الفصل التاسع والعشرون

المسألة الحبشية وجارات السودان

يجاور السودان بلاد كثيرة، ومن تمام الكلام عن السودان التحدث عن جاراته؛ فيحده شمالًا مصر — وقد تكلمنا عن علاقتها في السودان في أجزاء كتاب «السودان» الثلاثة — ثم طرابلس الغرب، ومن الغرب واداي التي أصبحت الآن وبعد توزيع المستعمرات الألمانية، جزءًا من «إفريقيا الاستوائية الفرنسية»، وفي الجنوب الكونغو البلجيكية، ومستعمرتي أوغندا الإنجليزية وكينيا الإنجليزية، وفي الشرق إريتريا والحبشة.

ولما كانت المسألة الحبشية من أهم حوادث العالم الحالية، والحرب بينها وبين إيطاليا وشيك الوقوع، فقد أسهبنا الكلام عليها.

(١) طرابلس الغرب

مستعمرة إيطالية، وكانت حتى سنة ١٩١٢ ولاية تحت حكم الأتراك، وتقع في أقصى الشمال بين الأمم العربية الشمالية، وتحد من الغرب بتونس، وفي الجنوب بصحراء ليبيا، وفي الشرق بالقطر المصري، وفي الشمال بالبحر الأبيض المتوسط، وقد وافقت بريطانيا على أن تضم جغبوب وواحة الكفرة إلى طرابلس، وقد قبلت الحكومة المصرية ذلك في مقابل تعديل حدودها عند السلوم، وتبلغ المساحة على وجه التقريب حوالي ٥٠٠ ألف ميل مربع، ويختلف السكان اختلافًا نوعيًّا في الأصل، والتعداد في سنة ١٩٢١ بلغ نحو ٥٥٠٠٠٠ (منهم ٢٠ ألف أوربي) في القسم المسمى طرابلس، أما في القسم الآخر برقة، فبلغ العدد ٢٣٥٠٠٠ (منهم ١٠ آلاف أوربي)، وكل جزء له حاكم ومجلس، والقسم الأول عاصمته طرابلس، والقسم الثاني عاصمته بنغازي.

(٢) واداي من إفريقيا الاستوائية الفرنسية

واداي Waday منطقة تقع في إفريقيا الاستوائية الفرنسية، بين بحيرة شاد ودارفور، وكانت سلطنة وطنية قوية، ولكنها لا تزال نصف مستقلة، وهي بين البداوة والحضارة، وبها واحات خصبة؛ حيث تنمو المحاصيل فيها وفي الجنوب الغابات، وعاصمتها أبو شير، وتبلغ مساحة المنطقة حوالي ١٧٠ ألف ميل مربع، وعدد السكان ١٠٠٠٠٠٠ نفس.

(٣) الكنغو البلجيكي

وصفتها الدول الأوربية كدولة حرة في مؤتمر برلين سنة ١٨٨٥، وهي مستعمرة بلجيكية كبيرة، ومساحتها تبلغ ٩٠٠ ألف ميل مربع، وتقع بين الكونغو الفرنسي في الشمال الغربي وإفريقيا الغربية البرتغالية في الجنوب الغربي، وروديسيا في الجنوب والجنوب الشرقي، وتنجانيقا وأوغندا في الشرق، والسودان المصري الإنجليزي في الشمال الغربي، والشاطئ يمتد نحو ٣٥ ميلًا شمال مصب نهر الكنغو، وتقترب في الشرق من البحيرات: مويرا، تنجانيقا، إدوارد، والإقليم ليس بجبلي، وتتكاثف أشجار المطاط في الغابات السوداء، ويقطنها حيوانات كثيرة غريبة، ويوجد بها الماس والذهب والنحاس والقصدير، والقبائل مختلفة، وفي بقاع عديدة يعيش الأقزام في الغابات، وتتبع إدارتها حكومة بروكسل، ويحكمها الحاكم العام للمستعمرة، كما أن الكنغو البلجيكي أهم منبع تستمد منه مادتي الراديوم والسكريلت، والسكان حوالي ٨ مليون وخمسمائة ألف (منهم ثمانية آلاف من الأجانب).

(٤) أوغندا

تحت الحماية الإنجليزية، وهي في شرق إفريقيا، وتقع على جانبي خط الاستواء، وتحد من الشمال بالسودان، ومن الشرق بمستعمرة كينيا، وفي الجنوب ببحيرة فيكتوريا ومستعمرة تنجانيقا، وفي الغرب بالكونغو، المساحة ٩٨٧٧٦ ميلًا مربعًا، بما في ذلك ١٥٠١٧ ميلًا مربعًا يشمل بحيرات كيوجا وأجزاء من البحيرات: فيكتوريا، إدوارد، ألبرت، وفي الشمال الأرض منبسطة، ما عدا في الوسط، والجو حار جاف، وسكانها ثلاثة ملايين ومائة وخمسون ألفًا، منهم سبعمائة ألف تابعون لأوغندا، وهم مسيحيون نبهاء، والباقي سودانيون وقبائل أخرى، بينما بعض الأقزام التابعون للكنغو يعيشون بالقرب من نهر السمليكي.

(٥) كينيا

كانت حتى سنة ١٩٢٠ تحت حماية شرق إفريقيا، والآن هي مستعمرة إنجليزية تحت الرعاية الإنجليزية، يحدها أرض الصومال الإيطالي والحبشة وبحيرة رودلف وأوغندا وبحيرة فيكتوريا ومستعمرة تنجانيقا والمحيط الهندي، وتغطي الغابات مساحات شاسعة، فهي نحو ٣٦٠٠ ميل مربع، وتحتوي على بعض أنواع الأخشاب المتينة، ومساحتها ٢٤٥ ألف ميل مربع، ويبلغ عدد السكان نحو مليونين وخمسمائة ألف، بما في ذلك نحو عشرة آلاف أجنبي، و٢٢ ألف هندي، وعشرة آلاف عربي.
figure
خريطة بلاد الحبشة.

(٦) الحبشة والمسألة الحبشية

يطلق عليها اسم سويسرة إفريقيا، وهي من وادي النيل العلوي إلى الجزء الجنوبي الغربي من البحر الأحمر، ممتدة جهة المحيط الهندي، وتقع — بوجه أصح — بين السودان المصري والشاطئ الإيطالي إرتيرا، وقد تكوَّنت مناظرها الجبلية الخلابة نتيجة ثوران بركاني شديد، وتنقسم إلى الأقسام الأساسية الآتية: نياجرا في الشمال، وأمهارا في الوسط، وشوا في الجنوب، وتقع أرض منخفضة جرداء بين الأراضي المرتفعة والبحر الأحمر، تقطنه قبائل مميزة عن الأحباش تمت للمصريين، ومساحتها تبلغ ٣٥٠ ألف ميل مربع، بما في ذلك أرض الصومال الحبشي.

وهي عبارة عن هضبة عظيمة يبلغ ارتفاعها سبعة آلاف قدم، ويكون الانحدار نحو ساحل البحر الأحمر شديدًا، ونحو حوض النيل تدريجيًّا، وتنقسم الأرض إلى ما يشبه الجزائر بواسطة مجاري المياه التي نحتت لنفسها في الصخر إلى عمق كبير يصل إلى أربعة آلاف قدم، وقد تصل قمم الجبال إلى علو ١٥ ألف قدم، وتبلغ درجة حرارة السهول المتوسطة الارتفاع التي تزدحم بالسكان (علو ٥٠٠٠–٨٨٠٠ قدمًا) من ٧٧°–٩٥°، وتنمو فيها النباتات الاستوائية، وفي أثناء فصل الأمطار الذي يقع من أبريل إلى سبتمبر يغطي الثلج قمم الجبال العالية، ولا يذوب هذا الثلج على علو ١٣ ألف قدم، وفي وديان الأنهار وفي الأراضي الغدقة تكون الحرارة والرطوبة مميتة وخانقة، وفي الجهات المنخفضة تجاه البحر الأحمر يصبح الجو حارًّا جافًّا.

ويزرع محصولان أو ثلاثة في بعض الجهات سنويًّا، ومن المحاصيل المهمة: الموز – النخيل – القصب – العنب – البرتقال – الليمون – القطن – النيلة البرية والبن، وتزرع الهضاب العليا القرطم والشعير، ويبلغ سكانها ما بين أربعة وخمسة ملايين بين عناصر مختلفة، وبعضهم يقدر عدد السكان بعشرة ملايين، وليس هناك إحصاء صحيح؛ نظرًا لاتساع المساحة وكثرة القبائل، ويقال إن مسلمي الحبشة هم ثلث سكانها.

(٦-١) أصول السكان

الأحباش من حيث الدم سلالتان، إحداهما زنجية: لأفرادها كل ملامح الزنوج من الشعر المفلفل إلى الأنف الأفطس، وهؤلاء يسكنون الأقاليم الغربية، وهم متأخِّرون يمارسون ضروبًا من القسوة التي تبلغ التوحش، ويزينون أكواخهم بغنائم القتال. والسلالة الثانية سامية: لها شعر سبط، وملامح تقرب جدًّا من الملامح العربية في الأقاليم الجنوبية من الجزيرة العربية، وهم متمدنون قد ثقفوا شيئًا غير قليل من الحضارة، وهم يدينون بالإسلام والمسيحية. أما في الأقاليم الغربية فالمسيحية منتشرة بعض الشيء، ولكن معظم السكان لا يزالون في الوثنية، أو هم يؤمنون بالمسيحية مع خلطها بالشعائر الوثنية.

والكنائس كثيرة في الحبشة، وكذلك القسوس، ومع أن الكنيسة الحبشية هي إلى الآن تحت رياسة الكنيسة القبطية فإنها تختلف عنها من حيث إنها تُبنى مستديرة، والقسيس وقت الصلاة لا يختلط بجمهور المصلين كما هي الحال في الكنائس القبطية في مصر، ولا بد أن هذه التقاليد قد ورثها الأحباش عن اليهود؛ لأن المسيحية دخلت الحبشة حوالي سنة ٣٣٠ من اليمن في وقت كانت تلبَّست فيه بالتقاليد اليهودية التي كانت سائدة في اليمن قبل المسيحية، ولقد دارت معارك دموية بين اليهود والمسيحيين يذكرها التاريخ قبل ظهور الإسلام.

والمنازل تُبنى مستديرة أيضًا في الحبشة، وهي أشبه بأكواخ الزنوج منها بالمعنى الذي نفهمه من المنازل، والمنزل يبنى من القصب أو البوص، ويطيَّن من الخارج ومن الداخل، وتزرع حوله الأشجار، ويتسلق على جدرانه الفرع فيكسوه ورقه، وترقد ثماره على سطحه، وأحيانا تبنى مصطبة داخل المنزل يقعد عليها السكان الذين يعيشون مع الدواجن والماشية في مكان واحد، أما الأغنياء فلا تختلف منازلهم إلا من حيث الملابس، فإنهم يشترون الحرير الزاهي، ويقتنون السجاد الإيراني ويطرحونه على الأرض في أي مكان للجلوس، ويزيِّنون جدرانهم من الداخل بجلود الأسود والنمور والسيوف وقرون الوعل.

والأحباش لا يعرفون القرى كما نفهمها في مصر، فإن الحبشي يعيش وحده في حقله مع زوجته وأولاده لا يجاوره آخر، وقد تتكاثر أسرته فتتألف قرية صغيرة بها عشرة منازل — مثلًا — هم أولاده وأحفاده وزوجاتهم. والزراعة الفاشية عندهم هي زراعة أسلافنا قبل نحو ٣٠٠٠ سنة، فإنهم يزرعون الثوم والبصل ويأكلونهما كثيرًا، وقد تفشَّت بينهم زراعة البطاطا والبطاطس هذه الأيام، أما الفواكه فكثيرة، وأشجارها تبسق وتشتبك حول المنازل.١

وقد أخذ الأحباش بكثير من تقاليد الفراعنة، ولا يزال الإمبراطور هيلاسلاسي يكتب اسمه بالهيروغليفية في خرطوش على نحو ما كان يفعل رمسيس أو توت عنخ أمون.

(٦-٢) الأرض والطقس

وقد نشرت جريدة التيمس بحثًا تحت هذا العنوان بقلم الكولونيل س. ل كراست، الذي زار الحبشة لأول مرة وبسط أحوال أراضيها في حالتي الدفاع والهجوم عند القيام بحملة عسكرية في بلاد الحبشة، وقد آثرنا نقل هذا البحث فيما يلي:

في عصر قديم جدًّا من العصور الجيولوجية اعترى القشرة الأرضية ضعف بين خطي طول ٣٠ و٤٠ شرقًا، ولدينا الآن دليل على التشقق الذي حدث إذ ذاك في بعض المظاهر الطبيعية؛ أهمها الانخفاضات العميقة في البر والبحر (وهي وادي الأردن) الذي يشمل بحيرة لوط والبحر الميت وخليج العقبة وخليج السويس والبحر الأحمر ووادي النيل، الممتد جنوبًا إلى البحيرات الكبرى من بحيرة ألبرت في الشمال إلى نياسا في خط عرض ١٤ درجة جنوبًا.

ومثل هذا الاضطراب الواسع المدى في القشرة الخارجية للأرض يؤثر على الأجزاء المجاورة في كثير أو قليل من العنف، ويحتمل أن يكون هبوط الأرض مسئولًا عن بروز الهضبة الحبشية.

والمساحة التي تأثَّرت أكثر من غيرها مباشرة بهذا التشقق تبلغ حوالي ٧٠٠ ميل من الشمال للجنوب، و٥٠٠ ميل من الشرق للغرب داخل الحدود الحبشية، وهي مساحة تزيد على أربعة أمثال مساحة إنجلترا، وفي الشرق والجنوب الشرقي توجد وديان شاسعة واسعة مفتوحة تتدرَّج في الارتفاع، محرومة من الماء، مغطاة بالحشائش الغليظة التي يبلغ ارتفاعها حوالي خمسة أقدام، وهي تنخفض بالتدريج إلى الشرق والجنوب الشرقي إلى المحيط الهندي من رأس جاردفوي إلى قسمايا على مصب نهر بوبا في الصومال الإيطالي، وهذه الأراضي يخترقها ثلاثة أنهر (نذكرها من الجنوب إلى الشمال)، وهي التوبا والويبي شبيلي وتج فافان. ومقطع ويبي معناه المجرى الذي يستمر الماء فيه طول العام، أما (تج) فمعناه المجرى الذي ينحط إلى نهير أثناء فترة الجفاف، ومن هذه الأنهر الثلاثة يرتفع الأولان في جوار بحيرة شالا على مستوى تسعة آلاف قدم، بينما ينبع الأخير من جبل مقدس (كونديودو) وعلوه عشرة آلاف قدم على ثلاثين ميلًا شمالي شرق هرر.

تربة هذه السهول — التي تعرف محليًّا باسم هود — صلصالية لونها شديد الحمرة، تختلف كثافتها من مائة قدم بقرب هارجية في الصومال البريطاني إلى قدم واحد أو قدمين على طول ساحل الصومال الإيطالي أو بنادير، هذه حقيقة يجب أن تظل في الذهن، وذلك أن الإيطاليين إن كانوا يرمون إلى الحصول على أراضٍ غنية ليقطنوها فإن وديان الحبشة قد تجذبهم؛ لأن هذه الأراضي صالحة لزراعة القطن.

بين خط ١٠ شمالًا وخط طول ٤٠ شرقًا وساحل البحر الأحمر يوجد منخفض صغير يعرف باسم دناكل، أو دناجل الشمالية والجنوبية، وعند النهاية الشمالية لهذا الإقليم يقع (وادي الملح) الكبير، أو منخفض دناكل الشمالي، الذي ارتاده ورسم خريطته في سنة ١٩٢٨ المستر نسبت، مع اثنين من الرفاق الإيطاليين، وامتحان مسطحات هذا المنخفض قد أظهر مساحة طولها ١٠٠ ميل من الشمال للجنوب، وخمسين ميلًا من الشرق للغرب، أقصى عمقها (في النهاية الشمالية) ٤٠٠ قدم تحت سطح البحر الأحمر، وهذه هي المساحة الواقعة عند كولولي، حيث توجد مناجم البوتاس الإيطالية.

أما مسألة الطقس فإنها جديرة بالنظر فيها باختصار، فمرتفعات الحبشة تقوم إلى علو ١٢ قدمًا أو أكثر، وتبعًا لهذا فإن الإيتيوبي الحقيقي الذي يكره الحر يرفض أن يعيش في مكان آخر غيرها، أي: على علو يزيد على ثلاثة آلاف قدم، وطقس الهضبة والمرتفعات يقارن بطقس إنجلترا في سبتمبر، إلا في الفترة بين أبريل وسبتمبر حين يكون موسم الأمطار على أشده، وتهب رياح جنوبية غربية شديدة.

وفي زمن الصيف تكون البقاع الحبشية التي على علو ٣٠٠٠ قدم في بعض الأحيان حارة ورطبة حتى تأتي زوبعة عنيفة تخفف عن الناس الحر، أما الأراضي الواطئة فإنها على العكس من ذلك حارة لا ترتاح إليها النفس، وبالرغم من أن الهواء قد يترطب وقتًا ما بعد المطر، فإن هذا يكون على حين أن نتيجة مطر المناطق الحارة تجعل التربة السطحية موحلة والسير فيها متعبًا.

على أنه مهما يكن من رداءة الطقس في الأراضي الواطئة في الشرق والجنوب الشرقي فإن الطقس في منخفض دناكل أردأ بكثير، فإن الرحالة قد سجلت هناك درجات حرارة فوق ١٥٥ فهرنهيت يومًا بعد يوم، ولا يسع الإنسان إلا أن يبدي إعجابه بالإقدام والمثابرة اللذين تحلى بهما هؤلاء الرجال الذين شقوا طريقهم إلى الشمال، بقدر يسير من الماء، في هواء مملوء بالغبار، ودخان الكبريت يحيط بهم من كل الجهات، بسكان رُحَّل أهم ما يحترفونه الحرب والقتل.

(٦-٣) اللغات الحبشية

أشهر اللغات الحبشية ثلاث:
  • (١)
    اللغة الإيتيوبية القديمة: وهي لا تستعمل الآن إلا في الكتابة الأدبية.
  • (٢)
    اللغة التجرانية: وهي لغة الإرتريا وشمال الحبشة، وهي المستعملة الآن.
  • (٣)
    اللغة الأمهرية: وهي اللغة الرسمية؛ نسبة إلى أمهرا.

وحروف الهجاء الحبشية مأخوذة من لهجات العرب القديمة، مثل: الصابئية والحميرية.

(٦-٤) العادات في الحبشة

يجري ختان الطفل الذكر في يومه السابع أيام الأربعاء والجمعة، والأنثى يجري ختانها بعد ذلك. وإذا كانت الأم مريضة ينبغي أن يبقى طفلها دون ختان حتى شفائها.

وينصَّر الطفل الذكر في اليوم الأربعين، وتنصَّر الطفلة في اليوم الثمانين.

ولا تدفن المرأة في أماكن الرجال، ولا يجوز للرجل أن يشرب البيرة قبل زوجته إذا كانت حاملًا؛ لأنها تتألم باشتياقها للشراب.

وعندما يغيب أحد الآباء عن بلده يختار صديقًا له لحراسة بيته والإشراف على أولاده.

ويوسِّط الخطيب أصدقاءه لدى والد الفتاة ليقبل الزواج، ومعظم الآباء يقاسمون بناتهم نصف مهورهن، وتقام أعراس بها مزامير وتنحر الذبائح.

(٦-٥) المرأة الحبشية

المرأة الحبشية مشهورة بالجمال؛ وخاصة جمال العينين، وبالجاذبية، ولها أنف دقيق، وشفتان غليظتان مستديرتان، وقامة هيفاء، وطالما كانت بيوت أمراء المصريين والحجازيين والأتراك والأعيان مزدانة بالجواري الحبشيات، وطالما تزوجوا منهن.

والمرأة الحبشية مثال الشجاعة والإقدام والتضحية، وهي تشترك في الحرب مع الرجال، وهي وافرة الذكاء، بسيطة الهندام والأثاث.

وفي أديس أبابا جمعية اسمها جمعية نساء إيتيوبيا الوطنية، وقد قامت بمظاهرة وحملت لوحة جاء فيها باللغة الأمهرية: «أيها الشبان، انهضوا ولا تخافوا، ودافعوا عن وطنكم، دافعوا إننا سنموت معكم.»

لا تتزوج المرأة الحبشية إلا بإذن أبيها وإلا كانت ملعونة، وهي تشجع بجاذبيتها الشبان على خطوبتها، وأحيانًا تهرب مع عشيقها.

والمرأة الحبشية تشرب البيرة، وقد يتخذ الرجل الحبشي عشيقة له لمدة سنة — وهي زوجية مؤقتة — وعلى المرأة الحبشية أن تطيع زوجها.

وينتشر البغاء في الحبشة بالرغم من موانع الدين المسيحي، والطلاق كثير، وأكثر بغايا السودان من الحبشيات المهاجرات، وتكثر بينهن الأمراض التناسلية بصورة مخيفة محزنة.

(٦-٦) ممالك الحبشة وإمبراطورها

الحبشة منقسمة إلى ولايات وممالك صغيرة وقبائل متنازعة، وقلما تهدأ الحالة الداخلية في الحبشة، فهناك حروب بين ملوك الحبشة، أو بين بعضهم، أو بين إمبراطورها.

وقد نادى «ساهالاسلاسي» ملك شواه وإيفات والجالا سنة ١٨١٣ بنفسه ملكًا على ملوك الحبشة، وجعل الملك بطريق التوارث في أسرته.

و«ساهالاسلاسي» الذي ولد سنة ١٧٩٥، وعيِّن ملكًا سنة ١٨١٣، ومات سنة ١٨٤٧، ولد له ستة أولاد، كان منهم «هيلا ملا كوت»، الذي ولد سنة ١٨٢٥ ومات سنة ١٨٨٥، وخلفه ابنه منليك الثاني الذي ولد سنة ١٨٤٤، وصار ملكا لشوا سنة ١٨٦٦، وإمبراطورًا سنة ١٨٨٩، ومات سنة ١٩١٣، وتزوج الإمبراطورة تاتو سنة ١٨٨٣ ولم يرزق منها ذكورًا، وقد كان من بناته ثواراجا التي تزوجت الرأس ميكاييل، ورزقت بولد اسمه ليج ياسو سنة ١٨٩٦، وعين إمبراطورًا سنة ١٩١٣ خلفًا للإمبراطور منليك إلى سنة ١٩١٦، ثم قامت ضده فتنة؛ لأن الأحباش المسيحيين قد اتهموه بأنه يمالئ مسلمي الحبشة، ويقربهم ويؤثرهم، وبأنه اعترف بخلافة سلطان تركيا، وحالفه وحالف الألمان وأغضب الحلفاء. وقد أعلن مطران الحبشة حرمانه، وهرب ياسو، ولكنه لم يذعن لقرار المطران، وجمع جيشًا وآزره الرأس ميكاييل حاكم ولاية جايا، وقد خلفته الإمبراطورة زوديتو ابنة منليك الثاني التي ولدت سنة ١٨٧٦، وتوِّجت سنة ١٩١٦، وقد قامت بينها وبين أتباع ياسو والرأس ميكاييل مذبحة عنيفة في ساجال، في أكتوبر سنة ١٩١٩، وأسرت الرأس ميكابيل، وهرب ياسو، وتوجت زوديتو رسميًّا سنة ١٩١٧.

الرأس تفري والإمبراطور هالاسلاسي

ولد الرأس تفري سنة ١٨٨١، وهو ابن الرأس ماكونن بن وازيروتانا أحد أبناء الملك ساهالاسلاسي.

وعين الرأس تفري وصيًّا للعرش مع الإمبراطورة زوديتو التي ماتت سنة ١٩٣٠، حيث توج الرأس تفري إمبراطورا سنة ١٩٣٠ باسم الإمبراطور هالاسلاسي، وقد تزوج سنة ١٩١٢ من الأميرة وازيرو منن، وولدت له سنة ١٩١٢ ماميتي التي ماتت طفلة، ثم أصفا واصين سنة ١٩١٦ وهو ولي العهد الرسمي، ولكن أباه الإمبراطور غاضب عليه، وزينب ورك ولدت سنة ١٩١٨، ويشي أمابت ولدت سنة ١٩٢٠، وماكونن ولد سنة،١٩٢٣ وهو محبوب من أبيه، ويقال إنه هو المرشح الحقيقي لولاية العهد، وقد أسماه والده «دوق هرر». ومن الإشاعات التي لم نقف على صحتها أن «زوديتو» ماتت مسمومة ليخلو الجو للإمبراطور هالاسلاسي.

حول إسلام النجاشي

وقد ذكرت روايات عن إسلام نجاشي الحبشة في عهد النبي الذي أرسل كتابًا إلى النجاشي أصحمة، وهذا ردُّه على النبي :

«بسم الله الرحمن الرحيم» إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا الله الذي هداني للإسلام، «أما بعد» فقد وصلني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت فيه من أمر عيسى ابن مريم فورب السماء والأرض إن عيسى ابن مريم لا يزيد على ما ذكرت، ولا علاقة ما بين النواة والقمع، وقد عرفنا ما بُعثت به إلينا، وشهدنا بأنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك بواسطة ابن عمك جعفر، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

ولما قرأ النبي هذا الكتاب قال:

اتركوا الحبشة ما تركوكم.

فمن أجل هذا الأمر هيمن العرب على آسيا وبعض أوربا، وبلغت طلائع جيشهم أقاصي النيجر وبلاد السنغال والهند وغيرها، ولم يخطر ببال أمراء الإسلام احتلال الحبشة وبسط نفوذهم عليها، بل كانت دول الإسلام وإماراته في سلام ووئام مع الإمبراطورية الحبشية إلى ما بعد القرون الوسطى.

وقد أفتى بعض علماء الصومال الإيطالي ومفتيه بعدم جواز محاربة المسلم للحبشة.

الحبشة والجندية

الأمة الحبشية هي أمة جندية؛ جميع أفرادها على استعداد للقتال، وهو حرفتهم وسجيَّتهم.

وقد أنشأ الإمبراطور هالاسلاسي جيشًا باسم الحرس الإمبراطوري، قام بتدريبه ضباط سويسريون وبلجيكيون وسويديون، وعدده ستة آلاف، وبه وحدات من البيادة والسواري والطبجية، وله بنادق عصرية، ومجهَّز بمدافع كبيرة وصائدات للطائرات.

ولكل رأس من رءوس الحبشة «حكامها» حرس أو جيش لا يقل عدده عن ربع مليون، وجيش غير نظامي لا يقل عن نصف مليون، ولدى إمبراطور الحبشة طائرات وذخائر.

ويقول الأديب محمد عبد الرحيم: ليس للإمبراطورية الحبشية نظام مخصوص للجندية كنظام القرعة العسكرية المصرية، أو كنظام التطوع لدى الدول الغربية، بل تُطلَب الجنود من الولايات كلٌّ بحسب سعة الولاية وضيقها، والجيش العامل في حفظ الأمن في وقت السلم ٢٠٠ ألف جندي، أما في وقت الحرب فتصبح الجندية فرض عين على كل رجل يستطيع حمل السلاح.

والأحباش أكثر العالم شغفًا بالحروب وأسرعهم قبولًا لويلاتها، وقد دلت التجارب على أن الشعب الحبشي إن هو إلا بركان ثائر يحركه الإمبراطور بسبابته متى شاء، هكذا كان في غارته على مملكة سنار، وفي حربه للحملة المصرية التي كان يقودها السردار محمد راتب باشا في سنة ١٢٩٢، وكذا في واقعة القلابات سنة ١٣٠٦، وواقعة عدوة في سنة ١٨٩٥م، أما القيادة العامة فللإمبراطور نفسه، والذي يراجع تاريخ الحبشة قلَّ أن يرى إمبراطورًا مات حتف أنفه كما حدث للإمبراطور ياهنس الرابع، أي «يوحنا» الذي قتله أنصار المهدية وخلافه من أسلافه.

إذن فليس بغريب عزم جلالة الإمبراطور هالاسلاسي على تولي زمام القيادة في الحرب المزمع نشوبها. فما أجود الجندي بروحه عندما يرى مليكه يسير تحت قساطل الجيوش للذود عن الأمة! ولا غرو أن هذا أعظم محرك لحماس الأحباش في حروبهم المتواصلة التي كانت تكلل بالنجاح.

وقد قرر الإمبراطور إلباس ٢٠٠٠٠٠ جندي الملابس العسكرية، وتناول ١٥٠٠٠ منهم طعام الغذاء مع الإمبراطور في قصره في شهر أغسطس سنة ١٩٣٥، وأكثر الجنود حفاة، وأكثر أسلحتهم بنادق قديمة، ولكنهم يجيدون الرماية.

ولايات الحبشة

تتألَّف بلاد الحبشة من ثلاث عشرة ولاية، لكلٍّ منها ملك يلقَّب بالرأس، وهو حاكم الولاية القائم بشئونها الإدارية والسياسية تحت إشراف الإمبراطور أو النجاشي، وهناك ألقاب أخرى؛ وهى: دجاج ودجاز وداز جماح دفيتواري وقيفا زماج، وغير ذلك من الألقاب، وتتألَّف من تلك الممالك الصغيرة إمبراطورية ذات شأن عظيم، ويلقَّب الإمبراطور هناك بالنجاشي، وهو لقب كلقب بطليموس عند دولة البطالسة، وقيصر عند الروس، وشاه عند العجم، وباي تونس عند التونسيين، وخديوي عند ولاة مصر سابقًا.

وللحبشة لقب ثانٍ، وهو منليك، إلا أنه يقصر على الملوك من سلالة نبي الله سليمان — عليه السلام — لأنه تزوج بلقيسًا ملكة سبأ، ولما رُزق منها بولد قال لها: «مني إليك»، فمزجت الجملتان فصارت «منليك»، وجاء في رحلة الدكتور محمد نيازي الذي كان طبيبًا لأحد الآلايات المصرية في سنة ١٢٨٢ﻫ بالسودان، قال: سمعت من أحد الأطباء الإفرنج يقول إنه قرأ في بعض المؤلفات القديمة أن ذلك المولود الذي هو منليك الأول بن سليمان كانت بلقيس تخاف عليه من قومها، فبعثته إلى مدينة سوبا ليربَّى بها، وسمِّيت المدينة سبأ، ثم حُرِّف الاسم إلى سوبا لتقادم الزمان، وقد تبوَّأ عرش الحبشة كثير من الملوك، فلا حاجة إلى بيان أسمائهم وزمن ولاية كل منهم تجنبًا للتطويل.

القضاء في الحبشة

ويقول الأديب محمد عبد الرحيم: «إنه بالرغم عن كساد الثقافة الحبشية، وبوار سوق العلوم العقلية والنقلية، فإن القضاء سائر بطريقة كافلة للحقوق المدنية والاجتماعية، والقائمون به يؤدونه بأمانة ونزاهة جديرتين بالإعجاب، حتى كان كلٌّ آمنًا على حقه، وكلٌّ بما فعلت يداه رهين، وما كان للحبشة نواميس شرعية ولا قوانين وضعية فيما يختص بالمعاملات القضائية، بل كان القضاء يسير مع العرف إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، وهناك قام أحد رجال الدين المسيحي — المدعو أسعد عسال القبطي — ووضع للحبشة قانونًا نسَّقه تنسيقًا بديعًا، قسمه على قسمين: الأول منهما يختص بالكنيسة وتعاليمها الدينية، وقد لُخص ذلك من تعاليم المذهب الأرثوذكسي والديانة الإسرائيلية، والثاني في المعاملات، وكان مرجعه فيه كتاب التنبيه لأبي إسحق الشيرازي في فقه السادة الشافعية، وقد أطلق على هذا القانون اسم «فتانفوس»، وقد صدَّق جلالة الإمبراطور على المعاملة به في جميع أنحاء الأقاليم الحبشية.

أما المسئولون عن تنفيذه في القرى هم أكبر سكانها سنًّا وأكثرهم حنكة، وفي العواصم الرءوس ما عدا «أديس أبابا» التي يباشر القضاء فيها جلالة الإمبراطور بنفسه، وهو يجلس في ساحة مكشوفة، ثم تُرفع على رأسه مظلة كبرى «شمسية» كملوك الفور وواداي، ويجلس عن يمين الإمبراطور ١٢ رجلًا، وعن شماله ١٢ رجلًا من أعيان المملكة الذين يشترط أن يكون فيهم رئيس الكهنة بردائه الكهنوتي، ويحمل القانون المسمى «فتانفوس» كاهن آخر، ثم يؤتى بالمتقاضين فيقفون صفًّا أمام الإمبراطور على بعد ٣٠ مترًا منه، ثم يؤذن لهم في عرض ظلامتهم على هيئة القضاء، فينادي المظلوم بأعلى صوته قائلًا: «جاتهوه جاتهوه»؛ أي: يا حضرة الإمبراطور، يكررها سبع مرات، وذلك بين دائرة من جنود الحرس المدججين بالسلاح، والناس في سكون شامل لهيبته.

ومن المألوف في الحبشة نظام التحكيم، وكثيرًا ما يلجأ المتخاصمان إلى رجل محترم في الطريق يحتكمان إليه وينزلان عند حكمه.

(٦-٧) إيطاليا والحبشة: الجيش الإيطالي

منذ بعيد تستعد إيطاليا لغزو الحبشة، وقد بلغ ما أرسلته من الجنود إلى إرتريا حتى آخر سبتمبر سنة ١٩٣٥ ربع مليون جندي إيطالي، مرت من قناة السويس على سفن حربية إيطالية، ومعها ستمائة طائرة، ومدافع كثيرة رشاشة، وسيارات مدرعة، هذا عدا الجيش الإيطالي الذي في شمال إيطاليا وعدده ٥٠٠ ألف، وعدا الجنود الوطنيين.

بدأت إيطاليا استعمارها الإفريقي بإنشاء شركة إيطالية اشترت ثغرًا صغيرًا يدعى «عصب» سنة ١٨٦٩ من شيخها، وكانت من أملاك الباب العالي التركي، فاحتج على هذا البيع، وعده باطلًا لصدوره من غير مالك، ولكن الشركة الإيطالية «شركة روباتينو» نزلت عن «عصب» إلى الحكومة الإيطالية التي أرسلت بعض التجار الإيطاليين للإقامة بها، وعلى رأسهم «الكونت أنتونيللي» الذي عقد مع إمبراطور الحبشة منليك الثاني معاهدة صداقة، واحتلت إيطاليا ثغر مصوع وجزرًا غيرها، وتألفت مستعمرة إرتريا، منتهزة فرصة الثورة المهدية في السودان وضعف مصر، وسعى كل من إنجلترا وفرنسا لتقسيم إفريقيا الوسطى والشرقية.

وواصلت إيطاليا احتلال بلاد الحبشة، وطلب الإمبراطور منليك إلى الجنرال (جيته) الإيطالي إخلاء البلاد، وضم منليك (هرر) إلى أملاكه، ووقعت حرب بين الرأس ألولا وهزم الجيش الإيطالي في يناير سنة ١٨٨٧ على مقربة من دوجالى، فأرسلت الحكومة الإيطالية في أواخر سنة ١٨٨٧ جيشًا عدده (٢٥) ألفًا؛ نصفه من الإيطالين والباقين من الأهلين، واحتل الجيش «صاتى».

وقد حدث في أثناء ذلك أن الملك يوحنا انتقض على إمبراطور (القلابات) منليك الذي حارب جنود المهدي، وقُتل في مارس سنة ١٨٨٨، وانهزمت جنوده بعد انتصارها في حياته.

وقد عقدت إيطاليا مع (منليك) معاهدة أوتشيالي، وبناء عليها قَبِل الإمبراطور أن تكون حكومة إيطاليا وسيطًا بين الحبشة والدول الأجنبية في جميع المسائل.

وقد كتبت هذه المعاهدة من نسختين؛ نسخة باللغة الحبشية ونسخة باللغة الإيطالية، والنسخة الحبشية تقول: «يجوز لجلالة الإمبراطور أن يتخذ وساطة حكومة جلالة ملك إيطاليا سبيلًا إلى تسوية جميع المسائل المتعلقة بالدول الأجنبية.»

فأما النسخة الحبشية فتقول «يجوز»، والنسخة الإيطالية تقول: «يوافق إمبراطور الحبشة … إلخ»، وقد وقَّع منليك النسخة الحبشية ولم يوقِّع على النسخة الإيطالية، وفي ١٢ فبراير سنة ١٨٩٣ أبلغ منليك الثاني الدول بأنه غير مرتبط بالمعاهدة الإيطالية التي نشرتها إيطاليا وفسرتها على أنها جعلت الحبشة تحت حمايتها.

غضبت إيطاليا من الحبشة، وزحفت جنودها بقيادة الجنرال باراتيري فاحتلت كسلا من بلاد السودان سنة ١٨٩٤، ثم تقدمت إلى الحدود الحبشية، فانتصرت الجنود الإيطالية على جيش الرأس مانجاشا سنة ١٨٩٥، واحتلت أديجران وميكالي وأمبا ألاجي، ولكن منليك تقدم بجيشه ومعه الرأس ماكونن فهزم الجيش الإيطالي شرَّ هزيمة، وقتل منه ألوفًا، وغنم ذخائره، وانتحر القائد الإيطالي الماجور توسلي، وانسحب الإيطاليون.

وطلب منليك أن تدفع إيطاليا له فورًا ٢٥ مليون ريال حبشي حتى يقبل وَقْفَ الحرب وعَقْدَ الصلح الذي عرضه القائد العام للجيوش الإيطالية في إفريقيا، وهو الجنرال باراتيري، ولكن إيطاليا رفضت الصلح على هذه الشروط، فاستعد الجيش الإيطالي للحرب، وقسَّم نفسه إلى أربعة أقسام أحدقت بها الجيوش الحبشية وهزمتها.

وأعاد براتيري تنظيم الجيش الإيطالي وهجم على (عدوة)، التي وقعت فيها الموقعة المشهورة، وقُتل الجنرال أريمندي والجنرال دامبراميدا، وأُسِر الجنرال ألبريتوني، وأصيب الجنرال أنلينا بجرح خطير، وغنمت الحبشة ٧٢ مدفعًا وذخائر وأعلامًا إيطالية، و٧٠٠٠ أسير، وقتل وجرح ١٠٠٠٠ إيطالي.

وهرب باراتيري، وواصل منليك زحفه، ودخل إرتريا واستولى على حصن «أدي أوجري»، وحاصر الجنرال برستناري، وحمله على التسليم في مايو سنة ١٨٩٦.

وعيَّنت الحكومة الإيطالية الجنرال بالديسيرا، وأراد أن يتقدم بجيش عدده ٣٠ ألف جندي، ولكنه وجد الهزيمة محققة، وأشار على حكومته بالصلح، فذهب وفد إيطاليا في ٢٦ أكتوبر سنة ١٨٩٦ إلى أديس أبابا، حيث عقدت معاهدة بين إيطاليا والحبشة اعترفت فيها إيطاليا باستقلال الحبشة استقلالًا تامًّا.

على أن الإيطاليين لن ينسوا موقعة عدوة وهزيمتهم الهائلة، ومن أسباب استعدادهم الحربي الحاضر الرغبة في غسل الإهانة التي لحقتهم بهزيمتهم في عدوة.

وقد تسلَّم منليك غرامة قدرها ٧٠٠٠٠٠ جنيه إنجليزي، وأطلق سراح الأسرى الإيطاليين، وكان عقد المعاهدة في أديس أبابا في ٢٦ أكتوبر سنة ١٨٩٦، وعقدت بعدها معاهدات واتفاقات أخرى في صدد تحديد التخوم بين الحبشة وإرتريا.

موسوليني والحرب

وقد صرَّح السنيور موسوليني علنًا أنه يريد الاستيلاء على الحبشة كلها، وأنه لا بد من محاربتها، وأنه لن يمسك عن الحرب أمام أي قرار من عصبة الأمم أو سواها، وأنه لا يمنع الحرب إلا شيء واحد، هو أن تسلم الحبشة نفسها لإيطاليا بغير قتال.

(٦-٨) الاتحاد بين الحبشان

جمعت الحرب الحبشية القادمة بين القلوب المتنافرة وبين رءوس الحبشة المتنافسين، وقد تحمسوا للدفاع عن الوطن، وقد عني الإمبراطور بكسب رضاء المسلمين من رعاياه، وقد أصبحوا يدًا واحدة مع إخوانهم.

(٦-٩) الجاليات الأجنبية

بالحبشة جاليات أجنبية من جميع الجنسيات، ومنها جاليات عربية ولبنانية وسورية ويونانية وأرمنية، وأكثر أفرادها تجار، ومنهم من جمع ثروة كبيرة وأنشأوا المدارس.

(٧) البعثات في الحبشة

في الحبشة بعثات تبشيرية لمختلف الأديان، ولا سيما البروتستانتية الأمريكية، وبعثات تجارية لمختلف الدول، وقد عقدت البعثة الإنجليزية الذي كان يرأسها السير رنل رود معاهدة صداقة مع الحبشة في ١٥ مايو سنة ١٨٩٧، وللبعثات مدارس ومستشفيات وملاجئ.

ورأس الدجاز «تاساما» بعثة أوربية في عضويتها مسيو فايفز، ومسيو بوتو السويسري، ومسيو أرتومونوف الروسي، واجتازت الحبشة إلى نهر النيل عند مصب نهر السوباط في يونية سنة ١٨٩٨، وبعد أيام وصل إليه الماجور مارشان الذي صار جنرالًا فرنسيًّا، وهو صاحب مسألة فاشودة.

عينت الدول ممثلين لها في العاصمة الحبشية، فكان السير هارنجتن قنصلًا جنرالًا لإنجلترا فوزيرًا مفوضًا.

وعقدت بعثة أمريكية سنة ١٩٠٣ معاهدة تجارية بين الولايات المتحدة والحبشة، وعقدت بعثة ألمانية سنة ١٩٠٥ معاهدة تجارية مع الحبشة، وعُيِّن وزير مفوض ألماني لدى إمبراطور الحبشة.

وقد وضعت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا اتفاقًا في ديسمبر سنة ١٩٠٦ جاء فيه: «إن مصالح هذه الدول الثلاث تقضي بالمحافظة على سلامة أملاك إيتيوبيا»، وقضت المادة الأولى من الاتفاق على التعاون بينهم في المحافظة على كيان إيتيوبيا من الوجهة السياسية وسلامة أراضيها، ونصَّت على أنه إذا وقعت طوارئ تخلُّ بالكيان السياسي للحبشة فإن هذه الدول تتفق على صيانة مصالحها الخاصة، وقد تم الاتفاق في شهر يولية في سنة ١٩٠٦، وأبلغ في الحال إلى النجاشي، وقد رد الإمبراطور منليك على تبليغ الدول بأنه يشكر لها نيَّاتها الطيبة، ويشترط أنه لا يكون من شأن هذه الاتفاقية الحدُّ من حقوق سيادته، ثم عين في شهر يونية سنة ١٩٠٨ حفيده ليج ياسو وليًّا لعهده.

(٨) السكة الحديدية ودوليتها

وقد تقرَّر في الاتفاقية المذكورة أن تكون السكك الحديدية في الحبشة دولية، وليس في الحبشة سوى سكة حديدية واحدة بين أديس أبابا وميناء جيبوتي الواقع في الصومال الفرنسي، ولا تسير القطارات إلا نهارًا، وتقف عند إحدى المحطات ليلًا، ويستغرق مسيرها بين جيبوتي وأديس أبابا ستة أيام.

١  راجع البلاغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤