المبحث الثاني

منطق الحدود

تعريف الحد

الحد لفظ أو عدة ألفاظ التي ينطق بها أو يفكر فيها وتدل على شيء، أو على نوع من الأشياء هي موضوع الحديث أو التفكير في سياق معين، فإذا كنا نتحدث عن الأنهار مثلًا لنميزها عن البحار أو الجبال كان «نهر» حدًّا، وإذا كنا نتحدث عن النهر الذي يشق مصر من جنوبها إلى شمالها كان «نهر النيل» حدًّا. «نهر»، «جبل»، «كلية»، «كلية الآداب»، «جامعة»، «جامعة الإسكندرية» … إلخ، نسمي كلًّا منها حدًّا، ويدرس المنطق أنواع الحدود فيصنفها أصنافا مختلفة على أسس أربعة:

أولًا: الحدود جزئية وعامة

يقال عن الحد: إنه جزئي، إذ من المستحيل أن ينطبق على أكثر من فرد واحد بعينه؛ مثل زيد، ونهر النيل، والقاهرة … إلخ فكل واحد من هذه الحدود لا يدل إلا على موضوع واحد، أعني لا يمكن حمله إلا على فرد واحد بنفس المعنى، فإذا قلت: «القاهرة» فإنك لا تستطيع أن تستخدم هذا الاسم بنفس المعنى إلا على مكان واحد محدود، وإذا قلت: «هذا الكتاب» فإنك إنما تحدد كتابًا معينًا، ولا يكون قولك مفهومًا إلا بالنسبة للشخص الذي تتحدث إليه ليعرف الكتاب الذي تعنيه، وكذلك إذا قلت: رئيس جمهورية مصر العربية الحالي، أو أطول نهر في العالم، أو أكبر المعمرين في مصر، فإنك تعني في كل حالة شخصًا معينًا، ولذلك فجميع هذه الحدود جزئية، وقد عرف بعض مناطقة العرب الحد الجزئي بقوله بأنه هو الذي يكون معناه الواحد لا يصلح لاشتراك كثيرين فيه البتة، مثل «زيد» إذا أريد به هذا المشار إليه جملةً لا صفةٌ من صفاته، فإن المفهوم منه لا يصلح البتة للشركة.١
أما الحد الكلي فيمكن أن ينطبق على أكثر من فرد واحد، أي يقبل أن يحمل على أي عدد من الأفراد بنفس المعنى، مثل: إنسان، ومعدن، وجبل. وقد عرَّف مناطقة العرب الحد الكلي على أنه هو الذي معناه الواحد في الذهن يصلح لاشتراك كثيرين فيه؛ كالإنسان والحيوان. فلفظ المعدن حد كلي لا يمكن أن ينطبق بمعنى واحد على الذهب والفضة والحديد والنحاس إلى آخر المعادن المعروفة، والتي يمكن اكتشافها ولا ينطبق هذا الاسم على معدن دون الآخر، بل ينطبق على جميع العناصر التي يكون لها الصفات الخاصة بالمعادن كما يعرِّفها علماء الكيمياء.٢
خلاصة القول يُسمَّى الحد جزئيًّا حين يشير إلى شيء معين في مكان وزمان محدودين، ويندرج تحت الحد الجزئي أسماء الأعلام جميعًا؛ أسماء أفراد الإنسان وأسماء المدن والدول والأنهار والجبال والبحار والأماكن المشهورة، ويُسمَّى الحد حدًّا عامًّا حين يدل على عدد معين من الصفات أو الخصائص يندرج تحتها عدد من الجزئيات يتميز عن الأنواع الأخرى «إنسان»، «أبيض»، «حيوان»، «جبل»، «مدن»، «حديد»، أسماء عامة.٣

ثانيًا: الحد العيني والحد المجرد

الحد العيني اسم لموضوع متاح لنا في الإدراك، فهو يشير إلى شيء يحوز صفة من الصفات، مثل «رجل»، «إنسان»، «شجرة»، أما الاسم المجرد، فهو اسم لصفة من الصفات مأخوذة في حد ذاتها، مثل «كرم»، «شجاعة،»، «إنسانية»، و«ديمقراطية» … إلخ، أعني أن الاسم المجرد ليس هو ببساطة اسمًا لصفة، بل لا بد أن تكون هذه الصفة منظورًا إليها في حد ذاتها ومستقلة عن الأشياء الموصوفة. فالذهب يحوز صفة أنه «أصفر» ليس حدًّا مجردًّا. ولكن لو أردنا أن نأخذ هذه الصفة في حد ذاتها لكان لدينا الحد المجرد «الاصفرار». وكذلك فإن كون خالد إنسانًا فإن «إنسان» هنا اسم عام، ولكنه ليس اسمًا مجردًا. وإنما الاسم المجرد هنا هو «الإنسانية»، وما يتصف بالإنسانية، وهو «إنسان»، اسم عيني، و«الاخضرار» اسم مجرد و«الشجر» اسم عيني … وهكذا.٤
إذا نظرنا الآن إلى تصنيف الحدود إلى عينية ومجردة فإننا نجده يستند إلى معايير ذات طابع لغوي ونفسي أكثر من أن تكون ذات طابع منطقي. ولقد جرت العادة على معالجة الحدود العينية والمجردة ضمن المبحث الخاص بالحدود المنطقية.٥

ثالثًا: الحد الموجب والحد السالب

يفرق بعض المناطقة عادة بين الحد الموجب والحد السالب على أساس أن الحد الموجب يعبر عن وجود أو امتلاك صفة ما، بينما يعبر الحد السالب عن غياب حدود موجبة، بينما تعتبر الحدود «غير ممتن، لا معدني، ولا عضوي» بمثابة حدود سالبة؛ لأنها تشير إلى غياب الصفة التي تعبر عنها المجموعة الأولى من الحدود، والحدود السالبة يمكن أن تكون صفات — كما هو واضح في المثال السابق — كما أنها من الممكن أن تكون أسماء عينية أو مجردة. سالبة، بينما إذا قلت: «غير متساوية» أو «غير منقسم» كنت تعبر عن حدود عينية سالبة. عادة ما يعبر عن السلب في الحدود بإحدى أدوات النفي مثل «لا»، «غير» أو أي لفظ آخر في معناهما.٦
وهناك بعض الأمور التي يجب توضيحها بالنسبة للحد السالب، الذي قلنا عنه: إنه يعبر عن غياب صفة أو خاصية ما، فلا يوجد لفظ يكون بطبيعته حدًّا سالبًا خالصًا، والسبب في ذلك أن اللفظ الذي نصفه بأنه حد يجب أن يحتوي بمعنًى ما من المعاني على خاصية موجبة، أو يجب أن يحتوي على صفة من الصفات من أجل أن يكون حدًّا أساسًا. فإذا ما أخذنا الحد الموجب «إنسان» وجدناه يعبر عن خصائص إيجابية هي التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، أما اللفظ «لا إنسان» فهو عبارة عن الحد سالب يعبر في نفس الوقت عن صفات إيجابية هي صفات كل الكائنات التي تقع خارج فئة «الإنسان».٧

رابعًا: الحد النسبي والحد المطلق

يقال عن الحد: إنه مطلق إذا كان اسمًا لا يستلزم معناه إشارة إلى شيء آخر، أعني أن معناه يكون مستقلًّا عن علاقاته بالأشياء الأخرى، بحيث يمكن فهمه دون اللجوء إلى أي شيء آخر مما قد يكون مرتبطًا به. فقولنا مثلًا: «إنسان» أو «معدن» أو «منزل» … إلى غير ذلك من مثل هذه الحدود هي حدود مطلقة بهذا المعنى. أما الحد النسبي فهو اسم يدل على شيء له علاقة معينة بشيء آخر بحيث لا يكتسب معناه إلا خلال هذه العلاقة. أو بعبارة أخرى فإن معناه يعتمد على صِلاته وعلاقاته بالأشياء الأخرى. فلفظ «أب» لا يكون له معنى بشكل مستقل عن «ابن»، و«زوج» لا يكون له معنى مستقل عن «زوجة»، و«أستاذ» لا يكون له معنى مستقل عن «تلميذ». وتسمى هذه الحدود بالمتضايفة. والعلاقة الكائنة بين الحدين المتضايفين تسمى علاقة التضايف.٨

وهذه هي أهم أنواع الحدود، وإن كانت هناك أنواع أخرى يذكرها بعض المناطقة، فإن هذه الأنواع الأربعة تعد أهمها.

المفهوم والماصدق

يعد موضوع المفهوم والماصدق هو أحد الموضوعات الرئيسية التي تتعلق بمسألة الحدود، والسبب في ذلك يرجع إلى أن المعنى الذي تتضمنه أغلب الحدود يدل على اتجاهين؛ الأول يشير إلى الموضوعات التي ينطبق هذا الحد أو ذاك عليها، والثاني يدل على مجموعة الصفات والخصائص التي تميز هذه الموضوعات. فإذا انصرف انتباهنا عند ذكر حد معين إلى معناه كنا حينئذٍ نعني «المفهوم» الذي يلزم عن هذا الحد. أما إذا انصرف انتباهنا إلى الموضوعات التي يشير إليها كنا نعني حينئذٍ «الماصدقات» التي ينطبق عليها الحد موضع حديثنا.٩
فالمفهوم إذن هو الخاصية أو مجموعة الخصائص التي تعين الموضوعات التي يمكن أن ينطبق عليها اللفظ بشكل صحيح، والتي تكفي وحدها لتمييز هذه الموضوعات الأخرى، أو هو باختصار مجموعة الصفات والخصائص الذهنية التي يثيرها اللفظ في ذهن السامع أو القارئ. أما «الماصدق» فهو المسميات الخارجية التي يصدق عليها اللفظ الذي استخدمه، أي إنه يدل على الأفراد التي ينطبق عليها اللفظ، وهي الأشياء التي جاء اللفظ ليسميها، فجميع الكتب مثلًا هي «ماصدقات» لفظ «كتاب». فالماصدق هو المدلول الخارجي الذي يشير إليه اللفظ.١٠
بيد أن هنالك حدودًا لها مفهوم ولها ماصدق، وهنالك حدود لها مفهوم وليس لها ماصدق، ولكن حدث خلاف في أسماء الأعلام بالنسبة لمفهومها وماصدقها. يرى «جون ستيوارت مل» أن ليس لاسم العلم مفهوم وإنما له ماصدق. (يقصد مل أن «علي» مثلًا رمز لغوي لشخص معين يمكن الإشارة إليه، ولكن ذلك الرمز لا يدل على مجموعة من الصفات مثلما تدل كلمة «إنسان» على مجموعة من الصفات). لرأي مل بعض الوجاهة من حيث إنه لا يوجد تعريف لاسم العلم؛ التعريف للأسماء العامة لا للأسماء الجزئية ومن بينها أسماء الأعلام؛ لأنك لن تستطيع أن تضع تعريفًا لفرد من أفراد الإنسان تُضمِّن فيه صفة أساسية تميزه عن غيره من أفراد الإنسان، مثلما تضع تعريفًا للحد العام «إنسان» لتميزه عن باقي الحيوانات والكائنات. ولكن رأي جون مل خطأ إذ ظن أنه ما دام ليس لاسم العلم تعريف فليس له مفهوم، لأسماء الأعلام مفهومات بحيث لا يتضمن هذا المفهوم تعريفًا. «نابليون» مثلًا لا تعريف له، وإنما يرتبط بمجموعة من الأوصاف والظروف التي إذا ذكرت أمكن تطبيقها على شخص بعينه وأمكن تمييزه عن باقي الناس، تلك الأوصاف لا تؤلف ماهية نابليون (إذ لا ماهية له)، وإنما تؤلف معنًى عامًّا يشير إلى نابليون دون غيره، ولو كان مِل على حق في إنكار المفهوم على اسم العلم لما أمكننا أن نتحدث عن شخص في غيابه، بل لما أمكننا أن نتحدث عن شخص بعد موته، ولكن حين نتحدث عن شخص غائب بحيث يكون لكلامنا معنًى مختلف عن ذلك تمامًا.١١

التعريف

يلعب التعريف دورًا هامًّا في حياتنا الاجتماعية والعلمية والسياسية، وغير ذلك من أوجه النشاط الإنساني. فكثيرًا ما ينشأ الجدل والخلاف بين شخصين؛ لأن كليهما يفهم معنى لفظ معين بطريقة مختلفة، وكان من الممكن حسم هذا الخلاف لو كان معنى هذا اللفظ واحدًا عند الاثنين، وكثيرًا ما يكون غموض الألفاظ المستخدمة في القرارات والمعاهدات السياسية مصدر خلاف بين الدول وفي المحافل السياسية. ويرجع هذا إلى أن ألفاظ اللغة التي نستخدمها ليست على درجة كافية من الوضوح بحيث يمكن أن تزيل ما قد يحدث من لبس وغموض.

ولعل هذا هو السبب في أن الباحث في أي علم من العلوم يلجأ دائمًا إلى تحديد معاني الألفاظ التي يستخدمها، وذلك عن طريق ما يسمى بالتعريف، بل إننا كثيرًا ما نلجأ في حياتنا اليومية، إلى تحديد ما نريد أن نقوله — حين نقول شيئًا — إذا شئنا لقولنا أن يكون مفهومًا بالمعنى الذي نريده له عند من نتحدث إليهم، لأن التعريف بوجه عام هو محاولة تحديد اللفظ تحديدًا دقيقًا.١٢ وإذا كان موضوع التعريف من الموضوعات الرئيسية التي يعرض المنطق لدراستها، فإن المنطق لا يُعنى بمشكلات التعريف الخاصة، بل يعنى بمشكلاته العامة، فهو لا يقصد إلى تعريف ألفاظ مما ورد في الفن أو العلم، بل يقصد إلى فض المشكلات التي تنشأ في التعريف، كائنًا ما كان اللفظ المعرف.١٣
وينطوي أي تعريف على جزأين؛ أولهما: اللفظ أو الشيء الذي نريد تعريفه، ويسمى بالمعرَّف، وثانيهما: التعريف الذي نقدمه للمعرف وغالبًا ما يكون مشتملًا على أكثر من لفظ، ويسمى بالتعريف، ولا شك أن أرسطو حين حاول تقديم تعريف للاثنين كان يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق غرض معين،١٤ وذلك على النحو التالي:
  • (أ)

    إزالة اللبس في المعاني.

  • (ب)

    توضيح معاني الحدود.

  • (جـ)

    ازدياد حصيلة الفرد اللغوية.

  • (د)
    صياغة الحد بطريقة نظرية.١٥

أنواع التعريف

كان الهدف عند معظم الفلاسفة والمناطقة منذ أقدم العصور هو تعريف الشيء وليس اللفظ، إلا أن بعض المناطقة المحدثين يرفضون ذلك ويقصرون مهمة التعريف على الألفاظ وحدها. وقد ترتب على ذلك اختلاف الطرق التي سلكها كل فريق منهما لبلوغ هدفه، ولنقف الآن قليلًا عند كل نوع من هذين النوعين:

أولًا: التعريف الشيئي (الواقعي)

ينصب التعريف الشيئي على توضيح جوهر الشيء المعرَّف وليس على توضيح لفظ غامض بلفظ آخر أقل غموضًا أو بألفاظ أخرى أكثر وضوحًا، وكان هذا النوع من التعريف هدف معظم الفلاسفة والمناطقة على مر العصور.١٦
والتعريف الشيئي يقوم على إدراج النوع تحت جنسه (القريب أو البعيد) ثم تمييزه بصفة جوهرية فيه أو بخاصة من خواصه، ولكن الصفة الجوهرية هي في الواقع أكثر أهمية في التعريف؛ لأن التعريف هنا لا بد أن يصف الجوهر، والجواهر عند أرسطو تتألف من الجنس والفصل، ولكن قد يكون من المتعذر في أغلب الأحيان الحصول على الصفة الجوهرية وهي الفصل، وهنا نبحث عن صفة خاصة بأفراد النوع لتشكل مع الجنس التعريف الذي نستطيع تقديمه، إلا أن هذا الأخير يكون في مرتبة أدنى من التعريف بالفصل؛ لأننا هنا نبتعد عن ماهية الشيء وجوهره، وهكذا يكون لدينا نوعان من التعريف الشيئي:١٧
  • الأول: التعريف بالحد، وهو التعريف الذي يتم بذكر صفة جوهرية للشيء المعرَّف تميزه بشكل قاطع عن غيره من الأشياء. وينقسم هذا النوع بدوره إلى قسمين:
    • (أ) التعريف بالحد التام، ويكون بذكر الجنس القريب والفصل، كقولنا: الإنسان حيوان ناطق.١٨
    • (ب) أما التعريف بالحد الناقص، فهو الإتيان بالجنس البعيد من الفصل مثل: الإنسان حيوان مفكر.
  • الثاني: التعريف بالرسم (أو الوصف)، وهو التعريف الذي يتم بذكر خاصة من خواص الشيء المعرَّف تميزه عن بقية الأشياء الأخرى، ولكنه لا يوضح طبيعة هذا الشيء أو خواصه الذاتية، بل ما يهدف إليه هو أن يميز الشيء عن غيره من الأشياء. وللتعريف بالرسم درجتان:١٩
    • (أ) تعريف بالرسم التام، ويتألف من الجنس القريب والخاصة.
    • (ب) تعريف بالرسم الناقص، ويتألف من الجنس البعيد والخاصة. مثلًا «الإنسان حيوان مدخن» تعريف للإنسان بالرسم التام. ولكن التدخين ليس صفه تميزه عن غيره من الحيوانات. مثال على التعريف بالرسم الناقص: «الإنسان جسم مدخن».

ثانيًا: التعريف الاسمي Nominal Definition

إذا كان التعريف الشيئي يهدف لتحديد جوهر الشيء المعرف، فإن التعريف الاسمي لا يهمه إلا أن يستبدل اللفظ المراد تعريفه بلفظ آخر يساويه استعمالًا. وإذا كان غالبية أنصار التعريف الشيئي هم من بين المناطقة التقليديين، فإن غالبية الآخذين بالتعريف الشيئي — كما رأينا — يحصر نفسه في نطاق الألفاظ التي تشير إلى مسميات في عالم الواقع؛ مثل: «إنسان، وحيوان … إلخ».

أما التعريف الاسمي فإنه يمتد ليشمل كل كلمة في اللغة، لا فرق بين أسماء الأشياء وأحرف الجر والأسماء الموصولة والصفات وما شئت من أنواع الكلمات، ما دام التعريف هو وضع صيغة لفظية مكان صيغة لفظية تساويها استعمالًا. وإذا كان التعريف عند الآخذين بالتعريف الاسمي هو دائمًا تعريف للألفاظ أو الرموز، فإن السؤال الخاص بما إذا كان التعريف صحيحًا أم خاطئًا هو السؤال بغير معنى. والأقرب إلى العقول هو أن نحكم على التعريف في هذه الحالة بأنه مناسب أو غير مناسب، متسق أو غير متسق مع بقية التعريفات الأخرى التي ترد معه في النسق المعين، وباختصار، هل التعريف يحقق الغرض المنشود منه أم لا؟ وفي هذه الحالة الأخيرة يتم استبداله بتعريف آخر.

وما دام التعريف بحسب المفهوم الاسمي هو دائمًا تعريف للألفاظ والرموز المختلفة، فإننا نصبح أحرارًا في إعطاء اللفظ المعين المعنى الذي نختاره له. ولقد سبق أن أشرنا إلى أن معاني الألفاظ المختلفة قد تحددت — تاريخيًّا — بطريقة تعسفية اشتراطية وقبل أن تأخذ شكلها الاتفاقي الاصطلاحي عن طريق القبول العام لها عبر الأجيال المتعاقبة.٢٠
والتعريف الاسمي ينقسم إلى نوعين: التعريف القاموسي، والتعريف الاشتراطي. ولقد ميز جون استيورت مِل J. S. Mill في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بين هذين النوعين حينما قال: «إن أبسط وأصدق وسيلة لفهم التعريف هو أنه عبارة عن قضية نعلن فيها المعنى الذي نعطيه للفظ معين، وهذا المعنى إما أن يكون هو المعنى الذي اتفق الناس عليه فيما بينهم، وأما أن يكون هو المعنى الذي يريد المتكلم أو الكاتب أن يعطيه للفظ من أجل تحقيق غرض معين فيما يقول أو يكتب».٢١

التعريف القاموسي Lexical Definition

والقواميس أو المعاجم اللغوية عبارة عن سجلات لمعاني الألفاظ المختلفة كما حُددت عبر الأزمنة المتعاقبة. وكثيرًا ما يستشهد أصحاب المعاجم اللغوية الجديدة بفقرات مختلفة لكبار المفكرين والكتاب السابقين لكي يدللوا بها على اختلاف معنى اللفظ المعين عند كاتبين أو أكثر من أبناء الجيل الواحد أو من أبناء الأجيال المتعاقبة. فالقواميس اللغوية تنقل لنا الطريقة التي يستخدم بها لفظ معين عند جماعة معينة في زمان معين. فأنت إذا كنت تسمع لأول مرة المثل الذي يقول: «أحصرم وسوء كيلة؟» وكنت لا تعرف معنى اللفظ «حصرم»، ثم أخذت تبحث عن معناه في أحد معاجم اللغة العربية لقيل لك: إن الحصرم هو أول العِنب أو تباشير العنب. وإن كنت تسمع كذلك لأول مرة هذا البيت من الشعر العربي الذي يقول:

لكل داء دواء يُستطَبُّ به
إلا الحماقة أعْيَت من يُداويها
ثم اكتشفت أنك لا تفهم المعنى الذي يريد الشاعر أن يعبر عنه؛ لأنك لا تعرف ما يعنيه لفظ «الحماقة»، وجئت لتكشف عن معناه في أحد قواميس اللغة العربية لقيل لك: إن «الحماقة» هي قلة العقل.٢٢

التعريف الاشتراطي Stipulative Definition

ويلجأ المتكلم أو الكاتب إلى هذا النوع من التعريفات إذا كان لا يجد من بين مفردات اللغة اللفظ الذي يستطيع بواسطته أن يعبر عن معنى معين أو عن حالة جديدة تم اكتشافها من حالات الواقع. فالتعريفات الاشتراطية ترتبط دائمًا بغرض معين، والمعنى الذي تعبر عنه يجيء دائما نتيجةً لقرار شخصي يتخذه صاحب التعريف. فكأنه يقول لنا: إنني اشترطت على نفسي أن أستخدم اللفظ المعين بالمعنى المعين في السياق المعين، ولهذا السبب فإن التعريفات الاشتراطية لا يمكن وصفها بالصدق أو الكذب، وكل ما نطالب به صاحب التعريف الاشتراطي هو ألا يغير من المعنى الذي قرره لألفاظه إلا بعد أن يخطرنا بذلك.٢٣
والتعريفات الاشتراطية، هي أمر في منتهى الأهمية بالنسبة للعلوم المختلفة، تستوي في ذلك العلوم الصورية (المنطق والرياضة) والعلوم الطبيعية (الفيزياء والكيمياء والفلك …)، وكذلك العلوم الإنسانية والاقتصادية، والاجتماع والقانون … فجميع التعريفات التي يلجأ لها عالم المنطق الآن هي من النوع الاشتراطي. مثال ذلك التعريفات الآتية:٢٤
ق ك = ق و ك
ق ك = ك = إما أن تكون ق أو ك
وكل الذي تعنيه هذه التعريفات السابقة هو أنه كلما وردت الصيغة التي تقول (ق ك) — مثلًا — فإنها تعني: ق ثم ك، فهي تعريفات لا تقرر شيئًا عن عالم الواقع، وفي إمكان عالِم منطق آخر أن يعطي تعريفات تختلف في المعنى عن التعريفات السابقة، بل إن نفس عالم المنطق الذي أعطى لنا التعريفات السابقة قد يضطر في خلال بنائه المنطق أن يغير منها نتيجة لظروف معينة، وكل الذي نطالبه به هو أن يلفت نظرنا إلى تعريفاته الجديدة.٢٥

وفي نفس الشيء يمكن أن يقال عن تعريف جاليليو «للحركة النمطية» في علم الطبيعة مثلًا، فقد عرفها تعريفًا اشتراطيًّا حينما قال: «إنها الحركة التي تكون فيها المسافات، التي يقطعها الجسيم المتحرك في لحظات زمانية واحدة، متساوية.»

شروط التعريف

  • الشرط الأول: أن يكون التعريف جامعًا مانعًا، والمقصود بالجامع أن يكون التعريف شاملًا لكل الأفراد التي يندرج تحتها ذلك اللفظ المراد تعريفه، والمقصود بمانع أن يكون التعريف مانعًا من أن يندرج فرد من نوع آخر تحت الكلمة المراد تعريفها، مثال: «إذا عرفت الإنسان بأنه الحيوان الذي يذهب إلى الجامعة، كان التعريف غير جامع؛ لأن ذلك التعريف لا يضم كل أفراد الإنسان، وكذلك إذا عرفت الإنسان بأنه حيوان يمشي على رِجلين، كان التعريف غير مانع، أي سمح التعريف بأن دخل مع الإنسان ألوان حيوانية أخرى، كالدواب مثلًا.»٢٦
  • الشرط الثاني: يجب أن يكون التعريف منصبًّا أساسًا على جوهر الشيء المعرَّف، فلا يهتم بالصفات أو الخصائص العارضة.٢٧
  • الشرط الثالث: يجب أن يكون التعريف بذكر الجنس والفصل إذا أُريدَ أن يكون جامعًا مانعًا.٢٨
  • الشرط الرابع: يجب أن يكون التعريف أوضح من المعرف، إذ ما قيمة تعريف الشيء بما هو أشد منه غموضًا؟٢٩
  • الشرط الخامس: لا ينبغي للتعريف أن يكون مَجازيًّا، مثل تعريفنا الخبز بأنه «عصب الحياة»، أو تعريفنا للقناعة بأنها «كنز لا يَفنى»، أو تعريفنا للصحة بأنها «تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى»، أو تعريفنا للأسد بأنه «ملك الغابة»، أو للجمل بأنه «سفينة الصحراء» … إلخ.٣٠
  • الشرط السادس: لا يجوز تعريف الشيء بنفسه؛ كتعريفنا للحركة بأنها الانتقال من مكان إلى مكان آخر، أو للأرملة بأنها «من مات عنها زوجها» … إلخ.٣١
  • الشرط السابع: لا يجوز أن يُذكر في التعريف لفظ يرِد في المعرَّف، أو لفظ يستحيل تعريفه إلا بواسطة المعرف، أو أن يعرف الشيء بما يتوقف في فهمه على المعرف، فيكون التعريف دائريًّا؛ مثل تعريف الحياة بأنها مجموعة القوى الحيوية في الجسم. فإن القوى الحيوية لا يمكن فهمها إلا إذا فهمت الحياة.٣٢
  • الشرط الثامن: لا يجوز أن يكون التعريف في ألفاظ معدولة أو سالبة، خاصة إذا كان من الممكن أن يكون في ألفاظ موجبة. فلا يجوز تعريف الشيء بضده أو نقيضه؛ كتعريف العدم بأنه اللاوجود، أو تعريف الظلم بأنه اللاعدل، والفقير بأنه غير الغني.٣٣
  • الشرط التاسع: لا يجوز تعريف الشيء بما يتضايف معه، كتعريف الزوجة بأنها من لها زوج، وتعريف الابن بأنه من كان له أب … إلخ.٣٤
١  د. محمد مهران: مدخل إلى المنطق الصوري، ص٦٤.
٢  نفسه، ص٦٦.
٣  د. محمد السرياقوسي: المرجع السابق، ص٣٤٣.
٤  د. محمد مهران: مدخل إلى المنطق الصوري، ص٧٨.
٥  د. محمد السرياقوسي: المرجع السابق، ص٣٤١.
٦  المصدر نفسه.
٧  المصدر نفسه.
٨  د. محمد مهران: مدخل إلى المنطق الصوري، ص٨١–٨٢.
٩  د. حسن عبد الحميد: المرجع السابق، ص١٨.
١٠  د. محمد مهران: المرجع السابق، ص٨٢–٨٣.
١١  د. محمد السرياقوسي: المرجع السابق، ص١٤٥.
١٢  د. محمد مهران: المرجع السابق، ص٩١.
١٣  نفسه، ص٩١.
١٤  نفسه، ص٩١.
١٥  نفسه، ص٩١–٩٦.
١٦  نفسه، ص٩٧.
١٧  نفسه، ص١٠٣.
١٨  نفسه، ص١٠٣.
١٩  نفسه، ص١٠٣.
٢٠  د. زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي، ج١، ص١٢٦–١٢٧؛ وانظر أيضًا: د. محمد مهران، مدخل إلى المنطق الصوري، ص١٠٥ وما بعدها.
٢١  د. محمد مهران: المرجع السابق، ص١٠٤.
٢٢  د. محمد مهران: مدخل إلى المنطق الصوري، ص١٠٥ وما بعدها.
٢٣  نفسه، ص١٠٥.
٢٤  نفسه، ص١٠٥ وما بعدها.
٢٥  د. محمد مهران: المرجع السابق، ص١٠٥ وما بعدها.
٢٦  نفسه، ص١٢٣.
٢٧  إمام عبد الفتاح: محاضرات في المنطق الصوري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ص١١٥.
٢٨  نفسه، ص١١٥.
٢٩  نفسه، ص١١٥.
٣٠  نفسه، ص١١٥.
٣١  نفسه، ص١١٥.
٣٢  نفسه، ص١١٥.
٣٣  نفسه، ص١١٦.
٣٤  نفسه، ص١١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤