المقدمة

عندما وضع أرسطو تصنيفه للعلوم ميَّز بين ما كان علمًا نظريًّا غايته المعرفة؛ كالفيزيقا والرياضيات والفلسفة الأولى، وما كان منها عمليًّا غايته السلوك؛ مثل الأخلاق والسياسة، وما كان منها إنتاجيًّا غايته إنتاج شيء جميل أو مفيد؛ مثل فن الشعر. أما المنطق فلم يذكره ضمن هذه العلوم. ولعل السبب في عدم اعتباره المنطق علمًا من العلوم هو أن موضوعه أوسع من أي منها؛ لأنه يدرس التفكير الذي يستخدم فيها جميعًا، بل يدرس أيضًا التفكير الذي لا يدخل نطاق العلم؛ كالتفكير الشائع عند جمهور الناس والذي يستخدم في الخطابة. كذلك يقدم المنطق القواعد التي تجنب الإنسان الخطأ وترشده إلى الصواب. ومن هنا فقد عُد المنطق عند فيلسوفنا مقدمة للعلوم تساعد على التفكير السليم.

ويقال عن أرسطو: إنه واضع علم المنطق. ولهذا القول ما يبرره، ولكن هذا ليس معناه أن فيلسوفنا درس المنطق في ذاته بوصفه علمًا مستقلًّا، وإنما استعمله فقط، وبحث فيه، كأداة للبرهنة في بقية العلوم، ولهذا كان اتجاهه الحقيقي في بحوثه المنطقية يميل إلى بيان طرق البرهنة. أما المنطق كما يجب أن يكون، أي بوصفه علمًا مستقلًّا بذاته، فلم يبحث فيه، وذلك لأن الجزء الرئيسي من منطقه يتعلق بالأنالوطيقا، أي بالبرهنة بنوعيها؛ سواء فيما يتعلق بالقياس، وفيما يتعلق بالبرهان.

إن مشاكل المنطق الأرسطي، ترجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وإنه ليس صحيحًا ما يذكره أرسطو عن نفسه في آخر كتاب «الأغاليط» من أنه واضع المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان. إلا أن يكون معنى ذلك أنه أول من رتب مباحث المنطق الصوري وصاغها على هذه الصورة النهائية التي وصلت إلينا، وكانت مشكلاته قد تفتحت في وقت مبكر قبل أرسطو.

ولقد شهدت معظم كتابات مؤرخي المنطق في أواخر القرن التاسع عشر اهتمامًا كبيرًا بالمنطق الهندي؛ إذ أدرك هؤلاء المؤرخون أن الهنود القدماء، قد قدموا أفكارًا منطقية لا تقل أصالة عما قدمه «أرسطو» في نظريته المنطقية، وأنه إذا كان المنطق الأرسطي قد تمثلته أوروبا الغربية والشرقية، ومناطقة العرب والمسيحية فيما بعد؛ فإن المنطق الهندي قد انتشر في الصين واليابان ومنغوليا وسيلان وإندونيسيا.١

ومن هذا المنطلق فقد حاولنا في هذا الكتاب أن نتلاشى عيبًا خطيرًا يكاد يميز غالبية الكتب التي وضعت في المنطق الصوري باللغة العربية أو بغيرها من اللغات الأوروبية. ذلك أن كثيرين ممن كتبوا في المنطق الصوري القديم يصدرون في دراساتهم له — صراحة أو ضمنًا — عن فكرة خاطئة عقلًا ونقلًا، خلاصتها، أن أرسطو هو الذي خَلق من العدم هذا العلم، وهو الذي صاغه الصياغة النهائية التي بدا معها في نظر الفيلسوف الألماني «كانط» في القرن الثامن عشر، وقد قيلت فيه الكلمة النهائية منذ أيام أرسطو نفسه. والدليل على هذا أنهم يبدءون دراستهم للمنطق الصوري من أرسطو، متجاهلين دور المفكرين الشرقيين وبخاصة الهنود، ومتناسين أهميتهم في الإعداد لقيام علم المنطق فيما بعد.

وقد تميزت قضايا المنطق الصوري القديم بالخصوبة والأصالة، وفي هذا قسمت الدراسة إلى قسمين: القسم الأول، ويتناول قضايا وموضوعات المنطق الصوري القديم من خلال خمسة مباحث، المبحث الأول: المنطق: مفهومه وفائدته وعلاقته بالعلوم الأخرى، والمبحث الثاني: الحدود، والمبحث الثالث: القضايا، والمبحث الرابع: الاستدلالات المباشرة، والمبحث الخامس: الاستدلالات غير المباشرة. في حين جاء القسم الثاني في شكل قضايا وإشكاليات لأبحاث ودراسات قمت بإعدادها أثناء مرحلة «أستاذ مساعد»، وفيها حاولت قدر المستطاع أن أتناول موضوعات غير مطروقة في مجال المنطق الصوري، فتناولت بالتفصيل في المبحث الأول قضية «مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي»، وفيه توصلت لنتائجَ مذهلةٍ أكدَت بالدليل القاطع مدى أصالة المنطق الهندي، ثم تناولت بعد ذلك في المبحث الثاني قضية «المغايرة النسقية في التحليلات الأولى الأرسطية»، وفيه حاولت أن أطبق هذا المبدأ المعرفي الذي دعا إليه شيخ الإبستمولوجيين المصريين الدكتور «حسن عبد الحميد»، حين أعلن في رائعته الفلسفية الخاصة عن التفسير الإبستمولوجي لنشأة العلم أن: «العلم يمر في انتقاله من مستوى الممارسة التلقائية العفوية إلى مستوى الصياغة النظرية لقواعد العلم.»٢ الأمر الذي قد يُحدث نوعًا من المغايرة النسقية.
كما تناولنا في المبحث الثالث قضية «النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري الرواقي»؛ لنبين أن المنطق الميجاري-الرواقي ليس شيئًا آخر سوى تقليد ممسوخ أو محاكاة مشوهة لمنطق أرسطو، بل إن «للرواقيين إضافات منطقية عديدة، منها: أنهم أول من خططوا بداية مذهب الاستدلالات الشرطية، فبحثوا في القضايا الشرطية المتصلة بنوعيها، كما صاغوا — لأول مرة — القضايا الشرطية المنفصلة بنوعيها، ووضعوا قواعد صدقها وكذبها، كما طوروا استخدام الرموز، فوضعوا رموزًا للمتغيرات كعناصر للقضايا، كما عرفوا عددًا كبيرًا من الثوابت المنطقية، ولم يقتصروا على ثابت التضمن (اللزوم) فقط، ووضعوا تعريفاتها؛ ولكنهم لم يضعوا لتلك الثوابت رموزًا، كما أدت دراستهم للثوابت إلى دراسة القضايا المركبة وقواعد صدقها وكذبها؛ كما أضافوا أثرًا آخر حين انبثقت عنهم أول بادرة لتصور المنطق نسقًا استنباطيًّا؛ وذلك بأن وضعوا بعد التعريفات قضايا أوليةً لا تقبل البرهان، وأمكنهم بفضلها استنباط قضايا أخرى، وفي هذا الصدد يمكن القول بأنهم فتحوا الطريق أمام المحدثين لإقامة حساب القضايا.»٣
وفي دراسة أخرى عرضنا في المبحث الرابع لإشكالية لم تُطرق من قبل، ألا وهي «الاستدلالات المنطقية في طوبيقا شيشرون» لنكشف من خلالها عن أول محاولة لتطبيق عملية المزج بين أفكار المشائية-الرواقية على يد «ماركوس تيلليوس شيشرون» Marcus Tullius Cicero ذلك المفكر الروماني التوفيقي الذي أراد تثقيف مواطنيه بعلوم اليونان وفلسفتهم إبان القرن الأول قبل الميلاد. وقد جاءت هذه المحاولة في رسالة صغيرة له بعنوان «الطوبيقا» Topica. وقد دونها شيشرون تحت طلب صديقه الفقيه «تريباتيوس» Trebatius؛ لكي يشرح له كيفية الاستفادة من طوبيقا أرسطو في استخلاص الأحكام القانونية.٤
وقد ذهب بعض الباحثين من أمثال «وليم نيل» إلى أن «طوبيقا شيشرون» لا ترجع أهميتها إلى ما فيها من أصالة وجدة في تطور المنطق، بقدر ما هي إلا تجميع واضح لتعاليم المنطق اليوناني؛٥ «ومع ذلك فقد كان لها فضل لا يمكن إنكاره». وهو كما يقول جورج سباين: «إقبال الناس على قراءة كتبه والإحاطة بما تضمنته، فكان مجرد فكرة لشيشرون كفيلًا بأن يخلدها على مدى الزمن.»٦

وفي النهاية أتمنى أن يكون هذا الكتاب قد حقق ما كان يهدف إلى تحقيقه؛ حتى يكون ثمرة من ثمار الفكر المفيد في الدراسات التي تهتم بجذور المنطق اليوناني في المنطق الهندي.

والله ولي التوفيق.

أ.د. محمود محمد علي محمد
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة أسيوط
١  ماكلوفسكي، ألكسندر: تاريخ علم المنطق، ترجمة: نديم علاء الدين وإبراهيم فتحي، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨٧م، ص١٤.
٢  انظر تفاصيل ذلك في رائعته التي كتبها بعنوان: التفسير الإبستمولوجي لنشأة العلم، ضمن كتاب الإبستمولوجيا الذي قام بتعريبه عن الفرنسية لروبير بلانشي، الدار الفنية، القاهرة، بدون تاريخ.
٣  د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي، نشأته وتطوره، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ١٩٧٩م، ص٤٩-٥٠.
٤  Cicero, Topica, vol. 2, Trans. by H. M. Hubble, William Heinemann Ltd., London, I, I – H.
٥  W. Kneale, M. Kneale, The Development of Logic, Clarendon Press, Oxford, 1966, p. 177.
٦  جورج سباين: تطور الفكر السياسي، الكتاب الثاني، ترجمة: حسن جلال العروسي، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٤م، ص٢٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤