الفصل الأول

المبدأ القومي

التعريف بالقومية

ينطوي المذهب القومي على «فكرة» و«مبدأ»، فالفِكْرَة معناها: الارتباط بمصالح مشتركة، واستهداف غايات محدودة مشتركة، يجمع بينها شعور واحد يستند على مُقَوِّمات مشتركة من اللغة والجنس والدين وما إلى ذلك.

والمبدأ هو: إخراج الفكرة إلى حيز الوجود، وكضرورة لازمة لتفسير أحداث التاريخ ولتسويغ وقوعها، إلى رسم سياسة معينة تسترشد عند تطبيقها بتلك المصالح والأهداف أو الغايات المُشتركة التي انطوت عليها «فكرة» القومية ذاتها.

والمبدأ القومي كان أظهر القوى الدَّافعة أو المحركة في القرن التاسع عشر، مثله في تحريك الحوادث وتشكيلها مثل المذهب الديني — أي قوة الفكرة الدينية ومبدئها، وأي محاولة تطبيقها — أو المذهب الملكي، أو فكرة الدولة ومبدئها؛ أي النظرية الخاصة بإنشاء الدولة والعمل من أجل تأسيسها من حيث تكوينها وتوحيد السلطة بها، خصوصًا على نحو ما حدث في العصور السابقة.

ولما كانت الدَّولة القومية ثمرة المبدأ القومي؛ فقد وجب لظهور المبدأ القومي نفسه ثم لخروج الدولة القومية إلى حيِّز الوجود، أن تتطور في أذهان النَّاس المعاني المرتبطة بمفهوم «الدولة» و«الأُمَّة»، عندما صارت تناضل الشعوب الأوروبية طوال القرن التاسع عشر من أجل إرضاء شعورها القومي، وتشييد صرح الدولة القومية.

ومن أول الأمر لا مَفَرَّ من التفريق بين الدولة والأُمَّة؛ فالدَّولة هي الشكل السياسي الذي يتخذه المجتمع، ثم هي مساك ما ينشأ من علاقات بين أعضاء هذا المجتمع، ورباط الأنظمة الاقتصادية والسياسية والتشريعية المسيطرة في المجتمع، وما تُؤَدِّيه هذه من خدمات له. ويجبُ في نظر القانون العام توفر عناصر ثلاثة لقيام الدولة: وجود السكان؛ أي وجود جماعة من البشر أَلِفَت العيش المشترك في جماعة واحدة، ثم وجود سلطة، لها الحق في اتخاذ الإجراءات التي تراها ضرورية للمُحَافظة على حياة هذه الجماعة ولتنظيم المصالح الهامة والمبنية على علاقات الأفراد، ثم وجود رقعة من الأرض تعيش عليها الجماعة، ذات معالم أو حدود واضحة معينة.

فالدولة قبل كل شيء حقيقة واقعة، ثم هي في الوقت نفسه فكرة قانونية مُستمدة من ولايتها الحكومية (أو التشريعية القضائية)؛ مما يترتَّبُ عليه أن صار للدولة صفتان: فهي ذات شخصية قانونية؛ أي إنَّ لها حقوقًا وعليها واجبات يُحَدِّدُها جميعها القانون، ثم إنَّ لها صفة أخرى مستمدة من الحق الذي لها في مراقبة حقوق الآخرين، وتنظيم هذه الحقوق في المجتمع، سواء كانت هذه حقوقًا أخلاقية أو قانونية أو مُتَّصلة بضرورة المحافظة على سلامة الأفراد في علاقاتهم مع بعضهم بعضًا؛ أي إن الدولة هي التي يصدر عنها القانون، وهي التي تقوم بتعريفه وتحديده، ثم تسهر على صونه وتقوم بتنفيذه.

والدولة لذلك في استطاعتها أن تؤلِّف بين العناصر التي تعتمد عليها في تكوينها، وأن تُدْمِجَ هذه العناصر إدماجًا تامًّا حتى تصبح وحدة متفقة كاملة. وبمعنى آخر: للدولة قوة إنشائية، تستطيع أن تخلق بها «الأمة». آيةُ ذلك أنَّ دولًا اصطناعيةً كثيرةً تدخَّلت عوامل سياسية وقانونية معينة في تأسيسها أصلًا، تمكنت بتوفر عاملي الوقت والاستقرار — إلى جانب تضافر مؤثرات أخرى — من إدماج العناصر المُختلفة التي تتألف منها لخلق «أُمَّة» معينة، كالأمة البروسية.

على أنَّ هناك فوارق ظاهرة بين الدولة والأمة؛ فالأمة ليست فكرة قانونية، بل هي حادث أو حقيقة من حقائق المجتمع، وهي لذلك «فكرة اجتماعية». ثم إنَّ الأُمَّة تختلف في مدلولها عن السكان أو الشعب الذين هم أفراد يعيشون معًا ومُتجاورين على رقعة معينة من الأرض، ثم كذلك الذين يخضعون لحكومة واحدة؛ فيؤلفون في هذه الحالة العنصر الجوهري الذي يقوم عليه كيان الدولة ذاتها من الناحية السياسية.

ولقد فهم أهل العصور الوسطى «الأمة» بمعنى أنها الأصل أو الأرومة التي نَبَتَ منها شعب من الشعوب، فقالوا مثلًا إنَّ جامعة باريس تتألف من أُمم أربع؛ هم الفرنسيون والنورمانديون والبيكارديون والألمانيون. وأثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر طرأ تغيير على هذا المعنى، فصار المقصود «بالأمة»: الكيان أو الجثمان السياسي الواحد، فقرب معنى الأمة حينئذٍ من معنى الدولة بالكيفية التي أشرنا إليها؛ حتى إذا كان آخر القرن الثامن عشر أوجد رجال الثورة الفرنسية معنًى للأمة أرادوا أن يُمَيِّزوا به الدَّولة الفرنسية في عهدها الجديد، وبأنظمتها الجديدة التي تتعارض مع الدولة الفرنسية في عهدها الغابر وبنظامها الملكي القديم.

فالأُمَّة في اعتبار هؤلاء كانت الدولة؛ ولقد عرفوا «الوطنيين» Patriots بأنهم أولئك الذي تمسكوا بالآراء الجديدة في كل ما يتصل بنظام الدَّولة وشئونها، وراحوا يُؤيدون هذه الآراء الجديدة تأييدًا تامًّا. وفي هذه الصورة الأخيرة اتسعت «فكرة» الأمة لتشمل في معناها عناصر مشتركة بينها وبين مدلول السكان أو الشعب ومدلول الدولة، فصارت تُعَرف «الأُمَّة» بأنَّها مجموعة من الأفراد الذين ولدوا في بلد من البلدان، وتجنسوا بجنسية واحدة، وعاشوا في ظل حكومة واحدة. ثم صارت «الأمة» تعني إلى جانب ذلك مجموعة من المواطنين الذين يعتبرون جثمانًا اجتماعيًا مُنفصلًا عن الحكومة التي تحكمهم؛ فأوجد هذا التعريف إذن فروقًا ظاهرة بين «فكرة» السُّكان أو الشعب وبين «فكرة» الأُمَّة، حيثُ إنَّه قد أدخل في معنى الأمة عناصر أخلاقية وسياسية كان تعريف الشعب أو السكان يخلو منها.

وثمة تعريف آخر للأُمَّة بمعنى أنها: مجموعة الأفراد الذين يعيشون مجتمعين على أرض واحدة، وقد يخضعون أو لا يخضعون لسلطان حكومة واحدة، ثم تربطهم من أزمان طويلة مصالح مُشتركة، حتى إنَّ المرء ليعتبرهم جميعًا من أصل أو جنس واحد.

وفي ضوء هذا التَّعريف يتضح أنَّ الأُمَّة بمعنى المجتمع السياسي مرتبط كيانها بالشعوب أو السكان الذين تتألف منهم دون أن يكون ثمة حاجة لقيام «سلطة حكومية» على غرار ما يحدث في الدولة، فلا اتفاق أو «تواؤم» في هذه الحالة بين الأُمَّة وبين السلطة؛ وبالتالي بين الأمة وبين الدولة، في حين تدلُّ «الأمة» في هذا المعنى الأخير على امتزاج وترابط خلقي كامل، وصار لا يقصد بالأُمَّة مدلول إحصائي؛ أي عدد أفراد الشعوب والسكان الذين تتألف هذه منهم. وعلى نحو ما هو ظاهر عند كلامنا عن شرف الأمة وعلم الأمة وأموال أو أملاك الأمة، وكذلك مؤتمر الأمة (الجمعية الأهلية أو المؤتمر الوطني في تاريخ الثورة الفرنسية)، وهكذا؛ مما يدلُّ على معنى اشتراك جميع العناصر التي يتألف منها الشعب أو السكان الذين يرتكز عليهم صرح الدولة في مُثُل واتجاهات أخلاقية واحدة.

وهناك فارق بين الأمة وشعوبها (أو سكانها) المنتسبة إليها، وبين «الوطن» الذي هو الأرض التي ولد بها الإنسان ونشأ وترعرع عليها، والذي هو لهذا السبب نفسه مسقط الأوائل والجدود، ومبعث العاطفة الوطنية التي تبعث في الإنسان مجد الأرض التي نبت فيها، وتدفعه للذود عنها؛ ولذلك كان الوطن «فكرة» عاطفية، في حين كانت الأُمَّة «فكرة» اجتماعية، والدولة فكرة قانونية، فالوطنية تعريفها: أنَّها العاطفة التي تشعر بها الشعوب التي تتألف الدولة أو الأمة منها.

على أن هذه الفوارق الملحوظة في كل المعاني التي ذكرناها لم يعد لها وجود في البلدان التي تتمتع بتاريخ قديم، وتم تكوينها من أزمان طويلة؛ ففي فرنسا مثلًا سرعان ما صارت متفقة مدلولات «وطن، شعب، أمة، دولة»، وصارت معانيها واحدة، لدرجة أنَّ أكثر المؤرخين الذين أرادوا تصوير ما حصل من يقظة الشعور القومي أثناء ما وقع من أحداث في فرنسا في سنتي ١٧٨٩ و١٧٩٠ سرعان ما وجدوا لزامًا عليهم أن «يُميزوا» بين الأُمَّة والدولة. ولو أنَّ القومية Nationalism كفكرة ومبدأ — أي في أصولها الفلسفية والتاريخية — كانت ترتد إلى أبعد من ذلك، إلى القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي.

وعلى ذلك قد يكفي أن يذكر المرء أنَّ الأُمَّة معناها: الشعور بوجود مُثُل واتجاهات «عالية» أَخلاقية مُشتركة، وأن «الأمة» تقوم على أُسس وروابط روحية، وليس على روابط سياسية فحسب كما هو حال «الدولة»، أو على روابط جثمانية «عضوية» كما هو حال «الشعوب». وإن الشعور الكامل بوجود هذه الرَّوابط الأخلاقية المشتركة هو مساك الأمة والدعامة التي يرتكز عليها كيانها نفسه.

أما القومية فلها معانٍ متعددة؛ من ذلك: المعنى «القانوني» إذا أريد بالقومية التبعية من النَّاحية القانونية لدولة معينة، وفي هذه الحالة يقصد بها الجنسية في قولنا القومية أو الجنسية الفرنسية أو الإنجليزية … إلخ. ولا يدخل في نطاق البحث الاهتمام بهذا المعنى القانوني، ثم إنَّ للقومية معنًى سياسيًّا يُمكن تعريفه في ضوء ما سبق أن عرضناه بشأن مدلولات الأُمَّة والدولة بأنَّه طابع وصفة فحسب، وليس حدثًا أو واقعةً (أو فعلًا ماديًّا)، وبهذا المعنى الأخير تعتبر «القومية» مُصطلحًا حديثًا يكاد يتفق المؤرخون على أن مدام دي ستال Stael الفرنسية كانت أول من استخدمه في العصر الحديث.
ومدام دي ستال (١٧٦٦–١٨١٧) ابنة المصرفي السويسري الأصل «جاك نكر» Necker الذي تولى الوزارة في فرنسا في عهد مليكها لويس السادس عشر، نالت شهرة ذائعة كأديبة وكاتبة نابهة، وضعت مؤلفًا عن «ألمانيا» De l’Allemagne، وظهر فيه مصطلح القومية بمعناها السياسي. وفي سنة ١٨٢٣ أخرج العالم اللغوي الفرنسي «كلود بواست» Claude Boiste معجمًا في اللغة الفرنسية عرَّف فيه القومية بأنها: تعبير حديث يدلُّ على طابع أو صفة وطنية خاصَّة، وعلى وجود روح وطني ومحبة وأخوة وشعور بالوطنية مما يشترك في الاتصاف به جميع الناس. وفي سنة ١٨٢٥ نقل عن الألمانية أحد الناشرين الفرنسية «لورتا» Lortat كتابًا عالج فيه صاحبه بوضوح القومية وروح الشعوب الألمانية، والأنظمة المناسبة لعوائدهم وخلقهم، فاعتذر النَّاشِرُ في مقدمته لهذا الكتاب عن استخدام مصطلح القومية الحديث، والذي اختصه بمعنى لا يُوحي بالمعاني الدارجة والتي ألفها الناس في عصره.
ثم حدث أن بدأ في سنة ١٨٣٤ ينشر كلٌّ من بوشيه Buchez ورو Roux بالتعاون فيما بينهما «تاريخ الثورة الفرنسية البرلماني» الذي تمَّ في ثمانية وأربعين جزءًا، واستغرق إنجازه أربع سنوات (١٨٣٤–١٨٣٨). وقد أفرد «بوشيه» في أوَّل أجزاء هذا التاريخ عند صدوره فصلًا تحدَّث فيه عن القومية الفرنسية. وقد فسر «بوشيه» بعد ذلك بحوالي الثلاثين سنة ما كان قد قصد إليه عند الكلام في كتابه هذا عن القومية، بأنَّه إنما أراد ابتكار تعبير أو مصطلح جديد، حاول كل هذه السنوات العديدة جهد طاقته أن يحرص على بقاء المعنى الذي أراد أن يختص به هذا المصطلح أو التعبير الجديد.

أما وقد صار الآن هذا المعنى الذي أراده مُسلَّمًا به، فإنَّ المقصود «بالقومية» — على حد قوله — لم يعد مُجَرَّد التعريف «بالأُمَّة» فحسب، بل صار المقصود بها كذلك الدلالة على أنَّ هناك شيئًا مُعينًا يضمن بقاء الأُمَّة ويكفل وجودها، حتى لو كانت هذه الأُمَّة تفقد الحق في ممارسة شئونها بنفسها على أساس الحكومة الذاتية.

ولقد قبلت الأكاديمية (المجمع العلمي) في فرنسا في معجمها الذي نشرته في سنة ١٨٣٥ المعنى الذي اختص به مصطلح «القومية»، وهو المعنى الذي حصل ذيوعه أيام الإمبراطورية النابليونية من قبل، ثم لم يلبث أن تأكد تمامًا أثناء ثورة يوليو سنة ١٨٣٠ المشهورة في فرنسا؛ فعرف الناس «القومية» وقتئذٍ بأنَّها: الاجتماع أو التكتل الذي يحدث بين الأفراد وتم حصوله فعلًا، وفي الواقع، في صورة «أمة»، أو كانت تحدو هؤلاء المتكتلين الرغبة في تكوين أُمَّة متميزة عن غيرها من الأمم، وذلك في كلا الحالَين بفضل ما لدى هؤلاء من تقاليد واحدة ومصالح مُشتركة وانتمائهم إلى أصل واحد، كما عرف النَّاس «القومية» بأنَّها: مجموع كل تلك الخَصَائص التي تطبع الأُمَّة بطابعها الخاص بها والذي يميزها عن غيرها من الأُمم، والتي يقوم عليها في الوقت نفسه كيان الأمة.

ومما تجدر مُلاحظته أنَّ هناك دولًا لا يمكن اعتبارها أممًا أو أنَّ لها طابعًا قوميًّا، في حين أنَّ هناك أُممًا أو قوميات لا يمكن اعتبارها دولًا، سواء أكانت هذه الأمم والقوميات مما يدخل في نطاق دولة معينة، مثال ذلك: الإمبراطورية النِّمساوية — في القرن التاسع عشر — التي تتألف من عناصر أو أجناس مُختلفة عاشت مُتجاورة ضمن حدود الدولة النِّمساوية الهنغارية، أم كانت هذه الأُمم والقوميات موزعة على أكثر من دولة واحدة: كالأُمَّة البولندية، التي أسفر تقسيمها خلال القرن الثامن عشر (في سنوات ١٧٧٢، ١٧٩٣، ١٧٩٥) عن تشتيت هذه الأمة وتوزيعها بين دول ثلاث: روسيا وبروسيا والنمسا.

وعلى ذلك؛ فقد تَعَذَّر دائمًا أو أكثر الأحايين من النَّاحية التاريخية أن يكون هناك اتفاق أو تواؤم بين «القومية» و«الدولة». ولكنَّ المبدأ القومي يقتضي من الناحية النظرية وجود هذا الاتفاق والتواؤم بين الدولة والقومية؛ ولذلك صارت الحركات القومية في القرن التاسع عشر تستهدف المواءمة بين الدولة والقومية، وكان من أغراضها أن تجمع بينهما في صعيد واحد كي يتسنَّى إنشاء «الدولة القومية».

ولقد قامت صعوبات ومشاكل، كان لا نُدحة عن مُحَاولة مُعَالجتها وتذليلها في طريق هذا التطور التاريخي الذي انتهى بانتصار المبدأ القومي. من هذه المشكلات معرفة مدى الامتزاج الذي يجبُ حدوثه بين الدولة والقومية، والفصل في أي العناصر والعوامل يجب إخضاعها لغيرها أو أنَّ من الضروري التخلي عنها إذا لزم الأمر.

فإذا انتشر الشعور القومي بين شعب يعيش في أقاليم مُتفرقة «جغرافيًّا» بحيث يجعل هذا التوزيع الإقليمي من المُتعذر على هذه القومية المعينة — أي أهلها — أن يَعيشوا معًا «جغرافيًّا» وفي رباط واحد، هل يكون ممكنًا أن تتألف الدولة من مثل هذه القومية؟ وثمة مُشكلة أخرى: هل يتفق وجود قومية ما — أي شعب نضج شعوره القومي — في إقليم مُعَيَّن مع قيام «دولة» في هذه البقعة إذا كان من المُتَعَذَّر أن يكون لهذه الدولة في أرضها حدود يمكن الدفاع عنها؟

ثم إن القومية يدخل في تكوينها عدة عوامل لا غنى عن توفرها لنشأتها كذلك، كاللغة والجنس والدين والتراث التاريخي واتحاد العاطفة الاجتماعية والمشاركة في الحياة العامة. فأي هذه العوامل إذن يصحُّ إيثاره على غيره، وجميعها لا غنى عن أحدها في تكوين القومية ونشأتها وظهورها؟ ولقد تعددت «النظريات» المتصلة بتعريف القومية تبعًا لتعدد العوامل التي ذكرناها. فالقومية تارة هي في اعتبار فريق من الناس اشتراك في جنس واحد، وتارة أخرى هي الكلام بلغة واحدة، أو هي الشعور بعاطفة روحية اجتماعية واحدة، وهكذا.

على أنَّ هذه النَّظريات لا تلبث أن تنتقل من ميدان الفكر الفلسفي إلى عالم السياسة، سواء عند النَّظر في علاقات الدولة «الدَّاخلية»؛ أي بحث الروابط التي تجمع بين كل هذه العناصر المُختلفة والتي تتضافر على تأسيس وتكوين الدولة، وسواء عند بحث العلاقات التي تربط في الميدان الدولي بين كل دولة وأخرى.

ولقد كان الانتقال إلى عالم السياسة؛ أي العمل من أجل «تطبيق» الفكرة القومية، مبعث الخصومات والنزاعات التي أثارت الحروب من جهة، كما أنَّه كان من جهة أخرى مبعث ما ظهر من «نظريات»، سواء أكانت هذه أنجلو سكسونية أم فرنسية أم ألمانية، لتعريف الدولة والقومية ولتجديد العلاقة بينهما. واختلفت هذه النظريات بعضها عن بعض اختلافًا عظيمًا، حتى لقد بات واضحًا أنَّ ثمة نتائج تاريخية خطيرة سوف تنجم لا محالة عن مُحاولة تطبيقها إذا ما عمد أصحابها إلى إعادة تأسيس أو تنظيم الدول على قواعد جديدة، سواء اتفقت هذه أو لم تتفق مع مبدأ «القومية».

ولا يعنينا بحث هذه النَّظريات أو الدخول في جدل فلسفي أو سياسي لإظهار قيمتها، ووزن آثارها من ناحية الفكر والرَّأي الشخصي، ولكن الذي يعنينا منها هو معرفة ناحيتها الإيجابية؛ أي إدراك النتائج التي أسفرت «تاريخيًّا» عن تطبيقها في صورة كل ما وقع من أحداث ونشأ من اتجاهات شغلت مجرى «التاريخ» من بداية هذا التطبيق إلى نهايته.

ولعل أهم الحقائق التي يجبُ ذكرها في هذا الشأن أنَّه لما كان «لفكرة» الأمة والقومية صور مختلفة، أو بقول آخر معانٍ مختلفة، فقد اختلف «التطبيق» من وقت لآخر، وتنوعت الإطارات التي برزت فيها إلى الوجود هذه الفكرة؛ ولذلك فقد بات جديرًا بالاهتمام معرفة ما وقع من أحداث عند حصول هذا «التطبيق» من جهة، ثم إدراك ما طرأ على «الفكرة» القومية ذاتها من تطور، وما ترتب على هذا أيضًا من تطور في تطبيقها.

ومعنى ذلك دراسة الحركات القومية، في القرن التاسع عشر، ودون حاجة لدراسة «فكرة» القومية ذاتها، أو المبدأ القومي «مجردًا»، وتلك دراسة إيجابية تقوم على معرفة ما نجم من وقائع عند تطبيق فكرة القومية، ومن شأن ذلك تحديد الأثر الذي كان للمبدأ القومي في تطور التاريخ الأوروبي في القرن التاسع عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤