الفصل الرابع

استعداد الحملة للسير في فتح مصر

كانت إقامة نابوليون في الإسكندرية سبعة أيام فقط، وما كان ليقيم فيها هذه المدة على قصرها، لما جعله أساسًا لنجاحه من قيمة الزمن، لولا حاجته إلى أمور كثيرة: منها تدبير مسألة الأسطول، وإنزال ما فيه من المدافع الثقيلة، وآلات الحرب العديدة، ومنها حاجته إلى الخيول للخيالة؛ لأنه لم يحضر معه كما ورد في الجدول السابق نشره، سوي ٦٨٠ جوادًا، مع أن معه أربعة آلاف جندي من الخيالة، ولم ينس أن يحضر معه السروج، والأعنة والأدوات اللازمة لكل جواد.

ولم يكن في الإسكندرية ما يكفي لهذا القدر من الخيول، فالتزم أن يستعين بالسيد محمد كريم على شراء الخيول اللازمة من عرب البحيرة، وكان من اللازم له عدا شراء الخيول منهم، أن يتودد إليهم لكيلا يعاكسوه، ويقطعوا خطوط مواصلاته في سيره، ولما كان للسيد محمد كريم بصفته أكبر حاكم في الإسكندرية، من النفوذ على الأعراب ولحاجتهم دائمًا إلى النقود، لبوا الأمر سراعًا فاجتمع منهم في يوم ٤ يوليو ثلاثون شيخًا من شيوخ قبائل الهنادي، وأولاد علي، وبني يونس، في ساحة المعسكر الفرنسي فأحسن نابوليون مقابلتهم وتودد إليهم، وكتبوا معه عقدًا تعهدوا فيه بأن يجعلوا الطريق من الإسكندرية إلى دمنهور آمنًا، وأن يوردوا ثلاثمائة رأس من الخيل، في مقابل مائتين وأربعين جنيهًا١ ذهبًا، وخمسمائة هجين في مقابل مائة وعشرين جنيهًا وأن يقدموا ألف جمل مع قادتها لحمل الأثقال، وأن يطلقوا سراح الأسرى الفرنسيين الذين قبضوا عليهم في مناوشاتهم قرب الإسكندرية، وقبضوا مقدمًا مبلغ ألف بنتو ذهبًا فسر نابوليون بهذه النتيجة سرورًا كبيرًا وشرب وأكل مع أولئك الأعراب وقد حضروا في اليوم الثاني وقدموا ثمانين حصانًا، ونحو مائة جمل، ووعدوا بالباقي في الأيام التالية، وجاءوا باثني عشر جندي فرنسي كانوا لديهم أسرى.
وكانت رغبة نابوليون قائمة على الوصول إلى القاهرة قبل فيضان النيل الذي يفيض في شهر أغسطس، ولذلك صمم على متابعة السير في الحال إلى عاصمة البلاد فبدأ أولًا بوضع حامية مؤلفة من ثمانية إلى تسعة آلاف جندي في الإسكندرية تحت قيادة الجنرال «كليبر» الذي جرح في محاولته دخول الإسكندرية، ولم يكن قد شفي من جراحه وأصدر إليه عدة أوامر في خطاب مطول٢ نكتفي باقتطاف ما يأتي منها:
إنك تتولى يا مواطني الجنرال قوموندانية الإسكندرية وأبا قير والصف المتحرك٣ المخصص للبقاء في ساقة الجيش لتسهيل المواصلات فيه، وعليك مراقبة إنشاء الكورنتينة، وإعداد مستشفيين واحد للجرحى وآخر للمرضى، وأرجو أن تكون علاقاتك مع العربان، ووقوفك على حركاتهم، على غاية ما يرام، وأن تحافظ على احترام العلماء وأعيان البلد، وسيذهب الأسطول ليرسو في مياه أبي قير ويلزم أن يرسو في جهة بحيث يكون في مأمن من الطوارئ، تحت حماية الطوابي التي يلزم إقامتها هناك، ولعلك تدرك من هذا أهمية الإسراع في إنشاء تلك الاستحكامات، ومن المهم جدًّا أن يسارع الصف المتحرك الذي تحت قيادة الجنرال دومي (Dumay) إلى احتلال نقطة السكربون٤ الواقعة بين الإسكندرية ودمنهور حيث توجد مياه كثيرة، وأن ينصح له بتنظيف الآبار الموجودة في جهة «البيضة» ومن الضروري جدًّا أن تبقى مواصلات الإسكندرية ورشيد على غاية ما يرام بواسطة القوارب في البحيرة، وسيبعث لك ديوان أركان الحرب بالنظام الذي وضعه لإدارة الأحكام في البلاد، فمن الواجب كثيرًا تعويد القوم تدريجيًّا على أخلاقنا وتصرفاتنا، وأن نترك في أيديهم مجالًا واسعًا من سلطة إدارة أمورهم الداخلية، وبالأخص يلزم عدم التدخل في شيء من المسائل التي لها مساس بالشرع والدين، وفوق ذلك كله أرجوك أن لا تفرط في إجهاد نفسك بحيث تضر بصحتك، التي هي أهم لدي وللجيش، من كل شيء، ولك السلام.
بونابرت
وفي هذه الأوامر من دقائق الحكم، وحسن الإدارة، واجتذاب القلوب، ما لا يخفى على المفكر في تاريخ ذلك الرجل العظيم، وأهم ما في هذه الأوامر إشارته إلى حماية الأسطول من غارة نلسون، التي وقعت على الرغم من كل ذلك بعد شهر واحد من وصول الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية، كما سنشرحه في مكانه، ولكن المهم ذكره هنا، هو أن نابوليون كان على حذر من الأسطول الإنكليزي، وكان يعلم علم اليقين أنه إن قُضي على سفنه بالدمار، فقد قُضي على كل آماله ومشاريعه في مصر خصوصًا والشرق عمومًا، ولذلك كان همه منذ وصل إلى الإسكندرية أن يبحث عن طريقة تقي الأسطول من الخطر، فكتب إلى الأميرال برويس يقول «تاريخ ٣ يوليو»:
إن القائد العام يريد منك اتخاذ كل الوسائل لإنزال كل ما يخص الجيش إلى البر، ويعتقد القائد العام أنك ولا بد قد جسست عمق البحر؛ ولذلك يود أن يدنو الأسطول من الميناء؛ لأن وجوده بعيدًا غير موافق لمصلحة مواصلاتنا.٥
وكان نابوليون يميل إلى دخول الأسطول في ميناء الإسكندرية لحمايته بأسرع ما يمكن، ولكن حصل خلاف بين رجال البحرية فيما يختص بسعة قاع الميناء لقبول سفن كبيرة كالتي مع الأسطول، فقال القبودان باريه Barré بإمكان ذلك، ولم يوافق عليه الأميرال وبقية القبودانات الآخرين، وكان من أمر رسوه في مياه أبي قير ما كان.

وقد أوضحنا هذه النقطة لعظيم أهميتها في مركز الفرنسيين بالقطر المصري، ولأن نابوليون طالما ندد بالأميرال برويس وشكا نتيجة تساهله وعدم الحيطة اللازمة، ولمؤرخي الفرنسيين مجادلات في هذه المسألة يطول شرحها.

وكان آخر ما كتبه نابوليون بالإسكندرية الخطاب الآتي الذي بعث به إلى السيد محمد كريم:

المعسكر العام — ٧ يوليو ١٧٩٨ — إلى السيد محمد كريم٦

لقد سر القائد سرورًا كبيرًا بحسن سلوككم منذ دخول الجيش الفرنسي فلذلك يمنحكم وظيفة محافظ دائرة الإسكندرية، وسنبعث لكم أوامرنا على يد الجنرال كليبر، قومندان عموم الجهة، وذلك لا يمنع السيد محمد كريم من أن يكتب للقائد العام في جميع الأحوال متى أراد، وعليكم أن تقدموا للجنرال كليبر كل ما يطلبه من مستلزمات الجيش الفرنسي وبوليس دائرة العربان.

بونابرت

ولكن السيد محمد كريم هذا، على الرغم من هذه المعاملة الحسنة، وتلطف نابوليون في مخاطبته وثقته به، لم يحفظ للفرنساويين حرمة، ولم يرع لهم عهدًا، وكان كعادة أبناء جنسه وزمنه، وكعادة أبناء وطنه، إلى وقتنا هذا لا يثبتون على رأي واحد؛ إذ بينما هم مع هؤلاء؛ إذ هم مع أولئك … وعذرهم في هذا قصر نظرهم من جهة، وخوفهم من التقلبات من جهة أخرى، زيادة عما ربوا عليه من أثر الذلة والمسكنة وضعف الإرادة، فقد وجد الفرنسيون معه بعد ذلك، مكاتبات بعث بها وراء ظهورهم إلى مراد بك، يحرضه على الغارة على الإسكندرية، فجاءوا به من الثغر ذليلًا ومثلوا به تمثيلًا، إلى غير ذلك مما سيأتي في مكانه مفصلًا …

ومن أسرار نجاح نابوليون في حروبه، الإسراع والحيطة، فإنه ما كاد يضع قدمه يوم ٢ يوليو في الإسكندرية، حتى أصدر أمره مساء ذلك اليوم للجنرال ديزيه بالتقدم بفرقته للاستيلاء على قرية «البيضة»، وهي على بعد ثلاثة فراسخ من الإسكندرية لكي يكون ذلك بمثابة النقطة الأمامية لقوى الجيش التي تتقدم دائمًا إلى الأمام، وتنذر بالخطر إن كان هناك هجوم من العدو، ومما يجب ذكره ما أوصى به نابوليون الجنرال ديزيه قبل تحركه لتلك النقطة الأمامية؛ إذ قال له في أوامره: «أن لا تستعمل المدفعية ما استطعت ولا تسلط المدافع على المساكن، وأهم شيء لدينا هو إخفاء ما عندنا من وسائل القوة الغربية، فلا تستعملها إلا حيث تضطر لمقاومة قوة كبيرة جدًّا.»٧ ثم أصدر أمرًا آخر بأن تكون فرقة الجنرال «بون» على بعد فرسخ واحد من الإسكندرية بحيث تكون واسطة المخابرات بينه وبين الجنرال ديزيه.

ومما يجب ذكره هنا أنه كان أمام نابوليون طريقان لنقل جيشه إلى شاطئ النيل، أحدهما من رشيد والثاني من الإسكندرية إلى دمنهور فالرحمانية، والأول سهل لوجود الماء، ولكن رشيد كانت لا تزال في حوزة المماليك، وربما خشي مقاومة منهم فيها، وهو يريد الإسراع للاستيلاء على القاهرة، فلذلك اختار الثاني ووضع نظامه على ذلك.

جاء في المذكرات التي أملاها نابوليون في سانت هيلانة ما يأتي:

وكنا في شهر يوليه وقد قرب النيل أن يغمر الأرض بمياهه، فأراد بونابرت أن يصل إلى القاهرة قبل الفيضان، ولم يكن بونابرت يجهل أن تحت ستار التقاليد القديمة تختفي الحقائق أحيانًا، وأنه يجب على الإنسان أن يدرس الأمور قبل أن ينشر نفوذه على البلاد التي يريد افتتاحها، وأن يفهم أن القوة المسلحة وحدها، ليست الضمان الوحيد، وكان يعرف طبقًا للتقاليد المألوفة، أن احتلال القاهرة بمثابة احتلال مصر كلها، فمن الواجب عليه أن يسرع في وضع يده على المدينة المقدسة ليقضي بقوة الذعر والخوف، على روح الخرافات والأوهام التي تسود الشعب، فيحرك جيشه ليصل إلى غرضه، وترك حامية مؤلفة من ثمانية أو تسعة آلاف رجل في الإسكندرية وسلم قيادتها، وكذلك قيادة الفرق التي كانت في عهدة الجنرال «ديموي» إلى «كليبر» الذي اضطرته جروحه للبقاء وعدم استطاعته السير.

وفي اليوم السادس من يوليو بدأت الحملة سيرها من الإسكندرية إلى دمنهور مما سنفرد له فصلًا خاصًا بعد أن ننتقل بالقارئ إلى القاهرة، ونروي له ما حصل فيها، وكيف كان وقع خبر احتلال الفرنسيس على أفئدة المماليك والأهالي.

هوامش

(١) هذه البيانات مأخوذة من مذكرات نابوليون.
(٢) نص هذا الخطاب محفوظ في دفترخانة ديوان الحربية بنمرة ٢٧٧٨.
(٣) Colonne Mobile فرقة متنقلة.
(٤) السكربون بلدة في مركز كفر الدوار.
(٥) من محفوظات ديوان الحربية.
(٦) محفوظ في ديوان الحربية ومكاتبات نابوليون بنمرة ٢٧٨٥.
(٧) مكاتبات نابوليون بنمرة ٢٧٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤