تمهيد

مرت بأوروبا فترة من الزمن، بين سنتيْ ١٧٩٢ و١٨١٥ شهدتْ خلالها انقلابات عديدة لم يَسْبِقْ لها مثيل في تاريخها، وتأثَّر بها تكوينها الإقليمي والسياسي معًا بدرجة عميقة، وذلك بسبب ما ترتَّبَ على هذه الانقلابات من تغييرات واسعة في «النظام الأوروبي»، أو ما وقع من شَدٍّ وجَذْب وتحول وتبدُّل نتيجة لهذه الانقلابات. ولقد كان ما وقع الآن يختلف كل الاختلاف عن كل ما سبق حدوثه بسبب الصورة الجديدة التي اتخذتها هذه الانقلابات، أو الطابع الجديد الذي تميزت به عن سابقاتها.

وذلك لأنَّ الانقلابات التي حدثت في «عهد الثورة ونابليون» لم يكن مبعثها تآلف أو اختلاف عوامل سياسية معينة، وأنها أفضت كذلك إلى ترتيبات وتنظيمات سياسية مُعينة وحسب، بل امتازت إلى جانب هذا كله بتأثُّرها بمبدأ مثالي خاص، ثم ذيوع هذا المبدأ المثالي في أنحاء القارة الأوروبية في عصر الثورة ونابليون، ثم في العصور التالية إلى الوقت الحاضر؛ فقد ناقشت الثورة الأسس التي كانت ترتكز عليها مبادئ القانون العام نفسه، كما ناقشت القواعد التي قام عليها المجتمع وقتئذٍ، ولذلك فإنَّ الحديث عن الانقلابات التي وقعت في أوروبا في هذه الفترة، إنما تتناول إلى جانب البحث في نشاط رجال السياسة في الدول المختلفة، دراسة فلسفة جديدة اجتماعية وقانونية تناقضت مبادئها مع كل ما كان يتعارف عليه القوم وقتئذٍ.

وبمعنًى آخر، لم تكن الثورة الفرنسية مجردَ حلقات متتابعة من الحوادث وحسب، بل كانت كذلك حركة فكرية؛ أي حركة آراء ومبادئ، حتى إنه عند انتهاء انقلابات الثورة، ظلَّت بقاياها ظاهرة في صورة كل ما طرأ على «الدول» من تبدُّل وتغيُّر في حياتها حينئذٍ، كما ظلت بقاياها ظاهرة في صورة تلك الآثار التي خضعت لها الشعوب والتي كانت مبعث التغييرات التي سوف تحدث في المستقبل في الميدان السياسي، ومن هذه الناحية كانت الحركات القومية التي انتشرت في أوروبا بعد سنة ١٨١٥ هي ذلك «التراث» الذي خلَّفته الثورة.

ولقد كان الذين اعتنقوا «الآراء الجديدة» ثم روجوا لمبدأ القومية بعد أن آمنوا به هم أنفسهم، أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) الذين تألَّفت منهم الطبقة الثالثة في فرنسا عند اجتماع مجلس طبقات الأمة في سنة ١٧٨٩، ثم صاروا هم قوام الحياة السياسية في كل مجالس الثورة التالية، والذين استصدروا دساتير الثورة المختلفة، وتكفَّلُوا بفضل «سياستهم الخارجية» بإذاعة المبادئ التي نادت بها الثورة، وأهمها «القومية» والحرية الفردية، على أساس المشاركة في الحكم أولًا، ثم التسلط على الحكم أخيرًا. وتلك مبادئ هدفت بالقضاء على «النظام القديم» وسيطرة الإقطاع القديمة إلى تحرر البورجوازية وتحطيم القيود التي حرمتها — سواء في ظل حكومة أجنبية عنها، أو تحت استبدادية محلية أو أهلية — من كل أسباب السلطة، فكانت عاجزة عن صيانة مصالحها «كطبقة» ترى في واقع وجودها، ليس صيانة هذه المصالح «الطبقية» فحسب، بل وصيانة المصالح «الوطنية»، والذود عن حقوق «الأمة» وحرياتها.

وفي هذه الدراسة سوف يتَّضِح كيف نضج الشعور القومي بفضل اشتعال الثورة الفرنسية، وقيام الإمبراطورية النابليونية، ومدى تأثُّر القارة الأوروبية بالقومية في هذا العصر، ثم كيف اكتمل سلطان البورجوازية في فرنسا، والخطوات التي اتخذتها للمحافظة على مصالحها في فرنسا، ثم للتغلُّب على القوى الإقطاعية في سائر أوروبا، سواء وُفِّقت في هذه المحاولات أم لم تُوَفَّق.

على أنَّ «عهد الثورة ونابليون» إنما يتألَّف في واقع الأمر من عهدين، لكلٍّ منهما طابعه الخاص الذي يتميَّز به: عهد الثورة ذاتها، ثم عهد الإمبراطورية النَّابليونية، وإن كانت «الإمبراطورية» تُعْتَبَرُ مكملة «للثورة» ومستتبعة لها، بل ويعتبر فريق من المؤرِّخين أن الإمبراطورية هي الثورة بذاتها، ولكن في شكل جديد. ومع ذلك فهناك اختلاف واضح بين الثورة والإمبراطورية يجعل ضروريًّا دراسة تاريخ كلٍّ منهما على حدة في الإطار الذي حدَّدناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤