الفصل الرابع عشر

السودان في عهد سعيد باشا

figure
سعيد باشا والي مصر من سنة ١٨٥٤ إلى سنة ١٨٦٣.

تولى سعيد باشا الحكم سنة ١٨٥٤ خلفًا لابن أخيه عباس باشا، وتوفي سنة ١٨٦٣.

وقد حدث في عهد سعيد باشا حرب جمهورية المكسيك في أمريكا الشمالية. كانت هذه الجمهورية — ولا تزال — معرضًا للفتن والثورات الداخلية لانتزاع رياسة الجمهورية من زعيم أو حزب إلى آخر. وفي سنة ١٨٦١ كان يرأس الجمهورية مسيو جُوارز، وكان الإمبراطور نابليون الثالث في فرنسا يعضِّد الثائرين على رئيس الجمهورية، وجرَّد حملة عليها، واستعان على حربه بصديقه سعيد باشا، الذي أرسل له جيشًا من الجنود السودانيين بقيادة البكباشي جبر الله محمد السوداني، والصاغ محمد ألماس، وسافرت الحملة السودانية إلى المكسيك سنة ١٨٦٢، فانتصر الجيش الفرنسي أولًا، وألغيت الجمهورية، وأعلن اعتلاء الأرشيدوق مكسميليان النمسوي سنة ١٨٦٤ إمبراطور في المكسيك، ولكن تغلبت الجنود المكسيكية على الجيش الفرنسي، وقد أبلت الجنود السودانية في هذه الحرب بلاءً حسنًا، وشهد المارشال فوري قائد الجيش الفرنسي لها بالشجاعة، وقال: إنهم «ليسوا جنودًا فقط، وإنما هم أسود.»

(١) أورطة المكسيك السودانية

وكان سبب حرب فرنسا مع المكسيك أن حكومة المكسيك أساءت١ معاملة كثير من رعايا فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، ونهبت أموالهم على أثر مطالبتهم لها بوفاء ما عليها لهم من الديون، فكان ذلك السبب الظاهر لهذه الحرب.

ويقال إن الغرض الذي كان يُسِرُّه نابليون الثالث في قرارة نفسه، ويرمي إليه من وراء هذه الحرب إنما هو تأسيس حكومة ملكية كاثوليكية في المكسيك؛ ليضمن بذلك وجود التوازن في هذه البلاد مع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد عقدت هذه الحكومات الأوربية الثلاث النية على استخدام القوة المسلحة للحصول على مطالب رعاياها، ووجهت كل منها حملة إلى المكسيك في سنة ١٨٦١م، ولكن لم يلبث الخلاف أن دبَّ بين هذه الدول، فسحبت إنجلترا وإسبانيا جنودهما من المكسيك في أبريل سنة ١٨٦٢م، وقامت فرنسا وحدها بأعباء هذه الحرب.

وأرض المكسيك تنقسم إلى جبال ووهاد، ووهادها تسمَّى الأراضي الحارة، وهي واقعة على سواحلها البحرية، ومناخها وبيل تنتشر فيه الحمى الصفراء والدسنتاريا، وإذا أقام به الأوربيون فتكت بهم هذه الأمراض فتكًا ذريعًا. أما الزنوج، فيمتازون بحصانة طبيعية ضد هذين المرضين؛ ولهذا استخدمت فرنسا عساكر منهم جنَّدتهم لهذه الحرب، خاصة من مستعمراتها.

وخطر بفكر نابليون الثالث أن يرجو سعيد باشا — والي مصر في ذلك الحين — أن يمدَّه بآلاي من الجنود السودانيين، فقبل سعيد باشا رجاءه، غير أنه لم يرسل سوى أورطة مؤلفة من ٤٥٣ جنديًا، بين ضباط وصف ضباط وعسكر.

وهذه الأورطة مكونة من أربعة بلوكات، وهي من آلاي المشاة التاسع عشر، وقد اشتركت في حرب المكسيك من عام ١٨٦٣م إلى عام ١٨٦٧م، وها نحن نبيِّن ما قامت به في هذه السنين من الأعمال المجيدة:

عام ١٨٦٣م

في ٨ يناير سنة ١٨٦٣م أقلعت النقالة الفرنسية لاسين La Seine بهذه الأورطة من الإسكندرية مارَّة بطولون، حتى وصلت بها إلى فيرا كروز، وهي أكبر فرضة في المكسيك في ٢٣ فبراير، بعد سفر مدة ٤٧ يومًا، وقد مات منها في أثناء السفر سبعة جنود. وكانت الأورطة بقيادة البكباشي جبر الله محمد أفندي، ووكيله اليوزباشي محمد ألماس أفندي.

وجاء في التقارير الفرنسية عنها أنها كانت ذات ملابس حسنة، وسلاح جيد، وهيئة أنيقة، واستعداد عسكري يثير إعجاب كل من يراها، إلا أن سلاحها كان يختلف عن أسلحة الجنود الفرنسية، فنجم عن ذلك متاعب وعراقيل من جهة الذخيرة، فوزَّعت القيادة الفرنسية عليهم أسلحة فرنسية، وأودعت أسلحتهم المخازن، ثم أعادتها إليهم عند رجوعهم إلى مصر.

كما أن التفاهم معها في بادئ الأمر كان متعذرًا؛ لجهل أفرادها اللغة الفرنسية، فدعت الحالة إلى استخدام بعض الجنود الجزائريين الذين كانوا معهم في حرب المكسيك للترجمة بينهم وبين سائر الجنود الفرنسية هناك، فأمكن بذلك معرفة احتياجاتهم والاستفادة من أهليتهم وكفاءتهم.

وقام جنود هذه الأورطة بأعظم الخدم وأجلَّها لشجاعتهم وبراعتهم في الرماية وضرب النار، وبذلك أمكن التعويل عليهم في المواقع التي كانت الجنود الفرنسية لا تستطيع المقام فيها، فصدُّوا غارات العصابات التي كانت تجوس خلال هذه الديار وتشن الغارات على قوافل المؤونة والذخيرة، وعلى المخافر التي بها قليل من الحرس.

وقبل مباشرة هذه الأورطة العمل رُتِّبت على النظام الفرنسي.

وفي مايو سنة ١٨٦٣م فُجِعت الأورطة المصرية «السودانية» بوفاة البكباشي جبر الله محمد أفندي، على أثر إصابته بالحمى الصفراء، فخلفه القائد الثاني لها الصاغ محمد ألماس أفندي بعد أن مُنح رتبة البكباشي.

وكان لوفاة هذا الضابط العظيم رنَّة أسى عند الجميع، وجاء في تأبين السلطة الفرنسية له أنه كان على جانب كبير من دماثة الأخلاق والتحلي بصفات عسكرية نادرة، وأنه كان محترمًا من الجميع؛ لسلوكه الحسن، وقيامه بواجباته على الوجه الأكمل، وقَدْره ما على عاتقه من المسئوليات.

وبلغت قيمة تركته ٥٦٦٧ فرنكًا، أرسلتها السلطات الفرنسية فيما بعد إلى الحكومة المصرية لتسلمها إلى ورثته، مع مبلغ ٥٠٠٠ فرنك على سبيل المنحة منها لهم.

ويدرك المرء مقدار وخامة الأراضي الحارة وفساد مناخها، إذا علم أنه مع متانة بنية جنود الأورطة السودانية المصرية ومقاومتها لوخامة ذلك الجو أكثر من المكسيكيين أنفسهم، كان لا يوجد في كل بلوك منها أقل من ٤٢ مريضًا على الدوام، ٣٠ في المستشفى و١٢ في الثكنات.

ومع أن هذه النسبة كبيرة بالنظر لمجموع عدد الأورطة، إلا أنه عند مقارنتها بنسبة عدد مرضى فرق الجيوش الفرنسية الأخرى نجدها أقل منها بكثير.

ولما احتلت الجيوش الفرنسية مدينة مكسيكو عاصمة المكسيك أقيمت احتفالات باهرة في كافة المدن التي في قبضة هذه الجيوش.

وفي ٢١ يونية سنة ١٨٦٣م أقيم في فيرا كروز قداس حضره القائد العام، ومثلت فيه جميع السلطات العسكرية والمدنية، فعهد إلى الأورطة السودانية المصرية القيام بمهام التشريفات، وبعد انتهاء الاحتفال استعرضت في أكبر ميادين المدينة.

ولما وقف القائد العام المارشال «فوريه Forey» على ما قامت به هذه الأورطة في عدة وقائع كافأها على ذلك، فأمر في ٢٨ سبتمبر سنة ١٨٦٣م أن تؤلَّف منهم كتيبة الجنود الذين يسمون «برنجي نفر»، فألِّفت منهم هذه الكتيبة، وبلغ عددها ربع عدد الأورطة، وأمر فمنح كل فرد من أفرادها ٦٥ سنتيمًا يوميًّا «قرشين ونصف القرش تقريبًا»، وأن يميَّزوا بشارات صفراء تُوضع على أذرعتهم، فأحدث هذا العمل أثرًا عظيمًا في نفوسهم وفي نفوس ضباطهم، ودلَّ على عظيم عناية القيادة الفرنسية بهم، وقَدْرِها لجدارتهم.
وكتب قائد فيرا كروز في تقريره الذي أرسله إلى القائد العام عن واقعة نشبت في ٢ أكتوبر سنة ١٨٦٣م ما معربه:

لقد كلل هذا القتال رءوس السودانيين المصريين الذين قاموا بأعبائه بأسمى أكاليل الفخر، فإنهم لم يبالوا بالنار المنصبَّة عليهم من الأعداء، وردوهم، وهم يزيدون في العدد عليهم تسع مرات على أعقابهم مدحورين.

وقد بلغ عدد الوقائع التي خاضت هذه الأورطة غمارها في عام ١٨٦٣م ثمانيًا، وفي أثناء عام ١٨٦٤م كانت الأورطة المصرية قد خاضت غمار إحدى عشرة معركة.

عام ١٨٦٥م

حدث في ٢١ و٢٣ و٢٤ من يناير سنة ١٨٦٥م ثلاث معارك عظيمة اشتركت فيها الأورطة السودانية المصرية ببسالتها المعتادة، وإليك ما قاله القائد العام للأراضي الحارة في تقريره عنها:

«من الصعب العثور على كلام يمكن التعبير به عن بأس هذه الأورطة البارعة، وبسالتها وصبرها على الحرمان واحتمال المشاق، وحميتها في إطلاق النيران، وجلدها في المشي، فلقد قام كل جندي من جنودها في هذه الوقائع الثلاث بواجبه خير قيام» ويرى قائدها أن كافة جنودها تستأهل المدح والثناء، غير أنه لفت الأنظار إلى ثلاثة جنود منها أصيبوا إصابات شديدة «لكني أرى من واجبي أن أذكر أيضًا الأشخاص الآتية أسماؤهم:

لقد أبلى الملازم فرج الزيني في هذه الوقائع بلاء حسنًا كعادته، وكان يقود المؤخرة فأعاد إلى الذاكرة ما لم تنسه من حماسته وبسالته في حروبه السابقة.

وأصيب الملازم الأول محمد سليمان بستة جروح من طلقات نارية، فبرهن بذلك على إقدامه، وهذا الضابط الذي أنعم عليه بوسام في ٢٠ ديسمبر، قد أظهر الآن مقدار جدارته لهذا الإنعام، فألتمس منحه رتبة اليوزباشية.

أما الجنود الأربعة الآتية أسماؤهم فقد أُنعم على كل منهم بالوسام العسكري، وهم: جادين أحمد، ومحمد الحاج، وإدريس نعيم، وعبد الله سودان.»

وفي ذلك الوقت كان أمير الآلاي آدم بك المذكور قائد الآلاي الأول السوداني في الخرطوم، الذي يبلغ مجموعه ٨١ ضابطًا و٢١٩٠ من صف الضباط والجنود، وترقَّى بعد ذلك إلى رتبة لواء، وفي سنة ١٨٦٨م أُسندت إليه القيادة العامة للجيوش السودانية.

ولما وصل تقرير قومندان الأورطة السودانية أرسل إليه الخديوي إسماعيل باشا في ١٦ ذي القعدة سنة ١٢٨١ﻫ/١٢ أبريل سنة ١٨٦٥م الكتاب الآتي:

أمرٌ عالٍ إلى صاغ أورطة السودان

قد ورد إنهاؤكم «كتابكم» بتاريخ ٣ شعبان سنة ١٢٨١ﻫ، الموافق أول يناير سنة ١٨٦٥، يحتوي أنكم ومن معكم قائمون على أقدام الاهتمام، ومنقادون لأمر مأمور الجيش على الدوام، فحصل لنا بذلك مزيد السرور والارتياح منكم، ومن جميع من معكم من الضباط والعساكر، فعرِّفوهم أني أريد منهم أن يداوموا على هذا المسلك الحميد والمنهج السديد؛ حتى يعودوا إلى أوطانهم فينالوا الفخر بين إخوانهم، ثم بلِّغوهم أننا سننظر في ترتيب عساكر ليُرسَلوا بدلًا منهم إلى تلك الجهة، وإن شاء الله عن قريب نرسل البدل المذكور، وتحضرون أنتم ومن معكم حيث طالت إقامتكم هناك، وعلى حسب التماسكم أهدي إلى البكباشي مارشال النيشان المجيدي الرابع، وأرسل مع الفرمان المتعلق به.

وأتت الأورطة السودانية المصرية في أثناء انتظارها من سيخلفها من الجنود بضروب الشجاعة والإقدام، إذ كانت تحتل في متسع من الأرض مساحته ١٦٠ كيلومترًا، سبعة مواقع، بعضها ليس به منها أكثر من ٣٠ جنديًّا، ومع ذلك فقد استطاعت أن تبعث الخوف والذعر في قلوب عصابات تتراوح كل عصابة منها بين ٢٠٠ و٣٠٠، وأن توقفها عند حدها، وإليك معرب العبارة التي مدح بها قومندان الأراضي الحارة هذه الأورطة:

يا لها من يقظة، ويا لهم من رجال أبطال تملَّك حب القيام بالواجب أفئدتهم، فهم لا ينفكون عن القيام به، حتى إنه لم يحدث مطلقًا أن بوغت يومًا جندي منهم في نوبة حراسته ووُجد غائبًا عن محله، وهم من أنفسهم يضاعفون الحرس ليلًا إلى ثلاثة أمثاله بدون أمر ما؛ ليأمنوا أية مباغتة.

وفي بداية عام ١٨٦٦م لم تكن الأورطة السودانية المصرية الجديدة قد استعدَّت بعدُ للذهاب إلى المكسيك لتحل محل الأورطة السودانية التي بها، مع أن الخديوي إسماعيل أصدر في ١٠ ذي القعدة سنة ١٢٨٢ﻫ ٢٧ مارس سنة ١٨٦٦م أمرًا إلى وكيل الشركة العزيزية «الشركة الخديوية فيما بعد» ليصدر التعليمات اللازمة لنقل جنود الأورطة الجديدة إلى مصر.

وبالرغم من كل هذه الأوامر والتعليمات لم تسافر هذه الأورطة إلى المكسيك؛ لمجاوزة مدة تجهيزها الحد المألوف بسبب ما حدث من الطوارئ، ولما تبيَّن أن الحرب أوشكت أن تضع أوزارها، وأن الأورطة التي بها قد دنا رجوعها إلى وطنها.

وفي يوليو سنة ١٨٦٦م، مرَّت الإمبراطورة بفيرا كروز لتبحر منها إلى أوربا، ولم يكن بهذه المدينة من الجنود غير عساكر الأورطة السودانية المصرية لتأدية التشريفات اللازمة لها.

وفي ليلة ٢٥ يوليو سنة ١٨٦٦م، هاجمت فرقة مؤلفة من ٢٠٠ مكسيكي نقطة يحتلها ٢٦ جنديًّا من الأورطة السودانية المصرية، وبالرغم من أن الهجوم عليهم كان فجأة مع قلة عددهم، فقد استمرت رحى الحرب دائرة إلى الساعة ٥ ونصف صباحًا، ثم انسحب العدو تاركًا في حومة الوغى تسعة من القتلى، وعددًا كبيرًا من الجرحى.

وإليك ما قاله حضرة قومندان الأراضي الحارة في تقديره عن هذه المعركة:

لقد استحقت الفرقة السودانية المصرية جزيل المدح والثناء لسلوكها العجيب.

عام ١٨٦٧م

كان قد تقرر في سنة ١٨٦٦م جلاء الجيوش الفرنسية التي في المكسيك، فأخذت تنسحب من ١٣ يناير سنة ١٨٦٧م، وتم جلاؤها في ١٢ مارس من هذه السنة.

وتعداد جميع الأعمال الحربية التي قامت بها الأورطة السودانية المصرية بالمكسيك في كل مدة إقامتها أمر يطول شرحه، وفضلًا عما تقدم ذكره، اشتركت في ٤٨ واقعة حربية في المدة التي قضاها هناك، من ٢٣ فبراير سنة ١٨٦٣م إلى ١٢ مارس سنة ١٨٦٧م، أي: أربع سنوات وسبعة عشر يومًا، وفازت على أعدائها في جميع المعارك، مع أنها كانت دائمًا أبدًا أقل منهم عددًا، وقد نيطت بها فوق ذلك أعمال أخرى قامت بها خير قيام.

أما المدائح المستطابة التي وُجِّهت إليها من السلطات الفرنسية المختلفة عقب كل معركة فكثيرة جدًّا، وهي تشرِّف — بالطبع — الجيش المصري الذي كانت الأورطة جزءًا منه، إلى أقصى حدود التشريف.

ولما أخذت الأورطة في الرحيل أبحرت من فيرا كروز في ١٢ مارس سنة ١٨٦٨م، ووصلت إلى «ساترير»، ثم إلى باريس في أواخر شهر أبريل.

وكانت في مدة إقامتها في باريس تحت قيادة المارشال قائد الحرس الإمبراطوري، فقدَّمها بنفسه إلى الإمبراطور نابليون الثالث، وعندما استعرضها جلالته في ٢ مايو سنة ١٨٦٧م في الساعة الثالثة بعد الظهر، كان بمعيته صاحب السعادة جاهين باشا ناظر الجهادية المصرية، وكان يزين صدور عدد كبير من ضباطها وجنودها وسام «لاكروا دي لاليجيون دونور»، أو وسام الحرب، وكان هندامهم جميلًا أنيقًا لا عيب فيه، وقبل انصرافهم هنَّأ جلالته قائد الأورطة البكباشي ألماس أفندي بمقدرة عساكره وأهليتهم، ووزع بيده على الذين أصيبوا بجروح — وكانوا كثيرين — المكافآت، أما البكباشي ألماس أفندي الذي كان حائزًا لرتبة «شفاليه دي لاليجيون دونور» منذ ٢٠ أبريل سنة ١٨٦٤م، فقد مُنح في هذا اليوم وسام «لاكروا دفسييه».

ثم غادرت الأورطة فرنسا، ووصلت إلى الديار المصرية، وأصبح عددها ٣١٣ بعد أن كان عددها ٤٥٣، فتكون خسارتها ١٤٠ نفسًا.

وفي ٢٨ مايو سنة ١٨٦٧م، استعرضها الخديوي إسماعيل في فناء قصر رأس التين بالإسكندرية، وفي مساء هذا اليوم، أقام لها لطيف باشا ناظر البحرية حفلة حافلة رأسها شريف باشا، جمعت ضباط الأورطة والضباط الفرنسيين المقيمين بالإسكندرية والمارين بها، وحضرها قنصل فرنسا العام، وموظفو القنصلية، وقائد الأسطول الفرنسي، وكثير من عظام الضباط المصريين، وكانت قاعة الاحتفالات مزينة بالأعلام الفرنسية والمصرية.

ولما عاد ضباط الأورطة وجنودها عُينوا في وظائف الجيش المصري ونال الكثير منهم رتبًا عالية، فوصل الملازم الأول فرج الزيني أفندي إلى رتبة فريق وباشجاويش، البلوك الثاني بخيت بتراكي إلى رتبة أمير آلاي.

(٢) رأي مؤرخين فرنسيين

يقول الكاتبان الفرنسيان «آميديه سكريه» و«لويز أوتربون»٢ في مؤلفهما:

ولمَّا كانت الجندية هي سبب نجاح محمد علي باشا فقد وجَّه عنايته للعسكرية، وأسَّس جيشًا لا يقل عن أحسن جيوش أوربا نظامًا وتدريبًا، بل في كل شيء إلا في عدده.

ولقد دون التاريخ الانتصارات الحربية لعسكرية الباشا المهيبة الجانب، ولسنا هنا في مقام تفصيل ذلك، فهي وقائع معروفة، ولكن الذي لا يعرفه الكثيرون معرفة كافية هو: أن المصري جندي متفوق إذا ما أدير بيد ماهرة قوية.

وإذا صح ما قيل من أن صفات الأمم العالية تمثَّل في جيشها، وأن حب النظام وطاعة الأوامر العسكرية هما الدعامة الكبرى للفن العسكري، فالجندي المصري يقيم الدليل المحسوس على صحة هذه الحقيقة؛ فهو قنوع صبور مطيع للأوامر، بصير حذر وشجاع، ويحتمل دون ما ضجر حرمانه من حاجاته لدرجة فوق التصور، وعندما أتيحت له الفرصة استطاع أن يمنع ويصدَّ جموع الفيالق الروسية دون الاستيلاء على «سيلستري»، وأن يقطِّع إربًا إربًا بالفرات في واقعة «نصيبين» جيشًا كان ضعفيه عددًا، وفي عهد قريب في «أوائل حكم إسماعيل باشا» تجلَّت تلك الروح العسكرية بأوضع المظاهر في اللواء المصري الذي أرسله إلى فرنسا عزيز مصر سعيد باشا ليكون في حملة المكسيك، وأقرَّه على ذلك خلفه إسماعيل باشا.

«فإن دلائل التفوق وشهادات الفخار العسكرية والنياشين التي اختُصَّ بها عدد عظيم من ضباط وعساكر هذا اللواء في غنى عن كل شرح وبيان — راجع مذكراتنا الإيضاحية بآخر الكتاب رقم ٣.

وإلى القارئ ما ورد في تلك المذكرة ملخَّصًا عن ست صفحات:

«لا يُقرأ بدون اهتمام ذلك التقرير الذي أصدرته القيادة العليا الفرنسية «بفيرا كروز» عن واقعة ٢ أكتوبر سنة ١٨٦٣، التي اشتبكت فيها فصيلة من أورطة سودانية مصرية، فلقد كان لثبات هذه الفصيلة الصغيرة وشجاعتها أعظم تأثير في الانتصار في هذه الواقعة، وقد قدَّر ذلك القائد الفرنسي حق قدره بعبارات تغنينا عن الشرح، فهي وحدها كافية للدلالة على قيمة موقف هذه الفصيلة المشرف للجندي المصري، وإليك بعض ما جاء بهذا التقرير:

وفي ٢ أكتوبر سنة ١٨٦٣، عند الساعة السابعة صباحًا، تحرك القطار الحديدي من محطة «فيرا كروز» قاصدًا «صولداد»، وكان هذا القطار في حراسة أربعة عشر جنديًّا، سبعة من البلوك البحارة الوطنيين من جزائر الهند الغربية «أنييلس»، وسبعة من الأورطة السودانية المصرية، وهذه أسماؤهم:

بخيت بدرين أومباشي، بيتال حماد، وأيتوم سودان، وإبراهيم عبد الرحمن، ومحمد عبد الله، وعمر محمد، ومحمد علي، وعند اتجاه القطار لجهة «تيجريا» فوجئ الركاب بإطلاق الرصاص من الجانبين، وتحولت المركبات عن خط السكة الحديدية، وفي وقت الفزع الشديد والاضطراب الذي شمل جميع الركاب نزل السبعة السودانيون المصريون بقيادة بخيت بدرين — وهو اسم يكثر عند الدنكا — وحملوا أسلحتهم ووقفوا مدة إلى جانب العربات بكل ثبات، منتظرين اكتشاف مكامن الثوار الذين كانوا يكمنون في المرتفعات المحيطة بهم، ولما خفيت مواقعهم على القائد ولم يستطع لهذا السبب أن يأخذهم من ظهورهم بحركة التفات، بادر بإصدار أمره بالتقدم لمهاجمة الثوار في معاقلهم المرتفعة، ولكن حالت كثافة الحشائش والأشواك في الطريق دون تحقيق ذلك، فتحصنوا بعربات القطار، وأصلَوْا الثوار نارًا حامية، ودام إطلاق الرصاص من الجانبين مدة كبيرة.

ولما وقع القائد «لي جيه» صريعًا في ميدان القتال تقدَّم «بتال حماد» «وهو اسم يكثر بين الشلك» محاولًا حمله وإدخاله إلى العربة، فأصيب في رأسه إصابة مميتة، فتقدم «بخيت بدرين» و«أيتوم سودان» وبادرا بحمل القومندان — الذي كان لا يزال فيه بقية نفس — إلى العربة، ثم حملا بعده مواطنهما الشهم شهيد الواجب. ثم تولى القيادة الضابط الفرنسي «شيرر» الذي أرسل يستخدم بالقوة المصرية المعسكرة في «تجريا»، وأخبر القيادة العليا «بفيرا كروز» بالحادثة، وقد وَجِل الثوار من شدة فتك نيران الجنود السودانية المصرية من أن تهاجمهم جسمًا لجسم، وتقاتلهم يدًا بيد، ولكن هؤلاء الجند لم يمكنهم تحقيق غرضهم، وردوهم مرات على أعقابهم، وقد قَتل الجندي «أيتوم سودان» «ويكثر هذا الاسم بين أهالي منجلا» بنفسه اثنين على بضع خطوات منه.

ودارت رحى القتال بشدة أكثر من ساعة، حتى كادت الذخيرة أن تنفد، وعند ذلك لوحظ هدوء طلقات الثوار، ثم انتهى بعد قليل بالسكوت المطلق، فظن القائد أن ذلك خدعة، وانتظر بضع دقائق حتى تقدَّم جندي هندي «أنتيلي» للاستكشاف، وما لبث أن عاد مخبرًا بتفرق الثوار وجلائهم عن أماكنهم بعد جسامة خسائرهم وعلمهم بتقدم المدد المصري من «تيجريا» عدوًا على الأقدام؛ مخافة أن يقعوا بين ناري المصريين.

وكانت الخسائر في هذه المعركة ثلاثة قتلى: القومندان «ليجيه»، و«بيتال حماد»، ومكسيكي من الركاب، والجرحى بجروح خطيرة، والمسيو ليون مدير السكة الحديدية، والراهب سافللي، وأحد العساكر، وجرح بجروح أقل خطورة: «شيرر»، وتسعة من العساكر الركاب، والملازم الثاني «بوتناي»، وسيدة مكسيكية.

واختتمت القيادة العليا تقريرها بما يأتي:

لقد أبلى الجنود السبعة المصريون في هذه الموقعة أعظم بلاء، وثبتوا ثباتًا مدهشًا فوق التصور، والكل كان موضع إعجاب الضباط والعساكر الذين حاربوا معهم جنبًا لجنب، وليس ثمَّت شك في أن أكبر فضل في هذا الفوز راجع إلى مقاومة أولئك الجنود مقاومة قوية عنيفة، أوجبت إعجاب القيادة، بعد أن علمت أن عدد الثوار كان يبلغ نحو الثلثمائة مقاتل بين راكب وراجل.

ولذلك رأينا ترقية وكيل الأومباشي بخيت بدرين إلى درجة شاويش، وترقية كل من أيتوم سودان، وإبراهيم عبد الرحمن، ومحمد عبد الله، وعمر محمد، إلى رتبة أومباشي، وفوق هذا أطلب لبخيت بدرين وأيتوم سودان «الميدالية العسكرية» من الإمبراطور.

وهذه المكافآت قد أعطيت لهم في أول مارس سنة ١٨٦٤ بيد القائم العام للحملة، وعقِّب ذلك بإمضاء القومندان العام للحملة الفرنسية بالمكسيك:

ﻫ. ماريشال

وذيِّل بإمضاء:

قومندان أوريزايا
دولسيون لواء
حرر بفيرا كروز ٢٤ مارس سنة ١٨٦٤

(٣) زيارة سعيد باشا للسودان

وقد اهتم سعيد باشا بأمر السودان، وعيَّن علي شركس باشا حكمدار للسودان، وندب سعيد باشا أخاه الأمير عبد الحليم باشا للتفتيش على إدارة السودان، ثم زار سعيد باشا السودان ومعه راغب باشا، وذو الفقار باشا، والدكتور أباته باشا، وإبراهيم النبراوي بك، وأراكيل بك أخو نوبار باشا، ومسيو فردينان دلسبس.

وقد وصل سعيد باشا إلى الخرطوم في ١٦ يناير سنة ١٨٥٧، وقد خطر بباله إخلاء السودان؛ نظرًا لمتاعب إدارته وكثرة نفقاتها، وبَرَمِ الأهالي بالضرائب التي تتقاضاها الحكومة منهم، وقد استقبل الأهالي سعيد باشا بالحفاوة، ورفعوا إليه ظلاماتهم، وأصغى إليها، ولمَّا علموا بتفكيره في إخلاء السودان، التمسوا منه عدم تحقيق هذه الفكرة، قائلين إن إخلاء السودان سيترتب عليه عودة الفوضى إليه، و«ونحن عبيد أفندينا».

فقبل رجاءهم وعدل عن الإخلاء، وأمر بإعفاء الأهالي من المتأخر عليهم من الضرائب، وخفضها وجعل تقديرها على أساس أن تتبع عدد السواقي في الأطيان؛ لأن السواقي تدل على مبلغ خصوبة التربة ومحصولها، ففرض ٢٠٠ قرش على الأراضي التي تروى من ساقية واحدة، وفرض ضريبة تتراوح بين ٢٠ و٢٥ قرشًا على الفدان في الأراضي التي تروى بالأمطار، وفصل الموظفين الترك الذين أساءوا معاملة الأهالي، وعاقب الموظفين المذنبين، وأمر المديرين بحسن معاملة الأهالي وإقامة العدل بينهم، وبتعويد الأهالي حكم أنفسهم بإنشاء مجالس عرفية من نظار القبائل ورؤساء العشائر والأسر المحترمة.

وجعل جباية الضرائب منوطة بغير الجنود، وأنشأ محطات صحراوية لنقل البريد بين مصر والسودان، ونظم البريد، وأقام معسكرًا على نهر السوباط لمنع تجارة الرقيق، وبعد عودته إلى مصر ندب موجيل بك — كبير المهندسين — لتسهيل المواصلات بين حلفا والخرطوم، فوضع موجيل بك مشروع إنشاء سكة حديدية بين هاتين المدينتين، ولكن لم ينفذ المشروع لكثرة نفقاته، وألغى سعيد باشا منصب حكمدار السودان، وجعل السودان يتألف من خمس مديريات، كل منها تتبع نظارة «وزارة» الداخلية بالقاهرة مباشرة، وعين أراكيل نوبار بك مديرًا لمديرية الخرطوم وسنار، وبعد أن توفي أراكيل بك خلفه حسن سلامة بك، ثم محمد راسخ بك.

على أن إلغاء منصب «حكمدار السودان» قد ترتَّب عليه جنوح المديرين إلى الاستبداد، فأعاد سعيد باشا هذا المنصب، وعيَّن فيه موسى حمدي باشا، الذي عيَّن من الأهالي نظارًا للأقسام «أي: مأموري مراكز» ومعاونين، ومجالس، ونظم جباية الضرائب.

(٤) النظام القضائي في السودان

بقي النظام القضائي كما كان في عهد محمد علي، وظل للمحاكم الشرعية اختصاصها في المسائل الخاصة بالأحوال الشخصية ونقل الملكية، وأنشئت محاكم جديدة للفصل في الخصومات المدنية والتجارية، ودعيت باسم «مجالس الأقاليم»، وكان عددها أولًا خمسة: أربعة في مصر، هي: مجلس طنطا، ومجلس سمنود، ومجلس الفشن، ومجلس جرجا، ومجلس الخرطوم ويفصل في المنازعات التي تقع في السودان.

وكان كل مجلس يتألف من رئيس وأربعة أعضاء وأربعة كُتاب، عدا مجلس سمنود فإنه كان يتألف من رئيس وعضوين، وعيِّن لكل مجلس اثنان من العلماء يحمل كل منهما لقب مفتي، أحدهما للمذهب الحنفي، والآخر شافعي. وكان مجلس الأحكام والمجلس الخصوصي يُصدران القوانين واللوائح وتطبقها مجالس الأقاليم، وكان مجلس الأحكام معدودًا أعلى هيئة قضائية وهيئة تشريعية في الوقت ذاته.

١  الأورطة السودانية — لسمو الأمير عمر طوسون.
٢  كتاب «مصر في عهد إسماعيل» ص١٧٠ و١٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤