المبحث الثالث

منطق القضايا

تعريف القضية

يدرس المنطق كذلك الصدق والكذب، حيث إنه لا يوجد صدق أو كذب في الحد، مثلًا: محمد أو شجرة، كلمات لا صدق أو كذب فيها، ولكن يجب أن نضع «شجرة» في عبارة، وحينئذٍ نستطيع أن نحكم بصدقها أو كذبها، أي لا يوجد حد نسميه صادقًا أو كاذبًا، إن الصدق والكذب يخصان القضايا لا الحدود، وبهذا ننتقل إلى القضايا. والإنسان لا يستخدم الحدود منعزلة مستقلة ولا يعبر عن تفكيره في صورة حد واحد، وإنما في صورة حدود يرتبط بعضها ببعض.

والقضية Proposition هي قول يحتمل الصدق والكذب لذاته، أو قول يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب،١ وعرفه ابن سينا بأنه: «قول يحكم فيه بنسبة شيء إلى شيء بإيجاب أو سلب.»٢ وبهذا يخرج من نطاق القضايا المنطقية جميع أنواع الجمل النحوية التي تشبه القضايا؛ لكنها لا يجوز الحكم عليها بصدق أو كذب، مثل «ما أجمل الغروب!» و«ما أبشع هذا المنظر!» … «ألا ليت الشباب يعود»، و«اللهم انصرنا»، «لا تؤجل عمل اليوم إلى غد»، «لا تتدخل فيما لا يعنيك»، «ماذا دهاك …؟» فالأمر والنهي والاستفهام والتعجب والتمني والدهشة والرجاء … إلخ وغيرها من الجمل الإنشائية تدخل في باب النحو؛ لكنها تخرج من دراسة المنطق.٣

وتتألف القضية من عنصرين في بعض اللغات ومن ثلاثة في لغات أخرى، ونسمي كل عنصر من هذين بحد، وإذن فالقضية تتألف من حدين أو تتألف في لغات من حدين مضاف إليهما ما يسمى بالرابطة، والرابطة هي فصل الكينونة القائم بين الحدين ويربط بينهما، ويسمى أحد الحدين موضوعًا، ويسمى الحد الآخر محمولًا.

أصناف القضايا

يصنف المنطق القضايا أصنافًا على أسس مختلفة.

أولًا: من حيث البساطة والتركيب تنقسم القضية إلى

  • قضايا حملية: وهي التي تتكون من موضوع ومحمول ورابطة؛ كأن تقول: «الشمس تكون مشرقة». فالحد (الشمس) هو موضوع القضية، والحد (مشرقة) هو محمولها، أما فعل الكينونة (أو ما في معناه) فهو الرابطة، التي — غالبًا — لا يصرح بها في اللغة العربية. والقضية الحملية، من حيث الحكم عليها بالصدق أو بالكذب، إما صادقة أو كاذبة، فهي «قضية بسيطة» من هذه الناحية، إنها تثبت أو تنفي صفة ما؛ أمرًا عن أمر آخر. مثال ذلك في حالة الإثبات القضيةُ السابقة التي تقول: «الشمس مشرقة»، وفي حالة النفي القضيةُ التي تقول: «الطالب ليس ناجحًا».

    ونأتي الآن إلى تفصيل الحديث عن هذا النوع من القضايا، ولنبدأ ﺑ:

    التقسيم الرباعي للقضية الحملية.

    تُقسم القضايا الحملية — تقليديًّا — إلى أربع قضايا بحسب مبدأين أساسيين؛ هما: مبدأ الكم والكيف. وتقسم القضايا — من ناحية الكم Quantity — إلى قضية كلية وقضية جزئية. والنظر إلى موضوع القضية هو الأساس في هذه القسمة. فإذا كانت القضية تتحدث عن جميع أفراد الموضوع كانت كلية Universal، وإذا كانت تشير إلى بعضهم فقط كانت جزئية Particular.٤
وتقسم القضايا أيضًا — من ناحية الكيف Quality — إلى موجبة وسالبة. والنظر إلى العلاقة بين الموضوع والمحمول هو الأساس في هذه القسمة. فإذا كانت القضية تقيم علاقة بين بعض أو جميع أفراد الموضوع مع المحمول كانت موجبة، وإذا كانت القضية تنفي وجود مثل هذه العلاقة بشقيها كانت القضية سالبة.

والتقسيم الرباعي للقضية الحملية يأخذ بعين الاعتبار مبدأي الكم والكيف معًا. وبناء على هذا تكون لدينا القضايا الأربع الآتية، علمًا بأن (أ) يرمز للموضوع و(ب) يرمز لحد المحمول.

  • (١)
    الكلية الموجبة (ك م) = كل الطلاب ناجحون = كل أ هو ب. ويرمز لهذه القضية — تقليديًّا — بالحرف اللاتيني A.
  • (٢)
    الكلية السالبة (ك س) = لا طالب راسب = لا أ هو ب. ويرمز لهذه القضية — تقليديًّا — بالحرف اللاتيني E.
  • (٣)
    الجزئية الموجبة (ج م) = بعض الطلاب ناجحون = بعض أ هو ب. ويرمز لهذه القضية بالحرف اللاتيني I.
  • (٤)
    الجزئية السالبة (ج س) = بعض الطلاب ليسوا ناجحين = ليس بعض أ هو ب. ويرمز لهذه القضية بالحرف اللاتيني (O).٥
  • أما القضية المركبة: فتتكون من قضيتين حمليتين أو أكثر ترتبط بأداة ربط معينة؛ مثل العطف أو اللزوم أو الانفصال. ولقد كان الفلاسفة الرواقيون أول من استخدام هذا النوع من القضايا في استدلالاتهم المنطقية. والقضية المركبة تتكون عادة من قضيتين حمليتين (بسيطتين)، لكل منهما قيمتان للصدق (القضية إما صادقة أو كاذبة). ونأتي الآن إلى تفصيل الحديث عن هذا النوع من القضايا، ولنبدأ ﺑ:
    • (١) القضية العطفية: وهي عبارة عن قضية مركبة من قضيتين حمليتين مرتبطتين بأداة الربط، التي هي واو العطف، ويرمز لها غالبًا بهذا الرمز ( ) في المنطق الحديث. فإذا كنت أمام هاتين القضيتين الحمليتين «أكلت برتقالًا – أكلت تفاحًا»، وأردت ان أجمعهما معًا في قضية واحدة مركبة قلت: «أكلت برتقالًا وأكلت تفاحًا» أو: «أكلت برتقالًا وتفاحًا».
    • (٢) القضية الشرطية المتصلة أو اللزومية: عبارة عن قضية مركبة من قضيتين حمليتين مرتبطتين بأداة الشرط أو اللزوم «إذا … إذن …»، مثال ذلك: القضية التي تقول: «إذا اجتهد الطالب إذن لنجح»، أو القضية التي تقول: «إذا أمطرت السماء، ابتلت الأرض». ويطلق على القضية الأولى «التالي». كما يطلق أيضًا على القضية المركبة منهما في بعض الأحيان اسم «القضية الفرضية».
    • (٣) القضية الشرطية المنفصلة: وهذه القضية المركبة من قضيتين حمليتين أو أكثر ترتبط فيما بينها بأداة الربط «إما … أو …»، كما يطلق عليها — أحيانًا — اسم «البدائل» Alternatives. وهي نوعان:
      • (أ) القضية الشرطية المنفصلة اللا-استبعادية

        ومن أمثلة هذه القضية أن تقول: «إما أن السماء ممطرة أو الجو بارد». البديل الأول عبرنا عنه في القضية التي تقول: «السماء ممطرة»، والبديل الثاني عبرنا عنه في القضية التي تقول: «الجو بارد».

      • (ب) القضية الشرطية المنفصلة الاستبعادية Exclusive
والبديلان في هذا النوع من القضايا لا يصدقان معًا ولا يكذبان معًا، ومن أمثلة ذلك أن تقول: «العدد إما زوجي أو فردي». ولهذا السبب سميت هذه القضية بالقضية الاستبعادية، أي التي تستبعد أن يصدق البديلان معًا. فالعدد إما زوجي أو فردي، ولا يمكن أن يكون زوجيًّا وفرديًّا في آن واحد.٦

ثانيًا: وتنقسم القضايا تبعًا للكيف إلى قضايا موجبة وقضايا سالبة

والقضية الموجبة هي تلك التي يسند المحمول فيها إلى الموضوع إثباتًا، والقضية السالبة هي التي يسند المحمول فيها إلى الموضوع سلبًا أو نفيًا. مثال القضية الموجبة: الإنسان قادر على تعلم الرياضيات. مثال القضية السالبة: لا إنسان يستطيع الصعود إلى القمر بدون مركبة فضائية.

ثالثًا: وتنقسم القضايا تبعًا للكيف إلى قضايا كلية وقضايا جزئية:

فالقضية الكلية هي التي يسند المحمول فيها إلى كل أفراد الموضوع.

مثال القضية الكلية: «كل إنسان ماضٍ إلى زوال»، «إنسان» موضوع، و«ماضٍ إلى زوال» محمول، والقضية كلية لأن الموضوع مسبوق بكلمة «كل» (تسمى سور القضية)، ومن الكلمات المرادفة لها «جميع»، «كافة»، «عامة». والقضية الجزئية هي القضية التي يسند المحمول فيها إلى بعض أفراد الموضوع فقط، ونلاحظ أنه في القضية الجزئية نضع كلمات «بعض» أو «قليل من» أو «أكثر من» أو «أغلب» أو «معظم» سابقة على الموضوع في القضية الجزئية. هذه الكلمات أمثلة على سور القضية الجزئية.

رابعًا: وتنقسم القضايا من حيث الجهة إلى القضايا الخالصة والقضايا الموجهة

والقضية الخالصة أو القضية البسيطة Simple or pure proposition هي القضية التي تقرر علاقة ما بين الموضوع والمحمول؛ كأن تقول: «أحمد ناجح». فأنت في هذه القضية أقمت علاقة بين أحمد وبين النجاح، لكنك لم تحدد هذه العلاقة من حيث كونها إما ممكنة أو مستحيلة، ضرورية أو محتملة. وحين نحدد العلاقة بين أحمد وصفة النجاح على النحو الذي ذكرناه، تسمى القضية حينئذٍ قضيةً موجهة Modal proposition. وتعبر الجهة في القضية Modality عن درجة يقين الحكم الذي تعبر عنه القضية أو عدم يقينه. وعلى هذا فإن القضية الموجهة تنحل الى جزأين: القضية الحملية الخالصة أو البسيطة من ناحية، وجهة القضية التي تحدد درجة يقين الحكم الذي تعبر عنه ألفاظ القضية. من ناحية أخرى فالقضية الموجهة — كما يقول تريكو — هي عبارة عن حكم يتعلق بحكم آخر تعبر عنه القضية الحملية.٧

خامسًا: وتنقسم القضايا من حيث التحديد إلى قضايا تحليلية وقضايا تأليفية:

والقضية التحليلية هي القضية التي يكون محمولها تكرارًا لموضوعها. إنها القضية التي يشتق محمولها من مفهوم موضوعها، وبهذا المعنى تكون القضية التحليلية سابقة على التجربة ولا تتعلق بها. مثال ذلك: القضية التي تقول: إن «٥ = ٢ + ٣» أو «الأرملة امرأة مات زوجها».

فالمحمول في القضيتين تحليل أو تكرار للموضوع، ولا يضيف إليه شيئًا جديدًا ليس من طبيعته أو خارجًا عنه. وبهذا المعنى تكون القضايا التحليلية هي قضايا المنطق والرياضيات. والصدق في القضايا التحليلية هو صدق اتساق، اتساق الموضوع مع المحمول. فالمحمول «٢ + ٣» في المثال الأول، و«امرأة مات زوجها» في المثال الثاني عند تحليلهما تجدهما متسقَين تمامًا مع الموضوع في كل قضية، ويكرران بطريقة لا تضيف إليه أي جديد. ﻓ «٣ + ٢» هي تكرار دقيق للعدد «٥»، كما أن «امرأة مات زوجها» تكرار دقيق أيضًا للفظ «أرملة». وعلى هذا تكون مثل هذه القضايا صادقة صدقًا ضروريًّا.

أما القضية التأليفية فهي على العكس من ذلك. إنها القضية التي يضيف محمولها جديدًا إلى موضوعها. ومحمولها لا يشتق — كما يقول تريكو مرة أخرى — من موضوعها، فهي القضية البَعدية، أي اللاحقة على التجربة، والتي يتم استخلاصها منها. مثال ذلك أن تقول: «الصوت يسير بسرعة ٣٣٢ مترًا في الثانية، حين تكون درجة الحرارة صفر درجة مئوية». فنحن هنا أمام قضية تأليفية يضيف المحمول فيها شيئًا جديدًا إلى الموضوع، ومهما حللنا مفهوم لفظ «الصوت»، فلن نستخلص منه — عقليًّا — السرعة التي يسير بها في مثل هذه الظروف المناخية.٨
١  انظر: الدكتور محمد شمس الدين إبراهيم: تيسير القواعد المنطقية «شرح للرسالة الشمسية»، ص١٥.
٢  ابن سينا: الهداية، ص٧٨.
٣  إمام عبد الفتاح، محاضرات في المنطق الصوري، ص١٤٩.
٤  د. محمد السرياقوسي: المرجع السابق، ص١٤٥ وما بعدها.
٥  نفسه.
٦  نفسه.
٧  نفسه.
٨  نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤