة الديار المصرية، قد تملكوا هذه البلاد وخضع لهم فيها البعيد والقريب، قلت هذا لأن ما كتبه إخواننا المؤرخون الحديثون يترك لأول وهلة في نفس القارئ ذلك الأثر، والحقيقة أن الفرنساويين لم يستقر لهم في مصر قرار بغير حرب وقتال منذ وضعوا قدمهم فيها، إلى يوم خروجهم منها، وأنهم وإن كانوا قد ملكوا عاصمة الديار، وأصدروا الأوامر، وأنشئوا الدواوين، فإن سلطتهم لم تكن قد توطدت إلا في الجهات التي مروا فيها، وفي الثغور التي احتلوها كالإسكندرية ورشيد، وأما ما دون ذلك فقد كان إبراهيم بك لا يزال بقوة كبيرة من المماليك في الشرقية، وكان مراد بك بقوة أخرى قابضًا مسيطرًا على الوجه القبلي، وكانت مديريات الدقهلية والغربية غير خاضعة للسلطة الفرنسية، وقد كتب مسيو «ميو» من الذين رافقوا الحملة في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه كلمة نرى من تعظيم الفائدة تعريبها بإيجاز، قال:
إننا وإن نكن قد احتللنا القاهرة، وصرنا سادة فيها، إلا أننا كنا أشبه بالمحصورين منا بالفاتحين؛ إذ كنا لا نستطيع الخروج عن دائرة المدينة، ومن ابتعد من الجنود لاقى حتفه، وكثيرًا ما خسر الجيش من رجاله بهذه الصورة، وحتى الطريق من القاهرة لبولاق لم تكن مأمونة، وكانت مواصلاتنا محفوفة بالخطر بسبب العربان الذين كانوا يجرءون على الدنو من أبواب القاهرة فكأننا في حرب مستمرة، ولطالما ذكرتني الحرب بموقفنا في مصر وهكذا كل حرب أهلية؛ لأن احتلال جيش لبلد لا يريد أهلها إلا الحرية، يجعل ذلك الجيش معرضًا للخطر فإما محو تلك الأمة، وإما ترك البلاد لأهلها، ومع أن الشعب المصري لم يقم من نفسه للتعدي علينا إلا أنه كان يميل ويعضد أعمال كل معاد لنا، ولو أن المصريين لم يكونوا على جانب عظيم من الضعف، وخور العزيمة أو كانوا متحمسين بفكرة الوطنية، لما بقي لفرنسي في أرض مصر أثر، خصوصًا وقد امتنع عنا المدد وانقطع حبل الاتصال ببلادنا.٢
كانت هذه الظروف قاضية على نابوليون بإرسال الحملات المتوالية لجهات القطر المختلفة للاستيلاء عليها، وتوطيد قدم الفرنساويين فيها، فبدأ أولًا بإيفاد حملة تحت قيادة الجنرال ديزيه إلى الصعيد لاقتفاء آثار مراد بك، وأرسل حملة أخرى تحت قيادة الجنرال فيال إلى دمياط وكلف كليبر قومندان نقطة الإسكندرية أن يرسل قوة كبيرة تحت رياسة الجنرال ديموي لاحتلال مديرية البحرية وعين الجنرال زانشكوك لمديرية المنوفية وعين مورت للقليوبية وفوجيير للغربية، ومع كل واحد منهم قوة عسكرية لفتح البلاد ووضع النظام الذي خصص لها، وكانت التعليمات الصادرة لجميع هؤلاء القواد محصورة في المسائل الآتية:
  • (١)

    تجريد الأهالي من السلاح.

  • (٢)

    جمع الخيول اللازمة للخيالة الفرنسية.

  • (٣)

    إنشاء أفران للخبز.

  • (٤)

    إنشاء المستشفيات اللازمة.

  • (٥)

    الاستيلاء على ممتلكات ومخلفات المماليك من أرض ودور وماشية.

  • (٦)

    دراسة أحوال الأهالي وأخذهم بالشدة إذا اقتضى الحال فإن الطاعة عند هؤلاء القوم معناها الخوف.

ونحن لا ننوي أن نتبع هذه الغزوات بتفصيلاتها الوافية إلا فيما نجد منه فائدة في إظهار الروح المصرية أو بيان حال من الأحوال الاستثنائية فلطالما وقعت بين الفرنساويين والفلاحين المصريين معارك كثيرة في جهات مختلفة من جهات القطر لم أر لها ذكرًا في الكتب العربية على الإطلاق، على أنه يحسن بأبناء كثيرين من أعيان القرى والبلدان أن يعرفوا اليوم أن آباءهم أو أجدادهم قد قاتلوا الفرنساويين حول بيوتهم وفي حقولهم.

ولنبدأ الآن بأهم المعارك التي دارت في أرض مصر بعد واقعة إمبابة، وقد سبق لنا القول في ختام الفصل السابق، أنه في الوقت الذي كان فيه نلسون يغرق ويحرق السفن الفرنسية، كان نابوليون يعد حملة قوية لمطاردة إبراهيم بك والقضاء على القوة الباقية معه في بلبيس؛ لأن وجود إبراهيم بك على مقربة من القاهرة، وفي طريق القوافل الذاهبة إلى السويس والقادمة من الحجاز، كتم لأنفاس القوة الفرنسية في القاهرة، وقد صادق أن المحمل المصري قد من الحجاز بعد بضعة أيام من احتلال الفرنساويين للقاهرة، وتصحب المحمل عادة قوة من الجند، وقد روى الجبرتي أنه في ٢٠ صفر ١٢١٣ «٣ أغسطس» وردت مكاتيب الحجاج من العقبة، فذهب أرباب الديوان إلى العسكر «يعني نابوليون» وأعلموه بذلك، وطلبوا منه أمانًا لأمير الحج، فامتنع وقال: لا أعطيه ذلك إلا بشرط أن يأتي في قلة، ولا يدخل معه مماليك كثيرة ولا عسكر، فقالوا له ومن يوصل الحجاج؟ فقال: أنا أرسل لهم أربعة آلاف من العسكرية يوصلونهم إلى مصر، فكتبوا لأمير الحج٣ بذلك، ولكن إبراهيم بك كان قد سبقهم لذلك وطلب من أمير الحج أن يقدم بمن معه إلى بلبيس، وفعلًا انضموا إليه، ولكنهم لاقوا بذلك عناء شديدًا من تعدي العربان وإيذائهم، فكان ما حصل دافعًا لنابوليون على الإسراع في مطاردة إبراهيم بك؛ لأنه اتصل به إن إبراهيم بك، بعد أن تقوى جانبه بالمدد الذي جاءه مع الحجاج، سيهاجم القاهرة من الشمال، وكذلك سيهاجمها مراد بك من الجنوب، فخاف نابوليون العاقبة فأخذ في الاستعداد لمحاربة إبراهيم بك، فكان أول عمله أن أصدر أمره للجنرال لكرك Leclerc بالزحف إلى جهة الخانكة، وكان «ميو» صاحب المذكرات في الفرقة التي سارت تحت قيادة هذا الجنرال، ويظهر من روايته أنه كان تابعًا لقسم المهمات؛ لأنه روى عن نفسه فقال: كانت الساعة الخامسة من صباح ٢ أغسطس حين برحنا القاهرة مارين بالقرافة حتى وصلنا القبة حيث كان الجنرال «دينيه» معسكرًا ووصلنا يوم ٣ أغسطس بلدة الخانكة دون أن نصادف مقاومة، ولما كنا قد صممنا على الإقامة طويلًا في هذه النقطة أخذت في إعداد ما يضمن للجنود غذاءهم بأن شرعت في بناء عدة أفران للخبز وروي أيضًا أنه في صبيحة يوم ٥ أغسطس هاجمتهم قوة كبيرة مؤلفة من المماليك والفلاحين وبينما هم يشتغلون بمقاومتهم ثار أهل القرية «الخانكة» فصاروا يقتلون كل من يقع في يدهم من الفرنساويين، ودمروا الأفران التي بناها صاحبنا «ميو» وانتشب القتال بين الطرفين من صباح ذلك اليوم إلى مسائه، وكادت تدور الدائرة على الفرنساويين لولا أن قائدهم انسحب بمن معه من الجنود تحت جنح الظلام عائدًا أدراجه إلى القاهرة، وكانت أخبار هذه الفرقة قد وصلت نابوليون فأصدر أوامره للقوات المختلفة بالسير إلى جهة الخانكة فاستردوها، وخرج نابوليون بنفسه يوم ٧ أغسطس من القاهرة وسارت تلك القوة حتى وصلت بلبيس في يوم ٩ منه.
أما إبراهيم بك فإنه لما علم بذلك انسحب بمن معه إلى الصالحية والجبرتي يقول إنه انسحب للمنصورة٤ أولًا، وأرسل الحريم إلى القرين، ولم يذكر الجبرتي بالطبع شيئًا عن واقعة الخانكة، ولكنه قال: «فلما كانت ليلة الأربعاء «يوافق ٨ أغسطس» خرج كبيرهم بونابرته وكانت أوائلهم وصلت إلى الخانكة وأبي زعبل وطلبوا كلفة من أبي زعبل فامتنعوا «أي: أهلها» فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم ونهبوا البلدة وأحرقوها.» ثم قال: «وفي ثامن عشر منه «من صفر يوافق يوم السبت ١١ أغسطس» ملك الفرنساويون بلبيس من غير قتال ومن بقي فيها من الحجاج فلم يشوشوا عليهم وأرسلوهم إلى مصر ومعهم طائفة من العسكر؟».

وهذه الرواية عن الحجاج ذكرها نابوليون في تقريره الرسمي الذي بعث به لحكومة فرنسا «الديركتوار» بتاريخ ١٩ أغسطس، وقد نشر نصه «لاكروا» وفيه ذكر نابوليون أن العربان فتكوا بالحجاج وسلبوهم، وأن تاجرًا من المصريين أكد له أنه خسر من البضائع الهندية — من كشامير وغير ذلك — ما تقدر قيمته بمائتي ألف ريال، والتاجر المشار إليه هو السيد أحمد المحروقي كان حاجًّا في ذلك العام المشئوم، وروايته في الجبرتي هي أن «إبراهيم بك ومن معه من المماليك لما علموا بقرب الفرنساويين منهم، ركبوا في الليل وترفعوا إلى جهة القرين، وتركوا التجار وأصحاب الأثقال من الحجاج، فلما طلع النهار حضر إليهم جماعة من العربان واتفقوا معهم على أن يحملوهم إلى القرين وعاهدوهم، فلما توسطوا الطريق نقضوا عهدهم وخانوهم ونهبوا حمولهم وتقاسموا متاعهم، وعروهم من ثيابهم، وفيهم كبير التجار السيد أحمد المحروقي، وكان ما يخصه نحو ثلاثمائة ألف ريال فرنسي نقودًا ومتجرًا من جميع الأصناف الحجازية … إلخ.» قال الجبرتي: «إن الحجاج عادوا إلى القاهرة تحرسهم شرذمة من الجند الفرنساوي فدخلوها، وهم في أسوأ حال وصحبتهم أيضًا جماعة من النساء اللاتي كن خرجن ليلة الحادثة، وهن أيضًا في أسوأ حال تسكب عند مشاهدتهن العبرات.»

ونحن نقول إن من الغريب في ذلك الزمن العصيب، أن تاجرًا مصريًّا يكون من بعض ثروته تجارة يقدم بها من الحجاز تحت الخطر تقدر على رواية نابوليون، عن صاحبها، بمائتي ألف ريال، وعن الجبرتي بثلاثمائة ألف، والريال الفرنسي يقدر بخمسة فرنكات فتكون قيمة تلك البضائع التي خسرها السيد أحمد المحروقي ستين ألف جنيه على الرواية الثانية، «وقد استعمل نابوليون في تقريره الرسمي كلمه “écus” عن الريال، والمعروف أنه بخمس فرنكات»، وأربعين ألفًا على الرواية الأولى!!

وفي يوم الجمعة «١٧ صفر/١٠ أغسطس» وصلت مقدمة الجيش الفرنساوي إلى الصالحية، وكانت تلك المقدمة مؤلفة من نحو ثلاثمائة من الخيالة وكان فيها نابوليون فالتقت بهذه القوة، قوة كبيرة من مماليك إبراهيم بك، ودارت معركة ظهرت فيها بسالة المماليك ومهارة فرسانهم على الخيالة الفرنساوية، وكادت تدور الدائرة على نابوليون ومن معه، لولا أن أدركته البيادة والطوجية فلم يستطع فرسان المماليك الوقوف أمامها، وقتل وجرد من الفرنساويين عدد كبير ومن بينهم كثيرون من الضباط الكبار، وترى وصف هذه المعركة في مذكرات«ميو» الذي شهد الواقعة بعينه وأطرى مهارة فرسان المماليك إطراء عظيمًا.

وفي أثناء اشتباك المعركة كان إبراهيم بك قد أعد عدته للرحيل إلى الديار الشامية فتمكن من نقل كل ما أخذه معه من المقتنيات الثمينة والأموال الكثيرة، وسار في جمع كبير من رجاله ونسائه وسراريه ومعه أيضًا السيد أبو بكر باشا والي الدولة العثمانية في الديار المصرية، وإليك ما يقوله «ميو» في مذكراته وهو يؤيد رأينا السابق٥ قال:
ولقد بقي نابوليون لغاية اللحظة الأخيرة يمني نفسه بإمكان التأثير على والي الدولة بالبقاء في مصر، كما كان في زمن المماليك، وقد سبق لنا أن ذكرنا نصوص الخطابات التي بعث بها نابوليون من الإسكندرية ومن الجيزة لأبي بكر باشا، والآن نذكر أيضًا أنه بعد استيلاء الفرنساويين على الصالحية، وفرار إبراهيم بك وأبي بكر باشا، كتب نابوليون خطابًا أعطاه لأعرابي على هجين سريع ليلحق إبراهيم بك في طريقه إلى غزة، على أمل أن يتفق معه ومع والي الدولة، وهذا هو تعريب ذلك الخطاب:

المعسكر العام بالصالحية ١٢ أغسطس ١٧٩٨
إلى إبراهيم بك

لم يعد عندك شك في تفوق الجيوش التي أقودها، وها أنت خارج أرض مصر وأمامك صحراء واسعة، وإنك لتجد في واسع حلمي كل ما تريده من نعمة وسعادة واطمئنان، فهل لك أن تبلغني في الحال رغباتك؟ وإني أعلم أن باشا «نائب» جلالة السلطان موجود معك، فليكن هو واسطة ورسولًا للمخابرة بيني وبينك.٦
بونابرت

وليس لدينا أدنى دليل على وصول هذ الخطاب إلى يد إبراهيم بك، ولكن مما لا نزاع فيه هو أن نابوليون لم يتلق ردًّا ولا رسولًا، حتى ولم يعد إليه الأعرابي الذي بعث الخطاب معه، ولو جاز لنا أن نتخيل وصول ذلك الخطاب فعلًا فهل كان من الممكن أن يؤدي إلى اتفاق إبراهيم بك مع نابوليون، كما اتفق مراد بك بعد مع الفرنساويين؟؟

الجواب على هذا، أن كل الدلائل تفيد أن إبراهيم بك ما كان ليقبل مطلقًا؛ لأنه قد أعد من قبل عدته للسفر، ولأن جميع المماليك كانت لهم ثقة في مقدرة الدولة على إخراج الفرنساويين من مصر، وما اتفق مراد بك معهم إلا بعد أن انتصر نابوليون على الجيش العثماني في واقعة أبي قير البرية، بعد هذا التاريخ بنحو سنة كاملة «٢٥ يوليو ١٧٩٩»، وما كان يعقل أن يكون والي الدولة العثمانية، رسول الاتفاق بين إبراهيم بك ونابوليون!! كما أنه لا يبعد أن تكون قد وصلت إلى إبراهيم بك وأبي بكر باشا أخبار من جهة العريش عن رغبة الدولة العثمانية في محاربة الفرنساويين ومطاردتهم من أرض مصر.

بقي علينا أن نأتي على الصورة التي كتب بها الجبرتي نبأ انهزام إبراهيم بك وفراره إلى الشام، فإن روايته في هذه النقطة غريبة، ويلاحظ القراء إننا بعد أن نشرح حادثة من الحوادث، نعود إلى رواية الجبرتي، وإننا نفعل ذلك بقصد المقارنة بين المصادر المختلفة، من جهة، وبقصد بيان ما كان يصل من الأخبار إلى القاهرة من جهة أخرى، مع إظهار الحالة العقلية التي كانت لطبقة المتعلمين من المصريين في ذلك الوقت، وهي التي يمثلها الجبرتي في أجلى مظاهرها، قال:
وفي يوم الثلاثاء ٢ ربيع الأول٧ وصل الفرنساوية إلى نواحي القرين، وكان إبراهيم بك ومن معه وصلوا إلى الصالحية، أودعوا ما لهم وحريمهم هناك، وضمنوا عليها العربان وبعض الجند، فأخبر بعض العرب الفرنساوية بمكان الحملة فركب صاري عسكر «بونابرت» وأخذ معه الخيالة وقصد الإغارة على الحملة وعلم إبراهيم بك بذلك أيضًا فركب هو وصالح بك «الذي كان أميرًا للحج» وعدة من الأمراء والمماليك، وتحاربوا معهم نحو ساعة أشرف فيها الفرنسيس على الهزيمة لكونهم على الخيول، وإذا بالخبر وصل إلى إبراهيم بك بأن العرب مالوا على الحملة يقصدون نهبها فعند ذلك فر بمن معه على أثره وتركوا قتال الفرنسيس ولحقوا بالعرب وجلوهم عن متاعهم، وقتلوا منهم عدة وارتحلوا إلى قطيا. ا.ﻫ.

فإن صحت رواية الجبرتي، فكأن نابوليون لم يسرع بالقوة الخيالة، التي قدرها كتاب الفرنساويين بنحو ثلاث مائة، إلا لينقض على مقتنيات إبراهيم بك وأمواله وعرض نفسه ومن معه بذلك للخطر الذي لم ينقذه منه إلا قوة المشاة التي أجبرت بنيرانها المماليك على الفرار على رواية الكُتاب الفرنساويين — وأما غدر العربان بالمماليك في تعديهم على متاعهم، كما رواه الجبرتي، فأمر معروف مشهور.

والظاهر أن نابوليون كان يعلق أهمية كبرى على ما أخذه إبراهيم بك معه من المقتنيات والأموال، وإذا كان العربان قد نهبوا من واحد من الحجاج، ما تقدر قيمته بنحو ستين أو أربعين ألف جنيه، فكم يكون مع إبراهيم بك، وأبي بكر باشا والسيد عمر مكرم، ومئات من أمراء المماليك الذين لم يتركوا في القاهرة ليلة الواقعة «في إمبابة» شيئًا ثمينًا لم يأخذوه معهم؟؟ ولا ينسى القراء أن الكثير من ضباط نابوليون وقواده ورجاله، وهو في مقدمتهم قدموا مصر برغبة الإثراء وجمع الأموال، ولا نقول هذا جزافًا فقد رواه يورين عن نابوليون، وكتب عنه ميو في مذكراته٨ فهل يا ترى كانت رغبة الحصول على ثروة إبراهيم بك، هي التي دعت نابوليون لكتابة ذلك الخطاب الأخير؟؟

بعد خروج إبراهيم بك ومن معه، من أرض مصر وتوجههم إلى غزة، لم يبق أمام نابوليون في تلك المنطقة إلا أن يعمل على تحصينها فأصدر أمره للجنرال «كافريللي» بإنشاء القلاع والطوابي والقشلاقات اللازمة في الصالحية وحواليها، وعين الجنرال رينيه قومندانًا لحامية الصالحية ومديرًا لمديرية الشرقية، وفي الوقت نفسه عين الجنرال دوجا لمديرية الدقهلية وكان اسمها مديرة المنصورة، وبعد أن أصدر لهم الأوامر كالتي أصدرها للمديرين السابق تعيينهم، برح الصالحية قاصدًا القاهرة ولم يكد يبتعد عن تلك النقطة بنحو فرسخين، حتى التقى برسول «كليبر» قادمًا من الإسكندرية يحمل إليه أشأم الأنباء، وهو تدمير الأسطول الفرنساوي في أبي قير!!

المحاربات الفرعية في صعيد مصر والجهات الأخرى

أما وقد خصصنا هذا المبحث بالحروب التي قام بها الجيش الفرنساوي في أنحاء القطر المصري لنشر نفوذه في كافة الجهات، فعلينا أن نترك نابوليون عائدًا للقاهرة بذلك السهم المسموم في أحشائه «نبأ تدمير السفن الفرنسية» وننتقل إلى الجهات التي وقعت فيها المعارك، حتى إذا فرغنا منها، لم يبق أمامنا إلا شرح الحوادث السياسية التي كانت نتيجة لازمة لمعركة أبي قير، وإعلان الدولة العثمانية الحرب على فرنسا، واتفاقها مع إنكلترا وروسيا أيضا.

وليس لدينا في المصادر العربية، لا في كتاب الجبرتي، ولا في كتب المؤرخين الحديثين، كلمة عن تلك الحروب، كما أنها ليست موجودة في المصادر الإنكليزية مطلقًا، فاعتمادنا فيها يكون على ما كتبه الفرنساويون أنفسهم وتبعة الصدق والكذب في الرواية تقع عدلًا عليهم.

ولنبدأ الآن أولًا بأهم هذه الحروب، وليس بالطبع بعد إبراهيم بك إلا مراد بك، فنقول: إن مراد بك بعد واقعة إمبابة وفراره من الجيزة، اجتمع عليه بقية من بقي من المماليك في الفيوم وانضم إليه كذلك خصومه الذين كانوا في الصعيد، وكذلك التف حوله عدد عديد من العربان، وبهذا الجيش المكون من المماليك والعربان، اتخذ مراد بك مقره عند ناحية البهنسا في مديرية الفيوم، وكانت معه بقية من بعض السفن الحربية التي سلمت من الحريق في واقعة إمبابة، وهذه سارت في النيل إلى بلدة المنيا واستقرت أمامها، وألقت القوارب والمراكب الصغيرة التي تحمل المئونة والأدوات وبعض مستلزمات المماليك مراسيها في بحر يوسف بالقرب من «أبو جرج».

في ٢٣ أغسطس أصدر نابوليون أمه للجنرال ديزيه بالسير لمقاتلة مراد بك بقوة مؤلفة من أربعة آلاف جندي، فشرع الجنرال «ديزيه» في مغادرة الجيزة حيث أقام منذ واقعة الأهرام، فأمر قوة من جيشه أن تنزل إلى النيل لتركب في السفن التي هيئت لنقلها، ورغمًا عن الفيضان الذي كان يغمر البلاد، نزلت فرقة من الجيش وسارت بها السفن مخترقة النيل حتى وصلت بني سويف في ٢٦ أغسطس وتقدمت حتى وصلت بعد عناء شديد إلى بحر يوسف، وبعد أن قطعت ثماني ترع أخرى، وبحيرة كان الماء فيها قليلًا وصلت السفن إلى البهنسا، فبغت مراد بك وأسقط في يده؛ لأن لم يكن ينتظر أن يصل الفرنسيون إلى هذه المدينة، وأمر رجاله أن يمروا على الضفة الأخرى من البحر اليوسفي ويذهبوا إلى الفيوم الواقعة غرب بني سويف، ولم يستطع الفرنسيون إدراكهم إلا بعد أن اجتاز آخر جمل لهم البحر.

ولما علم الجنرال ديزيه من الأهالي أنه توجد اثنتا عشرة سفينة محملة بالمئونة والذخيرة على مقربة منه أمر رجاله فاستولوا عليها رغم النار الحامية التي كان يصبها المماليك عليهم.

وكان في هذه المراكب بعض المماليك فلما رأوا أنهم واقعون في أيدي الفرنسيين ألقوا بأنفسهم إلى الماء، وتمكن الكابتن راب ياور الجنرال ديزيه أن يجرد اثنين منهم من السلاح بعد مقاومة شديدة؛ لأنهما رفضا التسليم ووجد في مركب من هذه المراكب الاثني عشرة ستة مدافع وذخائرها.

ولما جاء الليل لم يستطع الفرنسيون اقتفاء أثر العدو الهارب فأمر ديزيه جنوده بالراحة.

وعلى الجنرال ديزيه، وهو في البهنسا، أن مراد بك بعد أن أقام في هذه المدينة شهرًا غادرها منذ ثمانية أيام وذهب اللاهون بقرب الفيوم حيث يقيم محمد بك الألفي وبعض المماليك، ولا تزال المواصلات بين اللاهون والبهنسا سليمة وأن البكوات عثمان رضوان وعمر ومماليك إبراهيم بك الصغير قد كلفوا بالمحافظة على البهنسا بجيش مؤلف من أربعمائة رجل من المماليك وقبيلتين من العرب، وقد أحضر أولئك العرب منذ ثلاثة أيام من أسيوط وأمروا بحماية الإمدادات التي تأتي من البلاد إلى البهنسا بطريق البحر اليوسفي، أما الجنرال ديزيه فلم يكن معه في هذه الحملة إلا الأورطة الأولى من الفرقة الواحدة والعشرين، أما بقية الفرقة فقد ظلت في المؤخرة.

وقد زحفت العمارة البحرية التي كانت للمماليك في أبي جرج إلى الأمام لتحمي حركات مراد بك وتقدم الجنرال ديزيه إلى ديروط الشريف ليقطع على هذه العمارة خط الرجعة، وتمكن الفرنسيون من إيقاف سبعة وعشرين مركبًا محملة حبوبًا وخضروات، فلما علم حسن بك قبودان السفن المصرية أن الفرنسيين طردوا المماليك من البهنسا، واستولوا على مقدار وافر من المؤن والذخائر، صعد بمراكبه في النيل قاصدًا أسيوط ونزل فيها لينضم إلى مراد بك، أما العمارة الفرنسية فقد وجدت أنه يتعذر عليها السفر؛ لأن القتال كان معوجًّا والريح شديدة حتى اضطر الجنود أن يجروا المراكب بالحبال في مياه لا يزيد ارتفاعها عن منطقة الرجل، وأعياهم التعب فلم يستطيعوا السير بعد وصولهم إلى ملوي، وحينئذ أرسل الجنرال ديزيه عشرة من قواربه تحمل بعض المرضى من رجاله إلى بني سويف ليعالجوا هناك وظل هو وجنوده يترقبون وصول المماليك، ولكنه لم ير منهم أحدًا.

وليس من السهل علينا أن نستمر في وصف تلك المعارك الثانوية المتقطعة، وليس لنا سوى المصادر الفرنسية، فهي بالطبع وجهة النظر الفرنسية، دون سواها كما أنه ليس في مقدورنا أن نقارنها بغيرها، وكم كنا نود أن نضرب صفحًا عن هذه المحاربات، ولكن ضرورة ذكرها، لأول مرة في اللغة العربية أجبرتنا على أن نقتصر على ملخص لهاتيك الحوادث قطعة فقطعة، فإذا وجدها القارئ جافة فليعلم أنها رواية حوادث، وسلسلة محاربات متقطعة، وليس في الإمكان صياغتها بشكل آخر.

واعتمادنا في أخبار هذه الحوادث المتقطعة على كتاب «دنيس لاكروا» — المعنون «بونابرت في مصر»، قال بعد رواية ما تقدم:

في ١٤ أكتوبر شوهدت أول فصيلة من فصائل مراد بك مؤلفة من ١٥٠ مملوكًا وبعض الأعراب في قرية بني قرة، فقابلتها فصيلة فرنسية مؤلفة من أربعمائة رجل وأكرهتها على الابتعاد عن ضفة النهر ليتيسر للجيش الفرنسي السير.

وفي ٥ أكتوبر رأى الفرنسيون قوة أخرى من المماليك عددها ستمائة مملوك يسيرون بنظام على الضفة اليمني لبحر يوسف فأمر الجنرال ديزيه عمارته بالتقهقر نحو نصف فرسخ لكي ينزل منها الجنود، ولم تكد العمارة تنفذ الأمر حتى أرسل العدو فصيلة لتمنع هذه الحركة، ولكن حملة «القربينات» من الفرقة الحادية والعشرين لم تدع هذه الفصيلة تقرب من الشاطئ، ونزلت الفرقة ونظمت صفوفها بدون أن تلقى مانعًا، وأمر الجنرال ديزيه في الحال بوضع مدفعين وبزحف الجيش لمقالة العدو، فتقهقر المماليك ببطء أمام الفرنسيين الذين كانوا يصلونهم نارًا حامية مدة أربع ساعات، وفقد فرسان المماليك الذين كانوا تحت قيادة محمد بك الألفي بعض خيولهم، وحينئذ أمر الجنرال ديزيه جنوده بالراحة.

وفي ٦ أكتوبر واصل الفرنسيون زحفهم وكانت العمارة تتبعهم رغمًا منشدة هبوب الريح، فرأوا جيش مراد بك قد احتل المرتفعات التي تشرف على النيل، وقد صف مراد بك جنوده وراء المرتفعات على خط طويل، فصف الجنرال ديزيه فرقته على هيئة مربعات يؤلف كل منها من مائتي رجل وأمر بالزحف حتى سار الفرنسيون على مقربة من مركز العدو، فأمرهم بالوقوف وحينذاك استطاع أن يرى مراد بك واقفًا أمام خيمته يحيط به مماليكه وكشافة وكبار ضباطه فاصدر الجنرال ديزيه أمره بإطلاق النار ففتحت البنادق أفواهها واصلت العدو نارًا حامية حتى اختل نظامه، وفر رجاله، لا ياوون على شيء، واقتفى الفرنسيون أثرهم يعملون السيف في رقابهم فقتلوا عددًا عظيمًا من الرجال والخيل.

وكان مراد بك ينوي أن يجر الفرنسيين إلى الصحراء ليتمكن من إهلاكهم، ولكن الجنرال ديزيه لم يخدع بهذه الحيلة، وأمر رجاله أن لا يبتعدوا عن ضفة البحر اليوسفي ليستولوا على قوارب المماليك.

وفي ٧ أكتوبر واصل الجنرال ديزيه الزحف حتى وصل إلى بلدة سدمنت حيث جمع مراد بك المماليك والأعراب من أعوانه وخيوله التي يبلغ عددها أربعة أو خمسة آلاف جواد فصمم على الاستيلاء على هذه المدينة مهما كلفه الأمر.

ومع أن مراد بك هزم في موقعة سدمنت شر هزيمة فإنه لم يستسلم لليأس، ولم يكف عن محاربة الجنرال ديزيه في بلاد الصعيد، ولذلك رأى هذا الجنرال أن الحاجة تدعوه للقضاء على قوات مراد بك وطرده إلى الصحراء، فاتخذ ديزيه مدينة بني سويف مركزًا مؤقتًا لقواته وجعلها قاعدته الحربية، وطلب من القائد العام للقوات الفرنسية في القاهرة إرسال الإمدادات اللازمة لإخضاع الصعيد، ولم ير بونابرت إجابة طلبات الجنرال كلها، ولم يقبل أن يمده بكل القوات التي سأله إياها، ولكن الجنرال «ديفو» الذي كان في ذلك الوقت في القاهرة، سافر منها بقوة مؤلفة من ١٢٠٠ من الفرسان و٣٠٠ رجل من المشاة ومعه ستة مدافع، وستة قوارب حربية، مجهزة بالسلاح والمتاريس، وهذه القوة مكنت الجنرال ديزيه من امتلاك ناصية الصعيد، والبحث عن قوات المماليك والجيوش التي كانت تعاون مراد بك، والقضاء عليها قضاء مبرمًا.

وفي ٣ يناير سنة ١٧٩٩ التقى الجنرال ديزيه بفرقة من جيش مراد بك بقرب قرية السواقي، وسرعان ما وقع الأنظار عليها، حتى تهيأ الجنرال «ديفو»، لمحاربتها قصف رجاله وأمرهم بالهجوم فلم يستطع جيش مراد بك الوقوف طويلًا، بل اختلت صفوفه، وولى الأدبار، والقوة الفرنسية مجدة في أثره، بعد أن ترك ٨٠٠ قتيلًا.

وواصل الجنرال «ديفو» الزحف بجيشه، حتى وصل طهطها في ٨ يناير، واضطر جيشر مراد إلى التقهقر منها، بعد أن قذف الرجال الذين كانوا يدافعون عن المدينة بأنفسهم في النهر فغرق منهم عدد عظيم.

ولما رأى الجنرال «ديفو» أن العدو كر عليه ثانية بفصيلة من العرب والمماليك أمر بإطلاق النار فاستطاع أن يخضع كل مدن الإقليم، وأن يعيد المواصلات بينه وبين العمارة البحرية الصغيرة التي انتهزت فرصة قيام الريح، وواصلت السير فوصلت جرجا في اليوم السابع عشر من شهر يناير، وألقت مراسيها على الضفة اليسرى للنيل، واستطاع الجنرال ديزيه بفضل ذلك الاتصال أن يواصل فتوحاته، ولكن بعد أن أضاع ثمانية عشر يومًا في حروب متواصلة مع العدو.

وعلم مراد بك بهزيمة جيشه في طهطا، ولكن في الوقت ذاته جاءته الأنباء مبشرة بصلحه مع حسن بك الجداوي وبوصول شرفاء ينبع وانضمام حسن بك إلى مراد بك ومعه ثلاثة آلاف مقاتل ومائتين وخمسين من المماليك.

وكان لحسن بك نفوذ عظيم في مصرالعليا، فأثرت أخبار صلحه مع مراد بك تأثيرًا عظيمًا ووصل إلى الصعيد ألفا شريف من أشراف ينبع الذين كان يقودهم حسن بك بنفسه.

كان مراد بك ينسب هزيمته السابقة إلى عدم وجود جيش له من المشاة يحمي ذمارهم ويرد عادية الأعداء عنهم، وظن الآن أن القدر جاءه بما كان ينقصه؛ إذ علم أن ألفين آخرين من الأشراف قد تجمعوا في ينبع، ينتظرون وصول السفن لتحملهم وتجتاز بهم البحر الأحمر، ورأى مراد بك أنه أصبح وله جيش يبلغ عدده اثني عشر إلى أربعة عشر ألف مقاتل، فصمم على وضع مشروع جديد للقضاء على جيش العدو وإهلاكه.

أراد مراد بك أن يذهب إلى جرجا عندما يغادرها الجنرال ديزيه ليقوم على تحصينها ويؤيد العصاة فيها، وبذلك يكون وراء الجنرال ديزيه ويضطره إلى العودة للقتال بين المنازل حيث تكون النتيجة انتصار مراد بك، ولذلك بقي في الصحراء على الضفة اليسرى لقناة الصعيد الكبرى.

وفي ٢٠ يناير سافر الجنرال ديزيه مخترقًا الطريق بين النيل والقناة، وفي ٢٢ يناير التقى الجيشان في آخر النهار في بلدة سمهود، وكانت القناة تفصل بينهما ولكن القناة كانت جافة لا ماء فيها.

أما الجيش الفرنسي فكان مؤلفًا من خمسة آلاف من المشاة والفرسان وأربعة عشر مدفعًا وعمارة بحرية صغيرة في النيل، وجيش العدو كان مؤلفًا من ١٨٠٠ من المماليك و٧ آلاف من فرسان العرب وألفين من المشاة من أشراف ينبع وثلاثة آلاف من العرب ولا مدافع عندهم، فكان مجموع جيش العدو نحو ثلاثة عشر ألفًا أو أربعة عشر ألفًا من المقاتلين.

وفي يوم ٢٢ تقابلت فصيلة الهوسار السابعة تحت قيادة القومندان دوبلسي بجيش العدو قريبًا من أسوار قرية سمهود، وبعد قليل وصل الجنرال ديزيه فأمر مشاته أن يؤلفوا مربعين متساويين، وضع أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، وجعل الفرسان في الوسط يؤلفون مربعًا آخر وليكونوا في حمى المشاة، ومع ذلك تقدم العدو على المربعات كلها بدون خوف وأحاط فرسانهم وهم كثيرو العدد بالقوة الفرنسية وألقت جماعة من المشاة مؤلفة من عرب ينبع بأنفسها في القناة وبدأت تطلق النار بشدة، فكبدت ميسرة الفرنسيين خسائر فادحة، وحينذاك اضطر الجنرال ديزيه أن يأمر ضابطي أركان حربه وهما راب وسافاري بالهجوم على العرب ومعهما كوكبة من فرقة الفرسان السابعة من الهوسار، بينما أمر فرقة حملة القرابينات الحادية والعشرين أن تتقدم تحت قيادة الكابتين كليمانت على شكل طابور إلى القناة لتحصر قوة العدو، فنفذ ذلك الأمر بشجاعة نادرة، واضطر العرب إلى الفرار من وجه القوة الفرنسية تاركين خمسة عشر قتيلًا وعددًا كبيرًا من الجرحى، ولم يفقد من فرقة حملة القرابينات غير رجل واحد أصيب بطعنة خنجر عندما أراد أن ينزع علمًا من أيدي الأعراب وسقطت سمهود في قبضة الفرنسيين، ومع ذلك بقيت عصابات عديدة من المماليك تتقدم صائحة صياحًا مزعجًا يعاونها عرب ينبع، وهي تريد استرداد سمهود من أيدي الفرنسيين، ولكن فرقة حملة القرابينات الحادية والعشرين تصدت لهم وأصلتهم نارًا حامية واضطرتهم إلى التقهقر بعد أن كبدتهم خسائر فادحة، وفي ذلك الوقت انقض المماليك على المربع الذي كان تحت قيادة الجنرال فرانيت، بينما كانت فرقة من مشاتهم تضايق الفرقة التي كان يقودها الجنرال بليارد، غير أن نيران المدفعية الفرنسية الحامية قضت على تلك الجهود التي كان يبذلها العدو حتى اضطر بعد هجوم لم ير فائدة منه أن يولي الأدبار تاركًا عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى.

ثم صدر الأمر للجنرال ديفو أن يحمل على المماليك الذين كانوا تحت قيادة مراد بك وحسن بك فصدع الجنرال بالأمر وحمل على جيش مراد بك حملة صادقة، حتى اضطره للتقهقر فكان تقهقر مراد بك علامة التقهقر العام.

وهرب العدو والفرنسيون يعملون السيف في أقفيته مدة أربع ساعات، ولم يقف الفرنسيون إلا في فرشوط حيث وجدوا عددًا عظيمًا من رجال العدو قد قضوا نحبهم، وهم متأثرون من جراحهم، ولم يفقد من الفرنسيين في تلك المعركة غير أربعة رجال، أما المماليك فقد قتل منهم أكثر من مائتين وخمسين رجلا بخلاف الجرحى الذين لا يحصى لهم عدد.

وأراد الجنرال ديزيه أن يقتفي أثر مراد بك في اليوم الثاني، ولكن العدو كان يحارب في بلاده وهو يعرف مسالكها جبالها ووهادها، أما المشاة والفرسان الفرنسيون فقد كان أنهكهم التعب ولا يستطيعون جر مدافعهم الثقيلة فاضطر الجنرال ديزيه أن يأمر جيشه بالمبيت في فاو يوم ٢٢ وفي يوم ٢٣ واصل الزحف حتى وصل دندره وعسكر بجيشه في خرائبها.

وفي يوم ٢٤ زحف وسط سلسلة جبال ليبيا مخترقًا وادي النيل، فشاهد على بعد آثار طيبة وهياكلها ذات المائة باب وفي ٢٥ يناير بات الجيش الفرنسي بين الجبلين ووصل في يوم ٢٦ إلى لسنا وكان المماليك يفرون أمام الجيش المنتصر، وهم يحرقون في طريقهم كل ما كان معهم من الخيام والمعدات بعد أن تفرقت جموعهم أيدي سبا.

أما مراد بك وحسن بك ففرا إلى بلاد البرابرة والتجأ فيها الألفي بك فاحتل الجنرال ديزيه أسنا، وأنشأ فيها استحكامات وبنى المخازن والأفران لصنع الخبز اللازم للجنود ومستشفى لتمريض الجرحى والاعتناء بالمرضى، وبقي الجنرال فرانيت مع فرقته في إسنا لمراقبة الألفي بك وحسن بك قائد أشراف ينبع، واجتاز الجيش أدفو وهي مدينة كبيرة على بعد عشرة فراسخ من إسنا، وكان ديزيه مجدًّا في مقابلة العدو يروم الإسراع في التنكيل به والقضاء على قواته، فاجتاز الجبال التي يجري بينها النيل، وكانت الجنود تسير بصعوبة وقد أنهكها التعب حتى وصلوا إلى قرية بنيان وباتوا فيها، وفي ١٢ فبراير عسكر الجيش الفرنسي في قرية أسوان وهي على الضفة الشرقية، وفي ٣ فبراير تركها عابرًا النهر وعسكر قبالتها، وهناك يبلغ عرض النيل ٥٠٠ توان «مقياس طوله ستة أقدام أو ١٫٩٤٩ متر» وعندما ترك ديزيه الضفة اليسرى للنيل في المرة الأولى، بقي المماليك عليها؛ لأن الوادي هناك عريض بينما كانت المناورات الحربية مستمرة على الضفة اليمنى ومنها يستطيعون الوصول إلى سواحل البحر الأحمر.

وفي اليوم ذاته تمكنت فصيلة من الوصول إلى جزيرة أنس الوجود، وهي آخر حدود المملكة الرومانية القديمة، فوجدت بقرب شلالات النيل نحو خمسين قاربًا محملًا بأمتعة المماليك اضطروا لتركها أثناء فرارهم، ورفعت راية مثلثة الألوان على صخرة عالية هناك، حياها الجنود بين أصوات الأبواق ودق الطبول، وتناول الخطباء الكلام فشبهوا الفرنسيين بالرومانيين الذين امتلكوا مصر من أقصاها إلى أقصاها، وكان الجنرال ديزيه ينوي أن يقيم معسكرات للجنود في البلاد من قرية أسوان إلى جرجا حتى يضمن إخلاد البلاد إلى السكينة، فترك في قرية أسوان الجنرال بليارد مع فصيلة من المشاة وغادر ديزيه سائرًا بفرسانه، وقد قسمهم قسمين، أحدهما على ضفة النيل اليسرى، والآخر على ضفته اليمنى حتى وصل إلى إسنا في اليوم التاسع من شهر فبراير.

واضطر الجوع حسن بك أن يترك بلاد البرابرة ويغادرها مع أفراد أسرته ونسائه وأمتعته وكنوزه وثروته، ولكي يخلي محلًّا لمراد بك فإنه ذهب إلى ضفة النهر اليمنى حيث كان له أعوان ويملك هناك قرى، ولما علم الجنرال ديفو أن حسن بك اقترب من طيبة رأى أن يعبر النيل مع فرقة الرماة الثانية والعشرين وفصيلة الدراجون الخامسة عشر وفاجأه في يوم ١٢ فبراير.

ولما رأى حسن بك أنه لم يعد في استطاعته أن يعسكر في الوادي اضطر أن يفر إلى الصحراء ونزل هناك بجنوده.

واحتل الجنرال ديزيه إسنا ونشر أعلام الأمن والسكينة وعمل على تنظيم الأقاليم ورفع لواء العدالة، ولما علم من الرسل الذين أتوه من جهات مختلفة أن مراد بك غادر مكانه وابتعد عنه قاصدًا إسنا وأسيوط، وأن الألفي بك ترك الواحات، وأن الأشراف وحسن بك خرجوا من الصحراء ونزلوا على ضفة النيل اليمنى، أسرع بالقضاء على مشروعات أعدائه فأمر الجنرال باليار أن يغادر أسوان ويذهب إلى إسنا مع كل جيوشه، ليقطع على الأعداء خط الرجعة وليملك ناصية الصعيد، وأمر الجنرال فرانيت أن يجمع جنوده ويسير بهم إلى أسيوط، وأمر العمارة البحرية أن تسير في النيل متبعة أثر الجنرال فرانيت الذي سافر بنفسه في ٢ مارس ليضع يده على أسيوط قبل أن يصلها مراد بك، وقبل أن تتصل قواته بقوات الألفي، فوصل الجنرال فريانت إلى الصوامعة في يوم ٥ مارس وكان هو في مقدمة الجيش، وقد أمر أن يهيأ مسكن لجنوده ودخل إلى هذه المدينة فقوبل بإطلاق النار من البنادق؛ إذ كان يحتل هذه البلدة نحو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف مقاتل من الفلاحين العصاة، فهجم عليهم الجنرال فرانيت من ثلاثة جهات حتى اضطر كثير منهم أن يرموا بأنفسهم في النيل وفي الغداة واصل الجنرال السير إلى جرجا فأسيوط حيث انضم إلى الجنرال ديزيه.

ورغمًا من ذلك فإن مراد بك استطاع أن يتصل بالألفي بك ويضم قواته إليه في أسيوط، وهناك علما أن الجنرال بونابرت استولى على العريش، ودخل سوريا ولكن بقي في القاهرة من الفرنسيين أكثر مما معه في الصعيد، وأنه أخلى القلعة وأن أهالي القاهرة قدموا له فروض الطاعة وصرح علماء الأزهر بأنه لو اقترب المماليك من العاصمة فإن الأهالي والمشايخ ينضمون إلى الفرنسيين؛ لأنهم سئموا الحرب ويريدون الجنوح إلى السكينة والهدوء.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الجنرال ديزيه كان مقتفيًا أثر المماليك وهو لا يبعد عنهم أكثر من يومين، فاضطر مراد بك أن يفر إلى الواحة الكبرى والألفي بك إلى الواحة الصغرى، وتفرق المماليك في البلاد متنكرين بثياب الفلاحين.

ومع ذلك بقي حسن بك والشرفاء على ضفة النيل اليمنى، وما كادوا يجمعون جموعهم في قنا حتى علموا أن العمارة الفرنسية عاكستها الرياح بقرب بلدة البارود فأسرعوا لمهاجمتها، وكانت العمارة مؤلفة من اثنتي عشرة سفينة مسلحة بالمدافع الضخمة ومحملة بالمؤن، والذخائر، والأمتعة، وخزينة الحرب، وآلات الموسيقى ونقل نحو ثلاثمائة رجل، فقسم حسن بك جنوده إلى قسمين وجعل كل قسم منهما على كل ضفة من ضفتي النيل، وانضم إليه نحو ١٠ آلاف من الأهالي الذين دفعهم الطمع إلى السلب والنهب، وكانت المعركة شديدة، واحتل الأعداء الجزر النيلية والمآذن ولما لم يكن عندهم شيء من المدافع، هجموا على العمارة البحرية بإطلاق نار بنادقهم فتمكنت السفينة «إيطاليا» من أن تبدد شمل العرب وتوقع الاختلال في صفوفهم، ولكن هذه الخسارة التي أصابت العرب لم تفت في عضدهم ولم تثن عزيمتهم، فأسرعوا إلى النزول في النهر واستولوا عنوة على كل السفن تقريبًا ونهبوا الذخائر وحاولوا الصعود إلى السفينة إيطاليا، والاستيلاء عليها، ولكن قبودان تلك السفينة وهو الكابتن «سوراندي» ضاعف جهوده وأمر بإطلاق نيران المدافع فحصدت صفوف المهاجمين، غير أنه عند اقتراب ساعة الفوز، كان الملاحون قد أصيبوا بجروح منعتهم من القيام بالمناورة بالسرعة اللازمة، فدفعت الرياح السفينة إلى تل من الرمال حيث سقطت وأحاط بها العرب من كل جهة، فلما رأى الربان سوراندي أن لا أمل له في إنقاذها أشعل فيها النار بنفسه، ونسف ما فيها من الذخائر، وقضى نحبه فيها بعد أن قضى على المحيطين بها انتقامًا لنفسه ولملاحيه وذخائره!! ووقعت السفن الأخرى في قبضة العدو فاستولوا على ما فيها، وقتلوا الملاحين وغنم العرب الخزينة وما فيها من المال، وكانت خسارة الجيش الفرنسي في تلك المعركة مائتي ملاح، وثلاثمائة جندي، والمجموع خمسمائة فرنسي، وهذه كانت أكبر خسارة تعرض لها الجيش الفرنسي في مصر، وكانت تلك الكارثة التي بقي ذكرها زمنًا طويلًا سببًا دفع الجنود أن يتهموا قائدهم أنه أساء عملًا في وضع العمارة تحت حماية قوة من جيشه، وأنه ارتكب غلطة كبرى؛ لأنه ظن أن العمارة تستطيع أن تقتفي أثر الجيش في وقت انخفاض مياه النيل.

ولما علم الجنرال بليار نزل في النيل، وسافر في الحال إلى إسنا وسار على ضفة النهر اليمنى حتى وصل إلى قنا، فعلم أن معركة شديدة دارت رحاها هناك، وأن الفرنسيين انهزموا شر هزيمة وفقدوا عددًا عظيمًا من جنودهم وأموالهم وأمتعتهم.

وفي ٨ مارس التقى الجنرال بليار بجيش العدو عند بلدة «قفط» وقد رفع رجاله رءوس الفرنسيين على أسنة حرابهم وتبعهم عدد كبير من الفلاحين يرتدون ملابس الفرنسيين التي سلبوها، وبأيديهم بعض الآلات الموسيقية التي غنموها، وقد ثمل الأعداء بخمرة النصر، ونادى حسن الجداوي بأعلى صوته مصرحًا على رءوس الأشهاد، ومتنبئًا أن ساعة الفرنسيين قد دنت، وحان يوم هلاكهم وأنهم من اليوم فصاعدًا، لا يلقون غير الهزيمة بعد الأخرى، وأن المؤمنين سيكون نصيبهم النصر والفوز الأكبر.

ولما وقعت عينا الجنرال بليار على العدو، صف جيشه الصغير على شكل مربع، ووقف لمواجهة خصمه الذي أطلق عليه نيران البنادق، وحينئذ هجم الجنرال ومعه فصيلتان من الرماة الفرنسيين على حسن بك وجيشه ودارت رحى معركة حامية وانقض فرسان «الدراجون» على العدو والسيوف بأيديهم، فذبحوا ثلثي العرب وقتل المأجور لاباور اثنين منهم بيده، وغنم منهم ثلاثة أعلام، وبينما كانت المعركة دائرة، أطلقت المدافع نارها، فمنعت الشرفاء من التقدم لنجدة إخوانهم، ولكن المماليك انقضوا على الفرنسيين من الوراء، فقطعوا خط الرجعة على نحو ٢٥ رجلًا من الرماة الفرنسيين، وكانت معركة شديدة إذ اضطر الفرنسيون أن يقاتل الواحد منهم ستة من رجال العدو، وكان ذلك اليوم يوم مجد وفخار للجنرال بليار الذي أمكنه أن ينقذ جيشه ويطهر الصعيد من حسن بك ورجاله، ولما كانت المواصلات قد قطعت بين الجنرال بليار ونفدت ذخائره، أسرع بليار في العودة إلى قنا، فوصلها في ١٢ مارس ومنها كتب إلى الجنرال ديزيه في أسيوط يشرح له الموقف الذي كان فيه، وأنبأه أن المماليك ورجال حسن بك وعثمان بك وأعراب ينبع ذهبوا إلى جهة بئر البحر، فجمع الجنرال ديزيه في الحال سفنه التي بقيت له وسار في النيل يوم ١٨ مارس، وفي الغداة نزل البر، وسار بجيشه لينجد الجنرال بليار، وفر المماليك بعد هذه المعركة عائدين إلى السفينة بعد أن تركوا عددًا عظيمًا من الجرحى والخيول في الصحراء، فأمر ديزيه الجنرال بليار أن يقتفي أثرهم ويبحث عنهم أين ذهبوا وعاد ديزيه إلى قنا ورتب قوة مؤلفة من فصيلة من الفرقة الواحدة والستين وكوكبة من فرقة الهوسار السابعة، وجعلها تحت إمرة الجنرال ديفو، وفي الوقت ذاته أمر القائد موراند قومندان جرجا أن يذهب إلى الضفة اليمني للنيل، ويبقى أمام جرجا حتى يقف في وجه العدو إذا تقهقر، ولما شعر العرب بحرج موقفهم لم ينتظروا حتى يسد الجنرال ديفو عليهم الطريق، ومروا على شاطئ النيل بقرب برديس، فلما علم قومندان جرجا بوصولهم، قام في يوم ٥ إبريل عائدًا إلى جرجا وأخذ معه ٢٥٠ رجلًا، وذهب للقائهم في برديس التي استولى عليها ولما شاهده أعراب ينبع والفلاحون والمماليك خرجوا منها وهم يصيحون صياحًا عاليًا، وأرادوا أن يصدوه عن برديس فلم يستطيعوا واضطروا إلى الفرار ليلًا بعد أن تركوا عددًا عظيمًا من القتلى، وحينئذ عاد القائد موراند إلى جرجا.

وفي اليوم التالي دارت رحى معركة جديدة؛ لأن أعراب ينبع ساروا إلى جرجا وهم ينهبون في طريقهم الأسواق، فترك موراندقوة في المدينة وسار للقائهم خارجها ففرق جمعهم وقتل من استطاع منهم أن يدخل المدينة، أما الباقون فهاموا على وجوههم في الصحراء، وقد فقد أعراب ينبع في هاتين المعركتين مائتي قتيل، أما الفرنسيون فجرح منهم عدد قليل.

ولما انهزم العرب في جرجا ساروا إلى طهطا لتدميرها وتحريض أهلها على الثورة، ولما علم القائد لاسال بخبرهم، أسرع في الحال بالفرقة الثانية والعشرين من الهوسار، والثامنة والثمانين، ومعه مدفع، فوصل إلى جهينة في الساعة الأولى بعد الظهر من يوم ١٠ إبريل، وكان أعراب ينبع فيها، فحاصرها بجزء من جيشه، وسار لمقابلة العدو بالجزء الآخر، ولما رأى الأعراب ذلك، انقضوا على الجيش الفرنسي وثبتوا أمامه بضع ساعات رغم نيران المدافع التي كانت تلتهم صفوفهم فقتل منهم عدد عظيم، ومن بقي حيًّا فر هاربًا، وتمكن نحو مائتين منهم بفضل الأشجار أن يسيروا إلى الصحراء، وكان بين القتلى الشريف الذي تلى حسن بك في الزعامة، وقد هلك أعراب ينبع كلهم تقريبًا، ومع ذلك فإن الجنرال ديفو لم يكف عن مطاردتهم، ولم يكد ديفو يصل أسيوط حتى علم أن الثورة قامت في بني عدي بقرب أسيوط؛ إذ قام أهلوها وهم أشجع سكان مصر بالانضمام إلى المماليك والعرب وأهالي دارفور الذين جاءوا مع القوافل من قلب إفريقية، وشاع أن مراد بك غادر الواحات ليكون على رأس أولئك العصاة، وأنه أرسل بقواته وكشافه لينظموا تلك القوة وليثيروا حمية العصاة.

وبينما كان الجنرال ديفو يحارب في بني عدي تلك الجموع ويعمل لإهلاكها والقضاء عليها، كان عرب الجمعيات والبقوشية يهددون المنيا، وقد ثارت أيضًا القرى المجاورة لبني عدي، ولم يكن مع الجنرال «ديستريه» محافظ المنيا غير عدد قليل من الجنود وأمل أن يصله الإمداد حتى يتغير موقفه الحرج وسار إليه الجنرال ديفو لينجده، ولكنه وصل متأخرًا ولم يستطع الجنرال «ديستريه» مقاومة العدو وطرده إلا بعد جهد عنيف، ومع ذلك ذاعت إشاعة أن عرب ينبع واصلوا الزحف إلى بني سويف التي هبت فيها نيران الثورة، وفي القرى المجاورة، فأسرع الجنرال ديفو.

ولم يبق في الصعيد الأعلى غير حسن بك الذي انسحب منذ زمن طويل إلى القصير، وبقي فيها مطمئنًا وأصبحت أسوان في قبضة يده، فأرسل الجنرال أيبار قومندان إسنا الكابتن رينو ومعه ٢٠٠ رجل من المشاة للاستيلاء على أسوان، وهو إما يجهل عدد القوة التي مع حسن بك أو يظن أنها سارت مع القوافل، ولما علم حسن بك بوصول تلك القوة القليلة العدو تولاه الطرب؛ لأن الفرصة مكنته من الانتقام للمؤمنين، وأسرع بلقائها ومعه ١٨٠ مملوكًا و٢٠٠ من الأعراب و٣٠٠ من البيادة، وعندما رأى الكابتن رينو تلك القوة العظيمة، لم تأخذه الدهشة ولم يتولاه اليأس، بل أمر رجاله أن يقفوا على هيئة مربع، ونادى فيهم بأعلى صوته «أيها الرفق! إن أبطال إيطاليا٩ لا يعبئون بكثرة عدد أعدائهم فليقاتل كل واحد منكم خصمه وأنا أقضي على الباقي منهم» … فعلت هذه الكلمة فعلها في الجند وأثارت حميتهم، فلم يكادوا يطلقون بنادقهم أول طلقة حتى سقط من المماليك ١٠٠ على الأرض يمجون علقمًا ونجيعًا، وبعد بضع ساعات تمكن الكابتن رينو من دخول أسوان ووضع يده على الأمتعة والجرحى، وجرح أيضًا حسن بك وعثمان بك جروحا خطرة قضت على حياتهما بعد بضعة أيام، أما الكابتن رينو فلم يفقد من رجاله غير أربعة قتلى و١٥ جريحًا، وكانت هذه المعركة أجمل معركة للفرنسيين في مصر، أما مراد بك فعندما علم بخبر تلك الكارثة فر إلى الصحراء، وهلك حسن بك والمماليك ولم يبق منهم غير شريف واحد من أشراف ينبع.

ولم يبق على الفرنسيين إلا أن يحتلوا ميناء القصير والواحة الكبرى والواحة الصغرى، ولكن شدة القيظ ووعورة الأرض اضطرتا الفرنسيين أن يؤجلوا إرسال الحملة إلى الواحات حتى شهر نوفمبر، ولكنهم رأوا أن يحتلوا القصير في الحال؛ لأن السفن الآتية من بلاد العرب وجدة وينبع كانت تأتي لتحمل الأرز والحنطة وبعض الحبوب الأخرى إلى الجزيرة ولا سيما مكة والمدينة، فرأى الجنرال بليار أنه لا بد من امتلاك القصير في الحال وتحصينها.

وقد عد الصعيد منذ ذلك الوقت أنه قد تم فتحه ولم يبق على الجنرال ديزيه إلا أن يسير حملة لي الصحراء الكبرى للقضاء على قوة مراد بك، فرأى أن يعهد بها إلى الجنرال فراينت، ذلك القائد الذي اشتهر بالشجاعة والإقدام والمقدرة في الفنون العسكرية، وكان مراد بك في موقف يرثى له، وليس معه غير بعض المماليك والعرب، فهو لا يستطيع عملًا ولا يُخشى منه، ولذلك رأى الجنرال ديزيه أن يتفرغ لتنظيم البلاد فقسم الصعيد إلى قسمين وجعل عاصمة الأول أسيوط والثاني قنا، واختار لنفسه القسم الأول، وبقي في أسيوط وعهد بقنا إلى الجنرال بليار.

ولما خضع الصعيد واستتب الأمن أظهر الجنرالان قدرة فائقة في الأعمال الإدارية لم تكن أقل من قدرتهما في الأعمال العسكرية، وذهبا إلى القرى ليدبرا مع المشايخ والأهالي أمر حفر الترع وتطهيرها، وإقامة الجسور ووضعا مع رجال البلاد القادرين القواعد التي تضمن تحسين حالة البلاد، وعملا على اتفاق الحكومة مع الأهالي، وتركا الناس يهتمون بفلح أراضيهم، وكان أغنياء البلاد يتمتعون بثروتهم بدون خوف، وتغلب العقل والحكمة على الطباع فلم يهب الأهالي للانتقام، ولم يقصر الفرنسيون في محاكمة الجند الذين يعتدون على الأهالي حتى لقب بونابرت بلقب السلطان العظيم ولقب ديزيه بالسلطان العادل، وأرسل بونابرت إلى ديزيه كتابًا يثني عليه قال فيه:

أرسل إليك يا مواطني الجنرال سيفًا جميلًا نقشت عليه هذه الكلمة — افتتاح الصعيد — وهو لم يفتح إلا بفضل مقدرتك وجهودك، وإنني أرى في تلك الهدية دليلًا على احترامي لك، وإخلاصي لشخصك.

بونابرت

وأرسل أيضًا إلى كل من الجنرال بليار والجنرال فراينت سيفًا مزينة قبضت بالماس.

•••

وإلى القارئ كل ما جاء في الجبرتي متقطعًا عن المحاربات في الصعيد قال:

إنه في يوم الأربعاء أول ربيع الثاني سنة ١٢١٣ وردت الأخبار بأن مراد بك ومن معه لما بلغهم ورود الفرنسيس عليهم رجعوا إلى جهة الفيوم، وأن عثمان بك الأشقر عدا إلى البر الشرقي وذهب من خلف إلى أستاذه إبراهيم بك بغزة وخرج جماعة من الفرنسيس إلى جهة الشرق، ومعهم عدة جمال وأحمال فخرج عليهم الغز والعرب الذين يصحبونهم وأخذوا منهم عدة جمال بأحمالها ولم يلحقوهم، وفي ليلة الأحد ١٢ منه ركب كبير الفرنسيس إلى بر الجيزة وسفر عساكر إلى الجهة التي بها مراد بك، وكذلك إلى الجهة الشرقية ومعهم مدافع على عجل، وعينت عساكر إلى مراد بك وذهبوا إليه ببحر يوسف جهة الفيوم، وفي يوم الثلاثاء سافر أيضًا جماعة من الفرنسيس إلى جهة مراد بك ومن معه والتقوا معهم وتراموا ساعة ثم انهزموا عنهم، واطمعوهم في أنفسهم فتتبعوهم إلى أسفل جبل اللاهون ثم خرجوا عليهم على مثل حالهم رجالًا وتراموا معهم وكمنوا لهم وثبتوا معهم، وظهر عليهم المصريون وقتل من الفرنسي مقتلة كبيرة.

وجاء في حوادث شهر جمادى الأول قوله: «وفي يوم الخميس أول جمادى الأولى قدمت مراكب من جهة الصعيد، وفيها عدة من العسكر جرحى، وفي أول شعبان جاءت الأخبار أن مراد بك ومن معه سافروا إلى قبلي ووصلوا إلى عقبة الهواء، وكلما قرب منهم عساكر الفرنسيس انتقلوا إلى قبلي وقد داخلهم خوف شديد ولم تقع بينهم ملاقاة ولا قتال، وجاء في حوادث شهر رجب تواترت الأخبار من ابتداء شهر رجب بأن رجلًا مغربيًّا يقال له: الشيخ الكيلاني كان مجاورًا بمكة والمدينة والطائف فلما وردت أخبار الفرنسيس إلى الحجاز، وأنهم ملكوا الديار المصرية انزعج أهل الحجاز وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة، وصار هذا الشيخ يعظ الناس ويدعوهم إلى الجهاد ويحرضهم على نصرة الحق والدين وقرأ بالحرم كتابًا مؤلفًا في معنى ذلك فاتعظ جملة من الناس وبذلوا أموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين، وركبوا البحر إلى القصير مع من انضم اليهم من أهل ينبع وخلافهم، وورد الخبر في أواخر رجب أنه انضم إليهم جملة من أهل الصعيد، وبعض الأتراك والمغاربة ممن كان خرج معهم مع غز مصر عند واقعة إمبابة ركب الغز معهم أيضًا وحاربوا الفرنسيس، فلم يثبت الغز كعادتهم وانهزموا وتبعهم هوارة الصعيد والمتجمعون من القرى وثبت الحجازيون، ثم انكفوا فقلتهم وذلك بناحية جرجا وهرب الغز والمماليك إلى ناحية إسنا وصحبتهم حسن بك الجداوي وعثمان بك حسن تابعه، ووقع بين أهل الحجاز والفرنسيس بعض حروب غير هذه المرة في عدة مواضع وانفصل الفريقان بدون طائل. ا.ﻫ.

هاتان هما الروايتان الموجودتان في كتب التاريخ الفرنسي والعربي أثبتناهما تعريبًا ونقلًا، وظاهر أن الجبرتي لم يكن يعلم شيئًا عن أخبار فتح الفرنسيس لبلاد الصعيد، إلا ما يسمعه من أفواه الناس وما يصل من الأخبار المتقطعة إلى القاهرة، وظاهر أيضًا أن هذه المحاربات في الصعيد بين المماليك والأهالي والعرب من جانب، والفرنسيين من جانب آخر، وقعت خلال الحوادث التي أفردنا لها الفصول الآتية، والآن ننتقل إلى نابوليون في القاهرة ونتبعه في غزوته للشام حتى نصل إلى نهاية أمره في أرض مصر.

هوامش

(١) وفي مذكرات «ميو» أن نابوليون قد عدل نهائيًّا عن حملة مصر:
Memoires pour servir a l’histoire des Expedition en Egypte et en syrie. par. J. Miot.
وميو هذا كان مرافقًا للحملة في مصر بوظيفة ما يسمونه الآن «مأمور التعيينات» المنوط به إعداد ما يلزم للجيش من لوازمه.
(٢) ميو صحيفة ٦٧ طبعة ١٨١٤ باريس.
(٣) كان أمير الحج في ذلك العام الأمير صالح بك، وهو من مماليك محمد بك أبو الذهب، ومن المقربين إلى مراد بك، وهو الذي ارتقى بواسطته السيد محمد كريم السكندري كما سبقت الإشارة إليه، قال عنه الجبرتي: «كان فصيح اللسان، مهذب الطبع يفهم بالإشارة يظن من يراه أنه من أبناء العرب بطلاقة اللسان» … فتأمل وفر مع إبراهيم بك إلى الشام ومات تلك السنة فيها، ولكن زوجته أحضرت جثته بعد مدة ودفن في قرافة المجاورين.
(٤) لا نظن أبدًا أن رواية الجبرتي عن انتقال المماليك إلى المنصورة صحيحة؛ لأن الطريق الطبيعي لهم هو من بلبيس إلى القرين إلى الصالحية، التي هي طريق القوافل إلى قطية فالشام، ولم يرد في كتب الفرنسيين ذكر لانتقال إبراهيم بك إلى المنصور أبدًا.
(٥) صحيفة ٥٩، طبعة باريس سنة١٨١٤.
(٦) هذا الخطاب من محفوظات مكاتبات نابوليون نمرة ٣٠٠٥.
(٧) كانت هذه الموقعة يوم السبت ٢٨ صفر/١١ أغسطس، وفي يوم الثلاثاء كان نابوليون في القاهرة، وقد وصلت إليه أنباء تحطيم عمارته البحرية.
(٨) ص٣ طبعة ١٨١٤ بباريس.
(٩) إشارة إلى انتصاراتهم في إيطاليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤