مقدمة

لحضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك المدير العام للجمعية الزراعية الملكية

السودان!

السودان يحيط بنا أينما حللنا، ونراه ماثلًا أمامنا أينما توجهنا، ونحس بوجوده في كل مرافقنا؛ فقد ملك علينا مشاعرنا، وارتبطت به اقتصادياتنا، واتصلت به مصائرنا.

ومنذ عادت بعثتنا من السودان واسم السودان ومصالحه ورجاله بين ظهرانينا؛ فنحن يومًا نستقبل ضيوفنا من إخواننا السودانيين الكرام، ويومًا آخر نحضر حفلة في الجمعية الزراعية أو النادي السوداني أو الغرفة التجارية، أو نحضر اجتماعًا في وزارة التجارة والصناعة، ونتبادل المكاتبات بين القاهرة والخرطوم وما إليها، ونحن ننظر بلهفة واشتياق إلى اشتراك السودان لأول مرة في المعرض الزراعي الصناعي القادم، المقرر افتتاحه بالقاهرة في ١٥ فبراير سنة ١٩٣٦.

لقد نجحت البعثة المصرية في مهمتها نجاحًا باهرًا، وفوق المنتظر؛ من ناحية توثيق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين مصر والسودان، ولكن لا يزال كل منا ومنهم يشعر بأن عليه الواجب لتحقيق النتائج التي أسفر عنها النجاح الأول المبارك.

وهل أدَلُّ على دقة الشعور بهذا الواجب والقيام بعبئه من ذلك السِفْر الجليل الجامع؛ (كتاب السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية)، الذي ألفه حضرة زميلنا الفاضل في البعثة وصديقنا الأديب المحبوب العالم الباحث الأستاذ عبد الله حسين المحامي والمحرر بجريدة (الأهرام الغرَّاء)، وصاحب الجريدة القضائية؟

إني أكتب هذا وبين يدي كتاب كبير يقع في ثلاثة أجزاء، ويبلغ عدد صفحاته حوالى الثلثمائة والألف، وبه صور كثيرة يمرُّ بها القارئ كأنما ينظر إلى شريط سينمائي يستعرض الحياة السودانية قديمًا وحديثًا، استعراضًا صادقًا مفيدًا وجذابًا.

لقد عالج المؤلف النشيط في أجزاء كتابه الجليل تاريخ السودان منذ أبعد العصور؛ فذكر الحياة السودانية في عهد الفراعنة والرومان والبطالسة والعرب والأتراك والمماليك، وشرح الفتح المصري، وما كان من اهتمام محمد علي مؤسس الأسرة العلوية المالكة، واهتمام الأمراء بعده بالسودان؛ ولا سيَّما عصر إسماعيل الذهبي، الذي اتسعت في عهده حدود الدولة المصرية جنوبًا، فشملت منابع النيل وبلادًا أخرى أصبحت مستعمرات لدول أوربية.

كما أنه شرح الثورة المهدية، ذاكرًا ما لها وما عليها، ومقدماتها ونتائجها، شأن المؤرِّخ المحقِّق الصادق واسع التفكير، والناقد البصير، ضاربًا بتحليله البديع الأمثال لمؤرِّخي الثورة المهدية.

كما بسط لنا المؤلف تاريخ الممالك والسلطنات والإمارات والقبائل التي قامت في السودان، أما المسائل السياسية فقد عالجها ببحوثه القيِّمة، وربط الحوادث ببعضها البعض ربطًا محكمًا، وحلل اتفاقية سنة ١٨٩٩، التي هي أساس الحكم الحاضر في السودان، كما هي أساس العلاقات بين مصر والسودان، وكما كانت المحور الذي دارت عليه المفاوضات السابقة، وذكر لنا النصوص الخاصة بالسودان، الواردة في مشروعات الاتفاق بين مصر وإنجلترا جميعًا، وما ورد بشأن السودان في تقارير الممثلين البريطانيين للدولة البريطانية، وما دوَّنته تقارير الحكام العامين المتعاقبين على السودان ومن إليهم، وما ورد في محاضر هيئاتنا النيابية القديمة والجديدة من مناقشات خاصة بالسودان وحوادثه وميزانيته ومشروعات الخزَّانات والسدود والقناطر؛ سواء أكان ذلك على البحيرات التي ينبع منها النيل أم على فروعه، وعلاقة تفاتيش الري المصري بالسودان ونقطه، وعلاقتها بتلك الأعمال وما تصرفه مصر عليها.

ومن أبرز تلك الأعمال في الوقت الحاضر، إقامة خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض قبلي الخرطوم، تحت إشراف المهندس المقيم القدير عبد القوي أحمد بك، ومساعديه، والآلاف المؤلَّفة من العمال المصريين من الصعيد، الذين يشتغلون في إقامته، ويعاونهم في ذلك إخوانهم العمال السودانيون.

•••

وعقد المؤلف فصلًا ممتعًا عن الجيش المصري قديمًا وحديثًا، وحادث خروجه، وتأليف قوة الدفاع عن السودان، والاعتماد المخصص لها في ميزانية وزارة الحربية، ومناقشات البرلمان حول دفع هذا المبلغ.

ومما تقَرُّ له العين، وتستريح له النفس، أن يرى قارئ الكتاب ترجمة حياة ذلك الأمير العظيم حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، ثم يقرأ آراءه العالية — جليِّة واضحة وموضوعة في مناسباتها — ذلك الأمير الغيور على توثيق العلاقات بين مصر والسودان توثيقًا علميًّا وعمليًّا، ولا ريب أن سموَّه قد أصبح حجَّة في تاريخ السودان وتطوراته، كما أصبح يضيء لنا الطريق في هذه المهمة النبيلة، وينبوعًا يفيض بالخير والبركات على مصر والسودان والشرق جميعًا.

ولم يفُتْ المؤلف الأديب أن يبسط لنا شئون السودان الزراعية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية، بسطًا وافيًا دلَّ على رسوخٍ في العلم ودقةٍ في البحث وسعةٍ في الاطلاع.

ولما كانت مشروعات الري ومسألة الخزَّانات قد أثارت، وما زالت تثير اهتمامًا في مصر والسودان، فقد عالج المؤلف هذه المشروعات مشروعًا مشروعًا، وخزانًا خزانًا، كل ذلك مدعَّمًا بالتواريخ والأرقام وآراء الفنيين العالميين.

ولم يفت المؤلف أن يسرد على مسامعنا تاريخ الصحافة في السودان، والأدب والشعر والأغاني والعادات وحالة المرأة ونظام الحكم والقضاء والطرق الصوفية وبعثات التبشير.

وقد سجَّل لبعثتنا المصرية تاريخًا، ألَمَّ فيه بما كتبه من وصفٍ لرحلتنا يومًا يومًا، ومقدمات الرحلة ونتائجها، وقد رسم المؤلف المبدع بريشته التحليلية صورًا لأشخاص زملائه أعضاء البعثة، كما كتب تاريخًا للهيئات التي اشتركت فيها.

وقد شاء أدبه وكرم نفسه ووفاؤه لأصدقائه أن ينشر لأسرتنا تاريخًا، وأن يخصَّ هذا الضعيف بترجمة حياته، وأن يعزو إليه فضلًا في سفر البعثة ونجاحها وتوثيق العلاقات بين القطرين الشقيقين اللذين وحَّد النيل بينهم، فأخجل تواضعنا، واستأهل الشكر من كل فرد من أفراد أسرتنا.

وبعد، فهذا قليلٌ مما وسعته العجالة من تنويه بهذا السِفْر النفيس، وإلا فالحديث عنه طويل لا يُملُّ، وكل كثير في إطنابه قليل في تصويره، ضئيل في بيان فضله.

وها هو الكتاب في أجزائه الثلاثة مبسوط للقراء، وحسْبُهم مطالعته للوقوف على مزاياه والإفادة من بحر علمه الواسع، وهو كتاب يفيد كل طالب وباحث وقارئ وسياسي ومدرس وصحفي وتاجر؛ حقًّا إنه مفيد لجميع الطبقات، ونَدُرَ أن يوجد مؤلَّف جامع يضعه بحَّاثة قدير يفيد الخاصة والعامة معًا كما يفيد هذا الكتاب.

•••

بقي قبل أن أختم هذه الكلمة أن أذكر شيئًا عن صديقي المحبوب الأستاذ عبد الله حسين، وقد أتيحت لى الفرصة بالتعرف به منذ سنوات كثيرة في حفلات خاصة وعامة، وكنت في كل مرة ألقاه أزداد حبًّا له وتقديرًا، وقد عرفت فيه شابًّا مهذبًا جميل الشيم، أمامه مستقبل زاهر.

على أن الحق أقول إن اشتراكه معنا في البعثة قد كشف لنا عن سجاياه نورًا وضَّاءً وأدبًا رائعًا، حتى أَحبَّه واحترمه جميع أعضاء البعثة، لا أستثني منهم أحدًا، وكلهم يذكر له نشاطه العجيب وصبره الجمَّ، وأنه كان يدوِّن المعلومات في لباقة، وفي غير إثقال على أحد؛ ففتحت له مغاليق الأبواب، وشجعه الجميع، وما منا إلا وقد أكبر المؤلف في تلك المقالات الفياضة الممتعة؛ إذ كان يأبى أن يخلد إلى النوم أو الراحة بعد انتهاء زياراتنا والحفلات التي دعينا إليها، فكان يسهر الليل حتى ينتهي من وصف الحفلات التي شاهدها نهارًا ومساءً.

وقد كان حَسْبُ المؤلف غبطةً وفخارًا، حسن تدوين وصف رحلتنا يومًا يومًا، ولكن جهد المؤلف في إخراج كتاب يعدُّ الأول من نوعه ومنهاجه، لا في اللغة العربية وحدها، وإنما في اللغات الأخرى، يعدُّ شيئًا فذًّا، وعملًا لا يقوم به عادة إلا الجماعات العلمية والبعثات التي تنصِّب نفسها للبحث، وتمدُّها الهيئات بالمال، ومن الأسف أن الأوربيين قد سبقونا بوضع مؤلفات كثيرة عن السودان، مع أن علاقاتنا بالسودان قديمة، ومنَّا الألوف الذين عاشوا فيه قديمًا وحديثًا، وقد أنفقنا فيه بدر المال وأعز الرجال.

ومما يغتبط له كل مصري أن يقوم الأستاذ عبد الله بسدِّ هذا النقص بمؤلفه الجامع، الذي يتبوَّأ — بلا شك — مركزًا ممتازًا بين المؤلفات العربية والأجنبية عن السودان.

ونغتبط أيضًا بتلك الظاهرة الجديدة في صحافتنا المصرية، باشتراك شبابنا الأكفاء المتعلِّمين المهذَّبين في تحريرها، وأن جريدة «الأهرام» الغرَّاء لجديرة بالتهنئة حقًّا بوجود المؤلف في الصف الاول من كتَّابها ومحرريها، بل إن صحافتنا كلها جديرة بالتهنئة بأن يكون المؤلِّف من أعضاء أسرتها الكريمة، فضلًا عن تهنئتنا لأسرة المحاماة وللأسرة القانونية عامة، بإنجابها شابًّا ألمعيًّا نابهًا، يشرِّف كل هيئة ينتمي إليها.

وقد فاتني أن أشير إلى الأسلوب البليغ الذي كتب به المؤلف كتابه؛ فهو السهل الممتنع، والفصيح المبدع، وهكذا كان الأستاذ عبد الله كالمعدن النفيس؛ تزداد قيمته ويجلو بهاؤه كلما أمعن الناظر فيه، وكالفن الجميل؛ يأخذ سحرُهُ بألباب الفنان كلما تمعَّن فيه.

وجدير بوزارة المعارف أن تقرِّر هذا الكتاب في مدارسها، فمن الأسف أن الوارد في كتب الوزارة عن السودان؛ تاريخًا واقتصادًا وجغرافية، ضئيل لا يشفي الغلة، ولا يساعد على فهم حقيقة السودان. هذه كلمة أوحى بها اطلاعي على الكتاب، ودفعني الإخلاص لتقديم الكتاب بها، والله أرجو أن يثيب المؤلف عن كتابه أحسن الجزاء، وأن يُكثِر من أمثاله بين شباننا العاملين، وإنه سميع كريم مجيب الدعاء.

•••

بقي لي كلمة للقراء في مصر والسودان:

كل من يريد أن يلمَّ بالمسألة السودانية، أو يتباحث فيها، يَحسُن به أن يستوعب ما في هذا الكتاب النفيس من بيانات، ثم يَحسُن به جدًّا أن يُتْبِع ذلك بزيارة للسودان؛ لاستيعاب معلوماته عن قرب، وليرى بعينيه الصورة الحقيقية له، ليقابلها بسابقة تصوُّراته وخيالاته، وواجبٌ على المصري وعلى السوداني مطالعة ما جاء فيه، وكذلك طلبة المدارس والمعاهد؛ لمعرفة تاريخ بلادهم.

قد يقف القارئ عند كلمة أو جملة تثير شجونه، أو تحرِّك الذكريات المؤلمة من هذا الجانب أو ذاك، وموضوع الكتاب لا يمكِّن المؤلِّف إلا أن يصطدم بتلك الذكريات في خلال سرده للحوادث الحربية والثورية والسياسية … إلخ، ولكن لا حيلة له إلا سردها متوخيًا الحكمة بقدر ما تمكِّنه قدرته الكتابية في بلوغ غرضه، على أنه لا شك في أن القارئ يخرج من هذا الكتاب الثمين بطائفة كبيرة من المعلومات كانت خافية عليه، ويشعر بإحساس عميق من العظة والاعتبار، وعفى الله عما سلف.

وقد كان من توفيق المولى — سبحانه وتعالى — أن تمكَّنت البعثة المصرية من السفر للسودان في أوائل هذا العام، ومهما حاولتُ التعبير عن شكرنا لإخواننا السودانيين الذين حظينا بلقياهم من بورسودان شرقًا إلى الأبيض غربًا إلى الخرطوم ثم العطبرة ووادي حلفا شمالًا، وما بين تلك المدن الزاهرة من البلاد والأحياء والحلل، ومن يقطنها من الجماهير الغفيرة التي لا يحصيها عدٌّ ولا حصر، فلا يمكنِّي إيفاءهم حقَّهم من الثناء؛ فقد خرجنا من زيارة السودان بنتائج ما كنا نحلم بها؛ لقد توطدت أواصر المحبة بينهم وبيننا نتيجة التعارف والاختلاط، وعندما قابل المصري أخاه السوداني في أي مكان حلَّ به وجد الطباع منسجمة والعادات متفقة، وقصارى القول، اكتشفنا أن لا تنافر ولا خلاف، بل وجدنا أنفسنا أهلًا وخلَّانًا على أتم ما يكون من الصفاء.

وفقنا الله لما فيه الخير للجميع.

مصر في ١٥ أكتوبر سنة ١٩٣٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤