المنطق، مفهومه وفائدته وعلاقته بالعلوم الأخرى
أولًا: ولكن … ما المنطق؟
وبهذه التفرقة أعطوا الكلمة مدلولها الأصلي والاصطلاحي معًا، وهي تفرقة ترجع بدورها إلى أرسطو نفسه.
والآن وبعد هذه الإشارة السريعة للأصل الذي اشتق منه لفظ «منطق»، كيف يمكننا تعريف هذا العلم؟
فإنه لمن الصعب تمامًا إعطاء تعريف دقيق ومختصر للمنطق يكون موضع إجماع الفلاسفة في القديم وفي الحديث، والسبب في ذلك هو أن معاني وتعريفات المنطق قد تعددت على نحو يسمح لنا بالقول بأنه لا يوجد فرع من فروع المعرفة الإنسانية قاطبة قد تعددت معانيه كما تعددت معاني وتعريفات المنطق. ألم يستخدم لفظ منطق ليدل — في بعض الأحيان — على كل ما تعنيه الفلسفة، بل على كل ما تعنيه المعرفة الإنسانية قاطبة؟ ألم يطلِق هيجل لفظ «منطق» على كل المعارف التي تمتد من دراسة الميتافيزيقا حتى الإستاطيقا (علم الجمال أو منطق الجمال كما يحلو لشيخ الفلاسفة الألمان أن يسميه)، مارِّين بعلم النفس، ونظرية المعرفة والرياضيات … إلخ؟
والسؤال الآن — وبعد هذا التحديد الأولي لميدان دراستنا — هو: كيف نُعرِّف المنطق؟
- (١) تعريف أرسطو: يعرف أرسطو المنطق بأنه: آلة العلم، وموضوعه الحقيقي هو العلم نفسه، أو هو صورة العلم. وهذا هو التصور القديم للمنطق، وقد أثر تعريف أرسطو للمنطق في العصور الوسطى إسلامية ومسيحية. فردد الإسلاميون التعريف كما هو، وكذلك فعل المسيحيون.٦
- (٢) تعريف ابن سينا: فنرى شارح أرسطو العظيم ابن سينا (ت٤٢٨ﻫ) يعرف المنطق بقوله: «إنه الصناعة النظرية التي تعرفنا من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدًّا، والقياس الصحيح الذي يسمى بالحقيقة برهانًا».٧ وهذا التعريف أرسططاليسي بحت، يتضمن تفسيرات المعلم الأول للمنطق كما يتضمن تقسيماته له. وتفسير تعريفه أننا إذا وصلنا إلى التعرف التام بواسطة الحد، وصلنا إلى أولى درجات العلم، وإذا وصلنا إلى القياس البرهاني، وصلنا إلى غاية العلم نفسه.٨
- (٣) تعريف الساوي: ولم يختلف «ابن سهلان الساوي» (ت ٤٥٠ﻫ) صاحب البصائر التعبيرية عن هذه التعريفات السابقة، فيقول: «إن المنطق قانون صناعي عاصم للذهن عن الزلل، مميز لصواب الرأي عن الخطأ في العقائد للتوصل إلى السعادة الأبدية».٩ إن تحديد الساوي للمنطق بأنه قانون صناعي يدل دلالة واضحة على الاتجاه العملي للمنطق عنده. ولكن هل معنى هذا أن المنطق عنده فن لا علم؟ لن نبحث الآن في هذه المسألة، بل سنبحثها فيما بعد. إنما نلاحظ على ما ذكره الساوي مسألة توافق العقول السليمة. هل حقًّا تتوافق العقول السليمة أم لا تتوافق؟ إن هذه المشكلة أخذت صورًا متعددة من الخلاف، بعضها منطقي، وبعضها ميتافيزيقي. أما من الناحية المنطقية فلم تعد لكثير من القوانين المنطقية التي سلم بها العقل منذ القدم صحتها ويقينها، بل إن قوانين الفكر الأساسية، وهي مبادئ بديهية، وضعت موضع النقد، وتناولها المناطقة الرياضيون المحدثون من وجهة نظر مخالفة للمنطق القديم، وشك فيها المسلمون من قبلُ وخرجوا في كثير من أبحاثهم عليها، والقياس وصورته اليقينية (البرهان) هوجم في العصور الوسطى من المسلمين، كما هاجمه المحدثون من المناطقة الأوروبيين. أما من الناحية الميتافيزيقية، فقد اختلف العلماء المعاصرون في فرنسا في مسألة اتفاق العقول وتطورها. هل تتفق حقًّا أو لا تتفق؟ وهل تتجه في تطورها نحو المتماثل أو نحو المتباين؟ نحو الوحدة أو نحو التعدد؟والملاحظة الثانية، على ما يذكره الساوي: هو أنه يعتبر المنطق عاصمًا للذهن من الخطأ في العقائد، والعقائد هنا، هي ما يعتقده الإنسان من أفكار على العموم، ولا يقصد بها المعنى الاصطلاحي لكلمة العقائد. والتعريف في جوهره أرسططاليسي، وإن شابته شائبة رواقية.١٠
- (٤) تعريف الغزالي: أما الغزالي فيحدد المنطق بقوله: «المنطق هو القانون الذي يميز صحيح الحد عن غيره، فيتميز العلم اليقيني عمَّا ليس يقينيًّا، وكأنه الميزان أو المعيار للعلوم كلها».١١ وقد سيطر تعريف الغزالي هذا للمنطق على تعريفه له في كتبه الأخرى، بحيث نراه واضحًا في معيار العلم ومقدمة المستصفى ومحك النظر، إذ إنه عالج المنطق في هذه الكتب، في ضوء هذا التعريف، على أنه قانون وآلة يتميز بهما صواب الفكر عن خطئه.١٢
- (٥) تعريف القديس توما الإكويني: ويعرف شيخ الفلاسفة الغربيين في العصور الوسطى المنطق بأنه ذلك الفن الذي يؤهلنا لامتلاك المعرفة بنظام وسهولة، وبدون خطأ في العمليات العقلية.١٣
- (٦) تعريف آخر فلاسفة مناطقة بورت رويال Port Royal، وهو التعريف الذي اشتهر عن المنطق إبان القرن السابع عشر، والذي افتتح به فلاسفة هذه المدرسة كتاباتهم المعروفة باسم «المنطق أو فن التفكير». ذهب أعلام هذه المدرسة إلى أن «المنطق هو فن استخدام عقولنا استخدامًا سليمًا في معرفة الأشياء، سواء كان ذلك من أجل تعليم أنفسنا أو بهدف تعليم الآخرين.»١٤ وهذا التعريف هو الآخر غير دقيق، فليس المنطق فنًّا يختص بالاكتشاف والبرهنة. إن المنطق علم نظري يهتم — كباقي العلوم النظرية، وبالأخص الرياضيات — بالناحية الصورية التي لا تكترث بالتطبيقات العملية.١٥
- (٧) ويُعرف المنطق عند جيفنوس Jevons بأنه علم قوانين الفكر، وعند هاملتون Hamilton بأنه علم قوانين الفكر كفكر، وعند كينز Keynes بأنه علم المبادئ العامة للتفكير الصحيح، وهو في نظر أمثال رابييه Rabier نتيجة لانعكاس العقل على ذاته، مستخلصًا منها ما تخضع له استدلالاته، التي قد تتفق مع الواقع، لذلك فهو يعبر عن اتفاق العقل مع ذاته، واتفاق العقل مع الأشياء.١٦
- (٨) ويعرف المنطق بأنه دراسة القواعد والطرق والمبادئ المستخدمة في تمييز الاستدلال الصحيح من الفاسد.١٧ ولكن هذا التعريف ليس دقيقًا، فقد يوحي بأن المرء لا بد من أن يصبح بدراسة المنطق قادرًا على أن يستدل استدلالًا حسنًا، وهذا ليس هو الواقع. فالشخص الذي يدرس المنطق يكون أكثر احتمالًا فقط لأن يستدل استدلالًا أكثر صحة منه عندما لا يكون لديه فكرة عن القواعد العامة المتضمنة في تلك الاستدلالات.١٨
- (٩) ويعرف المنطق عند وولف Wolf بأنه دراسة القواعد الهامة للاستدلال الصحيح، كما أنه الاستدلال الصحيح.١٩ وهذا التعريف أحسن بكثير من التعريفات السابقة، ولكنه ما زال غير دقيق، وغير كافٍ لتحديد موضوع المنطق، وفصل مجاله عن مجال علم النفس. وذلك لأن الاستدلال نوع من التفكير، ينطوي على استنتاجات وعلى استخلاص نتائج من مقدمات، يهتم علم النفس بالنواحي المعقدة والغامضة فيه، التي تعتمد على عمليات المحاولة والخطأ، والتي قد تنتهي بومضات واستبصارات مفاجئة، تنير الطريق إلى ما قد يعتبر نتيجة. وليس لذلك أهمية بالنسبة للمنطقي، لأنه لا يهتم بالعمليات التي تجري في الظلام، والتي يصل العقل بها إلى نتائجه، إنه يهتم فقط بصحة العملية الاستدلالية في جملتها أو بصحة صدور النتائج عن المقدمات، التي هي نقط بدايات أكيدة لها، تتضمنها وتبرهن عليها.٢٠
هل المنطق علم أم فن؟
قوانين الفكر الأساسية
يبحث علم المنطق في قوانين الفكر الإنساني، والمبادئ العامة للتفكير الصحيح ووضع القواعد التي بفضلها نتجنب الوقوع في الأخطاء. يكتشف علم المنطق أن الإنسان في تفكيره يخضع لقوانين أساسية لا يستطيع أن يثبت فيها، كما أنه لا يستطيع أن يفكر بدونها، وقد نادى أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) بثلاثة قوانين أساسية للفكر الإنساني: قانون الذاتية أو الهوية، وقانون عدم التناقض، وقانون الثالث المرفوع.
-
(١)
قانون الهوية: قانون الهوية من البساطة بحيث قد يبدو تافهًا لا يستحق الإشارة إليه؛ إذ ينطوي على أن شيئًا ما أو فكرة ما هي ذاتها، ولن تكون شيئًا أو فكرة غيرها، كقولي: الباب هو الباب، شجرة الأرز هي شجرة الأرز؛ حين نتحدث عن باب أو شجرة ما، إنما تعني الحديث عنها، ولم نتحدث عنها ونقصد في نفس الوقت الحديث عن شيء آخر. ولعل مثلًا لمبدأ الهوية بوضوح أكثر من المثالين السابقين أن نقول: الحرب الباردة حرب، أو الطالب المهمل طالب؛ أن وسائل الدعاية التي تنشرها دولة ما على عدوة لها حيث تقصد إلى التشهير بها أو الضغط عليها أو عزلها … إلخ ما زالت تسمى حربًا وإن لم تنطو على حرب فعلية تُستخدم فيها وسائل تدمير المدن وفناء أهلها، ويعبر عن قانون الهوية بقولنا: إن «أ هي أ»، أو: القضية الصادقة تظل صادقة دائمًا … إلخ.
وقانون الهوية يعبر عنه بتعبيرات متعددة، أهمها: أ، أ = أ، وهو الشيء هو نفسه، إذا كانت القضية صادقة فهي صادقة … إلخ. وتدل جميع هذه التعبيرات على أن الهوية تعني أن للشيء ذاتيةً خاصةً يحتفظ بها دون تغيير، فالشيء إنما هو هو، فأنا الذي كنتُه أمس، سأكونُه غدًا، وهذا الكتاب هو نفس الكتاب الذي كنت أقرأ فيه صباح اليوم، ومعنى ذلك أن الهوية تفترض ثبات الشيء.٢٨ -
(٢)
مبدأ عدم التناقض: ويتضمن ألا نثبت صفة لشيء وننكرها عليه في نفس الوقت؛ مثل قولي: إن إبراهيم موجود في الجامعة وغير موجود في الجامعة في نفس اللحظة التي نتحدث فيها، أو أن السبورة سوداء ولا سوداء، أو أن فلانًا عالم ولا عالم في آن واحد. ونعبر عن مبدأ التناقض بقولنا: لا نستطيع أن نقول: أ هي ب ولا ب.٢٩وقانون عدم التناقض يصاغ بعدة صور أهمها: أ لا يمكن أن يكون ب ولا ب معًا، لا يمكن أن يكون أ موجودًا وغير موجود في نفس الوقت، لا يمكن أن تكون الصفتان المتناقضتان صادقتين معًا … فهذا القانون إذن ينكر إمكان الجمع بين الشيء ونقيضه، فلا يصح أن يصدق النقيضان، فليس صحيحًا القول: إن هذا الشخص طالب وليس بطالب، ويستحيل أن يصدق القول بأني في الحجرة وليس فيها، فالجمع بين المتناقضين أمر يرفضه العقل حتى من الناحية النظرية.٣٠وفي الوقت الذي يكاد يُجمِع فيه مؤرخو المنطق على أن أرسطو لم يعرف قانون الهوية، تجدهم على اتفاق على أن أرسطو قد عرف قانون عدم التناقض، وقدم له صياغات محددة. بل إن لوكاشيفِتش (شيخ المناطقة البولنديين) قد نشر في عام ١٩١٠م دراسة بعنوان «حول مبدأ عدم التناقض عند أرسطو»، يوضح فيها كيف أن المعلم الأول قدم ثلاث صياغات لهذا المبدأ تتعلق بتطبيقاته في ميادين المنطق والأنطولوجيا وعلم النفس.٣١
-
(٣)
قانون الثالث المرفوع: ويثبت أن ما يمكننا أن نثبت له صفة ما أو نقيضها، ولكن لا يمكننا إثبات صفة أخرى غير الصفة الأولى أو نقيضها؛ نقول: السبورة إما سوداء أو لا سوداء ولا يوجد لون ثالث، لاحظ أننا لم نقل: السبورة إما سوداء أو بيضاء؛ لأنه قد توجد سبورة خضراء، حين قلنا: إن السبورة سوداء أو لا سوداء فإن «لا سوداء» تتضمن اللون الأبيض والأحمر وسائر الألوان ما عدا الأسود. نقول أيضًا: فلان عالم أو لا عالم، إذا كنا نتحدث عن مقدار علم فلان فإنه ليس لدينا غير أن نثبت أنه عالم وأنه لا يعلم شيئًا، لا صفة ثالثة يمكننا أن نسندها إليه.٣٢ونلاحظ أن هذا القانون يقوم على حصر كل ما في الكون في فئة أو في نقيضها الذي يصدق على ما لا تصدق عليه الفئة، بحيث لا يبقى أي شيء في الكون، لا يندرج تحت الفئة أو تحت نقيضها، فليس هناك أي وسط بين الفئة ونقيضها، وليس هناك أي احتمال آخر يمكن أن يكونه الشيء، فيندرج تحت ثالث ليس هو الفئة وليس هو نقيضها، أو أن يتصف بصفة ثالثة ليست هي الصفة أو نقيضها. فهو يقرر مثلًا أنه ليس هناك ثالث ممكن بين الوجود والعدم، فالشيء إما موجود وإما غير موجود، أو بين الصدق والكذب، فالقضية إما صادقة وإما كاذبة.٣٣وقد دافع الرواقيون عن قانون الثالث المرفوع، وذلك لارتباطه بمبدأ الحتمية Determinism التي كانوا من أنصارها في موقفهم الفلسفي القائم على أن الكون محكوم بقانون القدر الصارم الذي لا يسمح بأي استثناء؛ إذ لا بد وأن تكون اختيارات الإنسان في الحياة اختيارًا لما هو ضروري. ولذلك نراهم يعلقون أهمية كبيرة على قانون الثالث المرفوع في الصورة الاستدلالية: إما الأول أو ليس الأول، واستخدموه في البرهنة على قانون النفي المزدوج أو تكافؤ القضية مع نفي نفيها، بالاستعانة باللامبرهنتين الرابعة (إما أن يكون الأول أو الثاني، ولكن الأول، إذن ليس الثاني)، والخامسة (إما أن يكون الأول أو الثاني، ولكن ليس الثاني، إذن الأول). ففي المبرهنة «إما الأول وإما ليس الأول، ولكن الأول، إذن ليس ليس الأول»، وصلوا إلى البرهنة على إدخال النفي المزدوج بالاستعانة باللامبرهنة الرابعة، أو بضرب النفي بالإثبات، وفي المبرهنة «إما الأول وإما ليس الأول، ولكن ليس ليس الأول، إذن الأول» وصلوا إلى البرهنة على حذف النفي المزدوج بالاستعانة باللامبرهنة الخامسة، أو بضرب الإثبات بالنفي، وبذلك برهنوا على قاعدتي النفي المزدوج.٣٤
تلك قوانين الفكر الأساسية التي يرى أرسطو أن الإنسان يسير في تفكيره على هديها. يمكن أن ترجع هذه القوانين الثلاثة إلى مبدأ الاتساق؛ أي إن المنطق يرشدنا إلى أن التفكير الصحيح هو ما كانت بعض أجزائه متسقة مع بعضها الآخر؛ بحيث لا ينقض بعضها بعضًا أو لا يأتي بعضها منكِرًا لبعضها الآخر. كما يدرس المنطق قوانين الفكر الأساسية، يدرس كذلك المبادئ العامة والقواعد الأساسية التي يفضلها تفكيرًا صحيحًا، وبفضلها نكشف الأخطاء ومواطن الزلل في التفكير. إذ بدون تلك المبادئ والقواعد لا نستطيع أن نميز التفكير السليم والتفكير الخطأ.
قيمة المنطق
قد يقال: إن كل إنسان يخضع في تفكيره لقوانين الفكر الإنساني الثلاثة بالفطرة، وبدون تعلم المنطق. أي لسنا محتاجين لتعلم المنطق لكي ندرك أننا نخضع في تفكيرنا لقانون عدم التناقض مثلًا. وقد يقال: إننا نستطيع أن نقوم باستدلالات صحيحة دون معرفة القواعد والمبادئ التي يوصي بها علم المنطق، بل قد يقال: إن بعض الدارسين للمنطق لا يفكرون دائمًا تفكيرًا منطقيًّا، وإن كثيرًا من الجاهلين بقواعد المنطق يفكرون تفكيرًا سليمًا. قد يكون هذا يُقال، ولكن علم المنطق يكشف لنا أنه كثيرًا ما نظن أن تفكيرنا متسق. بينما هو ليس كذلك، وأن تطبيق مبادئه وقواعده يؤكد لنا سلامة تفكيرنا، كما يكشف لنا أسباب الوقوع في الخطأ، من يخطئ في استدلاله ويعرف سبب خطئه خير ممن يخطئ ولا يعرف سبب خطئه.
- (١) إن غاية العلماء والمفكرين أن يكون تفكيرهم صحيحًا، خاليًا من التناقض، وأن تكون نتائج أبحاثهم سليمة بعيدة عن الخطأ، والعلم الذي يضع القواعد التي توصل إلى هذه الغاية هو علم المنطق.٣٥
- (٢) المنطق أساس العلوم جميعها، وذلك أن المنطق يبحث في قوانين الفكر، بقصد معرفة صحيحها من فاسدها. ولما كان الفكر أساس كل علم من العلوم، كان المنطق أساس العلوم جميعها، وخاصة في العصر الحديث، ذلك العصر الذي خاض المنطق فيه في جميع العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية؛ ذلك أنه هو العلم الذي يضع المناهج الخاصة بالعلوم، ويضع لأغلب العلوم مناهج خاصة بها، ومن هنا قيل: إن المنطق آلة العلوم ومعيار العلم.٣٦
- (٣) ولا تقف مهمة المنطق عند وضع القوانين العامة للفكر الإنساني لكي يسلم من الخطأ، بل إنه يقوم بتطبيق هذه القوانين العامة في مناهج البحث المختلفة، بحسب ما تقتضيه طبيعة كل منهج ويقصد إليه كل بحث.٣٧
- (٤) يميز الإنسان بواسطة قواعد علم المنطق العامة بين الصواب والخطأ، ويتبين مواطن الزلل في التفكير بواسطة هذا العلم.٣٨
- (٥) يربي المنطق في الإنسان ملكة النقد والتقدير الصحيح، ووزن البراهين، والحكم عليها بالكمال أو النقص.٣٩
- (٦) حصر الأخطاء المنطقية حتى نتمكن من سرعة اكتشافها.٤٠
علاقة المنطق بالعلوم الأخرى
وإذا نظرنا للمنطق، فإننا نجده — كغيره من العلوم — يرتبط بعلاقات وطيدة بغيره من المعارف الإنسانية الأخرى. وقد يحسن بنا ونحن بصدد التمهيد لدراسة موضوعات المنطق الصوري الأساسية أن نتعرض بشيء من الإيجاز للصلات التي تربط المنطق ببقية العلوم المختلفة.
أولًا: المنطق واللغة
ثانيًا: المنطق وعلم النفس
وبما أن المنطق يهتم بدراسة العمليات العقلية، فإنه من الطبيعي أن تكون هناك علاقة معينة تربطه بعلم النفس الذي يهتم هو الآخر بدراسة هذه العمليات. ومع التسليم بهذه الحقيقة، يهمنا أن نسجل منذ البداية أوجه الاختلاف التي تميز كلًّا من العلمين:
ثالثًا: المنطق والرياضيات
مباحث المنطق الصوري
وهنا يتساءل الدكتور حسن عبد الحميد: ما مغزى الترتيب الذي وصلتنا عليه مؤلفات أرسطو المنطقية؟
- (١)
منطق التصورات أو نظرية التصور: ويختص بمبحث الأسماء والألفاظ المعبرة عن التصورات التي يستخلصها عقلنا من إدراكه لأشياء مفردة. وبعبارة أخرى يبحث الحدود بدون اعتبار العلاقات التي قد تكون بينها. وهذا المبحث يؤدي إلى التعريف.
- (٢)
منطق التصديق أو نظرية الحكم: وهو يبحث في القضايا المعبرة عن الأحكام التي تتكون بإدراك عقلنا لعلاقات بين تصورين أو حدين، أو بعبارة أخرى يبحث في ارتباط فكرة بأخرى في صورة الحكم.
- (٣) منطق القياس أو نظرية الاستدلال: وهو يبحث في القياس وقواعده وأشكاله وضروبه التي يُرد بعضها إلى بعض، أو بعبارة أخرى يبحث في عمليات التزاوج بين قضيتين، تخرج منهما بنتيجة تجمع بينهما. وهذا المبحث يؤدي بنا إلى البرهان، الذي هو في نظر أرسطو قياس مقدماته صادقة ويقينية.٨٣
- (١)
التصور: وهو حصول صورة شيء ما في الذهن، أو تمثله دون أن يقترن هذا التمثل بحكم. ولذلك فهو الوحدة العقلية الأولى، وقد يكون التصور بديهيًّا واضحًا، يُدرَك إدراكًا مباشرًا بدون توضيح أو تعريف، وقد يكون نظريًّا تتوصل إليه بالحد.
- (٢)
التصديق: وهو ربط العقل بين تصورين، أو حكمه بأن أحدهما هو الآخر، أو ليس هو الآخر، وحكمه أيضًا هذا الحكم، أعني بمطابقة ما في الذهن للواقع الخارجي. وقد يكون بديهيًّا، يصدق به العقل بغريزته، بدون شهادة الحس وبدون حجة، تصديقًا دائمًا، وقد يكون نظريًّا نتوصل إليه بالحجة، أعني باستقراء أو بتمثيل أو بقياس.
- (٣) القياس: وهو الذي نكتسب به المعلومات التي تكون مجهولة، فتصبح معلومة، وبه نصل إلى مبادئ الوجود. وهو في حقيقته قضية مركبة من عدة قضايا.٨٤
أما نحن فإننا سوف نبدأ بدراسة الحدود، ثم القضايا، وننتهي بعرض الاستدلال مباشرًا أو غير مباشر.