الفصل الثاني

القومية: أصولها الفلسفية

القومية كفكرة نظرية: كان لانتشار القومية — كفكرة ومبدأ — الأثر الأكبر في تشكيل كل ما طرأ من تغيرات على خريطة أوروبا السياسية في القرن التاسع عشر، حيث قد أجريت دائمًا باسم القومية التعديلاتُ التي رَسَمَت الحدود بين الدول خلال هذا القرن. ولم يشذَّ عن ذلك سوى حدثين فقط؛ أولهما: ضم الألزاس واللورين «الفرنسية» إلى الإمبراطورية الألمانية الناشئة في سنة ١٨٧١، وثانيهما: وضع البوسنة والهرسك اليوغسلافية، ومن أملاك الدولة العثمانية، تحت إدارة النمسا «إمبراطورية النمسا والمجر» في سنة ١٨٧٨. فقد انتهى فيما عدا هذين الحدثين، كلُّ ما حصل من تغييرات في خريطة أوروبا السياسية بين عامي ١٨١٥–١٩١٩ بإنشاء الدولة القومية وتشييد صروحها.

والقومية كفكرة: يُقصد بها تحرر الشعوب من كل سيطرة أجنبية عليها، وكمبدأ أو كقوة دافعة ومُحَرِّكة: يُقصد بها تطبيق هذه «الفكرة» تطبيقًا عمليًّا. وبهذا المعنى تصبح القومية غرضًا أو هدفًا في حد ذاته، تتضافر الجهود على تحقيقه، ثم تغدو في الوقت نفسه «مبررًا» يسوِّغ ما يقع من تغييرات سياسية. والقومية كقوة دافعة ومُحَرِّكة لا تقل أهميتها كعامل إنشائي في تكوين الدولة القومية (أو الوطنية) الحديثة في القرن التاسع عشر، عن كل تلك القوة الدَّافعة والمُحَركة، ذات الأثر الواضح في تشكيل حوادث العصور السابقة — وهي التي سبقت الإشارة إليها في التعريف بالقومية — كعامل الوحدة الدينية، وإنشاء الملكية الثابتة المستقرة، وتأسيس الدولة بمعناها السياسي الحديث، وكل تلك عوامل ساعدت على تكوين أوروبا من الأزمان (العصور) الوسيطة.

ولقد كان كل واحد من هذه العوامل ينطوي على رغبة في الاستئثار بالسلطة، وامتداد السلطان أو التوسع. والقومية مثلها كمثل هذه القوى الدَّافعة ذاتها لا تعدو هي الأُخرى أن تكون من النَّاحية التطبيقية مظهرًا من مظاهر هذه الرَّغبة في الاستئثار بالسلطة وامتداد السلطان أو التوسع. ولذلك صارت القومية «أداة» للتمتع بالسلطة «الداخلية» إذا أراد شعب أن يتحرر من ربقة السيطرة الأجنبية، ثم إنها صارت كذلك أداة للتمتع بالسلطة «الخارجية» إذا شاء شعب أن يضم إليه شعوبًا أُخرى مُتَّحدة معه في الجنس أو اللغة أو الدين أو التقاليد أو العادات. وكانت هذه الشعوب لا تضمها إليه حدود واحدة؛ أي خارجة عن نطاق حدوده.

وظهور مبدأ القومية — وما تفرع عنه وارتبط به من آراء ومذاهب حرة، وديمقراطية تهدف إلى ضرورة أن يمارس كل شعب شئون الحكم بنفسه، عن طريق نوابه وممثليه بصورة واضحة وذات أثر فعال في تشكيل حوادث القرن التاسع عشر — كان نتيجة لما تمخضت عنه «الثورة الفرنسية» على وجه الخصوص، منها آراء ومبادئ.

على أنَّ فكرة القومية نفسها لم تكن وليدة هذه «الثورة الفرنسية» وحدها، بل لقد شهدت أوروبا بداية ظهور الفكرة القومية في السنوات القليلة التي سبقت اندلاع هذه الثورة، ثم اتخذت الفكرة القومية لبداية ظهورها ميادين أخرى غير فرنسا.

فقد ظهرت بوادر الفكرة القومية بين سنتيْ ١٧٦٠، ١٧٧٠ في إيطاليا، حيث تصدى لمُعالجة الفكرة القومية مؤرخان (من إيطاليا) هما «مافي» Maffei، «موراتوري» Muratori. وفي أوروبا الشرقية الجنوبية حيث نشر في ١٧٦٢ الأب «بائيزي» Paisi تاريخه «السلافي البلغاري» الذي تناول فيه قصة الشعب والقياصرة والقديسين في بلغاريا. وكان بحثًا قصره صاحبه على تاريخ شعب معين من عنصر أو جنس معين هو العنصر السلافي البلغاري، متميز من غيره من الشعوب؛ أي متمع «بقومية» معينة ومحددة. وفي اليونان، بدأت حركة قومية أثناء حرب الروس ضد الأتراك سنة ١٧٧٠، كان لها أكبر الأثر في شبه جزيرة المورة، وفي جزر الأرخبيل. وفي أوروبا الشمالية — في إسكندناوة — بدأت تظهر الفكرة القومية منذ سنة ١٧٦٠ حينما ظهرت أول الأقاصيص أو الأساطير الخرافية المُخْتصة بالأبطال والآلهة (المثولوجيا) الإسكندناوية.
ثم نشر بعد سنوات قليلة (١٧٧٢) جرهارد شوننج Gerhard Shoning تاريخًا للنرويج، كما ظهرت بعد شهور عديدة أنشودة «قومية» أو وطنية نرويجية، تدعو الشعب النرويجي إلى التحرر من السيطرة الأجنبية المفروضة عليه (الدنمارك) وتحطيم الأغلال التي رسف فيها أجيالًا طويلةً، وكان قبل ذلك بعام واحد فقط (١٧٧١) أن ظهرت في فنلندة كذلك أنشودة وطنية من الطراز نفسه، وكانت فنلندة تخضع لحكم السويد.
وفي ألمانيا كتب «جيته» Goethe في موضوع الوطنية، أو القومية الألمانية في سنة ١٧٧٣. وفي الأراضي المُنْخَفضة بدأ إحياء تسمية «بلجيكي»، وكانت الأراضي المنخفضة الجنوبية (البلجيكية) من الأملاك النِّمساوية. أضف إلى هذا أن تقسيم بولندة المعروف في سنة ١٧٧٢ بين الروسيا والنِّمسا وبروسيا سرعان ما أحدث رجة عنيفة في أوروبا، كان من المتعذر محو آثارها، عندما تشبَّث الشعب البولندي بمقوماته الأهلية، وبمعنى آخر «بقوميته»، وإن كانت هذه القومية لا تزال وقتئذٍ «مبهمة» بعض الشيء، بل زاد تمسكه بقوميته بالرَّغم مما حدث من تقسيمات تالية، على دفعتين: في سنة ١٧٩٣ بين روسيا وبروسيا، وفي سنة ١٧٩٥ بين روسيا وبروسيا والنمسا.
وتلك أحداث تدل جميعها على أن الشعور بالقومية كانت قد بدأت تظهر بوادره في هذا الحين بين الشعوب الأوروبية. على أنَّ أوروبا لم تكن القارة التي انفرد ظهور هذا الشعور القومي بها وحدها فقط، ففي العالم الجديد، كان صمويل أدمز Samuel Adams في ولاية «ماساشوسيت» بأمريكا الشمالية، في شتاء ١٧٧٢-١٧٧٣ يعدُّ برنامجًا لاستقلال «الولايات والمستعمرات الثلاث عشرة» عن إنجلترة واتحادها فيما بينها لتؤسس دولة و«قومية» جديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية.

وكانت هذه «ظواهر» مُتفرقة ولا سبيل للقول بأنها تنهض دليلًا على أن هذه الشعوب التي ذكرناها قد نضج شعورها القومي أو أنها صارت تُدرك معنى القومية إدراكًا صحيحًا كاملًا. ولكن من ناحية أُخرى لا جدال في أنَّ حدوث هذه «الظاهرة» في أماكن مُخْتلفة في وقت واحد إنما يبرهن على أنَّ هناك «فكرة» جديدة مُعَيَّنة قد أخذت تشيع بين الشعوب، هي «فكرة» القومية، ولا ينال من أهميتها أنها كانت لا تزال في هذا الدور الأول من وجودها «مبهمة» ولما يتولد منها بعد تلك القوى الدَّافعة والمُحركة التي سوف تُسيطر على تشكيل الحوادث طيلة القرن التاسع عشر.

على أنه مما يجدر ملاحظته كذلك أنَّ هذا العهد المتقدم قد شاهد كذلك بداية ظهور «النظريات» التي تناولت تفسير تلك القومية؛ فانقسم أصحاب فكرة القومية «النظريون» إلى فريقين: يتبع أحدهما «المدرسة الفرنسية»، والآخر «المدرسة الألمانية»، وتبنى كل واحدة منها تفكيرها على تفاعل العوامل التي تتألف منها «الشخصية» أو «الذاتية» الفرنسية أو الألمانية، وهي عوامل نفسية وخلقية مرتبطة أوثق الارتباط بتاريخ الشعبين الفرنسي والألماني، وهي كذلك قوائم هذا التاريخ نفسه.

(١) المدرسة الفرنسية

ومن المعروف أنَّ فرنسا كانت قد اكتمل تكوينها السياسي من أزمان طويلة، فبات متوقعًا أنْ تنشأ بين أهلها العاطفة القومية أو الوطنية من وقت مُبكر. فقالت النظرية الفرنسية بحق كل أمة في الحياة حقًّا مُطلقًا لا يمكن حرمانها منه، ولو تنازلت الأُمَّة نفسها عن هذا الحق بمحض إرادتها؛ ولذلك فقد انطوت النظرية الفرنسية على فكرة «التعاقد» Contrat، بوصف التعاقد أساسًا لكيان الأمة، فيحدث التعاقد في هذه الحالة بين الشعب وصاحب السيادة الشرعية عليه.
في العصور الوسطى، عبَّر عن هذا الرَّأي فيليب بوت Philippe Pot في برغنديا، وذلك أمام مجلس الطبقات الذي انعقد سنة ١٤٨٤ عقب وفاة ملك فرنسا لويس الحادي عشر لتأليف مجلس للوصاية. وفي العصور الحديثة ظهرت نظرية استحالة نقل حقوق السيادة التي على شعب معين والتنازل عنها لسلطان آخر، حينما تنازل فرنسوا الأول — ملك فرنسا — إلى الإمبراطور شارل الخامس عن برغنديا في معاهدة مدريد سنة ١٥٢٦، فأعلن البرغنديون في ٤ يونيو ١٥٢٦ أنَّ ملك فرنسا لا يملك حق التنازل لملك أجنبي عن بلادهم من غير موافقتهم.

وثار جدل طويل عقب ذلك بين إسبانيا وفرنسا حول هذه المسألة، بسط فرنسوا الأول في أثنائه هذا الرَّأي في وضوح عندما قال: «ومن المتعذر قانونًا أن ينقل إنسان حقوق السيادة التي على مدينة من المدن أو مقاطعة من المقاطعات بدون إرادة أهلها ومن غير موافقتهم التامة على نقلها.»

وفي ١٦ ديسمبر ١٥٢٦ اتخذ برلمان باريس قرارًا نفى فيه أن للملك حق التنازل إلى ملك أجنبي عن مقاطعة من مقاطعات مملكته. وعندما حدث في سنة ١٥٥٢ أن ضمت فرنسا إليها أسقفيات تول ومتز وفردان (في الحرب التي أعلنها ملكها هنري الثاني على الإمبراطور شارل الخامس في فبراير ١٥٥٢)، أعلن أسقف متز لمواطنيه أنَّ الملك الفرنسي إنما جاء إلى هذه البلاد «مُحَررًا»، وأنه يُريد معاملة أهل متز المعاملة التي يلقاها الفرنسيون أنفسهم، وأنه يبغي أن يعلن شعب متز عن رغبته بمحض اختياره في الانضمام إلى فرنسا بدلًا من استخدام أساليب العنف والشدة من جانب الملك الفرنسي نفسه ليحقق هذه الغاية.

ولقد تأيدت هذه الآراء «الديمقراطية» و«القومية» أو الوطنية التي نادى أصحابها بضرورة استناد الدولة عند تأسيسها على رغبات الشعب المُطلقة الحرة، عند انتشار حركة الإصلاح الديني في أوروبا؛ وذلك لأنَّ الإصلاح الديني أتى بآراء سياسية ساعدت على نموِّ وتأييد فكرتَي القومية والديمقراطية. ولقد تمسَّك فريق البروتستنت (الهوجونوت) والكاثوليك بهذه الآراء أثناء الحروب الدينية في فرنسا؛ فنشر فرانسوا هوتمان Hotman، وهو من أعلام الهوجونوت، كتابه عن «الفرنجة والغالة» في سنة ١٥٧٤، وقد اعتمد في بحوثه على دراسة التاريخ الفرنسي لإقامة الحجة على أنَّ الشعب نفسه هو موئل السيادة العليا في آخر الأمر، باعتبار أنَّ القومية الفرنسية إنما تتألف من فرنجة وغاليين ربطت بينهم في اتحاد وثيق رغبةٌ مُطلقة وإرادة حُرَّة مُشتركة، جعلت هذين الفريقين يتَّحِدان في انتخاب ملك واحد بالاقتراع العام، هو أوَّل ملوكهم فيلبريك الأول (٥٣٩–٥٨٤) من الأُسرة الميرفينجية.

وتلك نظرية تفتقر من النَّاحية التاريخية لما يؤيدها. ومع ذلك فالذي يعنينا من أمرها أنَّها قائمة على فكرة التعاقد؛ أي العقد الذي يُبرِمه شعب من الشعوب بمطلق حريته وإرادته مع صاحب السيادة الشرعية عليه، كما أنَّها تنطوي عند التحليل النِّهائي على «فكرة» أنَّ الشعب هو مقر السيادة العليا في الدولة.

على أنَّ هذه النَّظرية التي جعلت قيام «الأمة» مستندًا على موافقة الشعوب والدخول في تعاقد بين هذه الشعوب وأولئك الذين يُمارسون حقوق السيادة العليا عيلها لم يلبث أن انزوت في ركن من النِّسيان خلال القرن السابع عشر عندما طغت نظرية «حق الملكية المطلق» على كل ما عداها من نظريات طول هذا القرن. ولم يكن معنى هذا الانزواء أنه قضى تمامًا على فكرة «القومية». آية ذلك ما فعله هنري الرَّابع — ملك فرنسا — عندما ضمَّ إلى بلاده في سنة ١٦٠١ إقليميْ بريس Bresse وبوجي Bugey، ويقعان بين فرعيْ نهر الرون، وكانا يدخلان ضمن حدود الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
فقد أعلن الملك الفرنسي إلى المفاوضين الإسبان أنَّه يبغي أن يبقى للإسبان لغتهم الإسبانية وللألمان لغتهم الألمانية. أما الذين يتكلمون الفرنسية فالأحرى أن يكونوا جميعًا تابعين له؛ أي للملك الفرنسي. وقال «صلي» Sully وزير هنري الرابع: «على المرء أن يُفكر طويلًا قبل الإقدام على ضم جماعة إلى جُثمان الدَّولة يختلفون عن أهل هذه الدَّولة في رُوحهم وتفكيرهم ولغتهم وعاداتهم بصورة تقضي على كل انسجام بداخلها.»
وعندما طرحت مسألة اللورين على بساط البحث بين الفرنسيين وسفير الإمبراطور ليوبولد الأول «لافوجيون» La vauguon سنة ١٦٨٥، وذلك حينما أراد لويس الرَّابع عشر أن يستكمل سيطرته على الإلزاس بالاستيلاء على الأقاليم المُجَاورة في حوض الراين الأوسط، قال الملك الفرنسي: «لا يوجد إنسان في فرنسا لا يعتبر اللورين جزءًا لا يتجزَّأ من المملكة، حتى إنَّه صار لا يجرؤ مخلوق على فصل اللورين دون إثارة غضب كل فرنسي وحقده.»

وواضح أنه من المُتعذر على المرء أن يلمس في أقوال هؤلاء الملوك الفرنسيين ووزرائهم ما يدل على وجود خطة مرسومة «لسياسة فرنسية» واضحة المعالم وذات أغراض ومقاصد محددة، عندما كانت سياسية هؤلاء سياسة إيجابية واقعية تقوم على فكرة «الدولة» وليس على فكرة «الأمة» ومقوماتها. على أنَّ من المُسَلَّم به في الوقت نفسه أن هؤلاء الملوك ما كانوا يترددون في الاستناد عند الضرورة على الآراء القائلة بضرورة اعتبار ولاء الشعب أو الأهلين الذين تضمهم الدولة داخل حدودها ركنًا أساسيًّا في قيام هذه الدولة ووجودها؛ الأمر الذي ترتب عليه أن صار الأخذ بهذه الآراء جزءًا من «تقاليد» السياسة الفرنسية الظاهرة.

بل إنَّ هذه «التقاليد» القديمة ذاتها هي التي أفضى وجودها إلى بروز نظرية واضحة المعالم في القرن الثامن عشر قامت على أركان هذه التقاليد، لتعريف الدولة وبيان الأُسس التي تقوم عليها؛ فقد كان حتى هذا الوقت وجود الدولة إطلاقًا مرتهنًا أصلًا بوجود السلطة العليا وتقريرها كشرط أساس لذلك؛ مما ترتب عليه أن صارت «الدولة» مرتبطة بمبدأ «الملكية». ولكن لم تلبث فكرة «الأمة» في القرن الثامن عشر أن أخذت تعلو على فكرة صاحب السيادة العُليا أو «السلطة» باعتبارها العامل الأساسي في تكوين الدولة. ولقد نجم من ذلك أن بطل اتخاذ مبدأ «حقوق الملكية المقدسة» معيارًا عند محاولة الحكم على «شرعية» الدولة أو عدم شرعيتها.

ولقد كانت هناك أسباب عديدة جعلت ضروريًّا التفكير من أجل ابتداع هذه النظريات الجديدة؛ لعلَّ أهمها أنَّ الخلاف سرعان ما دبَّ بين المُعاصرين عندما حاولوا تفسير أصول الدولة تفسيرًا تاريخيًّا. من ذلك ما نشره الكونت دي بولانفييه Bollainvilliers سنتيْ ١٧٢٧، ١٧٣٢ من بحوث تاريخية عن حكومات فرنسا القديمة حتى عهد هيو كابيه Hugues Capet، ثم عن طبقة الأشراف. فعرض النظرية القائلة بأنَّ الفرنجة الذين غزوا فرنسا وهزموا الغاليين هم الذين يؤلفون طبقة الأشراف (النبلاء) الفرنسية التي أخضعت الشعب لسلطانها. وكان غرض «بولانفييه» من ذلك تبرير كل الامتيازات التي تمتعت بها هذه الطبقة.
ولم يمض هذا «الرأي» دون مناقشة؛ فقد تصدى للرَّد عليه أحد رجال الدين وهو «آبيه دي بوس» L’Abbé du Bos الذي نشر سنة ١٧٣٤ «نقدًا تاريخيًّا لقيام المليكة الفرنسية ونشأتها في بلاد غالة»، فحاول إقامة الحجة على أنَّ الدولة الفرنسية إنما ترتد في أصولها إلى أسس رومانية، وليس إلى أسس فرنجية، وأن سُلطان الملوك الفرنسيين المطلق إنما هو مستمد من السلطان الروماني المطلق القديم، وليس مستمدًّا من غزو أرستقراطية الفرنجة للبلاد.

ولقد دار حول هاتين النظريتين المُتعارضتين: نظرية الأرستقراطية الفرنجية ونظرية السُّلطان المُطلق الرُّومانية، جدل طويل، جعل متعذرًا الوصول إلى رأي قاطع بشأن أصول الأمة الفرنسية ووحدتها. وتعذَّر الاتفاق بين أصحاب هاتين النَّظريتين على تفسير معين يوضِّح هذه الأصول من النَّاحية التاريخية؛ وعندئذٍ راح «المفكرون» يسعون للاهتداء إلى «آراء» أُخرى قد تُسَاعدهم على تقرير الحقيقة في ضوء نظريات تستند هذه المَرَّة إلى «الفِكْرة المثالية» المُجَرَّدة بدلًا من الاعتماد على التفسير التاريخي وحده فقط.

وثمة سبب آخر هو أنَّ «الأدباء» وأهل الرأي من المُعاصرين سرعان ما نزلوا إلى ميدان السياسة في هذا القرن (الثامن عشر)، وأخذوا يُعالجون موضوعات الفلسفة السياسية، وتلك ميادين وموضوعات ظلت جميعها حتى هذا الوقت لا يطرقها أو يتناولها غير رجال الدين ومفكريهم ثم رجال القانون. كما أنَّه كان قد بدأ يحدث في هذا الحين رد فعل ملحوظ ضد سلطة الملوك الاستبدادية. فنشر في سنة ١٧٤٧ الفيلسوف الكاتب «جان جاك بورلاماكي» Burelamaqui (١٦٩٤–١٧٤٨)، وأصله من جنيف، مؤلفَه عن «مبادئ القانون الطبيعي»، ثم نشر الفيلسوف الفرنسي «مونتسكيو» في العام التالي (١٧٤٨) كتابه المشهور عن روح التَّشريع أو القوانين. ثم عظم نشاط أصحاب الموسوعة «الإنسيكلوبيديين» الفرنسيين بعد ذلك. ومن هاتين المدرستين برزت إلى عالم الوجود نظرية «الحرية السياسية».
ولقد أخذ هؤلاء المُفكرون على عاتقهم أن يبحثوا من جديد كلَّ الآراء القديمة عن «الأُمَّة» و«الدولة»، سواء أكانت هذه دينية أم قانونية. فهم أصحاب الفضل في تحديد معنى مصطلح «الشعب» بما يدل على المشاركة في المنبت، كما صارت تدلُّ فكرة الأمة في معناها الجديد على وجود تنظيم سياسي واجتماعي مُعَيَّن، فلم يعد لها ارتباط بالحقائق التاريخية؛ أي إنَّ معنى الأُمَّة بتعبير أدق صار يستند تدريجيًّا على التفكير «العقلي» ويبدو مُتَعارضًا تمامًا مع التفكير «التاريخي». فيدون أحد المعاصرين، الماركيز دارجانسون d’Argenson في «جورناله» بتاريخ ٢٦ يونيو ١٧٥٤:

أن الآراء القومية والوطنية هي السائدة الآن؛ مما قد يكون له آثار بعيدة، حيث يكثر في الوقت الحاضر ترديد كلمتيْ أمة ودولة بصورة لم ينطق بهاتين الكلمتين أحد البتة على أيام لويس الرابع عشر. كما أن أحدًا لم يكن وقتذاك يُدرك كنههما، ولم يسبق أن صار المرء يلم بما للأمة والحرية من حقوق، ويُدرك تمامًا هذه الحقوق مثلما هو حادث اليوم.

ولا شك أنَّ إخضاع هذه المسائل لقوة التفكير العقلي؛ أي تحكيم العقل فيما يعرض من ظواهر لمعرفة حقيقتها، وإخضاعها لقوة المنطق، والتمعُّن الفلسفي، جعل مُمْكنًا تفسير أصول الدولة والأمة، وصياغة النظريات اللازمة لمُعَالجة هذه الموضوعات وما يتصل بها. وكان بفضل هذه القُدرة على استخدام العقل والفكر عند مراجعة الآراء القديمة، ومُحَاولة وضع تفسير «عقلي» لمعنى الدولة والأمة، أن صارت الفكرة التي ينطوي عليها معنى «الأمة» ويرسم لفظ «الأمة» في الأذهان مدلولها، وثيقةَ الصلة بالمعنى الذي يوحي به الكلام عن «الجماعات القومية» أو الوطنية؛ فانفصلت بذلك فكرة الأُمَّة هذه عن الفكرة القانونية التي ينطوي عليها معنى «الدولة»، وصارت مُتَّصلة بدلًا من ذلك بفكرتي الحرية والحقوق؛ أي إنَّ الكلام عن الأُمَّة صار يستتبع حتمًا الكلام عن الحريات والحقوق التي لأفراد وأبناء هذه الأمة.

ولقد كاد ينجم عن الانتقال إلى هذا التفسير الواسع لفكرة الأمة خطر القضاء على الشعور الوطني الأولي؛ أي الشعور بواجب الدفاع عن الوطن والتفاني في خدمته، والاستعاضة عن هذا الشعور الوطني بشعور آخر إنساني يهدف إلى إزالة الفوارق بين الأمم. ولكن هذا الانسياق وراء العاطفة الإنسانية سرعان ما أوقفه أو عمل على تصحيحه واجب السير في سياسة خارجية معينة أدت إلى إشعال الحروب التي خاضت الثورة الفرنسية غمارها. بل إن رجال الثورة أنفسهم لم يلبثوا أن كافحوا لقمع هذا الانسياق وراء العاطفة الإنسانية أو «العالمية»؛ أي ضد الاندماج في حياة لا تُقيم وزنًا للفوارق القائمة فعلًا بين الأمم المُختلفة.

فقال بيير فرنسوا روبير Pierre F. J. Robert من حزب دانتون، في المؤتمر الوطني: «بودي لو أنَّ المشرع الفرنسي في وسعه أن يتناسى العالم لحظة واحدة لينصرف للانشغال بشئون بلاده. وحبذا لو كان لدينا ذلك النَّوع من الأنانية الوطنية التي بدونها نكون قد أغفلنا واجبنا، وارتكبنا إثمًا في حق الوطن. إني أُحِبُّ جميع النَّاس، وأُحِبُّ على وجه الخصوص الأحرار جميعهم. ولكن محبتي ولا شك للأحرار في فرنسا أشدُّ وأقوى من محبتي لسائر الأحرار في أنحاء العالم.»

تلك إذن كانت الأسباب التي جعلت التفكير في صياغة «نظريات» معينة لتفسير مدلول أو مفهوم الأمة والدولة في فرنسا ضروريًّا.

أمَّا «النظرية» نفسها التي جاءت نتيجة لإخضاع الموضوعات المُتصلة بالأمة والدولة لقوة التفكير العقلي خصوصًا، ففي وسعنا القول بأنها قد خرجت إلى عالم الوجود بعد سنة ١٧٦٠ تقريبًا عندما نشر جان جاك روسو Rousseau في سنة ١٧٦٢ كتابه المشهور عن «العَقْد الاجتماعي»، ثم كتابه الآخر في سنة ١٧٧٢ عن «الحكومة في بولندة»،١ وينهج روسو في البحث طريقًا يتفق مع ما يتبعه أصحاب الموسوعة «الإنسيكلوبيديون» ومدرستهم، وهم الفلاسفة الذين يدينون بفكرة البحث المجرد؛ أي دون التقيد بالوقائع والأحداث، كمقدمات تُفضي إلى نتائج معينة. فهو يقول في «رسالته عن المساواة»٢ التي نشرت في سنة ١٧٥٤:

دعونا نترك جانبًا كل الوقائع!

فعند روسو، كما هو الحال مع «الإنسيكلوبيديين» ليس القياس الفرضي أو النظريات الافتراضية نتيجة استخلاص واستنتاج من الحقائق والأحداث الماضية القديمة لغرض تفسير هذه الوقائع والحوادث وبيانها، بل يجب أن يكون القياس الفرضي أو النظريات الافتراضية بمثابة المُبرر المقبول، والذي يسوغ بقدر الاستطاعة هذه الوقائع والأحداث ذاتها.
وأمَّا هذه الوقائع والأحداث فكانت كما عرفها وذكرها روسو أنَّ الإنسان قد مرَّ في أدوار مُتعاقبة بدأت بالحياة الطبيعية البحتة état Naturel، تتلوها الحياة الوحشية أو المتوحشة état sauvage، لتأتي بعدها الحياة الاجتماعية état Social؛ وهي الحياة الرَّاهنة التي وصفها روسو بأنَّها ملآنة بالآثام والشرور والرذائل، والتي لا تنفكُّ تدفع الإنسان على السير في طريق التدهور والانحطاط مرحلة بعد مرحلة. وأخيرًا الحياة المدنية état civil، وفي هذا الدور الأخير يتَّحِد الناس لإعادة بناء الدولة على أساس تعاقدي باسم المصلحة العامة.
على أنَّ روسو لم يتناول في كتاباته موضوع «القومية» أو «الوطنية» كمسائل قائمة بذاتها، ولم يضع للقومية تعريفًا محددًا؛ بل لقد درج روسو على استخدام كلمة «القومية» أو الوطنية بالمعنى المألوف في عصره؛ أي في صورة مجرد الانتساب «للأمة» والوطن. فيقول في كتاب محاوراته٣ وهو يصف نفسه أنَّه رَجُلٌ ينتمي للعالم بأسره l’homme du monde، يحترم أعمق الاحترام القوانين والأنظمة الوطنية (أي تلك التي تختص بها كل أمة).
ومع ذلك كله فقد كان روسو صاحب آراء في الوطنية أو القومية ساعدت على تفسير هذه المبادئ وتسويغها، من ذلك آراؤه المتصلة بنظرية «العقد الاجتماعي»، ذلك العقد الذي هو في نظره أساس المجتمع في مرحلة الحياة المدنية؛ أي أساس المجتمع «النموذجي»، والذي يستند عليه المبدأ القائل بأنَّ أساس المجتمع ودعامته إنما هو اجتماع المواطنين في زمرة واحدة، والذي تقوم عليه فكرة الاستعاضة بالإرادة العامة Volonté Générale عن الإرادة الفردية Volonté Individuelle السائدة في دور الحياة الاجتماعية، والقول بأنَّ هذه الإرادة العامَّة إنما هي تعبير صدر عن «كائن متضامن» être collectif، أو مجموعة أو طائفة وطنية. وفي اعتبار «روسو» أنه لا يزال هناك «كائن اجتماعي» في مرحلة الحياة الاجتماعية الرَّاهنة، وهو موجود فعلًا، ويتحتم على الجميع أن يحترموا حق هذا الكائن الاجتماعي في الحياة وفي إبداء آرائه والإفصاح عن رغباته في حرية كاملة.

ولقد كانت نظرية العقد الاجتماعي تنطوي كذلك على فكرة إخضاع الدولة بوصفها كائنًا أو جثمانًا أو تنظيمًا سياسيًّا لتلك الروح الوطنية المتولدة من اجتماع المواطنين وترابطهم فيما بينهم من أجل التنازل عن إرادتهم الفردية لخلق الإرادة العامة؛ أي وجوب إخضاع الدولة لسلطان الإرادة العامة.

ولم يغفل روسو في تفكيره السياسي — وخاصةً فيما يتعلَّق بمسائل الدين — وجود «الضمير الإنساني». بل شيَّد صرح فلسفته العامة على أساس احترام «الفرد». وذلك بالرَّغم من المبادئ التي ارتكزت عليها نظرية العقد الاجتماعي؛ أضف إلى هذا أنَّ روسو عند تفكيره في معنى «الدولة» طَفِقَ يعرض طائفة من الآراء تُلقي ضوءًا على المعاني الماثلة في ذهنه عن القومية أو الوطنية. من ذلك رأيه في وجوب أن يستهدف التشريع في الدولة مُراعاة روح الشعب نفسه؛ فتصدر القوانين تعبيرًا صادقًا عن قومية الشعب، ومرآةً صافية تعكس مشاعره القومية أو الوطنية؛ حتى يتسنى حينئذٍ المُحافظة على تقاليد وعادات الوطن. وأمَّا الوسيلة إلى تحقيق هذه الغَاية فهي التربية والتعليم قبل كل اعتبار آخر.

ولقد أوضح روسو هذه الفكرة بجلاء في رسالته السالفة الذكر عن «الحكومة البولندية» التي نشرها في سنة ١٧٧٢، وموجز القول: أنَّ من الضروري دائمًا المُلاءمة بين الدَّولة والرُّوح أو العبقرية الوطنية أو القومية. وتلك غاية أراد روسو بلوغها عندما حاول أن يضع دستورًا لبولندة على أساس جمهوري، ولو أنَّه من ناحية أُخرى لم يكن يرى مُستطاعًا إلا في حالة واحدة فقط الملاءمة بين هذا النَّوع من الدساتير لإقامة النُّظم الجمهورية وبين الشعور القومي أو الوطني، وذلك إذا كانت الدول المُرَاد وضع هذا الدستور الجمهوري لها دولًا صغيرة.

ويتضح مما تقدم إذن أن أقوال روسو نفسه لا تعنينا بقدر ما يعنينا إدراك حقيقة الرُّوح التي تغلغلت في كل كتاباته، ثم لوحظت آثارها في كتابات وآراء مُعَاصريه، والتي عبرت عنها فكرة الديمقراطية والجمهورية، وبمعنى آخر فكرة سيطرة السيادة الشعبية.

ولقد عمد تلامذة روسو وأتباعه إلى صقل تلك الفكرة التي أمكن استخلاصها من كتاباته وأقواله عن القوميَّة أو الوطنية وتحديدها، فعل ذلك الفيلسوف الألماني «إيمانويل كنط» Emanuel Kant (١٧٢٤–١٨٠٤)، الذي انتهى في بحوثه إلى أنَّ الإنسان وحدة ذاتية، وأنَّ للضمير سيطرةً مُطلقة على كلِّ ما يتصل بمسلكه؛ الأمر الذي يدعو إلى احترام الفرد كواجب حتمي، والامتناع لزومًا عن فرض أية إرادة أجنبية على الروح القومي أو الوطني.

واعتقد «كنط» أن القوانين الأخلاقية واحدة، بالنِّسبة للفرد والأمة على حد سواء، وكذلك يستحيل على المرء أن يتلمَّس مسوِّغًا أو ينتحل عذرًا يفسِّر أي حادث «اغتصاب» في التاريخ. ومع ذلك فقد كان «كنط» في تفكيره رجلًا لا يفرِّق في محبته بين بلد وآخر، ولا يعتقد بوجود فوارق بين الأمم يفصلها بعضها عن بعض، كما أنَّ فلسفته لم تكن تستند إلى أسس وطنية أو قومية أو أخرى مرتبطة «بالإنسانية» بمعناها المطلق؛ ولذلك صار من المتعذر إذا قصرنا البحث على الميدان السياسي الصحيح اعتبار أنَّه كان لهذا الفيلسوف (كنط) أثرٌ كبيرٌ في نمو وتطور النظرية التي جاء بها روسو.

أمَّا صاحب الأثر الواضح في نمو نظرية روسو وتطورها؛ فكان أحد رجال الدين المشهورين في فرنسا «آبيه مابلي» L’abbé Mably الذي نشر في سنة ١٧٦٣ بحثًا فلسفيًّا بعنوان محاورات أو مذكرات «فوسيون» Phocion في موضوعي الأخلاق والفلسفة،٤ و«فوسيون» هو القائد والخطيب اليوناني (من أثينا) الذي حكم عليه بتناول السم ليموت ظلمًا وعدوانًا.
ولقد نشر «مابلي» بعد ذلك بعامين كتابًا آخر بعنوان «آراء أو ملاحظات عن تاريخ فرنسا»٥ وفي هذين البحثين نجح «مابلي» في دعم أركان مبدأ المساواة، بل ومبدأ «الشيوعية» كجزء لا يتجزأ من كل تفكير اجتماعي. من ذلك أنَّ أُصول التاريخ الفرنسي إنما ترتد في رأيه إلى قيام نوع من الجمهورية الوطنية فرنجية وفرنجية غالية، وأن مجالس الطبقات (طبقات الأمة) إنما هي تعبير صادق للحياة الوطنية، ولا يمكن فصلها عنها، وتأتي في ترتيب ظهورها قبل قيام الملكية ذاتها، وأن لكل امرئ قانونه الخاص به أصلًا؛ أي إن الإنسان ولد يفعل ما يشاء؛ ولذلك فقد تعذَّر ارتباطه بنظام معين دون أن يقبل هو مقدمًا هذا الارتباط وبمحض إرادته.

وإمعان الفكر في النظريات التي أتى بها كلٌّ من روسو وكنط ومابلي يكشف عن حقيقة جديرة بالملاحظة، هي أن تفكير هؤلاء جميعًا إنما يصل بهم إلى نتيجة واحدة موجزها: اعتبار القومية (أو الوطنية) مجرد ارتباط بين إرادات حرة مُطلقة.

على أن المفكرين في فرنسا لم يقصروا بحوثهم على ابتداع المبادئ النظرية فحسب، بل لقد حاول كثيرون منهم تطبيق هذه المبادئ بصورة عملية. مثال ذلك ما فعله «الماركيز دارجانسون» الذي سبقت الإشارة إليه، والذي نشر في سنة ١٧٦٤ بحثًا بعنوان «آراء أو مُلاحظات عن حكومة فرنسا»٦ واشتمل على مشروع لتقسيم أملاك الإمبراطورية العُثمانية جعله «دارجانسون» يقوم على مبدأ القومية باعتبار أنَّ اليونان مُتمتعون بقومية خاصة بهم، وكذلك أهل آسيا الصغرى وأهل فلسطين وسوريا ومراكش. بل إن «دارجانسون» شرع يطبق هذا المبدأ «القومي» على أوروبا ذاتها عندما وجد مُسْتَطاعًا إنشاء اتحاد أو ائتلاف دائم يربط بين الدويلات الإيطالية وآخر يجمع بين الإمارات الألمانية، وإنشاء اتحاد من الإمارات الهولندية، وكذلك من المقاطعات أو الأقاليم السويسرية.

ولقد حدث في الوقت الذي كان يكتب فيه روسو ومابلي بحوثهما، كانت الولايات (المستعمرات) الثلاث عشرة الأمريكية تناضل من أجل استقلالها الذي أعلنته في يوليو ١٧٧٦. ومع أنَّ الاستقلال كان حدثًا سياسيًّا؛ أي نتيجة صراع سياسي (ضد إنجلترة الدولة المُستعمرة)؛ فقد نبذ الاستقلال سلطان «سيادة» وسيطرة أجنبية، وحقق الاستجابة «لشعور قومي» جديد، وأنشأ «قومية» جديدة. وعلى ذلك؛ فقد رَحَّب الفرنسيون باستقلال هذه الولايات باعتبار أنَّ استقلالها نجاح «عملي» للآراء والنظريات السياسية التي جاءوا بها حول «الدولة» و«القومية».

ومع ذلك، فلا جدال في أنه كان «للثورة الفرنسية» الفضل في انتقال هذه الآراء والمبادئ القومية من دائرة التفكير النظري إلى حيز التطبيق العملي؛ وذلك لأنَّ هذه الثورة بما انطوت عليه من معنى التحرر وتحطيم القيود القديمة كانت من جهة مبدأً «عالميًّا»؛ أي مما يأخذ به كل شعب من شعوب «العالم» يُريد الانطلاق من إسار الأنظمة السائدة في العهد القديم، ثم إنها من جهة أُخرى قد حملت في طياتها حلولًا عمليةً وتنظيمًا واقعيًّا لإنشاء مجتمع جديد.

والدليل على ذلك أن «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الصادر في ٢٦ أغسطس سنة ١٧٨٩ إنما يشتمل من الوجهة القومية أو الوطنية على فكرتين أساسيتين: أنَّ الأمة هي مقر السيادة العليا، وأنَّ القانون بيان للإرادة العامة، والذي يعبِّر عن رغبات هذه الإرادة العامة؛ أي إنَّ الإرادة العامة هي وحدها مستقر القانون «وضباط» التشريع؛ الأمر الذي يجعل لها صلاحية تعيين سيادة الأمة والمحافظة على بقائها؛ أي بقاء «الأمة». ولن يتسنَّى قيام «الدولة» في هذه الحالة إلا إذا وافق المحكومون موافقةً مُطلقة وبمحض إرادتهم على قيامها.

ولقد أمكن الوصول من هاتين الفكرتين الأساسيتين إلى نتيجة مزدوجة؛ شقها الأول أنَّ الثورة صارت ترفض فكرة الاستيلاء على الأراضي والأقاليم وامتلاكها «بحق الفتح»؛ أي إنها قد رفضت الاعتراف بأنَّ للفتوح حقوقًا تسوِّغ خضوع الشعوب لسلطان حكومات أجنبية عنها، وشقها الثاني أنَّها صارت من ناحية أُخرى تعترف بأنَّ للشعوب مهيضة الجناح، أو التي كانت تئنُّ من فداحة المظالم التي وقعت عليها على يد مغتصب السلطة بها، الحقَّ كل الحق في التحرر والخلاص بالانفصال من تلك السيطرة الغاشمة المفروضة عليها؛ وذلك لأنَّ «حق الانفصال» الذي يجبُ أن تتمتع به مثل هذه «الأمة» لا يعني في واقع الأمر إلا إتاحة الفرصة للشعوب «المغصوبة» حتى تتخلص مما هي فيه من ظلم تنوء من ثقله.

ومثل الأمم والشعوب في التمتع بهذا الحق مثل الأفراد الذين يكفل لهم «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الحق في مُقَاومة الظلم والعمل للانفكاك من ربقة الاستبداد.

ولقد كرس دستور الثورة الأول (٣ سبتمبر ١٧٩١) هذه المبادئ عندما أعلن في فصله السادس أنَّ الأمة الفرنسية قد نبذت ظهريًّا الدخول في حرب تبغي من ورائها الحصول على أية فتوحات، وأنَّها لن تستخدم قواتها للإضرار بحرية شعب من الشعوب. بل إن الحال ما لبث حتى تطور بعد شهور قليلة بانتقال الأمر من الإصرار على عدم استخدام القوات الفرنسية للإضرار بحرية شعب من الشعوب إلى وضع هذه القوات في خدمة الشعوب التي أرادت استرجاع حرياتها المغصوبة.

وحرصت فرنسا في عهد الثورة على دعم نظرية العقد الاجتماعي بصورة عملية، ثم إنها شرعت في علاقاتها الخارجية تعمل لتطبيق المبادئ التي تضمنتها هذه النظرية؛ ففيما يتعلق بالأمر الأول أحيت الثورة في احتفال «الوحدة القومية» La Fédération يوم ١٤ يوليو ١٧٩٠ ذكرى سقوط الباستيل الذي حصل في العام السابق، فوفد الممثلون الفرنسيون من مختلف الأقاليم والمقاطعات إلى باريس لإعلان اتحادهم الشعبي أو القومي في هذا العيد «الوطني»، ولدعم هذا الاتحاد وتأكيده، وسوف يأتي ذكر هذا الحادث مُفصلًا في موضعه.
وفيما يتعلق بالأمر الثاني، إنَّ الثورة عندما ضمت إلى فرنسا مقاطعتي فنيسان Comtat Venaissin و«أفينيون» Avignon، وكانتا تابعتين للبابوية منذ القرن الرَّابع عشر، طلب أهل هاتين المُقَاطعتين من البابا عقد «مجلس طبقات» يقدر على إعلان ضمهما إلى فرنسا، على اعتبار — كما قالوا — أن مُوافَقة الشَّعب موافقة تامة بملء إرادته ومطلق حريته الأساس الشرعي الوحيد، والذي لا غنى عنه لكل عمل يؤدي إلى الاستيلاء على أية أراضٍ وأملاك يُرَاد الاستحواذ عليها، كَمَا أَنَّ هذه المُوافقة التَّامَّة هي الأساس اللازم لدعم حقوق السيادة العُليا.
ومن الواجب قبل الخضوع لسيطرة أخرى أن يسبق ذلك الدليل على وجود هذه الموافقة العامة وعلى رضائها بما سوف يحدث. وواضح أنَّ هذا القول إنما معناه تقرير حق الشعوب في اختيار الحكومة أو الدولة التي يخضعون لسلطانها. ولقد لقيتْ هذه النظرية مؤيدين كثيرين وقتئذٍ من بين أعضاء «مجالس الثورة» المختلفة مثل روبسبيير وبارناف Barnave وبتيون Petion وغيرهم. كما تصدى من ناحية ثانية آخرون لمُعارضتها، من هؤلاء كان «ترونشيت» Tronchet القانوني الذي استند إلى ضرورة احترام مبادئ القانون القديم، وميرابو Mirabeau السياسي الذي لم يعتبر الظرف مناسبًا؛ ولكن سرعان ما تدعمت «النظرية القومية» وانتصر أصحابها حين وافقت الجمعية الوطنية التأسيسية في ١٤ سبتمبر ١٧٩١ على ضم كونتية فينسان وكونتية أفينون إلى فرنسا.

ولقد استندت «الثورة» على هذه «النَّظرية القومية» نفسها عندما أرادت أن تضع حلًّا لمسألة الأمراء الألمان الذين لهم أملاك في مقاطعة الإلزاس الفرنسية، وأثاروا مشكلات عديدة بسبب ممتلكاتهم هذه. فقد اتفق الرَّأي على أنَّ الإلزاس إقليم حصلت عليه فرنسا (من أيام صلح وستفاليا سنة ١٦٤٨)، وأنَّ امتلاك الأرض لا يُعطي هؤلاء الأمراء الألمان أية حقوق على هذه الأراضي مُنفصلة عن السكان الذين يعيشون عليها.

ولقد عمد أهل ستراسبورج (الإلزاسيون) للإفصاح عن رغباتهم وإرادتهم في تقرير مصيرهم بأن بادروا بإرسال بيان أو خطاب إلى «الجمعية الوطنية التأسيسية» بباريس في ١٨ مارس سنة ١٧٩٠ قالوا فيه: «إنهم قد وثقوا اتحادهم بفرنسا بفضل «الأيامين» التي حلفوها من هذا المكان نفسه، الذي لم يأسف آباؤهم على الانضمام منه إلى فرنسا. لقد أقسمنا وتردد هذا القسم الآن على بذل آخر قطرة من دمائنا لتأييد الدستور، وإذا لم تكن ستراسبورج قد نالت المجد والرفعة كالمدينة الأولى التي يُحتذى بمثالها في ميدان الوطنية بين مدن المملكة، فسوف يكون لها على الأقل شرف الصدراة كطريق كبير يقود لتحقيق الحرية الفرنسية بفضل وطنية سكانها وأهلها.»

وفي ٣١ أكتوبر ١٧٩٠ جاء في تقرير اللجنة السياسية التي عهدت إليها الجمعية الوطنية التأسيسية بحث هذه المسألة، وكانت اللجنة برئاسة النائب «مرلان دي دووية» Merlin de Doueai أن الشعب الإلزاسي متحد مع الشعب الفرنسي لأنه يُريد هذا الاتحاد؛ فإرادة الشعب الإلزاسي وحدها فقط، وليست معاهدة مونستر Munster — (وهذه مع معاهدة أوسنابروك Osnabruck) قام على أساسها صلح وستفاليا السالف الذكر سنة ١٦٤٨، وبمقتضاه احتفظت فرنسا بالإلزاس النِّمساوية ما عدا ستراسبورج والأراضي التي يمتلكها الأمراء الألمان الذين كانوا أتباعًا Vassals للإمبراطور مباشرةً في الإمبراطورية الرُّومانية المقدسة — هي التي جعلت هذا الاتحاد شرعيًّا.

والحقيقة أنَّ الثورة اتبعت هذه الأساليب نفسها؛ أي الاستناد إلى «النَّظرية القومية» وتطبيق المبدأ القومي، عندما عقدت استفتاءات عامَّة تمهيدًا لضم نيس وسافوي إلى فرنسا، فأفصح أهل هذه البلاد عن إرادتهم في الانضمام إلى فرنسا والاتحاد معها، واتخذ «المؤتمر الوطني» قرارًا بذلك في ٢٧ نوفمبر سنة ١٧٩٢.

وقال جريجوار Grégoire عضو المؤتمر الوطني تفسيرًا لهذا القرار وتأييدًا له: إنه تحقيق لمبدأ سيادة الأمة، وإن الطبيعة هي التي جعلت نيس وسافوي أقاليم فرنسية، وأخيرًا إنَّ هذين الإقليمين تربطهما المصلحة المُشتركة بفرنسا، ثم إن هذا الأسلوب نفسه لم يلبث أن اتبع لتفسير — والأحرى لتسويغ — ضم بلجيكا والشاطئ الأيسر لنهر الراين (الأقاليم الراينية) إلى فرنسا؛ فأعلن المؤتمر الوطني انضمام نيس في ٣١ يناير سنة ١٧٩٣، ثم أعلن انضمام بلجيكا في ١٤ فبراير، والمُقاطعات الراينية في ١٧ مارس، وذلك بعد عقد المجالس والاجتماعات من أهل كل هذه الأقاليم لإظهار رغباتهم وإعلان إرادتهم من أجل الانضمام إلى فرنسا والاتحاد معها تحقيقًا لمبدأ «القومية».

وهكذا ظهر إلى عالم الوجود في فرنسا من الناحية النظرية والواقعية «قانون عام» جديد، سواء فيما يتعلق بشئون الدولة الداخلية الخاضعة لأحكام القانون العادي الداخلي، أو ما كان مُتعلقًا بالشئون الخارجية؛ أي بعلاقات الدولة بغيرها من الدول مما يخضع لأحكام القانون الدولي. وفي هذا العهد حينما بدأت الثورة الفرنسية كان مبدأ القومية لا يزال وثيق الصلة بمبدأ الحرية السياسية، كما كانت «الوطنية» في هذا العهد تعني الانتصار للحرية ومحبة الوطن والذَّوْدَ عن حياضه في الوقت نفسه. وبذلك اعتبرت فرنسا «أمة» لأنها دولة مُتحررة؛ أي صارت تتمتع بالحرية الكاملة، وبهذا المعنى كتب المعاصرون عن فرنسا فوصفوها بتعريفهم لها أنها «الأمة العظيمة».

تلك إذن هي النظرية الأولى، وهي نظرية جوهرية في موضوع القومية، وكانت تستند في أساسها على تصورات أو مدركات فلسفية.

(٢) المدرسة الألمانية

وتغاير نظرية المدرسة الفرنسية (الفلسفية) النظرية التي أخذت بها المدرسة الألمانية وتتعارض معها؛ لأنَّ هذه الأخيرة نظرية تاريخية. وسبب الاختلاف بين هاتين المدرستين في تفسير معنى القومية أنَّ تكوين هذين البلدين التاريخي — فرنسا وألمانيا — كان يختلف في كلٍّ منهما عن الآخر بصورة أدت إلى وجود اختلاف في الاتجاه الفكري بين البلدين في نهاية القرن الثامن عشر، حتى صار لفكرتي الدولة والقومية معانٍ في ألمانيا مُغايرة لمعانيها في فرنسا. واختلفت النظرية الألمانية عن النَّظرية الفرنسية من ناحية تطورها والمراحل التي مرت بها حتى اكتمل نموها، ثم من ناحية الآثار التي ترتبت عليها بعد ذلك في توجيه الشُّعوب الأخرى في هذا الطريق «القومي» نفسه.

ولا معدى لإدراك النظرية الألمانية عن معرفة الأدوار التاريخية التي مرت بها ألمانيا ذاتها. ولقد خضعت ألمانيا في أثناء تكوينها التاريخي لآثار تجربتين سياسيتين على درجة كبيرة من الأهمية؛ أولاهما أنَّ ألمانيا بقيت ترسُفُ أزمانًا طويلةً في قيود العصور الوسطى، في حين تحررت فرنسا بتحطيم هذه القيود؛ فاستمرت ألمانيا تخضع لتأثير الآراء والمبادئ السائدة في العصر الوسيط. فلم تكن ترى تحت تأثير هذه الآراء والمبادئ الوسيطة في معنى السيادة العليا غير الإمبراطورية؛ أي إنَّ الفكرة التي أصبحت مُتغلغلة بها كانت الفكرة الإمبراطورية، وبمعنى آخر الفكرة «العالمية».

فلم يكن لمدلول «الدولة» القائمة على مساحة مُعَيَّنة من الأرض أيُّ وجود في فكرة الإمبراطورية أو أيُّ ارتباط بها، بل تتخذ الإمبراطورية مكانها مُتربعة فوق كل «الدول» الأخرى، ويتخذ الإمبراطور مكانه مُتربعًا فوق كل الملوك العاديين. والإمبراطور هو الذي يمثل الفكرة المسيحية في عالم السياسة، كما يمثل البابا هذه الفكرة نفسها في عالم الروح أو الدين. ولقد استتبع ذلك أنه صار متعذرًا بقاء الفكرة الإمبراطورية محصورة في ألمانيا فقط، بل اتسع ميدانها حتى تخطَّتْ الحدود الألمانية، سواء صوب الغرب أو صوب الجنوب؛ فدخل في نطاقها من النَّاحية الغربية حوض الرون واللورين، ومن الناحية الجنوبية إيطاليا الشمالية، كما أرادت إدخال إيطاليا الوسطى ورومة في نطاقها كذلك.

على أنَّ هذه الإمبراطورية الرُّومانية الجرمانية المُقَدَّسة التي امتدت غربًا وجنوبًا داخل الحدود الألمانية الجغرافية لم تكن تشمل الأقاليم التي انضمت فيما بعد إلى الرُّقعة الأوروبية بعد تأسيس هذه الإمبراطورية الرُّومانية الجرمانية المُقدسة على يد أوتو Otto العظيم (٩٣٦–٩٧٣)، وذلك نتيجة لإنشاء العواصم (أو الثغور) Marks التي أُقيمت على حدود أوروبا الجنوبية الشرقية؛ لوقف الغزو الآسيوي عن طريق النمسا والمجر (هنغاريا)، ثم ما حدث من توسع في الحدود الشرقية بسبب إرغام السلاف البولنديين على الارتداد والتراجع.

ومع ذلك، فإنَّ حدود الإمبراطورية الرُّومانية (الجِرْمَانية) المُقَدَّسة في نهاية القرن الثامن عشر لم تكن مُتَّفقة مع حدود ألمانيا وحدها وحسب؛ فبلغت مساحتها حوالي ستمائة ألف كيلومتر مربع، ويقطن بها حوالي ثلاثين مليون نسمة، وتطغى عليها بعض الدول أو الحكومات التي تتألف منها هذه الإمبراطورية وتعتبر جزءًا منها، مثل النمسا التي بلغ عدد سكانها في الأقاليم الدَّاخلة في نطاق الإمبراطورية عشرة ملايين ونصفًا، في حين بلغ عدد سكانها في الأقاليم الخارجة عن نطاق هذه «الإمبراطورية الرُّومانية الجرمانية المُقَدَّسة» أربعة عشر مليونًا، ومثل بروسيا بعدد سكانها الذين يبلغون مليونين ونصفًا داخل الإمبراطورية، ثم مليونين ونصفًا آخرين خارج الإمبراطورية.

وذلك توزيع كما هو واضح من شأنه تهيئة العوامل التي تجعل من المُحتمل كثيرًا في المُستقبل قيام حركات المطالبة بالحقوق السياسية داخل الإمبراطورية «الرُّومانية الجرمانية المقدسة» إذا شاء المرءُ أن يردَّ القومية إلى أصول تاريخية، أو أن يُؤلِّف وحدات قومية من بين الشعوب التي كانت في وقت ما جزءًا من هذه الإمبراطورية.

وهكذا انفصلت فكرة السيادة العليا الألمانية التي نبتت أصلًا كفكرة إمبراطورية عن كل سند إقليمي أو سياسي؛ الأمر الذي يجعل ممكنًا حصول الانفصام بين القومية الألمانية والتنظيم السياسي في ألمانيا، بل يفسره. تلك إذن كانت التجربة السياسية الأولى التي مرت بها ألمانيا.

ولقد كانت التجربة الثانية من بعض نواحيها مناقضة لهذه التجربة الأولى. ومردُّ ذلك إلى أنَّه لم يلبث أن ظهر في ألمانيا نوع من الدول التي خرجت تاريخيًّا إلى حيز الوجود بفضل عوامل مصطنعة، مثل بروسيا التي عمل آل هوهنزلرن (الأسرة الحاكمة بها) على تكوينها من أقاليم مختلفة دخلت في حوزة هذه الأسرة إما بطريق الإرث، أو التزاوج، أو كفتوحات بحد السيف، أو بالشراء، وتألفت منها مملكة بروسيا.

ولقد صار لبروسيا شكلها السياسي بعد خطوات كان أسبقها إنشاء براندنبرج إمارة انتخابية؛ أي أن يكون لناخبها (حاكمها) صوت في اختيار وانتخاب الإمبراطور في الإمبراطورية الرُّومانية «الجرمانية» المقدسة. ثم كانت الخطوة التالية تأسيس الملكية عندما منح الإمبراطور ليوبولد الأول في سنة ١٧٠٠ لقب الملك فردريك الأول ليستميل بذلك إلى جانبه أحد أمراء الإمبراطورية الأقوياء في حرب الوراثة النمساوية المنتظرة.

ويرجع الفضل فيما بلغته بروسيا وقتئذٍ من بأسٍ وقوة إلى تنظيمها البيروقراطي المُحكم، ثم إلى وجود جيش نظامي قوي بها. وطول مُدَّة تكوينها ظل الجيش والبيروقراطية العنصرين الأسياسيين في تشييد صروحها. ثم جاءت الخطوة الأخيرة لإعطاء بروسيا شكلها السياسي عندما أنشأ بها فردريك الثاني أو الأكبر (١٧٤٠–١٧٨٦) الحكومة المستبدة المُطلقة. وفضلًا عن ذلك، فآل هوهنزلرن هؤلاء هم الذين أوجدوا بروسيا من حيث إن «سكانها» أو أهلها صاروا يتألفون من العناصر، أو الأجناس، التي جلبها الملوك البروسيون نتيجة لسياستهم الاستعمارية أو الاستيطانية الواسعة، والتي اضطروا لاتباعها من أجل تعمير الأراضي التي كانت لا تزال — داخل ملكهم — غابات وأحراشًا؛ فجلبوا لها المُعمرين من أنحاء أوروبا، وبذلت الإدارة قصارى جهدها لإدماج هذه العناصر الجديدة بالعناصر الأصلية، كما عمل فردريك الثاني على إخضاع «سكان» هذه الأقاليم التي حصل استعمارها لسلطان الحكومة؛ فأمكن بفضل هذه الجهود التي بذلها آل هوهنزلرن أن تخرج إلى عالم الوجود تدريجيًّا «أمة» بروسية اختلفت في تكوينها تمامًا وللأسباب التي ذكرناها عن الأمة الفرنسية أو الأمة الإنجليزية، وهما الأمتان اللتان كان قد تمَّ اكتمال تكوينهما ووجودهما بصورة من الصور قبل تأسيس «الدولة» ذاتها في فرنسا وفي إنجلترة.

وهكذا فيما يتعلق بالقومية صارت بروسيا مثالًا ظاهرًا لما يمكن أن تحدثه وتوجده «الدولة» بما لديها من قوة وقدرة إنشائية، حتى إن المرء في وسعه أن يعزو صنع كل شيء للدولة بعد أن شهد قدرة الدولة على خلق وتكوين الشعب والأمة، من كل تلك العناصر المبعثرة في مختلف الأقاليم التي استعمرتها الدولة وأدخلتها في حدودها وبسطت عليها سلطانها. ولقد أصبحت «الدولة» كذلك ذات ذاتية خاصَّة بها، وإن شئت ذات كيان يفيض بالحيوية والنشاط؛ الأمر الذي جعله سهلًا أن ينتقل البروسيون إلى تقديس الدولة على حساب الفرد، بخلاف ما حصل في فرنسا.

حتى إنه مما يدعو للعجب حقًّا أن ينتشر الإصلاح الديني في ألمانيا على يد مارتن لوثر؛ لأنَّ الإصلاح إنما يقوم في جوهره على احترام الفرد، في حين يعني تقديس الدولة فَنَاءَ الفرد في الدولة، ولم تكن الفلسفة التي شيد صروحها هيجل Hegel — جورج وليم فردريك هيجل — (١٧٧٠–١٨٣١) فيما بعد سوى نقل هذه الحقيقة البروسية من ميدان الحوادث الواقعة إلى عالم الفكر المجرد.

على أنَّ ذلك كله قد أسفر عن نتيجة هامَّة أخرى متولِّدة من ذلك التأثير الذي أحدثه وجود بروسيا، التي عرفت كيف تنشئ لنفسها كيانًا مُتَمَاسكًا قويًّا، على سائر أجزاء ألمانيا التي بقيت مُفتقرة إلى كيان منظم. ولقد زاد تأثُّر ألمانيا بما حدث في بروسيا بسبب الشهرة العسكرية والأخرى الفلسفية اللتين تمتَّع بهما فردريك الثاني الأكبر نفسه، وكانت تلك شهرة عظيمة؛ حتى إنَّه سرعان ما أصبح موضع فخار وإعجاب كل ألماني.

وهو شعور شَارك فيه شاعر ألمانيا «جيته» Goethe (١٧٤٩–١٨٣٢) الذي سجَّل في «مُذَكِّرَاته» إعجابه ببروسيا، أو على الأصح بملكها فردريك الذي خفقت القلوب لذكره، والذي أشاعت انتصاراته الفرح في نفس «جيته» — كما قال — وفي نفس والده. وكان «جيته» يُسَجِّل هذا الشعور في مُذكراته وهو بمدينة فرنكفورت الحرة مسقط رأسه، بعيدًا عن بروسيا، ثم إنَّ الإعجاب بالعاهل البروسي كان شعورًا شارك فيه كذلك المهاجرون الألمان الذي نزحوا في ذلك الحين إلى أمريكا، والذين هزت مشاعرهم انتصارات فردريك الأكبر الملك البروسي، الذي صار موضع تمجيدهم وتقديسهم. ولقد أفضى هذا الإعجاب في ألمانيا إلى ظهور أدب الحرب والوطن في منظومات «هنريك فون كلايست» Kleist و«جوهان جلايم» Gleim و«توماس آبت» Abbt وغيرهم.

على أنَّ كل هذا التمجيد والإعجاب كان ينطوي على تناقض ظاهر؛ لأنَّ «الدولة» والملك اللذين أوحيا للألمان الإعجاب بألمانيتهم والافتخار بها، كانا في حقيقة الأمر أقلَّ ما يمكن «ألمانية»؛ الأولى (الدولة) في تكوينها وأنظمتها، والملك في نشاطه وأهدافه. فيبدو التناقض واضحًا إذا ذكرنا أن فردريك الأكبر خاض حروبه ضد النمسا، وضد الإمبراطورية «الرومانية الجرمانية المُقَدَّسة»؛ أي إنه حتى يبني صرح دولته قد دخل في نضال دامٍ ضد الأساس الذي يرتكز عليه التاريخ الألماني نفسه.

وثمة عامل آخر ساعد على بناء «القومية» الألمانية لم يلبث بعد فترة من الزمن استمر يظهر بوضوح أثناءها أن صار سببًا أساسيًّا في بناء هذه القومية؛ ونعني بذلك الكراهية التي حملها الألمان لفرنسا، وهي الكراهية التي أدت في ألمانيا إلى ظهور كلمة «الوطن» Patrie من وقت لآخر في كتابات ورسائل السياسيين ودراساتهم.
ففي النزاعات التي أُثيرت بين فردريك الثاني وبين ماريا تريزا Maria Theresa التي تولَّت عرش الإمبراطورية سنة ١٧٤٠ حول مصير سيليزيا، وقامت بسببها حروب الوراثة النِّمساوية (١٧٤٠–١٨٤٨)، ثم انتهت باستيلاء فردريك على سيليزيا، اتجه كلاهما لاستمالة «الوطن الألماني» إلى جانبه: فعلت ذلك ماريا تريزا من أجل الدفاع عن الإمبراطورية ضد فردريك، ثم ضد الفرنسيين بعد ذلك، وهم حلفاء فردريك. ثم فعل هذا أيضًا فردريك عندما هاجم الإمبراطورية بدعوى «تحرير الوطن الألماني من الأجانب». ولقد خاضت ماريا تريزا غمار حرب أخرى، وهي حرب السنين السبع (١٧٥٦–١٧٦٣) من أجل استرداد سيليزيا، لم تلبث أن انتهت بالاعتراف بتنازلها نهائيًّا عن سيليزيا إلى بروسيا.

على أنه بعد سنوات قليلة من انقضاء هذه الحروب، لم يلبث أن حدث في سنة ١٧٦٩ انقلاب في علاقات هذين العاملين؛ بحيث تعاون كلاهما الآن فردريك الثاني والإمبراطورة ماريا تريزا على إنشاء «نظام وطني ألماني» موجه ضد فرنسا، وكان لتبرير إنشاء هذا النظام أن ادَّعَى كلاهما الرَّغبة في الدفاع عن الحريات الألمانية. ولقد كانت هذه الدعوى ذاتها هي التي استند إليها فردريك الثاني كذلك فيما بعد في مقاومة جوزيف الثاني الذي انفرد بحكم الإمبراطورية بعد وفاة والدته (١٧٨٠) ماريا تريزا، وكانت له أطماع إقليمية في ألمانيا لم تلبث أن نَفَّرَتْ منه الأمراء الألمان، فاستطاع فردريك الثاني في سنة ١٦٨٥ أن يؤلف من هؤلاء حلفًا كونفدرائيًّا باسم «اتحاد الأمراء» غرضه الظاهر المحافظة على الإمبراطورية في نظامها القائم حسبما أقرته معاهدات الصلح في وستفاليا سنة ١٦٤٨، ووقاية الإمارات الألمانية من وقوع أية اعتداءات عليها، في حين كان غرض «الاتحاد» كما يستبين من نصوصه السرية، مُقاومة رغبات جوزيف الثاني الذي أراد إلى جانب أطماعه الإقليمية الأُخرى، أن يستعيض عن الأراضي المنخفضة النمساوية (بلجيكا) بإقليم بفاريا.

ولقد حاول فردريك وليم الثاني (١٧٨٦–١٧٩٧) عند اعتلائه عرش بروسيا أن يُؤسس نفوذه في ألمانيا على هذا «النِّظام الوطني الألماني» الموجه ضد فرنسا، حتى إنَّ ميرابو Mirabeau لم يَلبث أن وصف العاهل البروسي بما معناه: أنَّه الملك الذي فَكَّر أن يكون رجلًا عظيمًا، وصار يحدوه الأمل أن يُصْبحَ هذا الرجل العظيم بفضل الاعتزاز بألمانيته، فلا يرضى بأن يكون ألمانيًّا وحسب، بل يبغي أن يكون ألمانيًّا بحتًا تطغى ألمانيته على ما عداها من الصِّفات، وبفضل احتقاره التفوق الفرنسي وازدرائه لرفعة فرنسا.

ومع ذلك، فمما يجدر ذكره أنَّ هذه الأقوال والتعبيرات عن الوطن والحريات الألمانية، والنِّظام الوطني الألماني، لم يكن يعتقد بحقيقة معانيها أو مدلولاتها كعوامل ذات أثر حاسم في تقديراتهم السياسية، أحد من أولئك الذين جرت على ألسنتهم: فردريك الثاني، أو ماريا تريزا، أو فردريك وليم الثاني. بل إنَّ كل ما يُمكن أن يدل عليه مجيء هذه العبارات في أقوالهم أنهم إنما لجئوا إلى استخدامها في أحاديثهم وبياناتهم لشعورهم بأنَّ لها وزنًا وقيمةً، كدعاوى أو حجج يقبلها الشعب وتمسُّ مشاعره؛ لأنَّ مَحَبَّة «الوطن» الألماني وتقديس «الحُرِّيات» الألمانية وكراهة فرنسا قد صارت جميعها عواطف ذات وجود فعلي لدى الشعب الألماني.

وعلى كل الأحوال كانت النتيجة الظَّاهرة لهذا التطور التاريخي أنَّ ألمانيا لم تكن جثمانًا سياسيًّا قوميًّا أو وطنيًّا بصورة من الصور. فالإمبراطورية «الرومانية الجرمانية المقدسة» تتألف من (٣٦٠) إمارة أو وحدة حكومية، وفي وسط ألمانيا وغربها تشكيلات سياسية غير عادية، وتتألف من حوالي سبع مساحة ألمانيا طائفة من الإمارات الضئيلة والتي لا نهاية لها: من ذلك الأقاليم التي في حوزة الفرسان الخاضعين مباشرةً لإشراف الإمبراطور عليهم Chevalies immédiats، وتبلغ مساحة هذه الأراضي أقلَّ من مائتي فرسخ مربع يعيش بها حوالي أربعمائة وخمسين ألف نسمة.
ثم هناك المدن الإمبراطورية وعددها واحد وخمسون مدينة وسكانها سبعمائة ألف نسمة، ثم إمارات كنسية، عبارة عن دويلات صغيرة، أكبرها «ماينز» Mainz وعدد سكانها ثلاثمائة وخمسون ألفًا، وتريف Trèves وكولونيا Cologne، وعدد سكانهما مائتان وثلاثون ألفًا، ثم ورتزبورج Wartzbourg (٣٢٠٠٠٠)، ثم بامبرج Bamberg (٢٠٠٠٠٠) وغير ذلك.
وتؤلف هذه الإمارات الكنسية والمدن الإمبراطورية سبعًا آخر من مساحة ألمانيا. أمَّا خمسة الأسباع الباقية فتتألف منها إمارات أو دوقيات يحكمها أمراء أو أدواق، أكبرها بروسيا وعدد سكانها مليون ونصف مليون نسمة، وتليها بفاريا و«البلاتينات Platinate» وعدد سكانها مليونان ومائة ألف. وأصغر هذه الإمارات كان في حجم بادن Baden ونساو Nassau وعدد سكان كلٍّ منهما مائتا ألف نسمة.
وهذا الدويلات الثلاثمائة والستون مُوزعة في عشر دوائر Circles أو مجموعات، لكل دائرة أو مجموعة منها مجلس «دياط» Diet، ومهمة الدياطات أو «المجالس» الدفاع العام أو المشترك عن هذه الدوائر؛ أي عن أعضائها، وتنفيذ قوانين الإمبراطورية. وأمَّا تنظيم الشئون العامَّة، فذلك موكول لمجلس أو دياط الإمبراطورية Diète D’Empire الذي كان في الماضي عبارة عن اجتماعات «مؤقتة» تنعقد من وقتت لآخر في مناسبات مُعينة بدعوة من الإمبراطور. ولم يكن الدياط أو المجلس الإمبراطوري الذي انعقد في راتزبون Ratisbon سنة ١٦٦٣ قد انفضَّ من جراء صدور قرار بحله، ولكن تعطلت أعماله فحسب، واستمر في حالة «انعقاد» دائمة وفي وسع الإمبراطور دعوته في أي وقت يشاء؛ ولذلك فقد اعتبر الدياط الإمبراطوري «قائمًا».
وكان هذا الدياط يتألف من ثلاث كُلِّيات Colleges أو طبقات Estates: طبقة الذين لهم حق انتخاب الإمبراطور وهم «الناخبون» Electors وعددهم سبعة؛ ثلاثة منهم من الإكليروس (رجال الدين) هم رؤساء الأساقفة في مطرانيات ماينز وتريف وكولونيا، والأربعة الباقون من الأمراء العلمانيين، وهم أمراء البلاتينات (بفاريا) وسكسونيا وبوهيميا.

وأمَّا الطبقة الثانية فتتألف من الأمراء الذين كانوا قسمين: أمراء علمانيين وأمراء كنسيين أي من الإكليروس، وتتألف الطبقة التالية من المدن الإمبراطورية؛ أي من المدن التي كان الإمبراطور نفسه رئيسها الأعلى.

ولاتخاذ قرار من القرارات كان ضروريًّا موافقة طبقتين من هذه الطبقات الثلاث، ومع أنَّ عدد الأصوات في هذا الدياط (المجلس الإمبراطوري) كان مائة صوت بعدد ممثلي هذه الطبقات الثلاث في المجلس، فلم يزد في العادة عدد الجالسين به على ثلاثين فقط، في حين بلغ الذين يحضرون من بينهم جلسات المجلس بصورة مستمرة أربعة عشر.

ولم يكن هناك «حكومة» في هذا النِّظام السياسي في ألمانيا. فلم يكن الدياط حكومة، وانعدم وجود سلطة مركزية منظمة في هذا الكيان المفكك، فلم تزد ميزانية الدياط على (١٣٨٨٤) فلورينًا؛ أي ما يُساوي ألفًا وثلاثمائة وثمانية وثمانين جنيهًا تقريبًا، ولم ينظر الدياط القضايا التي كانت تقيمها الإمبراطورية على الذين تريد مُحاكمتهم؛ فقد كانت هذه تنظرها «الغرفة الإمبراطورية» Chambre Impériale ومقرها في وتزلار Wetzlar من أعمال نساو. ولم تُبْدِ هذه الغرفة أي نشاط في أعمالها؛ فوصل عدد القضايا المعلقة بها في سنة ١٧٧٢ حوالي عشرين ألف قضية، ثم إنه لم يكن هناك «جيش ألماني» تحت تصرف الإمبراطورية، فلم يكن مستطاعًا إعداد جيش ألماني إلا إذا صدر قرار من الدياط بإنشائه، ولم يكن مُستطاعًا تحريك هذا الجيش إلا إذا وافقت دياطات «أو مجالس» الدوائر وأصدرت أوامرها بذلك.

وهكذا لم يكن معنى «الدَّولة» في التنظيم السياسي في ألمانيا أنَّ هناك أُمَّةً ألمانية ذات كيان سياسي؛ فبقيت ألمانيا مُجَزَّأة في عدد من الوحدات أو الأجزاء الصغيرة على أساس من المحلية الصارمة، وقوي التمسك ببقاء هذا الترتيب «الانفرادي» ذي الصفة المحلية، لدرجة أنَّ أي نقاش أو بحث في ضرورة تغيير هذه الحالة، أو في احتمال حدوث هذا «الإصلاح»، كان يُسبب الخوف والفزع من أن يؤدي هذا التغيير إلى إعادة تنظيم البلاد على أساس «الوحدة».

فالوطنية التي وجدت في ألمانيا كانت «وطنية» مجزأة بعدد الوحدات المحلية التي كانت مجزأة إليها ألمانيا؛ أي إنَّ الشعور بحب الوطن كان شعورًا مُجزءًا بقي مستندًا إلى روابط التعلق العاطفي التي ربطت أهل كل إمارة أو دويلة من هذه الوحدات العديدة والمتناثرة بالرقعة المحددة من الأرض التي يعيشون عليها؛ فلم تعرف ألمانيا بسبب هذه «المحلية» عملة موحدة ولا قوانين ولا مقاييس وأوزان … إلخ موحدة، ولم يجمع بين هذه الأقسام المتناثرة إلا شيء واحد فقط هو الوحدة الأدبية والروحية. وكان لهذه الوحدة الروحية والأدبية الفضل كل الفضل في خلق «أمة» متحدة أو متجانسة روحيًّا وأدبيًّا في ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر إلى جانب تلك التجزئة السياسية التي عطلت إنشاء «أُمَّة سياسية» في ألمانيا.

وعلى ذلك، ففي حين تعذَّر خروج ألمانيا إلى حيز الوجود في أواخر القرن الثامن عشر ولها كيان سياسي وقومي أو وطني، فقد شهد هذا العصر «أُمَّة» من ناحية الأدب والفكر في ألمانيا. ولا جدال في أن هذا كان شيئًا جديدًا إذا ذكرنا أنَّ النَّشاط الذهني في ألمانيا كان قد أصابه الشلل بسبب حروب الثلاثين سنة (١٦١٨–١٦٤٨) في القرن السابع عشر؛ فلم يبرز من أبنائها سوى فيلسوفها المعروف ليبنتز Leibnitz (١٦٤٦–١٧١٦)، حتى إذا انقضى هذا العهد المضطرب بدأت فترة من التهيئة والاستعداد، تميزت بحصول نشاط «متناقض» اتضح أثره أولًا: فيما فعله «العقليون» Rationalists أتباع ليبنتز الذين أنشئوا مدرسة ضمت إليها عددًا من الفلاسفة والشعراء والكتاب المسرحيين، مثل الشاعر «جيلرت» Gellert، والروائي المسرحي «جوتشيد» Gottsched الذي حاول إنشاء مسرح ألماني، وثانيًا: في اتجاه التفكير وجهة دينية تجلَّت في ظهور جماعتي «المُتورعين» Piétistes و«المُستنيرين» Illuminés الذين استنارت بصائرهم. ولقد ترتب على هذا النَّشاط الذهني أن صار متيسرًا ابتداءً من سنة ١٧٤٠ الكلام عن وجود أدب ألماني حقيقي.

وهذا الأدب الألماني إنَّما تتفق نشأته مع ارتقاء الطبقة المُتوسطة (البورجوازي) في حياتها الاجتماعية بسبب الانتعاش الاقتصادي العظيم الذي حدث في هذا العصر، وبسبب انتشار التربية والتعليم انتشارًا قويًّا بين أهل هذه البورجوازية. والدليل على وجود هذا النشاط الذهني وارتقائه بين البورجوازية ذلك العدد العظيم من المجلات الأدبية والأخلاقية التي صارت متداولة في ألمانيا بين سنتيْ ١٧١١، ١٧٦١. فقد بلغت هذه مائة واثنتين وثمانين مجلة، أو صحيفة أدبية.

ثم ينهض دليلًا على وجود هذا النَّشاط الذهني لدى البورجوازية ما ظهر من اهتمام جدي بإصلاح شئون الجامعات وقتئذٍ، ثم إنشاء جامعة جوتنجن Gottingen الجديدة في سنة ١٧٣٣، والتي قامت على أسس تربوية مُختلفة عن سابقاتها كان لها أكبر الأثر على الطلاب والتلاميذ في هذه الجامعة الناشئة، كما تأثرت الجامعات الأُخرى بجدية البحوث والدراسات والأساليب الدراسية الجديدة المتبعة بها؛ فقد أشاعت جامعة جوتنجن روحًا متحررًا في ميادين الفكر والبحث العلمي، واتسمت دراساتها بطابع العلم والمعرفة المستندة على الحقائق، فلم يلبث هذا «الانطلاق» الذهني أن صَارَ يغزو تدريجيًّا وشيئًا فشيئًا الجامعات الأخرى.

ولقد ترتَّب على ارتقاء الطبقة المُتوسطة (البورجوازي) وإصلاح الجامعات أن تكوَّن في ألمانيا جمهور مثقف في وسعه أن يتذوق آثار النشاط الذهني الذي سبقت الإشارة إليه.

واتفق مع وجود هذا النشاط الذهني وكان من آثاره — وهو كذلك أحد عوامله — بروز طائفة من أصحاب الفكر الذين صار تفكيرهم «ألمانيًّا» بحتًا بعد أن درج المُفَكِّرون الألمان في الماضي على تقليد زملائهم في فرنسا وإنجلترة، ولعل أهم هؤلاء كان الشاعران ويلاند Wieland وكلوبستوك Klopstock.٧ ونشر هذا الأخير أهم قصائده حوالي سنة ١٧٤٨، ثم صار له تلاميذ كثيرون يتضح من منظوماتهم ثم من كتاباتهم الأدبية والتاريخية أنَّ «أدبًا قوميًّا» وأدبًا يتسم بطابع الكراهية للغالية (أي لفرنسا) قد خرج إلى حيز الوجود للمرة الأولى في ألمانيا.
نذكر من هؤلاء الشاعر جوهان هنريك فوس Voss، وزملاءه برجر Burger، والأشقاء ستولبرج Stolberg، وفي عالم الفلسفة والأدب جوهان يواكيم وينكلمان Winckelmann مؤرخ الفنون والعصور القديمة الذي نشر أهم دراساته في فنون النحت والتصوير لدى الإغريق في سنتيْ ١٧٥٤، ١٧٦٤.
وأخيرًا نذكر «ليسنج» Lessing٨ الذي بلغت على يديه في هذا العصر حركة «التنور» Aufklarung في الأدب والنقد ذروةَ تطورها، والذي يعتبر بحقٍّ محرر الفكر الألماني.
و«لسينج» هو الذي أوجد المسرح القومي أو الوطني عندما كتب أولى مسرحياته، وهي مأساة بعنوان «مينا فون باكنهيلم»٩ في سنة ١٧٦٧. ثم توَّج حياته الأدبية بكتابة مأساته الخالدة «ناثان الحكيم» سنة ١٧٧٩. ولم يكن نشاط «ليسنج» مقصورًا على كتابة المسرحيات، بل تناول النقد المسرحي، وكتب في فلسفة الفن الجميل. ولقد شهد الثلث الأخير من القرن الثامن عشر نخبة من أعلام الأدب والفكر في ألمانيا، مثل «جيته»، و«شيلر» Schiller، و«كنط»، وهردر Herder.

تلك إذن كانت معالم الحركة الأدبية التي تميزت «بألمانيتها»، والتي شقت لنفسها طريقًا مُستقلًّا عن زميلاتها في فرنسا وإنجلترة، والتي صار لها الآن شعور بقيمتها الذاتية، وأهميتها كحركة أصيلة ابتداعية.

على أنَّه مما يجدر ملاحظته — فيما يتعلق بالقومية — أنَّ هذه الحركة الأدبية بقيت أدبية فحسب، ولم تتجاوز دائرتها الأدبية؛ فلم تقتحم الميدان السياسي البحت بحال من الأحوال؛ فظل الأدب الألماني بالرَّغم من أنه قد صار أدبًا قوميًّا، بعيدًا كلَّ البعد عن الوطنية السياسية. بل على العكس من ذلك اعتقد هؤلاء الأدباء الألمان «الوطنية» بمعنى محبة الوطن ضعفًا ومسبةً وعارًا، فلم يكونوا يدركون معنى فكرة «الوطنية» بما تنطوي عليه من محبة للوطن، أو فكرة الوطن الألماني، بل كانوا يرون من واجبهم ألا يجعلوا اهتمامهم مقصورًا على «ألمانيا» وحدها فقط.

فيكتب «جيته» مثلًا في سنة ١٧٧٢:

إنه لمما يسبِّب لي التعب والانزعاج أن أسمع قائلًا يقول: إن الشعور بمحبة الوطن منعدم بيننا وأننا لا وطن لنا … إنْ تلك إلا ألفاظ وحسب، ولا شيء غير ألفاظ، وإني لأتساءل: ما جدوى تلك الجهود التي تُبْذل من أجل إحياء عاطفة لا سبيل لشعورنا بها الآن بتاتًا؛ وهي عاطفة لم يكن لها وجود فيما مضى، ولا يمكن وجودها إلا في لحظات مُعَيَّنة من لحظات التاريخ، وتكون نتيجة لتضافر ظروف معينة.

ولطالما شعر هؤلاء الكُتَّاب والفلاسفة بالغبطة العظيمة لأنَّ ألمانيا على حد قولهم لم يكن لها وجود ما من النَّاحية السياسية؛ الأمر الذي جعلهم متحررين من «عاطفة» من شأنها — كما قالوا — الحجر على نباهة الذهن، والتضييق عليه، والحد من القُدرة على التفكير. فنرى «هردر» يزدري بفكرة الوطن، ونرى «فردريك شيلر» Schiller (١٧٥٩–١٨٠٥) يكتب في سنة ١٧٨٩ ما معناه: «أنَّ الأمم التي لم يكتمل نضجها هي وحدها التي يسود بها الاعتقاد بأنَّ للصالح الوطني قيمةً ووزنًا، وذلك اعتقاد يسود كذلك بين شباب العالم. وتلك فكرة مثالية مُتخاذلة فقيرة ولا شك، التي تجعل الكتابة من أجل أُمَّة واحدة فقط، وتعجز الروح الفلسفية عن احتمال هذا التضييق.» وعلى ذلك فقد كان «الوطن» في اعتبار «شيلر» مجرد جزء من كل لا وزن ولا قيمة له، أو أن وجود الوطن على الأقل كان لا يبدو له ضروريًّا أو شرطًا لا غنى عنه، لإمكان شحذ الذهن وضمان الرقي الفكري.

ولقد اعتقد الذين كانوا أكثر «ألمانية» من بين هؤلاء الكُتَّاب والمفكرين أنَّ لألمانيا رسالة يجبُ عليها تأديتها، وأنَّها لم تستطع تأديتها في الماضي ولكن المُستقبل كفيل بمعاونتها على إتمام رسالتها، في حين أنَّ الدول والبلدان الأُخرى قد انتهى دورها، ومن بين هذه الدول فرنسا. أمَّا هذه الرِّسالة فهي العمل من أجل تقرير السلام ونشر ألوية الحضارة.

وتلك الآراء هي التي كانت تدور عليها المُنَاقشات التي أثيرت في ألمانيا وقت تأليف «اتحاد الأمراء» الذي سبقت الإشارة إليه، أو حتى بين المصلحين السياسيين الذين كثرت مُسَاجلاتهم — خصوصًا عشية «الثورة الفرنسية» — وهؤلاء كانوا يدينون بمبدأ المساواة الطبيعية، مع أنهم كانوا لا يزالون مُتمسكين بوجود الفوارق التي تقسِّم الناس طبقاتٍ حسب مولدهم، ويتشبَّثُون بفكرة «الهيراركية» Hierarchy، أو نظام المراتب الحكومية.

وإلى جانب فكرة المساواة الطبيعية التي أخذ بها هؤلاء المصلحون السياسيون كانت لهم آراء إنسانية؛ فنادوا بتحرير رقيق الأرض، وتعليم الشعب وتربيته، باعتبار أنَّ هذه حقوق طبيعية. وأما هذه الآراء: تحرير رقيق الأرض وتعليم الشعب؛ فقد سميت في ألمانيا آراءً «جمهورية».

والسبب في أنَّ هؤلاء المُفكرين والفلاسفة لم يكن يستأثر بحبهم قطر أو وطن واحد من الناحيتين النظرية والواقعية، أنه كانت لهم علاقات واسعة بأقوام من شعوب مختلفة، وقاموا برحلات وجولات في أنحاء أوروبا، وأنشئوا صلات وثيقة مع زملائهم من أرباب الفكر والقلم في فرنسا وهولندة وإنجلترة؛ ولذلك فإنهم مع إيمانهم بالفكرة «الألمانية» بمعناها السامي الذي شهدنا آثاره لم يكونوا يربطون بين هذه الفكرة وبين أي مفهوم سياسي لها أو أي إدراك للمُشاركة الأدبية والأخلاقية، كعامل في تكوين الشعوب وخلق الأُمم. ومن هذه النَّاحية إذن كان الحال يختلف اختلافًا بينًا في ألمانيا عنه في فرنسا التي وجدت بها من زمن طويل «أمة فرنسية».

ومع ذلك؛ فنحن إذا أمعنا النَّظر في آراء هؤلاء الفلاسفة والمُفكرين الألمان، وتعمَّقنا على وجه الخصوص الرأي القائل بالوحدة الفكرية أو الذهنية عاملًا حاسمًا في نشأة ألمانيا وتكوينها، لوجدنا وجوهًا للشبه بين هذه الآراء والآراء التي بسطها «جان جاك روسو» في كتاباته؛ كمُثُله «الإنسانية» العالية وإيمانه بأنَّ الإنسان مطبوع على الخير، وما للآراء والفكرات من قوة وآثار قاطعة.

والحقيقة أنه كان لكتابات روسو وقع عظيم في ألمانيا، ولو أن ألمانيا لم تتأثر بكتابه عن «العقد الاجتماعي»، وإنما بكتابيه عن «إميل» Emile و«إلواز الجديدة» Nouvelle Héloise، وهما كتابان تربويان في صميمهما.

وثمة مُلاحظة أخرى هي أنَّه قد ترتَّبَ على الفكرة القائلة بوجود «ألمانيا» من الناحية الأدبية، وقيامها ذهنيًّا وثقافيًّا — ولكن ليس سياسيًّا — أنْ صار للفكرة القومية في ألمانيا نوع من الميوعة، جعلها تتشكَّل في معانٍ مختلفة بخلاف ما كان عليه الحال في فرنسا؛ ولذلك فقد تعذَّر أن يكون «للقومية» في ألمانيا تعريف أو صورة ثابتة، واستمرت في نظر الألمان دائمًا فكرة تخضع لما قد يقع عليها من تأثيرات مختلفة في المُستقبل، وتمثل لذلك كل ما قد يحدث من احتمالات مُستقبلة؛ أي إنَّ «القومية» في نظر الألمان لم يكن لها أي أثر واقعي أو حتمي معين ومحدد.

وواضح مما تقدم إذن أن الأمة الألمانية التي ظهرت في عالم الوجود في آخر القرن الثامن عشر «كأمة عقل وفكر»؛ أي تستند في تكوينها على العامل الذهني والفكري «الأدبي والروحي» فحسب، كانت شيئًا جديدًا في تاريخ ألمانيا. ولقد كانت هذه الأمة ألمانية ومنتمية لجميع البلدان في وقت واحد؛ أي إنها كانت ألمانية في شعورها الأدبي والذهني مُتحررة من القيود التي تربط الشعوب بمحبة أوطانهم. ولقد كانت هذه الأمة الألمانية بالمعنى الذي ذكرناه منبت أحد أولئك الفلاسفة العظام من الألمان والذي كانت زرايته بالشعور أو العاطفة الوطنية ومحبة أرض الوطن منشأ نظرية قومية جديدة سرعان ما صار لها آثار عميقة مباشرة وقت ظهروها ثم في المستقبل كذلك. أما هذا الفيلسوف فكان «جوهان جوتفريد هردر» Johann Gottfried Herder (١٧٤٤–١٨٠٣).

القومية لدى هردر

ولد «هردر» في إحدى قرى موهرونجن Mohrungen من أعمال بروسيا الشرقية. كان أبوه مدرسًا رقيق الحال، ترك أثرًا ظاهرًا في تنشئة ابنه، ولو أنَّ عوامل أخرى تضافرت كذلك على تكوينه، منها أنه كان لدى قسيس القرية البروتستنتي مكتبة كبيرة، انكبَّ «هردر» الصغير على مطالعة الكتب التي بها.
كما حدث مصادفة بعد فترة من الزَّمن أن مَرَّ بالقرية جراح روسي أعجب بهردر، فاصطحبه معه إلى كونجزبرج Konigsberg ليُعلمه الجراحة، وكان في كونجزبرج أن قرر «هردر» ترك دراسة الطب؛ حتى يتفرغ لدراسة اللاهوت، ثم انتقل إلى «ريغا» Rige ليقوم بالتدريس بها، ثم كان بطريق الصدفة مرة أُخرى أن تعيَّن «هردر» مربيًا لأمير شاب في «هولشتين» Holestein؛ مما هيَّأ «لهردر» الفرصة حتى يزور كل بلدان أوروبا الغربية تقريبًا، ثم كان بطريق الصدفة مرة ثالثة أن التقى «هردر» أثناء رحلاته بالشاعر «جيته»، وذلك في ستراسبورج في غضون سنة ١٧٧٠؛ فنشأت من ذلك الحين بين الرجلين صداقة كبيرة، حتى إذا صار «جيته» وزيرًا في «فايمر» Weimer استقدم إليها صديقه «هردر» ليعينه مفتشًا على المدراس ورئيسًا لهيئة القساوسة البروتستنت الدينية في سنة ١٧٧٦.

وفي كل أدوار حياته أبدى «هردر» تشوقًا للازدياد من المعرفة؛ معرفة كل شيء، ورغبةً في التنقيب والبحث عن كل شيء، وذلك إلى جانب همة عالية وانكباب على العمل، كما أظهر من بداية شبابه إلى آخر أيامه قُدرة على التصور والخيال عجيبة كانت ثمرة استنارة وعبقرية أكثر منها ثمرة استنتاجات عقلية.

وبالوقوف مليًّا عند كل مرحلة من مراحل حياته يتسنَّى لنا إدراك حقيقة آرائه ونظرياته؛ كيف وجدت؟ وكيف تطورت؟ من ذلك أثناء دراسته اللاهوت في كونجسبرج وهو لا يزال يافعًا كان «هردر» يتلقَّى دروسه على أستاذ سرعان ما صار صديقًا له لم يلبث أن فتح له آفاقًا جديدة من المعرفة، فدرس فلسفة «كنط»، وتوفر على قراءة الأدب الأجنبي، فدرس شكسبير ودانتي والشاعر الأيقوسي أو الاسكتلندي والذي عاش في القرن الثالث الميلادي ونشرت منظوماته سنة ١٧٦٠ «أوسيان» Ossian، وتعلم «هردر» اللغات الأجنبية جميعها تقريبًا وأتقنها حتى تسنى له قراءة كتب الأدب بلغاتها الأصلية، ثم انتقل «هردر» من كونجسبرج إلى ريغا وتعين مدرسًا بها سنة ١٧٦٤، فكان في هذا الوسط الروسي البعيد عن ألمانيا أن أُتيحت له الفرصة ليدرس الأقاصيص والأساطير الشعبية وأشعار القدماء وأغاني الحب لدى أهل فنلندة ولابلاند Lapland.
وانكب بنفس الحماس على قراءة «الكتاب المقدس» وشيء من الشعر في «الشرق»، إلى جانب أهازيج الحرب وأغانٍ في البحار التي ينشدها القراصنة النرويجيون، بل اهتم «هردر» فيما بعد بدراسة أشعار الشعوب الأصليين في البحار الجنوبية. أضف إلى هذا كله مطالعاته الواسعة في الأدب المعاصر. ولقد أثمرت هذه القراءات والدراسات الكثيرة ثمرتها المنتظرة عندما أصدر في سنة ١٧٦٧ مؤلفه في الأدب الألماني الجديد،١٠ ونحا فيه منحًا جديدًا، فلم يقتصر نقده الأدبي على وزن ما كتبه الأدباء الألمان من ناحية الروعة الفنية فحسب، بل حاول فهم الروح التي تجلت في كتاباتهم، فلم يشأ أن يطبق على نتاجهم الفكري قواعد مرسومة تدور على مقاييس الجمال الفني، بل قصد إلى التغلغل في معاني ما كتبوه؛ حتى يتسنى له معرفة «الروح» ذاتها أو العبقرية التي أنتجت هذا الأدب.

ولا ريب أن ذلك كان منحًى جديدًا استتبع إدراكًا جديدًا لكل تلك العناصر والعوامل التي تتضافر عادة فيما بنيها على تكوين وإنماء عبقرية الشعوب. أما المرحلة الهامة التالية في تنشئة «هردر» وتطور آرائه الفلسفية فكانت عندما بدأ يعمل أستاذًا في ريغا؛ وذلك لأنه اعتقد في هذه المرحلة بضرورة تحديد أساليب التعليم على أساس أنَّ المدرسة يجب أن تشبه حديقة فيحاء لا سجنًا رهيبًا. واقتضاه الاستعداد والتهيؤ لوضع النِّظام الجديد الذي أراده للتعليم أن يقوم بأسفار عديدة في أوروبا الغربية؛ حتى يدرس برامج التعليم في البلدان المُختلفة؛ فزار باريس حيث تعرَّف بكبار الكتاب والفلاسفة بها وتردد على دُورِ الكتب، وكان في باريس أن عرض عليه العمل مربيًا لأمير هولشتين، فمرَّ في طريقه إلى هذه الدوقية بين أقاليم ألمانيا الغربية.

وفي هامبروج قابل «جوتهولد أفرايم ليسنج» فأنشأ معه صلات وثيقة. ولقد استطاع «هردر» بعد ذلك في صحبة تلميذه الأمير التنقل في أنحاء هولندة وألمانيا الراينية (أي: الأقاليم الواقعة على شاطئ الراين) فزار «ستراسبورج» حيث قابل أثناء وجوده بها (سنتيْ ١٧٧٠، ١٧٧١) الشاعر «جيته» ووثق صلاته به، وفي ستراسبورج وضع «هردر» بحثًا هامًّا عن أصل اللغات١١ نشر بعد ذلك في سنة ١٧٧٢.

وتتفق بداية المرحلة الثالثة في تطور آرائه مع استدعائه إلى «فايمر» في الظروف التي سبقت الإشارة إليها، وذلك بعد أن كان قد تقلب (هردر) في وظائف عدة منها عمله كأستاذ في «جونتجن» سنة ١٧٧٥. وكان الذي استدعاه إلى «فايمر» صديقه «جيته»، فأقام «هردر» بها ولم يغادرها طول حياته بعد ذلك إلا مرة واحدة أثناء سفرته في إيطاليا في سنتيْ ١٧٨٨ و١٧٨٩. وكان في «فايمر» أن انكب (هردر) على دراسة الكتاب المُقدس وتاريخ الشرق القديم، وأثمرت هذه الدراسة بحثًا في «الشعر العبري» نشر في سنة ١٧٨٣؛ وذلك لأنَّ «هردر» لم يدرس الكتاب المقدس من النَّاحية الدينية أو الفقهية، بل عُنِيَ بدراسة الناحية الإنسانية، محاولًا أن يفهم هذه الناحية الإنسانية في ضوء ما استطاع أن يُلمَّ به ويعرفه عن تلك المدنيات الشرقية القديمة التي كانت مُعاصرة للكتاب المقدس.

ولقد عني «هردر» كذلك بدراسة أُخرى هامَّة هي دراسة فلسفة التاريخ؛ فنشر بين سنتيْ ١٧٨٤، ١٧٩١ أعظم مؤلفاته إطلاقًا: «آراء في فلسفة تاريخ الإنسانية»،١٢ ثم ما لبث حتى نشر في سنة ١٧٩٣ رسائله عن تقدم الإنسانية،١٣ وكان أثناء هذه المرحلة أن نشر «هردر» كذلك في سنة ١٧٧٨ مؤلفه عن «صوت الشعوب»١٤ وهو عبارة عن مجموعة من القصائد والأناشيد الشعبية من مُختلف البلدان. ولقد أنهى «هردر» حياته الأدبية بترجمة بعض المنظومات الإسبانية، وكانت وفاته في سنة ١٨٠٣.
وبفضل هذا الإنتاج الأدبي الضخم كسب «هردر» شهرة واسعة في ألمانيا كما كسب محبة الشعب الألماني، وأحدث «هردر» بكتاباته توجيهًا فكريًّا جديدًا لدى شطر كبير من الألمان في ميدان الأدب والفلسفة؛ فهو الذي جعل الفكر الألماني بصورة أو بأخرى ينكص على عقبيه، مرتدًّا عن «فلسفة التنور» ليسير في اتجاه مضاد نحو «عصر العواصف» أو الحركة التي يَصِفها الألمان في ميداني الأدب والفلسفة بأنها حركة عاصفة محتدمة ذات انطلاق واندفاع بين Sturm und Drang. ثم إنَّ الفضل يُعْزَى إلى «هردر» كذلك في إنشاء «مدرسة تاريخية» امتدَّ أثرها إلى ما وراء الحدود الألمانية. فكان «جيزو» Guizot — من أعلام المُفكرين الفرنسيين فيما بعد — أحد الذين تأثَّروا في شبابهم بكتابات وآراء «هردر».

ولقد اعتمد «هردر» في بحوثه وتفكيره على الفهم والإدراك الذهني، ثم دعم ما يذهب إليه بالأسانيد والوثائق أكثر من اعتماده على الطريقة الاستنتاجية والتعقلية البحتة التي اتَّبَعها الفلاسفة الفرنسيون. ولما كان يطمح إلى احتلال مكانة عالية في ميدان العلوم الأخلاقية، فقد دأب على البحث المنظَّم ليستكشف بوسائله القوانين المسيطرة على تطور الإنسانية وتقدمها منذ نشأة الإنسانية وتدرجها في تلك الخطوات التي أوجدت في درجات مُتتالية أنواعًا من الإنسانية لم تكن قطُّ من صنع الإنسان أو ثمرة جهوده على نحو ما يقول الفرنسيون أصحاب الفلسفة «التعقلية»، بل كانت نتيجةً لفعل ظروف وعوامل خارجية بجانب استخدام القوى أو الخصائص الغريزية.

فالإنسانية في رأيه في حدود بلد من البلدان لا تعدو أن تكون «مجموعًا كليًّا» يفنى فيه الفرد وتعجز فيه قوة العقل وحدها عن تغيير أسباب الحياة أو العمل من أجل ضمان رقي الإنسانية وتقدمها. وبذلك يكون «هردر» قد أفسح مكانًا عريضًا في نظرية الإنسانية لفعل قوًى تتَّصِف بالغموض والتضام في الوقت نفسه؛ ولو أنَّ ذلك لم يمنعه من التفاؤل بهذه الإنسانية ذاتها فأدار ظهره بهذا التوجيه الجديد في ميدان الفلسفة العامة، للفلسفة الفرنسية، وترتب على ذلك رد فعل ضد «التعقلية» الفرنسية والكنطية نسبةً «لكنط»، ورد الكرامة لفلسفة سبينوزا Spinoza الهولندي (١٦٣٢–١٦٧٧)، والتي لم تكن في جوهرها وتفاصيلها «مادية» وواقعية، وقامت على أساس إدراك ماهوية كل الأشياء بطريق الفكر، أكثرَ من معرفتها بطريق الحواس، والتي تقول بوحدة الوجود؛ بمعنى أنَّ الله والكون واحد؛ أي إن الله حالٌّ في كل شيء وفي كل جزء منه ومتَّحِدٌ به.

ونحا «هردر» منحًى جديًّا عند دراسته الأدب وتاريخ اللغة، ساعد إلى جانب ما تقدَّم على وضع نظرية «القومية» التي نُسبت له، وذلك أنه عند دراسته كتابات مُعاصريه وكتابات القدماء وآثارهم الأدبية، وأثناء تنقيبه عن مميزات كلِّ مرحلة تاريخية من مراحل نمو الشعوب وتطورها، حاول أن يَصِلَ إلى معرفة الأُسس التي قامت عليها عبقرية الشعوب المختلفة؛ فكان في رأيه أنَّ لكل شعب خصائصه التي يتميز بها من غيره، شأن الشعوب في ذلك شأن الأفراد، وأنَّ الثمار التي تنبت من الأعماق أو من تلقاء نفسها تعبير يفصح عن عبقرية الشعب ويدل على حقيقة هذه العبقرية وكنهها، وأن كل تقليد — وبمعنى آخر: كل خضوع لمؤثرات خارجية وأجنبية عن طبيعة الشعب — إنما هو جهد يدل على ضآلة الذهن ولا يلبث حتى يصبح خطرًا يهدد بالتشويه آراء الشعوب وتفكيرها.

ولقد ترتب على الأخذ بهذه الأقوال أن حصل تجديد أدبي واسع النطاق صار مصدر الحركة الرومانتيكية (التخيلية أو التصورية) الألمانية. ونجح «هردر» في أن يجعل النقاد في ميدان الأدب والفنون يحوِّلون انتباههم عن معايير الجمال الفني إلى البحث عن مصادر الأدب والفن الأدبي والتنقيب في ماضي الشعوب نفسها؛ كي يتسنَّى لهم الوقوف على عبقرية الشعوب في نتاجها الأدبي وقوة الابتداع أو الابتكار المرتبط بعبقريتها.

ويتفرَّع عن هذه الفكرة بصورة من الصور الرأي القائل بأنَّ اللغة أو لسان الشعب نفسه هو الأداة الأساسية التي يُمكن بها الإفصاح عن عبقريته. ولا تستند اللغة في أصولها إلى أن اتفاقًا قد حدث على استخدام وسيلة أو أسلوب فني معين للأداء، بل يعتبر «هردر» اللغة حقيقة عضوية لها مولد ولها حياة وتخضع للموت والفناء، وهي في نظره روح الشعب في صورة مجسدة تُعَبِّر عن مزاجه وأحاسيسه وأفكاره، وكل ما هو متصل بأصل هذا الشعب ومنبته من قُدرة على الابتداع والابتكار؛ أي إنَّ اللغة الوسيلة التي تعبر بها الشعوب عن خلجاتها، وكذلك كان لا مناص في رأيه من معرفة الأدوار التي مَرَّت بها اللغة أثناء تطورها لمعرفة تاريخ الشعوب.

والكاتب العظيم حقًّا هو الذي تتسم اللغة التي يكتب بها بالطابع الوطني الصميم، والذي يرفض محاكاة أو تقليد التعبيرات الأجنبية الغريبة. والواجب يقتضي لذلك كلَّ كاتب أو إنسان له حسٌّ وضمير أن يُتقن لغة قومه وأن يذكر أصولها؛ فيعرف ما كانت عليه هذه اللغة في مراحلها البدائية الأولى. وعلى ذلك لا يستطيع المرء أن يعرف شعبًا إلا إذا عرف لغته. وبمعرفة لغاتها تستفيق الشعوب؛ لتدرك بشعورها ما تنشده من أهداف وما تنتظر بلوغه من نمو وتطور في المستقبل.

تلك إذن كانت الآراء التي استندت عليها نظرية «هردر» في القومية. «فالأُمَّة» في رأيه إن هي إلا جثمان أو كائن حي له وجوده الذاتي والبدائي، ويتمتع بغريزة حية نشيطة وبعبقرية معينة تُفصِح جميعها عن نفسها تلقائيًّا في لغة هذا الكائن وعاداته البدائية وفي مسلكة الخلقي. وعلى ذلك كانت «القومية» شيئًا طبيعيًّا؛ أي من صنع الطبيعة، ولاإراديًّا؛ أي لا حيلة للإنسان فيه، وذا حياة تاريخية.

ومع أن «هردر» في كل بحوثه في الأدب والفن وأصول اللغة كان ينتزع الأمثلة التي يبغي بها إرشاد الشعب الألماني وإسداء النصح للكتاب على أساس الدفاع عن اللغة الألمانية والتقاليد والعادات والفنون … إلخ الألمانية، فقد انفصلت «القومية» في تفكير «هردر» عن الوطنية بمعنى محبة الوطن. فنراه ينشر في سنة ١٧٦٥ بحثًا تساءل فيه إذا كان قد أصبح لبلاده بعد جمهور ووطن على غرار ما هو حادث في البلدان الأُخرى، ثم أجاب على هذا السؤال بعقد مُقارنة بين المجتمع في العصور القديمة والذي يقوم على محبة الوطن، وبين المجتمع في عالم المسيحية والذي يعتبر الشعوب إخوة تؤلف الإنسانية بينهم، والذي يدين بالإنسانية مثلًا أعلى من ناحيتي السياسة والاجتماع. ولقد عزا «هردر» إلى الحضارة المسيحية الفضل في إزالة الحواجز التي فصلت الشعوب عن بعضها بعضًا.

ومن أقواله المأثورة أن الفخورين بقوميتهم أكثر الناس بلادة ذهن مثلهم في ذلك مثل الذين يفخرون بأصولهم العريقة وثرائهم العريض. وفي أواخر أيامه سنة ١٧٩٤ كتب «هردر» يدين كل اشتباك دموي بين وطن وآخر بأنه أسوأ درجات البربرية التي ينحدر إليها البشر، فلم يعترف «هردر» إلا بنوع واحد من المنافسة بين الأمم هي المُنافسة المُثمرة في سبيل التقدم والرُّقي الحضاري. وكان من المتوقع إذن أن يُرحب بتلك الضآلة السياسية التي كانت عليها ألمانيا في عصره بدلًا من أن يأسف على ذلك. بل إنه اعتبر في صالح ألمانيا أن يكون لها وعلى نحو ما هو حادث فعلًا عدة قواعد أو مراكز سياسية اعتقد أن وجودها ضروري ولا غنى عنه؛ ليتسنى نمو فروع أصيلة مُتعددة من الدوحة الألمانية؛ أي الجنس الألماني. فلم يكن لدى «هردر» إذن أي فكر عن استطاعة ألمانيا أن تُصبح «وحدة جغرافية»، ولو أنَّه كان من ناحية أخرى يمجِّد ألمانيا ويرى أسباب هذا التمجيد في لغتها وروحها «وخلقها» وتقاليدها، ويطلب منها أن تشحذ كل قواها وعلى نحو ما كان يفعل هو نفسه؛ ليصبح لألمانيا الموحدة عقليًّا وذهنيًّا شعور بذاتها ووجودها.

وهكذا وصل «هردر» إلى مفهوم للقومية يستند على عناصر تختلف تمامًا عن تلك التي استندت عليها نظرية روسو وسائر الفرنسيين. وزيادةً على ذلك فإنَّ «هردر» لم يكن يلبس نظريته هيكلًا تتجسد به في كائن سياسي على نحو ما فعل الفرنسيون في مفهوم القومية لديهم.

وأمَّا هذا المفهوم والمعنى الذي جاء به «هردر» لنظرية القومية؛ فقد انتشر في أوساط الفكر جميعها في ألمانيا بصورة مزدوجة: في شكل الحركة الرومانتيكية في الأدب مُعتمدة على عناصر الحياة البدائية والتاريخ الألماني، ثم في شكل حركة علمية كان قوامها فقهاء اللغة والمؤرخين والذين يدرسون تاريخ الأديان. وكانت الجامعات العديدة والمنتشرة في أنحاء ألمانيا مراكزَ هذه الحركة الأدبية والعلمية المزدوجة، فكان يؤم هذه الجامعات الطلاب الذين صاروا يفدون إليها من أقاصي البلدان البعيدة. وفي هذه الجامعات صار هؤلاء يدرسون نظريات «هردر» عن القومية وعن ارتكاز عنصرية الشعوب على لغاتها الأصلية، وهؤلاء الطلاب هم الذين صاروا يروِّجون هذه النظريات في أنحاء أوروبا.

الخلاصة

وهكذا وجدت عشية اندلاع «الثورة الفرنسية» نظريات في موضوع «القومية» اختلفت كلٌّ منها عن الأُخرى اختلافًا عظيمًا: النظرية الفلسفية التي أخذت بها فرنسا وبمقتضاها كانت القومية عقدًا أبرمته إرادة المُتعاقدين الحُرَّة المُطْلقة، ثم النظرية التاريخية التي أخذت بها ألمانيا وبمقتضاها اعتبرت القومية كائنًا عضويًّا، لغة الشعوب البدائية هي أداة تعبير هذا الكائن العضوي الأساسية.

ولم يكن مفهوم القومية في هذين الحالين نتيجة المُصَادفة أو الظروف الطارئة، بل كانت الفكرتان على العكس من ذلك تفسيرًا لتطور تاريخين يسيران في اتجاهين متضادين؛ أحدهما: تاريخ بلاد تكونت من عوامل مُختلفة امتزجت امتزاجًا كليًّا؛ لتُصْبِحَ كلًّا واحدًا تحت تأثير ترابط واندماج سياسي ترتب عليه أن «الدولة» و«الأمة» و«القومية» كلها مدلولات لشيء واحد، وذلك في فرنسا. والآخر: هو تاريخ بلاد افتقرت إلى هذا الاندماج والترابط السياسي، وكانت مؤسسة من استقرار شعب في رقعة ممتدة من نهر الراين غربًا إلى نهر الأودر شرقًا، ظل بمنأًى من كل غزو أجنبي أو سيطرة أجنبية عليه، ولكن سرعان ما صار لا يفقه معنًى لفكرة «الدولة» عندما لم يكن لمفهومه عن الدولة أساس جغرافي، ولم يتجسد هذا المفهوم في صورة سياسية، وبقيت «القومية» لديه تستند على العنصر البدائي المشترك، وهو اللغة التي تمثلت فيها وحدة الأصل عند هذا الشعب، وذلك في ألمانيا.

تلك إذن كانت الأصول النظرية أو الفلسفية (والمثالية) للحركة القومية في أوروبا.

١  Contrat Social-Cdonsidérations sur le Gouvernement de la Pologne.
٢  Discours sur l’inégalité.
٣  Dialogues.
٤  L’abbé Mably: Les Entretiens de Phocion sur le rapport de la morale et de la Politique.
٥  Mably: Observations sur l’histoire de la France.
٦  Argenson: Considerations sur le gouvernement de la France.
٧  Christopher Martin Wieland (1733–1813), Fredrick Gottlib-Klopstock (1724–1803).
٨  Gotthold Ephraim Lessing (1729–1781).
٩  Minna Von Bacnhelm.
١٠  Fragments sur la nouvelle littérature allemande.
١١  Origin of Languages.
١٢  Idées sur la philosophie de l’histoire de l’humanité.
١٣  Lettres sur le progrès de l’humanité.
١٤  La voix des peuples.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤