الفصل الثالث

القومية: أصولها التاريخية

تمهيد

تستند القومية إلى أصول تاريخية، كاستنادها إلى الأصول الفلسفية والنظرية التي سبق الكلام عنها، ونشأة الفكرة القومية ونموها من النَّاحية الفلسفية أو النظرية، كان يتفق من حيث الترتيب الزمني مع وقائع التاريخ وحوداثه الأولى، ولو أنه كان ببطء شديد؛ أي بعد مضيِّ زمن طويل، أن أحدثت هذه النَّظريات أثرًا جعل الوقائع مُطَابقة لها، فاقتضى الحال مرور قرن ونصف قرن من الزَّمان تقريبًا ليكتمل شعور الشعوب بقومياتها في عالم الواقع والنشاط الفعلي.

فلا يجوز الاعتقاد بأنَّ التاريخ يعرض فجأة ودون سابق إنذار مشهدًا للقوى المتضامنة بلا أسباب ولا مقدمات له؛ لأنَّ التاريخ إنما يسلك طريق التطور، ولا قدرة للفكرة النظرية على إبراز الحوادث التاريخية بغير هذا الطريق البطيء؛ لأنَّ الفكرة الواحدة (أو الرأي المعين) قد تظهر في جهةٍ ما، ليدين بها جماعةٍ ما، ثم لا تلبث حتى تختفي بعضَ الوقت لتعود إلى الظهور بعد فترة من الزَّمن قد تكون طويلة أو قصيرة حسب شتى المناسبات، ومن أجل تأييد حوادث مُعينة بذاتها، فيلتف فريق من الناس حول هذه الفكرة أو النَّظرية، وفي هذه المرحلة تكون هذه الآراء أو الفكرات قد اكتسبت حيويةً ونشاطًا يتعذر معهما محوها من الوجود بالرغم مما قد يكون هنالك من قوى معارضة تريد القضاء عليها، فينشب عندئذٍ نضال عنيف تنتصر في نهايته النظريات والآراء الجديدة، وتبدو ثمرة هذا الانتصار في صورة حوادث ووقائع في عالم الحقيقة، ثم لا تلبث حتى تنتشر هذه النظريات بين الجماهير في قوة تتعذر مقاومتها بعد أن تكون في هذه المرحلة قد نجحت في استثارة قوات متضامنة عظيمة.

ونظرية القومية كغيرها من النظريات إنما تسلك هي الأخرى هذا الطريق نفسه، فتمر في أدوار عدة، وتتخذ مظاهر أو أشكالًا مُتباينة تبعًا لدرجة نموها وتطورها، ولا يجب اعتبار أنَّ هذا النمو والتطور قد حصلا بصورة رتيبة بطيئة، بل جاءت نظرية القومية نتيجة نمو أو تطور متقطع وغير متسلسل الحلقات.

ولم يكن تكوين هذه القوميات «صناعيًّا»؛ فلقد كان لها وجود مستكنٌّ قبل بروزها إلى عالم الوجود الفعلي الخارجي، فهي لا تعدو عن كونها حقائق اكتمل الشعور بذاتيتها وبوجودها، ولا يمكن كذلك اعتبار القومية للسبب نفسه، ابتكارًا أو ابتداعًا؛ أي شيئًا مُستحدثًا من العدم؛ فكل ما هنالك أنَّ القوميات كانت موجودة، ولكن بدرجات مُتفاوتة، فبعضها كان لا يزال في دور الميوعة، ولا يمكن تمييزه من البيئة أو الوسط الذي أحاط بها كشعوب البلاد السلافية، أو الذين تتألف منهم إمبراطورية الهابسبرج، وتلك كانت آخر القوميات التي دبت فيها الحياة واكتمل شعورها بذاتيتها.

وعلى النقيض من ذلك، فهناك أمم كانت تتمتع بحياة مستقلة واحتفظت بذاتيتها بالرَّغم من خضوعها لسيطرة «دولة» أُخرى عليها؛ فالقوميات من هذا الطراز يستمر بقاؤها ووجودها دون أن يكون لديها شعور بهذا الوجود، ودون أن تكون لديها رغبة أو إرادة لإبراز ذاتيتها.

ويكفي أن تطرأ مناسبات تاريخية مُعينة، حتى تستيقظ هذه القوميات من سباتها، وتستبدَّ بها الرَّغبة حينئذٍ في طلب الاستقلال الذي لا معدى عن تحقيقه في هذه الحالة إن شاءت البقاء بعد ذلك، والقوميات التي من هذا الطراز هي التي اختفت في الواقع كذاتية سياسية من أزمنة طويلة، حتى لقد بات مُتعذرًا عليها إدراك أنَّ لها رسالة في الحياة أو أن لها «قومية» خاصة بها. ومع ذلك فإن هذا لا يعني اختفاء العناصر والمقومات التي دخلت في تكوين هذه القوميات ضمن الإطار المرسوم لها، بل صار ينقصها الروح فقط الذي يشيع فيها الحياة، ويجعلها تشعر بذاتيتها، وتتبع ظهور هذا الروح أو اليقظة القومية هو موضوع هذه الدراسة.

لقد شهد القرن الثامن عشر في السنوات الأخيرة منه تجربة صحيحة تُشير إلى ما كان منتظرًا أن تمرَّ فيه القوميات من أدوار عند تكوينها، ولو أنَّ هذه التجربة المقصود الكلام عنها بالذات قد حدثت في وقت كان تطور الآراء فيه قد بلغ مرحلة من النمو والتقدم يتعذر بها خنق هذه الآراء وإخمادها كما حصل في أُمم أُخرى. وأمَّا هذه «التجربة» فكانت حادث الإثم الذي ارتكب في حق الأمة «والقومية البولندية» عند تقسيمها الأول في سنة ١٧٧٢.

وعلى ذلك سوف يشمل البحث في أصول حركة «القوميات» من الناحية التاريخية دراسة هذا الحادث البولندي من جهة، وهو حادث «دولة» كانت تسير في طريق الاختفاء من عالم الوجود، ثم دراسة «الدول» التي كان لا يزال لها وجود ولكنها فقدت «قومياتها» كالمجر (هنغاريا) واليونان وإيرلندة، باعتبار أنَّ هذه جميعًا قد خضعت لسيطرة أجنبية عليها، ولكن لم تستطع هذه السيطرة الأجنبية أن تمحو «ذاتية» هذه الدول. ولقد اختلف النظام الذي أقامته السيطرة الأجنبية في كل واحدة من هذه الدول واختلفت «ذاتية» كل شعب من هذه الشعوب الثلاثة، ولم تكن هذه الدول الثلاث أو الشعوب الثلاثة قد خطت بعد في طريق «القومية» خطوات ظاهرة، وإن كانت تملك القواعد أو الأسس التي تشيد عليها صروح قومياتها.

بولندة

لم يكن يوجد ببولندة وقت التقسيم الأول (١٧٧٢) شعور قومي، كما لم تكن بولندة «دولة» بالمعنى المعروف، بل كانت أولًا وقبل كل شيء تصويرًا أو «صياغة» تاريخية دون أُسس جغرافية أو عنصرية، وتتألف أساسًا من بولندة الكبرى وبولندة الصغرى؛ أي من إقليم بوزن Posen ووارسو من جهة، ومن كراكار ولوبلين Lublin من جهة أخرى، وكان حول هذه النواة أن صار تكوين بولندة نتيجة لحوادث ثلاثة: زواج ابنة لويس أنجو Louis D’Anjou ملك بولندة من «جاجلون» Jagellon غراندوق ليتوانيا سنة ١٣٨٦، فتضاعفت مساحة بولندة لانضمام ليتوانيا وروسيا البيضاء إليها بسبب هذا الزواج، ثم التوسع بسبب هجرة فلاحي الأوكرين إلى كييف Kiev ونهر الدنيبر Dineper والفتوح التي فتحوها، وكذلك صوب الجنوب حتى مدينة «تارجويتز» Tergowicz على الحدود العثمانية.
وأمَّا الحادث الثالث فكان سببه الإصلاح الديني، وذلك بأنَّ الأمراء الذين اعتنقوا البروتستنتة واستولوا على أملاك الكنيسة، وأرادوا تمكين سلطانهم في إماراتهم وحكوماتهم، لم يلبثوا أن وضعوا أنفسهم تحت سيادة بولندة، فضمت بولندة إليها بفضل ذلك بروسيا الشرقية وليفونيا Livonia وكورلاند Courland، ووصلت أراضيها حتى خليج ريغا شمالًا.

ولقد كان طبيعيًّا أن تطرأ تعديلات على حدود هذه الدولة البولندية في مختلف مراحل تاريخها؛ فقد حدث في وقت من الأوقات أن وصلت حدودها إلى موسكو، كما حدث أن فقدت كذلك جزءًا من أراضيها، فضاعت منها كييف كما نبذت دوقية بروسيا سيادة بولندة عنها، وفي سنة ١٧٧٢ كانت بولندة دولة يبلغ عدد سكانها خمسة عشر مليون نسمة، وفي سنة ١٧٧٢ كانت بولندة «دولة» وحقيقة تاريخية واقعة.

ومع ذلك لم يكن لدولة بولندة من الناحية السياسية وجود ما، أو أنها كانت قائمة ولكن في صورة سيطرة مطلقة تتمتع بها طبقة واحدة هي الطبقة الارستقراطية، وتمارس هذه الطبقة السلطان المطلق في الدولة في ميادين السياسة والاجتماع والثقافة.

وهذه الطبقة التي لا يزيد عددها على مائة ألف وحسب لم يوجد لديها أي شعور بضرورة الحاجة إلى «دولة»، بل لقد عملت على هدم أركان الدولة بسبب تمسكها بدستور كان يشمل من أجل ضمان مصالح هذه الطبقة؛ أولًا: «حق اعتراض» Liberum Veto يستطيع بفضله أيُّ نبيل من النبلاء (الذين تتألف منهم هذه الطبقة الأرستقراطية) أن يمنع «الدياط» من اتخاذ قرار يرى فيه النبيل المعارض افتئاتًا على مصالحه ومصالح طبقته. وثانيًا: حقًّا يخول هؤلاء النبلاء عقد اتحادات فيما بينهم (مجالس كونفدرائية) لتنفيذ أغراض معينة، وبقوة السلاح إذا لزم الأمر Confederations. وثالثًا: نصًّا يجعل الملكية في بولندة انتخابية بفضل إعطائه النبلاء فرصة فرض ما يشاءون من شروط على الملك قبل اختياره لمنصب الملكية Pacta Conventa.

وبذلك استطاع النبلاء البولنديون أن يحطموا سلطة الملك تحطيمًا، ولم يكن هؤلاء يشعرون بوجود صالح عام أو وطني يقتضيهم الواجب المحافظة عليه؛ فكانت المشاحنات الشخصية أو النزاعات الطبقية الأساسَ الذي قامت عليه الأحزاب التي ساعد وجودها على تفرق الكلمة وإضعاف البلاد. وانعدم إلى جانب هذا أي تضامن أو تماسك بين الطبقة الأرستقراطية وسائر أفراد الشعب وطبقاته، واستأثرت هذه الأقلية الأرستقراطية بالثروة والغنى؛ فأخذت بأساليب المدنية الأوروبية وأقامت نظامًا «بوليسيًّا» أحكمت فيه الرقابة، وأنشأ أعضاؤها الصلات القوية مع الغرب بفضل الزواج من الأسرات الأوروبية الكبير في غرب أوروبا. ولكن هؤلاء النبلاء لم يكونوا بحال من الأحوال يمثِّلون «الأمة» البولندية، بل عاشوا عالة عليها، ويستنزفون مواردها، وكما لو كانوا يعيشون في بلد فتحوه بحدِّ الحسام.

ولم يوجد في بولندة طبقة متوسطة (بورجوازية) بالمعنى المعروف، والتي تشغل في العادة مكانًا وسطًا بين الطبقتين العليا والدنيا؛ فقد كان ما يمكن تسميته بالبورجوازية في بولندة يتألَّف من بعض المعمرين الألمان في المدن، والذين كانوا يعيشون في كد ونصب وفي مذلة وهوان، وكذلك اليهود الذين فرضت عليهم الضرائب المتنوعة دون حساب. ولقد بقيت هذه الطبقة المتوسطة المزعومة دون التئام أو اندماج ودون شعور جماعي ودون تنظيم بل ودون حياة خاصة بها.

أمَّا الطبقة الدنيا، فكانت تتألَّف من كتلة الفلاحين الضخمة، الذين رسفوا في أغلال رِقِّ الأرض والذين تحدث عنهم «مابلي» Mably عند كلامه عن حكومة بولندة، فقال: إنَّ السادة «الأسياد» النبلاء البولنديين لم يكن لديهم الذكاء والإدراك حتى ليعاملوا فلاحيهم نفس المعاملة التي تلقاها خيولهم، وكان هذا العدد الضخم من الأهلين — من «الفلاحين» — لا يَأْبَهُ في قليل أو كثير لما يُصيب سادتهم من سرور أو ينزل بأوطانهم من كوارث؛ فعاشوا في خمول تامٍّ، كانت تتخلله من وقت لآخر بعض فورات تعصُّب ديني شديد.

وواضحٌ أنَّ مُجتمعًا هذا شأنه كان من المُتَعَذِّر أن يتمَّ فيه توحيد أو اندماج، بل إنَّ الكاثوليكية التي كان مُستطاعًا أن يتسلَّح بها البولنديون في مقاومتهم ضدَّ جيرانهم الروس أو الألمان من أصحاب العقائد المُغَايرة لعقيدتهم لم تكن كافية لأن تصبح عامل إدماج وتوحيد؛ فقد كان من بين البولنديين أنفسهم نفر اعتنقوا الأرثوذكسية أو اللوثرية.

وعلى ذلك كان تقسيم بولندة في سنة ١٧٧٢ عند وقوعه مجرد عملية بتر لاقتطاع أجزاء من أرض الدولة دون إلحاق أي أذًى بقوى الدولة ذاتها، ففقدت بولندة جزءًا من روسيا البيضاء أخذته روسيا، وفقدت بوميرانيا التي أخذتها ألمانيا (بروسيا)، وهذا الجزء صار يُعرف باسم بروسيا البولندية، واستولت النمسا على إقليميْ «لدوميريا» Ludomeria وروسيا الحمراء، وأطلق النمساويون على هذه الجهات اسم غاليسيا Galicia.

وأمَّا أن عملية البتر هذه لم يتسبب منها ضرر لبولندة، فمردُّه إلى أن بولندة كانت كما شاهدناها «دولة تاريخية» فحسب؛ أي إنَّ تكوينها كان نتيجة انضمام مساحات من الأراضي إلى بعضها في مُختلف مراحل التاريخ؛ فلم يؤثر شيئًا في «قوميتها» اقتطاع بعض هذه الأراضي منها. ولا تعدو لذلك أن تكون عملية البتر هذه مجردَ طعنة أصابت كبرياء النبلاء أو الطبقة الأرستقراطية البولندية، ومن المتعذر لهذا كله اعتبار التقسيم الذي حصل سنة ١٧٧٢ اعتداءً وقع على «أمة».

إلا أنَّ هذا التقسيم لم يلبثْ أن أدى إلى قيام حركة صارت فيما بعد أصلًا للقومية البولندية؛ فقد ظهرت بعد التقسيم حركتان هامتان؛ الأولى: عندما تألَّفت جماعة من المصلحين الذين أرادوا إصلاح الدولة والقضاء على الفوضى الناجمة من وجود «حق الاعتراض» وتلك العهود والمواثيق المبرمة عند اعتلاء الملك العرش لتنفيذ شروط النبلاء عليه، ثم اتحادات النبلاء في مجالسهم الكونفدرائية. ولقد أراد هؤلاء في الوقت نفسه إصلاح الدولة بإنشاء جيش يضمُّ قواتٍ من المُشاة والمدفعية، مع فرض ضريبة مُعيَّنة للإنفاق من محصولها على هذا الجيش.

التفَّ فريق المصلحين هذا حول بعض الزُّعماء والنُّبلاء مثل الأمير «تزارتوريسكي» Czartoryski وبوتوكي Potocki وزامويسكي Zamoyski وغيرهم. وكان أن انعقد من أجل تحقيق هذه الإصلاحات «دياط» في وارسو في ٦ أكتوبر سنة ١٧٨٨. ولكن بدلًا من الاهتمام بالإصلاح انغمس «الدياط» في المشكلات السياسية نتيجة للتنازع على النفوذ بين روسيا وبروسيا.

وتحت تأثير النفوذ الذي كان للوزير البروسي والأموال التي أنفقها على أعضاء المجلس، ارتمى «الدياط» في أحضان بروسيا واتبع سياسةً مناوئةً لروسيا، ووصل إلى قرارات كان من المتعذر تنفيذها قبل الاستعداد اللازم أولًا بالبدء في إصلاح شئون الدولة ذاتها وإعادة تنظيمها؛ فقد قرر «الدياط» إنشاء جيش من مائة ألف مقاتل، وطالب بجلاء روسيا عن الأراضي التي احتلها عسكرهم (بمقتضى تقسيم ١٧٧٢)، كما قرر المفاوضة مع بروسيا لعقد معاهدة تحالف معها، وتأجَّل البحث في برنامج الإصلاح المنشود إلى العام التالي.

وأَمَّا الحركة الثانية التي كان منشؤها التقسيم الذي حدث في سنة ١٧٧٢ فكانت الأغراض التي هدفت إليها أبعد مدًى وأعمق أثرًا؛ ذلك أنها أرادت النهوض بالنبلاء خلقيًّا وفكريًّا أو ثقافيًّا عن طريق إصلاح التعليم، وكان بدء ظهور فكرة الإصلاح أو الإنعاش الفكري والثقافي في النِّصف الأول من القرن الثامن عشر على يد أحد الرهبان «الأب كونارسكي» Konarski (١٧٠٠–١٧٣٣)، ولم يلبث أن ساعد على اشتداد الرَّغبة في الإصلاح ذيوع الآراء الفرنسية بعد ذلك في بولندة، وعلى وجه الخصوص آراء القائلين بحكم الطبيعة (أو الفيزوقراطيين Physiocrats)، وسنتكلم عن آرائهم بالتفصيل في موضعه.
ولقد تسنَّى وضع نظام للتعليم العام عندما ألغى البابا جماعة اليسوعيين (الجزويت) سنة ١٧٧٤، وهو القرار الذي قُوبِل في بولندة بمُعَارضة شديدة نظرًا لأنَّ اليسوعيين كانوا يتمتعون بمحبة الشعب لهم، فأمكَنَ تخصيص الأموال أو ريع الأملاك التي كانت لهذه الجماعة للإنفاق على التعليم، وعاون هؤلاء أنفسهم بعد حل جماعتهم في مشروعات التعليم، وعلى ذلك؛ فقد تأسَّست في سنة ١٧٧٤ لجنة للتربية والتعليم الأهلي؛ أي الوطني، وضعت نظامًا شاملًا لبرامج التعليم، وأشرفت على إخراج الكتب التربوية اللازمة، كما أدخلت إصلاحات كبيرة في جامعتيْ «كراكاو» و«فلنا» Vilna، وقد عُهِدَ بالإشراف على هذا الإصلاح إلى «ميشيل بونياتوسكي» Poniatowski. فكان بفضل إصلاح التعليم إذن أن تكوَّن لدى البولنديين بمرور الزمن شعور عامٌّ، وروح قومي (أو وطني) وسياسي، ولو أنَّ هذا لم يحدث إلا بعد مشقة عظيمة وبعد مُضِيِّ وقت طويل بسبب العقبات التي اعترضت هذا النمو القومي والعراقيل التي أثارها ما وقع من حوادث، بعد ذلك.

فقد كان مُقَدرًا لهذه الحركة المُزدوجة — سواء من أجل الإصلاح السياسي أو الإنعاش الروحي والخلقي — أن تشقَّ طريقها وسط مناضلات حادة ومكائد وأحداث شديدة لا تقل في آثارها العنيفة عما كان يحدث قبل تقسيم سنة ١٧٧٢. بل إنَّ هذا التقسيم نفسه لم يكن له من أثر إلا زيادة هذه النزاعات والأحداث حدة على حدتها.

ومع ذلك فالجدير بالملاحظة أن الاعتداء الذي وقع على بولندة وانتهى بتقسيمها في سنة ١٧٧٢ ثم كان مُقدمة لاعتداءات لاحقة (في سنتيْ ١٧٩٣، ١٧٩٥) ترتَّب عليها اختفاء بولندة من خريطة أوروبا كليةً، إنما وقع في وقت كان قد بلغ فيه تطور الآراء وتقدمها درجة جعلت متعذرًا على البولنديين الرضوخ للتقسيم وعدم الاحتجاج ضده؛ الأمر نفسه الذي جعل متعذرًا خنق الروح البولندية وإخمادها، على نحو ما حدث للدولة التي ذهبت من الوجود فيما مضى، واقتسم أرضها الطامعون فيها والمُعتدون عليها وقضوا عليها: أضف إلى هذا أنَّ المسألة البولندية تنازعتها تيارات مُتَضاربة بسبب المؤامرات الكثيرة النَّاجمة من اختلاف المصالح الأوروبية السياسية بشأنها. ثم لم تلبث أن نشبت الثورة الكبرى في فرنسا في سنة ١٧٨٩؛ فكان لهذه الثورة أكبر الأثر في تحرير الحركة البولندية وفك عقالها بصورة من الصور، بعد سنة ١٧٨٩.

ولذلك وبفضل هذه الأسباب جميعها، فإنَّه بدلًا من انقضاء «المسألة البولندية» واختفائها من ميدان السياسة الأوروبية، فقد بقيت مسألة «مفتوحة». وذلك ليس فيما يتعلَّق بأهل البلاد أنفسهم كذلك، ولو أنها ظلت في الوقت نفسه مسألة سياسية تستأثر باهتمام الطبقة الأرستقراطية (طبقة النبلاء) وحدها فقط، ولا تَلْقَى أي اهتمام من جانب سواد الشعب نفسه، ثم إنها لم تُثِرْ بعدُ أيَّ شعور قومي؛ فلم يستثر هذا الشعور القومي إلا بعد وقوع الكوارث التي نزلت ببولندة في العهود التالية.

هنغاريا (المجر)

وكانت هنغاريا (المجر) في آخر القرن الثامن عشر «دولة» من طراز آخر: دولة تاريخية في نطاق دولة أخرى، وتحتفظ بذاتيتها وشخصيتها بالرغم من ذلك، والبحث في تاريخها يكشف عن المدى الذي بلغه شعورها بذاتيتها هذه وشخصيتها.

وتحتلُّ مملكة المجر (هنغاريا) مركزًا خاصًّا لا معدى عن توضيحه لعلاقة ذلك بما يُعرف باسم نظرية الحقوق التاريخية؛ وهي النظرية التي اعتمد عليها الهنغاريون فيما بعد عند المطالبة بحقوقهم الوطنية؛ ذلك أنَّ مملكة المجر من الممالك القديمة في أوروبا، والتي كان لها وجود قديم، فما لبثت حتى فرضت ذاتيتها و«شخصيتها» على سادتها الجدد عندما انتقل فيها الحكم إلى آل هابسبرج في سنة ١٥٢٦، فانتخبت ملكًا عليها فردنند النمساوي — شقيق الإمبراطور شارل الخامس — (والذي أُعطِي كما هو معروف الحكم في النمسا، ثم صار إمبراطورًا بعد تنازل أخيه شارل الخامس سنة ١٥٥٦، وكان فردنند قد تزوَّج من شقيقة ملك بوهيميا والمجر «لويس جاجلون» الذي لقي حتفه في واقعة موهاكز المشهورة على يد الأتراك في سنة ١٥٢٦).

وقد اعتبر «الدياط» في هنغاريا اتحاد البلاد مع النمسا بمثابة محالفةٍ الغرضُ منها الاطمئنان على سلامة الدولة، في حين أن فردنند على النقيض من ذلك كان يَعتَبِر حصوله على المجر بمثابة «هبة» منحتها الدولة له شخصيًّا.

وحقيقة وجود المجر؛ أي تمتُّعها بكيان قائم بذاته، ينهض دليلًا عليه في عرف الفقه السياسي وجود طائفة من القوانين باسم «الدستور الهنغاري»، كما تضافرت قوًى تاريخية مُختلفة على صَوْنِ هذا الكيان الذاتي وضمان بقائه؛ فأمكَنَ الحفاظ على استقلال البلاد القانوني وبدرجة مُعينة على استقلالها السياسي كذلك. ومن أهم هذه القوى كان النضال الذي تحتَّم على هنغاريا أن تخوض غماره في الداخل والخارج معًا؛ ذلك بأنَّ مملكة المجر بَقِيَتْ زمنًا طويلًا مُقسمة إلى ثلاثة أجزاء؛ فهناك إلى جانب المجر «هنغاريا» التي خضعت للعُثمانيين، قسمٌ آخر حَكَمَه آل هابسبرج، ثم ثالث هو المجر الجنوبية يخرج عن نطاق القسمين الأولين ويتمتع بالحكم الذاتي في داخل الإمبراطورية العثمانية، وهو المعروف باسم إمارة ترنسلفانيا Transylvania، والتي حفظت لها وجودها القومية الهنغارية القديمة.
وزيادةً على ذلك؛ فقد دافعت هنغاريا عن ذاتيتها ضد الملك أو الحكم الهابسبرجي بفضل الثورات التي نشبت من وقت اتحادها مع النمسا (في سنة ١٥٢٦)، واستمرت حتى سنة ١٧١١، وهي ثورات كانت تلقى تعضيدًا من جانب الدبلوماسية الأوروبية وخصوصًا الفرنسية؛ لإضعاف الهابسبرج، فنجح المجريون في المحافظة على ذاتية أو شخصية المملكة؛ أي إنهم حالوا دون فنائها في نطاق سيطرة الهابسبرج الأجنبية. ولقد أمكن في آخر الأمر إعادة بناء الوحدة الهنغارية، بطرد الأتراك العثمانيين على يد الهابسبرج في القرن السابع عشر خصوصًا بفضل الانتصارات التي أحرزها أمير سافوي البرنس أوجين Eugene، فأمكن استرجاع بودابست سنة ١٦٨٦، وانهزم الأتراك في زنطة Zenta، ثم اضطروا في معاهدة «كارلوفتز» Carlwitz في سنة ١٦٩٩ إلى التخلِّي عن أراضي المجر التي كانت في حوزتهم، فلم يستَبْقُوا في حوزتهم سوى بنات تمسفار Banat Temesvar التي لم تلبث أن سقطت في يد البرنس أوجين بعد أن ضيق الحصار على تمسفار شهرين من الزمان، ثم فقدها الأتراك نهائيًّا في معاهدة «بساروفيتز» Passarowitz في يوليو سنة ١٧١٨، وبمقتضى هذه المعاهدة الأخيرة أضافت المجر إلى أراضيها جزءًا صغيرًا من السرب وبلاد الأفلاق Wallachia.
وهكذا بقيت المجر أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر مُحتفظة بكيانها كمملكة. بل لقد ترتَّبَ على تمسكها بهذه الذاتية «والشخصية» الخاصَّة بها — والدفاع عنها ضدَّ الإمبراطور صاحب السيادة الشرعية عليها — أن دخلت المجر في مفاوضات معه أسفرت عن حل وسط اتَّخَذَ شكل معاهدة في «زاتمار» Szatmar في سنة ١٧١١ سرعان ما أعقب إبرامها استصدار طائفة من «قوانين أساسية» وافَقَ عليها الدياط بين سنتيْ ١٧١٢، ١٧٣٢ اعترف الهنغاريون بمقتضاها بمبدأ ملكية الهابسبرج، وهو المبدأ الذي كانوا قد سلَّمُوا به منذ سنة ١٦٣٧ عن اعترافهم بنظام الوراثة في نظير الاتحاد مع قوات الإمبراطورية في النضال ضد العثمانيين. وكانت في مقابل ذلك قد اعترفت النمسا (أو الإمبراطور) بالقوانين الهنغارية التي نظَّمت طرائق الحكم وأساليبه في هنغاريا، أُعيد النظر الآن في هذه القوانين الدستورية لتصبح مُتلائمة مع وضع الدولة الجديد في ميادين الإدارة والقضاء وفي المسائل العسكرية.

وهكذا ففي حين استطاع الهابسبرج خلال هذه المدة الطويلة من أواخر القرن السادس عشر ثم أثناء النِّصف الأول من القرن الثامن عشر، القضاءَ على مملكة بوهميا وإدماجها في أملاكهم، فقد بقيت المجر على خلاف ذلك محتفظة بكيانها وذاتيتها داخل نطاق دولة آل هابسبرج ذات نظام الحكم المطلق؛ فكان أن ترتَّبَ على هذه الحقيقة قيام ذلك الوضع التاريخي الذي جمع في نظام ثنائي بين النمسا والمجر.

وأثناء القرن الثامن عشر تضافرت عواملُ عدة على دعم كيان المجر والمحافظة على وجودها وبقائها. وكان أهم هذه العوامل أن الإمبراطور ليوبولد الأول عمد في سنة ١٧٠٣ إلى ترتيب نظام للوراثة في آل هابسبرج، وأنَّ الإمبراطور شارل السادس وضع في سنة ١٧١٣ ذلك «الضمان الوراثي» Pragmatic Sanction الذي أراد منه ضمان وراثة ابنته «ماريا تريزا» لأملاكه النمساوية؛ فقد قامت مفاوضات بين الهنغاريين والإمبراطور صاحب السيادة عليهم حول مسألة الوراثة، فاشترط الأولون شروطًا عديدة في نظير اعترافهم «بالضمان الوراثي» أراد الإمبراطور أن يرفضها أولًا، ثم انتهى الأمر إلى الوصول إلى حل وسط على أساس قبول الضمان الوراثي، الذي قبله الدياط في المجر سنة ١٧٢٣، باعتبار أنَّ المجر قد قبلت ما ينطوي عليه هذا «الضمان» من تقرير أنَّ وراثة الهابسبرج إنما هي من الآن فصاعدًا وراثة موحدة وشاملة بحيثُ يتعذَّر تجزئة أملاك الهابسبرج أو انفصال أي أقاليم من جثمان هذه الدولة.

ومعنى ذلك أنَّ المجر أيَّدت ارتباطها بالنمسا وصار متعذرًا عليها الانفصال عنها، ومع ذلك فقد انطوى هذا المبدأ نفسه على مبدأ آخر؛ هو أنه لما كان متعذِّرًا على المجر الانفصال عن النمسا فقد صار متعذرًا على النمسا كذلك الانفصال عن المجر. ولهذا المبدأ أهمية كبيرة؛ لأن تقرير ارتباط النمسا بالمجر وعجزها عن الانفصال عنها كان معناه أنَّ النمسا صارت تعترف بأنَّ للمجر كيانًا وذاتيةً خاصة بها.

ويمكن إيجاز الشروط التي اشترطها المجريون للاعتراف بالضمان الوراثي في أنَّ هؤلاء اعتبروا الضمان الوراثي من قوانينهم؛ أي قانونًا مندمجًا في قوانين «مملكتهم»؛ فصار هذا القانون الذي اعترف بالوراثة في آل هابسبرج جزءًا لا يتجزأ من الدستور الهنغاري؛ مما معناه أنَّ المجر لا تعترف بوراثة الهابسبرج كأمراء نمساويين تئول إليهم حقوق الوراثة وفق القوانين النمساوية، ولكن باعتبار أنَّ لهم حقوقًا وراثية بمقتضى القوانين الهنغارية وبناءً على ما تتضمَّنه هذه القوانين الهنغارية من نصوص خاصة بوراثة العرش في المجر فحسب.

أضف إلى هذا ما تعهد به وارث العرش من آل هابسبرج من إدارة شئون الحكم في المجر بوصفه ملكًا على المجر وفق قوانين البلاد وحسبما نص عليه دستورها؛ فكان معنى ذلك أنَّ هناك «عقدًا رسميًّا» بين الدياط «المجري» وبين صاحب السلطان والحكم بها. وهكذا، فإنه في حين قد تَمَّ الاعتراف بوجود «دولة» النمسا، ووضعت هذه نظامًا إداريًّا يسري على كل أقاليمها (السلافية-الألمانية) ظفرت المجر بالاعتراف بحقها في الوجود وبذاتيتها الخاصة بها؛ مما تدعم بسببه نهائيًّا نظام «الحكم الثنائي» داخل الدولة الهابسبرجية.

وثمة عامل ثانٍ ساعد على دعم وجود المجر واحتفاظها بكيانها أثناء القرن الثامن عشر، ونعني بذلك السياسة التي اتبعتها ماريا تريزا التي تولَّتْ عرش الإمبراطورية من سنة ١٧٤٠ إلى ١٧٨٠ بعد وفاة والدها شارل السادس؛ فقد سبقت الإشارة إلى الصعوبات التي صادفت الإمبراطورة بسبب اعتداءات فردريك الثاني (الأكبر) — ملك بروسيا — على أملاكها في سيليزيا، حتى إنه لم يكن هناك مَعْدًى عن حشد كل القوات التي تملكها «ماريا تريزا» لدفع هذا الغزو، فأقبل الهنغاريون في هذه الظروف على تقديم كل مُسَاعدة كانت ملكتهم «ماريا تريزا» — كما قالوا — في مسيس الحاجة لها، وفي نظير ذلك أيدت الملكة — وهي إمبراطورة النمسا وملكة المجر — كلَّ الحقوق والامتيازات التي كانت لهؤلاء.

ولقد أرادت ماريا تريزا بعد حرب الوراثة النمساوية (سنة ١٧٤٠–١٧٤٨)، التي تميَّزَتْ كما سبق أن عرفنا بالنضال بين بروسيا والنمسا حول امتلاك سيليزيا. وأثناء «فترة الهدوء» التي تلت هذه الحروب، أرادت أن تعمل لتوحيد السلطة وتركيزها في النمسا بإنشاء إدارة وحكومة مركزية من الناحيتين السياسية والقضائية خصوصًا، فاستصدرت لهذه الغاية عدة قوانين بين سنتيْ ١٧٤٧، ١٧٤٩، ثم ما لبثت حتى تابعت نشاطها لتحقيق هذا الغرض نفسه أثناء «حرب السنوات السبع» التي استمرت من سنة ١٧٥٦ إلى ١٧٦٣، وكانت تبغي منها ماريا تريزا استرجاع سيليزيا ولكن دون طائل؛ فاستصدرت طائفة أخرى من القوانين بين سنتيْ ١٧٦٠، ١٧٦٣.

ومع ذلك فالذي يجدر ملاحظته أنَّ هذه الإصلاحات التي هدفت إلى إنشاء إدارة أو حكومة تقوم على أساس تركيز السلطة في النمسا لم تكن تشمل هنغاريا، بل وقفت هذه الإصلاحات عند نهر ليتا (أحد فروع الدانوب الصغيرة) على الحدود بين النمسا والمجر، وبقيت هذه الأخيرة خارجة عن نطاقها. وهكذا ففي حين توطَّدت أركان السلطة العليا في الدولة النمساوية اتبعت ماريا تريزا سياسة «خاصة» نحو هنغاريا، ثم إنه كان في عهد هذه الإمبراطورة (الملكة) أن حقَّقَ الهنغاريون أغراضهم عندما ظفروا منها بالاعتراف رسميًّا بأن ترنسلفانيا وكرواتيا Croatia أقاليم ضمت إلى مملكة المجر.

وكان هناك عامل ثالث ساعد بدوره على بقاء المجر متمتعة بكيانها وذاتيتها، ونعني به إصلاحات الإمبراطور جوزيف الثاني (١٧٦٥–١٧٩٠) ابن ماريا تريزا، أو على الأصح تعطيل تلك الإصلاحات التي حاولها هذا الإمبراطور، وكان جوزيف الثاني حاكمًا فيلسوفًا حاول توحيد أملاكه النمساوية بالرغم من تباين أقاليمها على أساسٍ يقبله العقل؛ أي على أساس «فلسفي»، فلم يبلثْ أن أثار ضده مُعَارضة شديدة في كل أنحاء مملكته عندما رفض رعاياه إلغاء تقاليدهم الموروثة والنزول عن لغاتهم الأهلية أو الرضاء بإلغاء الأنظمة القضائية والإدارية المحلية، كما عارضوا نظام التجنيد العام الذي أريد به الاستعاضة عن التطوع الاختياري في نظام الخدمة العسكرية، واشتدت المعارضة على وجع الخصوص في المجر ثم في الأراضي الواطئة النمساوية (بلجيكا)، لدرجة أنَّ جوزيف الثاني لم يلبث أن اضطر قبل وفاته بمدة قصيرة إلى إلغاء كُلِّ الإصلاحات التي كان ابتدعها.

وانتهز الهنغاريون فرصة وفاته واعتلاء شقيقه ليوبولد الثاني عرش الإمبراطورية (١٧٩٠–١٧٩٢) لاستعادة أنظمتهم القديمة، فأرغموا ليوبولد على التخلي عن برنامج الإصلاحات التي هدفت إلى توحيد الأملاك النمساوية. ثم إن إصلاحات جوزيف الثاني بما ترتَّبَ عليها من رد فعل كبير قد ساعدت كذلك على تقوية شعور المحلية في المجر؛ فقد اجتمع الدياط في صورة هيئة تأسيسية، وكان لم يجتمع مدة من الزمن أيام ماريا تريزا، ولم يجتمع أصلًا في حكم جوزيف الثاني، فبادر الآن بالانعقاد عقب وفاة الملك مباشرةً ليستصدر عدة قوانين (خلال سنتيْ ١٧٩٠-١٧٩١) تحتَّم بمقتضاها تتويج الملك في بودابست — عاصمة المجر — خلال الشهور الستة التالية لاعتلائه العرش، كما حَرَمَتْ هذه القوانين الملك من ممارسة سلطاته الكاملة حين نصَّت على اجتماع «الدياط» مرة كل ثلاث سنوات، ومنعت الملك من فرض الضرائب وجمع الجيوش من غير موافقة «الدياط»، وصار للدياط إلى جانب الملك الحقُّ في سن القوانين وتفسيرها وإلغائها، وصار حتمًا ممارسة السلطات التنفيذية والقضائية وفق القانون.

وتألف من هذه القوانين نوعٌ من الدستور لعلَّ أهم ما يستلفت فيه النظر — إلى جانب ما تقدَّم — ما جاء في مادته العاشرة التي جاء فيها: أن الملك مُعترف باستناد حقه في الوراثة إلى القانون الهنغاري كاستناده إلى القانون النمساوي سواءً بسواء، «وأنَّ هنغاريا إنما تؤلِّف مع الأقاليم التي ضُمَّتْ إليها مملكةً حرةً في كل ما يتصل بشكل الحكومة القانوني، ويدخل في ذلك كافة فروع الإدارة، وهي مُستقلة؛ أي مُتحررة من أي نوع من أنواع الخضوع لمملكة أخرى، أو لشعب آخر، بل هي على العكس من ذلك مُستمتعة بوجود كيان صحيح، ولها دستورها الخاص بها؛ ولذلك فإن مليكها المتوج عليها شرعًا وقانونًا الواجب عليه أن يُدير شئون الحكم وفق القوانين وحسب التقاليد والعادات الخاصة بها، وليس حسبما يجري في أقاليم أخرى.»

وتلك كانت عبارات صريحة قوية تؤيِّد ما كان للدستور المجري من طابع خاص. ولم يكن ذلك شيئًا جديدًا؛ إذ إنَّ هذا «الدستور» كان موجودًا قبل ذلك، وكل ما في الأمر أن صَدَرَ تأكيد رسمي لهذا الدستور الآن. ولا ينبغي أن يُؤْخَذَ من ذلك أنَّ المجر قد صارت انفصالية أو تريد الانفصال من النمسا؛ لأنَّ المجر — على العكس من ذلك — قد قَبِلَتْ تبعيتها للدولة النمساوية وقبلت سيادة الملك العليا عليها، وأرادت فقط أن تحتفظ بطابعها وذاتيتها كما أرادت التمسك بدستورها التاريخي، ذلك «الدستور» الذي لم يكن مُستندًا إلى نظريات أوحى بها الفكر والعقل، ولكن إلى وقائع وأحداث التاريخ.

ولم يكن الدستور الهنغاري «مسطرًا» في وثيقة واحدة، بل نما وتطوَّر حتى صار يتألَّف من عدة قوانين وقرارات ومرسومات وما إلى ذلك، صَدَرَتْ من أزمان بعيدة في شتَّى المناسبات والظروف، لعل القانون الصادر في سنة ١٢٢٢ والخاص بتقرير حقوق وامتيازات النبلاء وهم من المجيار، ووسائل إجبار الملك على احترام هذه الحقوق، كان من أهمِّ القوانين التي صدرت في هذه الأزمان البعيدة.

ولقد رسمت هذه القوانين والقرارات المُتَناثرة — والتي صدرت في أوقات متفاوتة — نظامَ الحكم «أو الجهاز الحكومي في المجر»، فكان «الدياط» هيئة طبقية تتألف منذ ١٦٠٨ من: طبقة أو مجلس «العظماء» Table of Magnates، وهم الأساقفة وكبار الموظفين وعظام النبلاء، ثم طبقة أو مجلس «النواب» Table of Deputies، وهؤلاء كانت تنتخبهم المجالس Comitats في الأقاليم والمدن الحرة. وكان للدياط سلطات تشريعية، ولكن كان للمجالس الإقليمية الحق في الاعتراض لدى الحكومة على القوانين التي لا تريدها، وتعطيل ما تشاء تعطيله منها، كما كان لها الحق في انتخاب وعزل موظفي الإدارة والقضاء؛ ولذلك فإذا استصدر الدياط قانونًا ولم يكن مقبولًا في البلاد، بقي دون تنفيذ.

ومن الواضح أن نظامًا كهذا جعل متعذرًا أي تقدم سياسي، ولكن من ناحية أخرى حفظ هذا النظام حقوق البلاد «وحرياتها» عندما أوجد المجالس الإقليمية التي درجت على الاتصال فيما بينها للإبقاء على الروح الوطنية مُشتعلة إذا رفض الملك دعوة الدياط للاجتماع. وكان في تفاصيل نظام التمثيل والنيابة، سواء في المجالس الإقليمية والمقاطعات والمدن الحرة أو في الدياط بمجلسيه أو طبقتيه، ما جعل طبقة النبلاء — وهم من المجيار كما ذكرنا — يحتكرون كلَّ أسباب السلطة السياسية في أيديهم. ومع أنَّ شطرًا من الأهلين كانوا من الجرمان (التيتون) فقد حُرم هؤلاء تمامًا من أن يكون لهم صوت في توجيه الشئون العامة.

وهؤلاء النُّبلاء (المجيار) هم الذين انتخبوا فردنند الأول النمساوي سنة ١٥٢٦ ملكًا على هنغاريا؛ حتى يخفَّ لنجدتهم ضد الأتراك العثمانيين. ولقد بَقِيَ كما رأينا تاج المجر من ذلك الحين من نصيب آل هابسبرج.

وعلى ذلك؛ فقد كان دستور المجر دستورًا «إقطاعيًّا تاريخيًّا»: إقطاعيًّا لأن الدولة بمقتضى هذا الدستور لم تتأسَّس إلا من اتحاد عنصرين أحدهما «الملك» والآخر الأُمَّة، ولم تكن اختصاصات كلٍّ منهما وعلاقتهما إزاء بعضهما بعضًا واضحة الحدود والمعالم في القانون الإقطاعي القديم، وتاريخيًّا لأنَّ حوادث التاريخ هي الأصل في قيام هذا الدستور ولأنَّه صار يعتمد في بقائه على موقف كلٍّ من هاتين القوَّتين (الملك والأُمَّة) من الأخرى، وتلك علاقات مُتغيرة حسب مقتضيات الأحوال والظروف في العصور المختلفة.

ولم يُوجِد جهاز الحكم بهيئاته التي ذكرناها: الملك، الدياط، المجالس الإقليمية Comitats نظامًا برلمانيًّا بالمعنى المعروف في الأزمان الحديثة، أو حتى على غرار ما كان معروفًا في ذلك العصر في إنجلترة؛ فلم يكن النظام الهنغاري إذن نظامًا تمثيليًّا نيابيًّا بحال من الأحوال، وإنما كان نظامًا إقطاعيًّا، لا ريب في أنَّه أدى مع ذلك مهمته بنجاح من حيث إنه هيَّأَ لهنغاريا الفرصة للاحتفاظ بكيانها وذاتيتها في وجه «ملك» هو صاحب السيادة الشرعية عليها، يريد أن يحكم حكمًا استبداديًّا؛ أي يُحاول عدم الاعتراف بالحقوق والحريات التي للهنغاريين، أو يريد توحيد أملاكه (ومن بينها هنغاريا) على أساس الحكومة المركزية. ولقد كان هذا الدستور هو ذلك الدستور الذي صارت له شهرة عظيمة فيما بعد وبقي الهنغاريون يطلبون من «مليكهم» احترامه حتى منتصف القرن التاسع عشر، وحتى أثناء ثورة ١٨٤٨.
والحقيقة أنَّ المجر (هنغاريا) لم تكن أُمَّة بل «مُجتمعًا إقطاعيًّا»: سواد الأهلين من الفلاحين رقيقُ الأرض، والطبقة المتوسطة (البورجوازية) في المدن لا قيمة ولا وزن لها؛ فيؤلف الفلاحون ٩٩٪ من أهل البلاد، ومع ذلك لم يشترك هؤلاء في حياتها السياسية الوطنية، بل استأثر النبلاء كما رأينا بكل أسباب السلطة واضطلعوا بأعباء كل الوظائف، وهم سلالة الأُسر المجيارية الغازية القديمة، أو رفعهم الملك إلى مرتبة النبلاء، أو منحهم الدياط ما يمكن تسميته بصفة المواطن أو «الجنسية» الهنغارية L’Indigenat، ويفقد النَّبيل «نبالته» إذا اتهمه الملك بأنَّه أخلَّ بولائه له إذا ارتكب جرمًا خان به واجباته الإقطاعية.

ولقد كان يزيد عدد هؤلاء النبلاء الهنغاريين عن عدد النبلاء في فرنسا سنة ١٧٨٩ باثنيْ عشر ضعفًا، وذلك بالنسبة للطبقات الأُخرى في المجتمع. وأمَّا أهم امتيازاتهم فكان إعفاءهم إعفاءً تامًّا من الضرائب أو إلزامِهم بدفع شيء إلى الدولة.

ولقد كان هؤلاء النبلاء متساوين ولا فوارق بينهم في نظر القانون، ولكنهم كانوا منقسمين إلى فريقين: فريق يعيش في بؤس وضنك؛ ويُعرف هؤلاء باسم نبلاء الأخفاف Nobles en Sandales؛ أي الذين ينتعلون النعال الخفيفة، وفريق كبار الملاك أصحاب الأراضي الشاسعة الأغنياء والمثقفين الذين تأثَّروا لدرجة ما بأساليب المدنية أو الحضارة الأوروبية، ويُطلق على هؤلاء اسم «العظماء» Magnates، ومنهم تألفت الأرستقراطية المجرية «الهنغارية» التي ذكرنا أنَّها أنشأت لها صلات بالأسر الأوروبية في الغرب.
ولقد عاشت بين هذين الفريقين طبقةُ النُّبلاء الإقليمية، وكانت متوسطة الحال، ولكنها الطبقة التي سيطرت على أعمال المجالس في المُقاطعات المُختلفة Comitats وفي مجلس النواب في الدياط، وتزعَّمت المُعارضة، وكانت قوام الحياة السياسية ومساكها في البلاد. على أنه مما يجدر ملاحظته أنَّ هؤلاء النبلاء الهنغاريين لم يكونوا عمومًا من المثقَّفِين أو المتعلمين، ولا يدركون شيئًا من معنى الأُمَّة أو القومية، وانحصر كل نشاطهم في الدفاع عن مصالحهم الشخصية أو تأييد مصالحهم الطبقية وحسب. وهؤلاء النبلاء الهنغاريون الذين كانوا الطبقة السياسية الوحيدة في البلاد لم يتكتَّلوا في جبهة متحدة ضد صاحب السيادة الشرعية عليهم، وهو العاهل النمساوي الذي كان إمبراطورًا على ألمانيا (الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة). ولقد اتخذ سُلطان هذا الإمبراطور على طبقة هؤلاء النبلاء؛ وبالتالي على مجموع «الدولة» في هنغاريا — وذلك إذا تركنا جانبًا الجيش والبيروقراطية المالية — طريقين: طريق النفوذ الديني، وطريق النفوذ الأرستقراطي؛ أي تأييد الأسر الأرستقراطية لنفوذه.

ففيما يتعلق بالأمر الأول: إنَّ المجر عند انتشار الإصلاح الديني اعتنقت البروتستنتية، ولكن ما إن قويت حركة انتعاش الكنيسة الكاثوليكية حتى عاد قسم عظيم من البلاد إلى الكاثوليكية مرة أخرى، وفي كل مكان عملت الكنيسة الكاثوليكية لتأييد مصالح الأُسرة المالكة، وربطت مصيرها بمصير «الملك» صاحب السيادة الشرعية على البلاد.

وكانت هذه الكنيسة صاحبة ثراءٍ عريض وقوة عظيمة، وكان لرجال الدين «الإكليروس» الحق كما شاهدنا قانونًا في اتخاذ مقاعدهم في «الدياط» إلى جوار النُّبلاء العظام في مجلس أو طبقة العظام Table des Magnats كما أنهم ملئوا أهم الوظائف في الدولة، وكثيرًا ما صاروا يتدخَّلون للوساطة بين النبلاء وصاحب السلطان الشرعي (الملك والإمبراطور)، وخصوصًا كلما كان يشتدُّ النقاش حول القوانين المراد استصدارها. ومن هذه الناحية إذن كان رجال الدين «الإكليروس» في هنغاريا عاملَ توحيد وتركيز حكومي لربط هذه البلاد بمقر صاحب السيادة العليا — وهو الإمبراطور النمساوي — في فينا.

وعندما ازدهرت الحياة في البلاط النمساوي في عاصمة الهابسبرج أيام شارل السادس ثم ماريا تريزا في القرن الثامن عشر، كان نبلاء المجر عماد هذه الحياة الاجتماعية الجديدة في العاصمة النِّمساوية. أضف إلى هذا أنَّ ماريا تريزا اتَّبَعَتْ سياسة هدفت إلى التقريب بين النبلاء الألمان والنبلاء الهنغاريين، وعملت على «مزج» الفريقين بتشجيع التزاوج بينهما وعند ملء الوظائف الإدارية وبتوزيع المناصب عليهم في البلاط، كما أغدقت عطاياها على الفريقين بالتساوي؛ فترتَّب على ذلك أنْ بدأت تشعر هذه الطبقة الأرستقراطية الهنغارية بروح جديد أخذ ينمو شيئًا فشيئًا، حتى صارت تنظر إلى الأشياء نظرةً أكثرَ اتساعًا من ذي قبل، وحتى صار هؤلاء النبلاء الهنغاريون الذين عاش أكثرهم في فينا وأنشئوا صلاتٍ شخصية مع الإمبراطور، ينظرون إلى الأمور من الناحية السياسية، وليس من الناحية الوطنية (الهنغارية) فحسب، وذلك بالرَّغم من أنَّ عواطفهم بقيت هنغارية، كما ظل الوطني الهنغاري (المجري) يستأثر بمحبتهم.

وهؤلاء النُّبلاء الهنغاريون كانت لهم صلات كذلك مع الطبقات الأرستقراطية في أوروبا، خصوصًا الأرستقراطية الفرنسية والإنجليزية، كما أنهم تأثَّروا بالثقافة الأوروبية الغربية؛ الأمر الذي ترتب عليه كله أن صارت تدريجيًّا هذه الأرستقراطية الهنغارية لا تجد غضاضة في قبول ما يُريده ويوصي به صاحب السلطان (أي الملك والإمبراطور) حتى لقد غدت أخيرًا طبقة النبلاء العظام في مجالس الدياط أداةً طيعةً في يد الإمبراطور.

وهكذا صار هؤلاء النبلاء العظام عواملَ نموٍّ وتطور، أفادت منها الدولة النمساوية على حساب الدولة الوطنية (هنغاريا)؛ مما تهدد بالخطر هنغاريا، حيثُ إنَّ النمسا التي اتبعت في بوهيميا سياسيةً مُشابهة لما تفعله الآن في المجر كانت قد نجحت في «جرمنة» بوهيميا «جرمنةً» كاملة وقضت عليها تمامًا. ولكن النمسا عجزت عن القضاء على المجر، وبقيت هذه للأسباب التي ذكرناها بالرَّغم من مُحاولات النمسا المتكررة محتفظة بكيانها وذاتيتها، إلا أنَّه لا يمكن اعتبار المجر (هنغاريا) أُمَّةً حديثةً؛ أي بها مجتمع من طراز المجتمعات الحديثة المعروفة، بل لقد بقيت المجر محتفظة «بمجتمعها» القديم الذي استطاع الدفاع عن امتيازاتها ومُقاومة ضياع هذه الامتيازات التي هددت الملكية بإلغائها؛ فكان للمجر «استقلال» سياسي وحياة وطنية (أهلية)، ولكنها لم تكن تتمتع بنظم برلمانية أو نيابية تمثيلية، كما أنَّها لم تكن «أمة»، فقد كان بعد انتشار التعليم والشعور السياسي بين طبقة النبلاء الوسطى أَنْ أمكنَ انطلاق القومية الهنغارية، ولقد حدث ذلك في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ فالمجر إذن دولة تاريخية لها ذاتيتها الخاصة بها واستطاعت المحافظة على هذه الذاتية أو الشخصية، ولكنها لم تصلْ بعدُ إلى مرتبة الدولة القومية أو الوطنية بالمعنى المعروف.

أمة اليونان

واليونان أمة يختلف طرازها عن الطرازين السابقين، من حيث إن اليونان يؤلِّفون أمة «روحية» تشعر بتقاليدها ولكنها لا تزال عاجزة تمامًا عن الشعور بحياتها أو وجودها القومي، وليست العناصر التي تضافرت على خلق الأُمَّة اليونانية مُسْتَمَدة من الآراء الحديثة، بل لقد كفى الأمة اليونانية أن تعتمد على ذكرياتها القديمة لتستطيع الحياة والبقاء.

ومع أنَّ اليونان خضعت لسلطان الأتراك العثمانيين منذ نهاية العصور الوسيطة، فقد أمكنها المُحَافظة على وجودها وكيانها، وتلك حقيقة لا ينبغي أن تُثير الدهشة إذا عرفنا أنَّ الدولة العثمانية لم تكن «دولة» بالمعنى الصحيح، بل كانت خليطًا أو مزيجًا من الأقوام يعيشون في أقطارٍ كان كل ما يعني الأتراك من شأنها هو استمرار احتلالهم ثم استغلالهم لها؛ مما ترتَّب عليه أن صار «تركيب» هذه الدولة العثمانية تركيبًا غير عادي؛ فهناك حكومة وهناك سكان أو «رعايا»، وهناك طبقة إقطاعية مُمتلكة فرضت نفسها على البلاد التي فتحتها والتي أجازت لأهلها أن يعيشوا تحت سلطانها طبقةً دنيا في نظير أن «يفتدوا» أنفسهم بالقيام بما صار يُطلَب منهم تأديته من واجبات وخدمات: كدفع الخراج (الضريبة المفروضة على الأرض)، وكانت هذه نوعًا من الضرائب الشخصية أو الفردية التي يدفعها «الروم» لقاءَ العيش في سلام، ثم الضريبة العقارية، وضريبة العشور، وكل هذه الضرائب «فدائية»؛ أي يَفتدي بها الأفراد أنفُسَهم وأملاكهم من أرض وعقار … إلخ.

وفي الماضي أخذ العثمانيون عددًا من أبناء وبنات الروم بنسبة الخمس؛ وذلك لتنشئتهم النشأة التي يُريدونها ولتكوين تلك الفرق التي عُرِفَتْ باسم الانكشارية، وبطل العمل بهذا النظام في سنة ١٦٨٥ فقط؛ فكانت هذه ضريبة افتدائية أُخرى؛ وهكذا بقي العثمانيون بفضل هذه الضرائب الافتدائية إن صحت هذه التسمية — سواء لافتداء الأفراد «من الروم» بدفع الخراج، أو لافتداء الأرض والعقار بدفع العشور والضريبة العقارية، أو لافتداء أبناء وبنات الروم في نظام الانكشارية — نقول بقوا طبقةً منفصلة عن أهل البلاد التي فتحوها ومفروضة على سكانها الأصليين فرضًا، ولم يُفكر العثمانيون في الامتزاج بهؤلاء أو اتباع سياسية تهدف إلى حدوث اندماج بين الفريقين، وعلى ذلك فقد استطاع اليونان أن يحتفظوا بطابعهم وذاتيتهم، وسهل على العثمانيين في ظل النظام الذي أقاموه أن يعترفوا بوجود الأمة اليونانية.

ولقد تضافرت عواملُ عدة على إنشاء هذه الأُمَّة اليونانية، لعل أهمَّها أنَّ اليونان كانوا يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية، وقد أبقى محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية (١٤٥٣) على هذه الكنيسة الأرثوذكسية؛ لأنها كانت وقتَ الفتح ضالعة لحدٍّ ما مع الغزاة الفاتحين بسبب كراهيتها لسياسة آخر الأباطرة البيزنطيين «قسطنطين دراغاسيوس» Dragases الذي كان قد بدأ المفاوضة مع رُومة من أجل الاتحاد مع الكنيسة الرومانية.
وعلى ذلك فقد عقد محمد الفاتح (الثاني) مع البطريق اليوناني «جينياثيوس» Genuatios اتفاقًا ظل موضع احترام السلاطين والبطارقة في العهود التالية، ونص هذا الاتفاق على إعفاء رجال الدين من الخراج في نظير مبلغ تدفعه الكنيسة إلى السلطان سنويًّا، وترك السلطان في يد البطريركية إدارة شئون الكنيسة المدنية واعترف باستقلال الإكليروس القضائي، واستعان البطريق في القيام بأعباء وظائفه بمجلس كنسي (سينود Synode) من عشرة من المطارنة يعيِّنهم البطريق إلى جانب أربعة مطارنة آخرين هم مطارنة هرقلة (في جنوب الأناضول) وتزيقوس Czycus (على شاطئ بحر مرمرة الآسيوي) وخلقدونة Chalecdon (على الشاطئ المُقابل للقسطنطينية) ودرقوس Dercos في آسيا الصغرى.

ولقد امتدَّ سلطان البطريركية ومجلسها (السينود) حتى شمل اليونان وجزر الأرخبيل وآسيا الصغرى بأسرها وكل المشرق (أو الليفانت) وشبه جزيرة البلقان، بل وامتدت ولاياتها «القضائية» إلى أبعد من ذلك حتى إنه عند إنشاء كنيسة روسيا كان بطريق القسطنطينية هو الذي أجلس على كراسيهم الأساقفة الروس لممارسة وظائفهم الدينية.

ولما كان الأتراك العثمانيون لم يميِّزوا بين الدين والأمة والدولة؛ فخلطوا بين مفاهيمها، فقد أعطى السلطان العثماني الكنيسة اليونانية عند اعترافه بها نوعًا من النيابة في ممارسة السلطات العامة، ورضي أن تقوم إلى جانبه هيراركية — أي تنظيم إداري — مُستقل في شكل الكنيسة الأرثوذكسية. وبفضل هذا كله أُتيحت الفرصة لهذه الكنيسة الأرثوذكسية أن تنمو وأن يُثْرِي رجالها، سواء كانوا من القساوسة أو من الرُّهبان، وانتعشت الأديرة انتعاشًا عظيمًا، ووُجدت أهم هذه الأديرة في «جزر الأمراء» الصغيرة في بحر مرمرة، حيث أعطيت هذه الأديرة الإذن بدقِّ أجراسها، ومع ذلك فقد كان أعظم مراكز الرهبنة إطلاقًا في جبل أتوس Mont Athos المقدس؛ حيث وفد إليه الرُّهبان من أقاصي البلاد الأرثوذكسية، مثل روسيا وبلغاريا واليونان وغير ذلك. ولقد كان بيت المقدس مركزًا هامًّا آخر لحياة الرَّهبنة، ودفعت هذه الأديرة إتاوة للسطان العثماني في نظير سماحه لها بالنموِّ والاتساع، وبالاحتفاظ بأملاكها.

ومن أول الأمر سلكت هذه الكنيسة الأرثوذكسية طريق المُعارضة الرَّسمية والمُستمرة ضد الكاثوليكية. وتبدت هذه المعارضة في أول الأمر في مقاومة رغبة الإمبراطور «قسطنطين دراغاسيوس» في إعادة الاتحاد بين الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية، وكانت هذه المعارضة سببًا — كما سبق القول — في أن يقبل رجال الدين الأرثوذكس السيطرة العُثمانية «في القرن الخامس عشر»، وفي القرن السابع عشر كافحت الكنيسة الأرثوذكسية جماعة اليسوعيين (الجزويت) كفاحًا مريرًا؛ لأنَّ هؤلاء يمثلون كنيسة رومة في الشرق. وفي آخر هذا القرن وبداية القرن التالي (الثامن عشر) عاون الأرثوذكس الأتراك العثمانيين مُعاونةً فعَّالةً في انتزاع المورة من جمهورية البندقية، وهي دولة كاثوليكية، كما أنهم هاجموا مع العثمانيين جزيرة «كرفو» التابعة للبندقية.

ولذلك؛ فقد بقيت الكنيسة الأرثوذكسية داخل الدولة العُثمانية بمثابة الحفيظ على العاطفة الوطنية (القومية) لدى اليونان، والتي اختلطت بالعاطفة والعقيدة الدينية؛ فتجانست هاتان العاطفتان: الوطنية (القومية) والدينية، في أنه قد نشأت منهما مقاومة مزدوجة ضد السلطان العثماني من أجل الاستقلال الذاتي، وضد الكاثوليكية من أجل الاحتفاظ بالذاتية الأرثوذكسية.

وأما اليونان الكاثوليك، فقد عاش أكثرهم في مجموعة الجزر اليونانية الصغيرة من جزر بحر الأرخبيل «سيكلاد» Cyclades في بحر إيجة١ وذلك في شبه عُزلة داخل الإمبراطورية العثمانية، وقد تمتَّع هؤلاء بامتيازات معينة ناشئة من اضطلاع فرنسا بحماية مصالح الكاثوليك في هذه الإمبراطورية نتيجة لتلك المُعَاهدات الكثيرة التي عقدها العثمانيون مع الملوك الفرنسيين واعترفوا فيها بحقوق الكاثوليك الموروثة، ومن هذه حق هؤلاء في ترميم كنائسهم بحُرية؛ وهذه الحقوق التي عرفت باسم «الامتيازات» Capitulations، والتي كانت أصلًا «منحة» من السُّلطان العثماني، هي التي صارت ضمانًا كَفَلَ للكاثوليك حرية العبادة.

وكان بين اليونان الأرثوذكس واليونان الكاثوليك هؤلاء أن نشب النِّضال الذي اتفق حدوثه مع حركة اليونان الاستقلالية.

ذلك إذن كان نظام المؤسسة الكبيرة (الكنيسة الأرثوذكسية) التي امتدَّ سلطانها حتى وسع الإمبراطورية العثمانية بأسرها.

ومع هذا؛ فقد وجد إلى جانب الكنيسة الأرثوذكسية تنظيم إداري آخر لا يقلُّ في أهميته عن وجود هذه الكنيسة الأرثوذكسية، ونَعني بذلك المجالس البلدية؛ فقد أبقى العثمانيون عندما أقاموا إمبراطوريتهم مكانَ الدولة البيزنطية ما كان لدى هذه الأخيرة من ترتيبات وأنظمة إدارية، واكتفوا باستبدال الموظفين العثمانيين بأولئك الذين ملئوا مناصب الإدارة في العهد البيزنطي، وترك العثمانيون الوظائف الصغرى يشغلها أصحابها. والسبب في ذلك أنه لم يكن لديهم العدد الكافي من الرجال لملء هذه الوظائف؛ فأبقوا في المقاطعات والمدن التي يخدمها الخوارنة (خوري الكنيسة) المجالس البلدية التي درج السكان على انتخاب أعضائها بأساليب تختلف باختلاف المدن والمقاطعات.

وأما هؤلاء الذين ينتخبهم الأهلون لممارسة الإدارة فكانوا الرؤساء الذين وضع تحت تصرفهم نوع من الشرطة أو العسس عرفوا باسم «باليكاريس» Palikares، وعرف رؤساؤهم باسم «أرماتولي» Armatolis، وقد ذاعت شهرة هؤلاء الباليكاريس والأرماتولي في أوروبا وقت انتشار الحركة الهللينية لإحياء مجد الإغريق القديم. وكان أثناء سيطرة البندقية على المورة أن تدعم نظام المجالس البلدية في هذه البلاد خصوصًا، واستمرَّ العُثمانيون يحترمون هذه الأنظمة بعد استرجاع المورة.
ولقد صارت المجالس البلدية تتمتَّع باستقلال كامل من الناحية العملية الواقعية في الجزر التي صَعُبَ على الأتراك أن يبسطوا سلطانهم الكامل عليها، بل إن هذه الجزر ما لبثت حتى صارت مستقلة تمامًا في إدارة شئونها حسب رغبات أهلها بسبب ضآلة العناصر العثمانية بها؛ مثال ذلك: جزيرة «رودس» التي يحكمها بيك عثماني، هو الإداري العثماني الوحيد، في حين يشغل الأهلون كل مناصب الإدارة، وفي جزيرة طاسوس Thasos الكبيرة (والقريبة من شاطئ طراقيا) قام بأعباء الحكم أولئك الرؤساء الذين انتخبهم الشعب مرة كل عام أعضاءً لمجلس بلديتها، وفي جزيرة «بسارا» Psara الصغيرة بالقرب من شيوز Chios اضطلع بأعباء الحُكم والإدارة أعضاء بلديتها والمعروفون باسم «الجيرونت» Gerontes الذين اختارهم الشعب كذلك لهذه المهمة. وفي جزيرة «هيدرا» Hydra — وهي الجزيرة الصغيرة التي سوف تُصبح من معاقل حركة اليونان الاستقلالية — لم يكن موجودًا بها عثماني واحد؛ ولذلك فقد اعتبر كثير من المؤرخين هذه المجالس البلدية «جمهوريات وطنية» صغيرة لكلٍّ منها طابعها المستمَدُّ من كل تلك التنظيمات التي ظهرت في أرض اليونان في الأزمان القديمة في صورة «الدولة» الديمقراطية الغابرة «والشعور المحلي» الانفصالي القديم.

ولقد ترتَّب على اعتراف السلطان العثماني بوجود الكنيسة الأرثوذكسية والبلديات اليونانية أن استمرت اليونان تتمتع بحياة روحية مستقلة. وكان مما ساعد على ذلك أنَّ الأتراك لم يستهدفوا في أساليب حكومتهم الدعوة للدين الحنيف ونشر لواء الإسلام بين الشعوب التي خضعت لسلطانهم، وذلك في رأي كثيرين لأنَّ الأتراك اعتقدوا أنَّ الله وحده سبحانه هو الذي يختار من يشاء من عباده لهدايته بنعمة الإسلام؛ فكانوا أبعد ما يكون من الرَّغبة في فرض الإسلام دينًا على الشعوب التي خضعت لهم، وكانوا يرون أنَّ الخير كلَّ الخير بدلًا من ذلك أن يبتعدوا عن التعرض بشيء لحياة اليونان الروحية والفكرية.

واستندت هذه الحياة الروحية والفكرية عند اليونان إلى ما كان لهم من تراث أدبي كبير، تألف من الأقوال والأحاديث والحكم المأثورة والقصص التاريخي والأساطير والمنظومات والقصائد والأهازيج التي توارثوها على مَرِّ العصور، وانتقلت بالتواتر من جيل إلى جيل. ولقد نشر أحد المؤرخين الفرنسيين — «فوريل» Fauriel — في سنة ١٨٢٤ مجموعة من الأغاني الشعبية في «اليونان الحديثة»،٢ وكان يقصد باليونان الحديثة بلادَ اليونان في العصور الوسطى، وليس في العصر الحديث، كشيء يختلف تمامًا عن اليونان القديمة؛ أي يونان العصور الغابرة. وكان يقصد «فوريل» من نشر هذه الأغاني الشعبية إقامة الدَّليل على أنَّ اليونان يتمتعون بحياة روحية كاملة.
وتلك حياة نهض الدليل على وجودها فعلًا فيما صار يصدر من كتب ومؤلفات وينشأ من مدراس تعهدته بالتأييد والتعضيد الكنيسة الأرثوذكسية؛ فاحتفظت الثقافة البيزنطية — ثقافة العصور الوسطى في اليونان — ببقائها، بل وانتعشت انتعاشًا عظيمًا في مراكز عديدة كانت «كرفو» من أهمها، ثم جزيرة كريت حيث أعيد بهما تنظيم المدارس في القرن التاسع عشر على يد أحد البطارقة المُثقفين «سيريل لوكاريس Cyrille Loukaris» الذي عمل على نشر التعليم في أنحاء اليونان، وإنشاء أول مطبعة في حي الفنار.
وتعددت مراكز الثقافة اليونانية الهامة؛ فوجدت بالقسطنطينية «ويانينا» وأرطة ومونت آثوس وميسولونجي وغيرها. وفي سنة ١٧٤٠ نشأ مركز جديد لهذه الثقافة في «كوزاني» Kozani في مقدونيا، وزيادة على ذلك فقد تأسست في جزيرة شيوز مدرسة للفنون والصنائع كانت بمثابة جامعة حقيقية اشتهر تلاميذها «بفرنسيي المشرق»، وهو اللقب الذي أُضفي عليهم.

ثم تأسست في «ياسي» وبوخارست مراكز لتعليم اللغة اليونانية في الولايات الدانوبية (البغدان والأفلاق). واحترم العثمانيون هذه المدارس جميعها، ولم يتعرضوا لها بسوء، ولم يحاولوا حرمان اليونان من أن يكون لهم هذه السيطرة الفِكرية، ولم يحدُّوا من نشاطها لسبب معين، وإلى جانب الأسباب التي مَرَّت بنا هو أن الأتراك لم يكونوا يأبَهون لها. ولقد قصد كذلك عدد من اليونان إلى الغرب (أوروبا الغربية)؛ لارتشاف العلم من مناهله في دُورِها ويمَّمُوا شَطر فرنسا خصوصًا للتزود من ثقافتها.

أمَّا هذا النشاط، فقد دلَّ على أن اليونان ظل شعورهم بقوميتهم ينمو نموًّا مطردًا دون أن يطرأ شيء يوقفه أو يعطِّلُه، وكان مظاهر هذا الشعور الوطني (أو القومي) أنَّهم أطلقوا على أبنائهم أسماءً إغريقية كما سموا أنفسهم أسماءً إغريقية أو بيزنطية؛ فأكدوا بذلك تصميمهم على الاحتفاظ بكيان مستقل ومنفصل عن الكيان العثماني. ومع ذلك؛ فالذي يجدر ملاحظته بشأن هذه الثقافة اليونانية أنَّها اعتمدت في صميمها على التقاليد البيزنطية، في حين يقل كثيرًا اعتمادها على الثقافة الإغريقية القديمة، وتلك حقيقة فات إدراكها على كثيرين من المُعاصرين الذين انبروا لتأييد الهللينية أو حركة إحياء الحضارة اليونانية؛ فاعتبروا اليونان الحديثين سلالة الإغريق القدامى، واعتبروا نشاطهم الثقافي إحياءً للثقافة الإغريقية القديمة، في حين كان الحال على العكس من ذلك تمامًا؛ لأنَّ اليونان التي عاصرها هؤلاء إنما كانت «يونان» بيزنطية وذات ثقافة ترتدُّ في نشأتها إلى أُصول بيزنطية.

ولقد كان هناك عامل آخر إلى جانب الكنيسة الأرثوذكسية والمجالس البلدية يُساعد على استمرار بقاء الأُمَّة اليونانية، ونعني بذلك سلسلة الوقائع والأحداث التي فَتَحَتْ آفاقًا لاستمرار نشاط هذه الأمة فيما يحفظ عليها ذاتيتها من جهة، ثم أتاحت الفرصة في الوقت نفسه لحصول رد فعل بين اليونان ضد السيطرة العثمانية؛ ذلك العامل هو وجود طبقة من كبار «البيزنطيين» بالقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية العثمانية ذاتها، سواء كان هؤلاء من الطبقة الأرستقراطية أم من أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية)؛ فهؤلاء هم الذين عاونوا على صيانة التقاليد الهللينية في مُستقر هذه التقاليد من الأزمان السابقة.

وتنوعت أصول هذه الأسر التي عاشت في القسطنطينية؛ فبعضها ينتمي لأسرة الأباطرة البيزنطيين كأسرتيْ «أرغيروبولو» Argyropoulo و«أبسلنتي» Ypsilanti، والبعض الآخر كان من أصل إيطالي، استقروا بالعاصمة من أيام العصور الوسطى؛ كأسرة «مانو» Mano و«نجري» Negri؛ وأخيرًا كان هناك اليونانيون الذين وفدوا إليها من مختلف أقاليم اليونان ذاتها، منهم أسرات «كانتا كوزين» Cantacuzene و«ماوروكرداتو» Mavrocordato و«ستوردتزا» Stourdza وغيرها. وقد بلغت هذه عشرين أسرة حفظ تاريخ اليونان أسماءها.

وعاش أعضاء هذه الأسر الكبيرة في حي الفنار في قصورهم ويقف على خدمتهم أتباع عديدون، وكانوا ذوي ثراء عريض، وهم الذين يترأَّسون البيوت التجارية الكبيرة، واستأثروا بالمشروعات الاقتصادية الهامَّة داخل الإمبراطورية العثمانية؛ فإنه لم يمضِ زمن طويل على سقوط القسطنطينية في قبضة الأتراك حتى كان هؤلاء قد أعادوا صفوفهم وانطلقوا يعملون لتنمية ثرواتهم، وامتاز يونان الفنار بمعرفتهم لغات «المشرق» أو الليفانت ولغات بلدان البحر المتوسط وكذلك بلدان أوروبا الغربية؛ فأنشئوا مع كل هذه الجهات صلاتٍ واسعةً ساعدتهم في نشاطهم التجاري خصوصًا، وأصبح لهم بفضلها ما يُشبه نظام المخابرات الدقيق، ثم كان طبيعيًّا أن تتوثَّق العلائق بينهم وبين «البطريركية» التي أمدوها دائمًا بالأموال للإنفاق على المدارس والكنائس والأديرة.

ويلي الأسر التي اتخذت مقامها في حي الفنار فريق آخر من اليونان الأثرياء ذوي النَّشاط الملحوظ والذين اختصوا «بالتجارة البحرية». ولقد بلغ نشاط هؤلاء درجة بعيدة، حتى إن السفن جميعها تقريبًا التي حملت الراية العثمانية كانت سفنًا يونانيةً في الحقيقة؛ وصاروا هم الذين يقومون بالملاحة البحرية الطويلة، ثم الملاحة الساحلية، وتعاونوا في مبدأ الأمر مع اليهود الذين لجئوا للتوطُّن في الدولة العثمانية، فرارًا من الاضطهاد الذي نزل بهم في إسبانيا والبرتغال فتواطنوا في «سالونيك» وفي غيرها، ولكن سرعان ما عظمت المُنافسة بين الملاحين اليونان وبين هؤلاء اليهود اللاجئين.

ولقد أفاد اليونانيون من الضعف والانحلال الذي أصاب نشاط البندقية في تجارتها البحرية في القرن الثامن عشر؛ فاستطاعوا أن يوسعوا شيئًا فشيئًا دائرة نشاطهم البحري، ثم طرد الإيطاليين أنفسهم في آخر الأمر من مياه الجزر اليونانية. ولما كان الإنجليز قد قضوا كذلك على نشاط الفرنسيين في هذه الجهات (في حروب الثورة الفرنسية) فقد حلَّ اليونان محلهم، وهكذا احتل اليونان مكان الإيطاليين والفرنسيين في أساكل الليفانت، وبفضل ذلك استطاعوا احتكار هذه التجارة البحرية بأجمعها تقريبًا.

وإلى جانب هؤلاء، كان هناك يونانيون أنشئوا جاليات كبيرة في كل موانئ البحر المتوسط الهامة، وفي أماكن أبعد من هذه كذلك مكان منهم أصحاب السفن أو الذين أشرفوا على تجهيزها ووَسْقها بالبضائع، وأصحاب مخازن التجارة ومُستودعاتها، ثم التجار أنفسهم، وقد أثرى هؤلاء ثراءً عظيمًا. ولقد كانوا في أوَّل الأمر يقومون بنشاطهم التجاري تحت حماية الرَّاية الفرنسية التي نالت اعتراف الأتراك بها دون إعلام سائر الدول وقتئذٍ، وتأسست أهمُّ الجاليات الكبيرة في مرسيليا وجنوة وتريستا والإسكندرية وليفورنة والبندقية.

بل وكان لليونان جاليات في أماكن بعيدة في لندن وأنفرس (أنتورب) وموسكو وفينا، وأشهر الأسر التي تألَّفت منها الجاليات الكبيرة كانت أسرة «باليولوج» Paleolgue، وأسرة كنتاكوزين Cantacuzene ببلاد المورة، كما اشتهرت من بين الأسر التجارية الكبيرة: «نوتاراس» Notaras، و«ممالي»، Mammali وفاتاتزيس Vatatzis.

ولم يكن هؤلاء المُعمِّرون أو المتوطِّنون اليونان من التجار والفناريين أنانيين ولا «واقعيين»؛ فحافظوا بحرارة على كل التقاليد البيزنطية، وظلَّت تربطهم بأوطانهم صلات وثيقة، وتبرعوا بسخاء بأموالهم للمدارس اليونانية والمؤسسات الخيرية، بل إن أهل الجاليات اليونانية والفناريين أنفسهم هم الذين قاموا بتمويل حركة الاستقلال اليونانية أثناء ثورة المورة في سنة ١٨٢١.

ولقد كان لثراء اليونان الذي أسفر عن ظهور طبقة أرستقراطية أو طبقة عالية من البورجوازية الغنية نتائج بعيدة داخل الإمبراطورية العثمانية؛ فإن هؤلاء اليونان ما لبثوا حتى صاروا يتغلغلون شيئًا فشيئًا في دولاب الإدارة العثمانية؛ فكان منهم خصوصًا عمال المالية ورجال إدارة الخزينة، بل إنَّ المالية العثمانية لم تلبث أن صارت تتألف من اليونان، ثم إنَّهم سرعان ما شرعوا يملئون مناصب لا تقل عن هذه المناصب المالية أهمية عندما استخدمهم الباب العالي تراجمة في وقت نشطت فيه الدبلوماسية العثمانية في منتصف القرن السادس عشر ثم في منتصف القرن السابع عشر خصوصًا؛ فأنشأت الدولة صلات واسعة ومنوعة مع الدول الأوروبية، وصار ضروريًّا استخدام هؤلاء التراجمة؛ فاستخدمت الدولة اليونان الذين اشتهر من بين التراجمة الكبار فيهم «بنايوتي» Panaiotis، وهو من شيوس وأوَّل من شغل منصب كبير التراجمة.
ولقد بقي اليونان يشغلون هذا المنصب بعد ذلك، وكان أوسع كبار التراجمة شهرة «إسكندر ماوروكرداتو» (١٦٢٦–١٧٠٩)، والذي كان يُسمى «بالعارف بالأسرار»، تعددت زياراته لبلدان أوروبا الغربية، واشتغل بالطب في بادوا «بإيطاليا»، وعاش زمنًا في بولوني «في فرنسا»، ثم انتهى به المطاف إلى الاستقرار في القسطنطينية؛ حيث شغل ما يُشبه وظيفة السكرتير العام لوزارة الخارجية العثمانية بها، وكان هو الذي تفاوض عن الدولة لعقد مُعاهدة كارلوفيتز Carlowitz (١٦٩٩)، ثم إنه كان أديبًا كتب باليونانية «تاريخًا مُقدسًا» نُشِرَ في بوخارست في سنة ١٧١٣ بعد وفاته.
ولم يلبث أن صار اليونانيون يشغلون مناصب أرقى في وظائف الإدارة العثمانية؛ فتعيَّن «نيقولا ماوروكرداتو» ابن إسكندر حاكمًا «هوسبدارا» Hospodar في سنة ١٧٠٧ للبغدان «ملدافيا»، ثم على الأفلاق «ولاشيا» في سنة ١٧١١، ومن ذلك الحين عين السلطان حكَّام هاتين المقاطعتين، اللتين عرفتهما أوروبا باسم «الولايات الدانوبية» من بين يونانيي الفنار، وكان نيقولا أديبًا كوالده، ولكنه كتب باللاتينية، وتوفي سنة ١٧٣٠ فلم يلبث السلطان أن عين أخًا له يدعى قسطنطين حاكمًا «هوسبدار» على الأفلاق «ولاشيا» ابتداءً من سنة ١٧٣٥.
ولقد احتفظت الولايات الدانوبية (الأفلاق والبغدان) بقوانينهما الخاصة بهما تحت السيادة العثمانية مقابل دفع إتاوة سنوية، وكان حكام هاتين الولايتين ينالون من السلطان عند تقليدهم الحكم بهما لقب الباشوية الذي يخوِّلهم الحكم قوَّادًا عسكريين وحكامًا مدنيين، كما كانوا ينالون من البطريق و«الكنيسة الأرثوذكسية» لقب «صاحب السلطة» Despote؛ أي رئيس الأهالي اليونان وعميدهم.

ولقد قام بفضل هذا التقليد المزدوج نوع من «الحكم الثنائي» في هذه الولايات الدانوبية جمع بين السلطة المركزية العُثمانية وبين ممثِّلي هذه السلطة المركزية في الأفلاق والبغدان وهم يونانيو الفنار، وكان هذا النوع من الإدارة التي قامت في الولايات الدانوبية بمثابة تجربة أتاحت لليونان من الأسر الكبيرة الفرصة لمُمَارسة شئون الحكم، سوف يفيد اليونان منها في المستقبل.

وهكذا كان بفضل كل هذه العوامل أن وجد من بين جمهرة اليونان نخبة ممتازة شعرت بأهميتها، وأدركت أنَّ هناك احتمالات لمستقبل زاهر للأمة اليونانية، وهذه النخبة الممتازة هي التي زوَّدت عند سنوح الفرصة الأمةَ اليونانية بقادتها وزعمائها، ثم كان بسببها أن استطاعت اليونان عند تحريرها واستقلالها أن تجد «هيئة إدارية» تتسلَّم زمام الأمور كان قد تمَّ تهيئتها سياسيًّا وتدريبها على ممارسة شئون الحكم والإدارة في داخل الإمبراطورية العثمانية ذاتها.

على أنَّه إلى جانب الأسر اليونانية الكبيرة التي أَثْرَتْ بسبب نشاطها التجاري والاقتصادي؛ كان هناك عنصر يختلف تمام الاختلاف عن هؤلاء كان لوجوده ونشاطه أثر فعَّال عند قيام حركة اليونان الاستقلالية، ونعني بذلك أولئك الذين وضعوا أنفسهم خارج القانون والذين صاروا عضد الحركة الاستقلالية وساعِدَها الأيمن منذ نَشِبَت الثورة (١٨٢١). والسبب في وجود هؤلاء «الخارجين على القوانين» من رجال العصابات طبيعة البلاد وتكوينها الجغرافي؛ حيثُ قد فصلت الجبال بين مُختلف أقاليمها ومقاطعاتها فصارت هذه منعزلة عن بعضها، واتخذ اللصوص وقُطَّاع الطريق الذين طاردهم القانون من هذه الجبال معاقلَ لهم، وعرفهم اليونان بأسماء مختلفة منها «الكلفت» Kelpht، ومعناها اللصوص وقطاع الطريق … إلخ، وهؤلاء «الكلفت» ألَّفُوا العصابات واستقروا في المقاطعات الجبلية صعبة المسالك والدروب في بلاد اليونان، وخصوصًا في منطقة الجبال الممتدة على حدود الإمبراطورية الجنوبية.
ومن هؤلاء اللصوص كان بوتزاريس Botzaris الذي أدرك شهرة بعيدة فيما بعد، ثم في جبال «أجرافا» Agropha في الجزء الجنوبي من هضبة البندوس Pindus في جبال «مونت أوليمبوس»، و«مونت فالتوس» Mont Valtos، حتى إذا اجتزنا خليج كورينث Corinth وجدنا «الكلفت» في شبه جزيرة المورة في إقليم «ماني» Magne (أي في لاكوينا Laconio القديمة)، وتزعَّمت أُسرة «ماورو ميخالي Mavromichalis» عصابات الكلفت في هذه الجهات، وفي جزيرة كريت ألَّف الخارجون على القانون هؤلاء «الكلفت» عصابات صغيرة من خمسة إلى عشرة رجال اعتصمت في الجبال، وكان في أحايين كثيرة من المُتعذِّر التمييز بين هؤلاء اللصوص وقُطَّاع الطرق والخارجين على القانون (أو الكلفت) وبين الجندرمة أو العسس في هذه البلاد والذين انغمسوا في حياة لا تختلف كثيرًا عن حياة عصابات الكلفت أنفسهم، وكان هؤلاء الجندرمة أو العسس المسمون «باليكاريس» Palikaris. وكان القول المأثور في هذا العصر «إن الحرية لا تكون إلا في الجبال.»

وفي الجزر كان هناك خارجون على القانون كذلك من طراز «الكلفت» نفسه، وهؤلاء كانوا من النوتية والملَّاحين ورجال البحر القراصنة، وقد كان عددهم عظيمًا في جزر الأرخبيل «سيكلاد»، ونشر المؤرخ الفرنسي «فوريل» السالف الذكر كثيرًا من أغانيهم التي تحدَّثوا فيها عن مغامراتهم.

ولقد كان مُتيسرًا كما هو واضح أن ينقل هؤلاء اللصوص وقطَّاع الطرق والقراصنة نشاطهم في اللصوصية والنهب والسلب إلى ميدان آخر هو الثورة عند نشوبها، وأن يشتركوا مع سائر أهل البلاد في المقاومة الوطنية، ولقد فعلوا ذلك في مرة سابقة سنة ١٧٧٠ أثناء الحرب الروسية التركية عندما أرسلت القيصرة كاترين الثانية حملة بحرية كبيرة إلى بحر إيجة لمهاجمة الإمبراطورية العثمانية؛ فقد سبق إرسال العمارة الروسية أن أوفدت القيصرة إلى تساليا Thessaly (الإقليم الشرقي الساحلي من أرض اليونان شمال مورة) أحد الضباط الروس «باباز أوغلي» Papazaglou، وكان ينحدر من أصل يوناني، وذلك حتى يُثير القلاقل والاضطرابات في البلاد؛ تزعَّم باباز أوغلي وبناخي Benaki الثوار هناك، فعينت الدولة «محسن زاده محمد باشا» سردارًا على جيش مورة وأمدته بعسكر جديد، فكان بعد لَأْيٍ وعناء أن استطاع هذا القائد تسكين الاضطرابات؛ ولكن بعد خسائر كثيرة.
على أنَّ الروس انتصروا في هذه الحرب على العثمانيين في روسيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، فسعى جماعة من الرُّؤساء اليونانيين يطلبون الاتصال بالقائد الروسي الجنرال «أورلوف» Orlof في البندقية أولًا ثم في ليفورنه؛ وذلك لتدبير القيام بعمل مشترك بينهم وبين الأسطول الروسي، ثم حاول الروس احتلال «كورون» Coron الميناء الجنوبي بالمورة، وبمجرد نزولهم به قصد إليهم جمع غفير من اليونانيين الكلفت والباليكاريس الذين حضروا من كل أنحاء اليونان ومن جزر الإيونيان وكريت ومن جهات أخرى للانضمام إلى الروس الذين حاولوا بمساعدة كل هؤلاء لهم الاستيلاءَ على «تريبوليتزا» Tripolitza عاصمة إقليم «ماني» لتمتعها بسبب موقعها في قلب المورة بمركز استراتيجي هام. فحاصرها الروس مرتين، ولكن تحصينات المدينة كانت قوية ففشلت الحملة.
وانتقم الأتراك من اليونانيين؛ فقتلوا منهم من أهل المدينة ثلاثة آلاف، وسيَّر الأتراك جيشًا من مائة ألف ألباني لإخماد هذه الثورة، وهو الجيش الذي تعيَّن لقيادته محسن زاده محمد باشا السالف الذكر، ولقد دافع اليونانيون ببسالة أعادت إلى الأذهان بطولة قوادهم في التاريخ الغابر، فوقف «كريستوف جريفاز» Christophe Grivas بحفنة من ثلاثمائة يوناني وحسب، يُحاول وقف تدفق القوات الألبانية عند ممرٍّ ضيق حاولت الجيوش الزَّاحفة أن تعبر منه نهر «أسبروبوتاموس» Aspropotamos فهلك هو ورجاله.
وهذه الثورة في سنة ١٧٧٠ التي صحبت الغزو الروسي كانت بمثابة «تصوير» سابق لما سوف يحدث في ثورة ١٨٢١؛ ذلك أنَّ ثورة ١٧٧٠ قامت على أكتاف اليونان الخارجين على القانون، الذين رفعوا راية العصيان وأثاروا سائر مواطنيهم ضد الدولة العثمانية، ولم تتردد عن المضالعة معهم في هذه الثورة «البطريركية» أو السلطات الدينية؛ ومن ناحية أخرى فقد انتقم الأتراك من اليونانيين انتقامًا فظيعًا على نحو ما سوف يفعلون في سنة ١٨٢١، وذلك في ميسولونجي، وبتراس Patras وبيولي Beolie خصوصًا. وكان من بين الذين لقوا حتفهم في هذه الثورة (١٧٧٠) من كبار الزُّعماء الوطنيين في المورة «أتيين ماورو ميخالي» وولده في حين عزل السلطان بطريق الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية ميلتيوس الثاني Meletios II.

وانتصر الروس على العُثمانيين في الحرب التي كانت بدأت منذ أن أعلنها الأخيرون على روسيا (في أكتوبر ١٧٦٨)، واستمرت حتى حاقت الهزائم بالدولة، وخشي الباب العالي العاقبة فطلب الصلح، وأبرمت معاهدة قوجك قينارجه (كشك كينارجي) في يوليو سنة ١٧٧٤. فنصت المعاهدة على منح اليونانيين العفو الشامل وضمان حرية عباداتهم وإعفائهم من الضرائب المتأخرة عليهم، كما أنها نصت على احترام ما كان للأفلاق والبغدان (الولايات الدانوبية) من امتيازات سابقة.

ولقد اشتملت معاهدة قوجك قينارجه على بندين، كان لهما أهمية بالغة بسبب ما انطويا عليه من تقرير أوَّل الأسس التي اعتمدت عليها المطالب والادعاءات الروسية من أجل التدخل لصالح أبناء الكنيسة الأرثوذكسية في الإمبراطورية العثمانية؛ هذان البندان كانا السابع والسابع عشر، فنص البند السابع على أن:

يعد الباب العالي بحماية الديانة المسيحية بصورة دائمة في جميع الكنائس ويُوافق على أن يقدم إليه الوزراء الروس كل ما يبدو لهم من أمور متعلقة بصالح الكنيسة المؤسسة في القسطنطينية، وبصالح خَدَمَة هذه الكنيسة جميعهم، ويعد بقبول كل ما يقدم إليه احتجاجات باعتبار أنها صادرة من أشخاص محترمين يمثلون دولة مُجاورة وصديقة مُخلصة ويتكلمون باسمها.

وواضح أنَّ هذا النص كان ينطوي على مبدأ جديد هو أنه صار لروسيا حق التدخل قانونًا في صالح البطريركية الأرثوذكسية في القسطنطينية ذاتها.
وعلاوة على ذلك فقد أضاف البند السابع عشر:

أن الباب العالي يَعِدُ من الآن فصاعدًا بأن الديانة المسيحية لن تتعرض لأي اضطهاد مهما قلَّ شأنه، وأنَّه لن يمنع أحدًا من إصلاح الكنائس وترميمها أو إعادة بنائها، وأن يمنع منعًا باتًا أن يلحق برجال الدين المسيحيين إهانة أو يكونوا موضع سخرية أو اضطهاد بأي شكل من الأشكال.

ومع ذلك وبالرغم مما تقدم جميعه لم تكن ثورة سنة ١٧٧٠ حركة قومية، ولم يكن «الكلفت» أو رجال البحر القراصنة … إلخ متأثرين بأي «شعور قومي». وكل ما يُمكن أن تدل عليه هذه الثورة أنه كانت هناك عناصر مقاومة يونانية وطنية، وأنَّ هناك احتمالًا لظهور هذه العناصر ذاتها مرة أخرى إذا سنحت الفرصة لقيام حركة قومية صحيحة.

وثمة عامل أخير لا غنى عن ذكره عند الكلام عن هذه «الأمة» اليونانية الداخلة في نطاق الإمبراطورية العثمانية، وكان ذا شأن في ظهور القومية اليونانية فيما بعد، ونعني بذلك وجود مجموعة «جزر الأيونيان» Ionian Islands الواقعة تجاه ساحل اليونان الغربي وجنوب بحر الأدرياتيك، والتي لم تدخل قطُّ تحت سلطان العُثمانيين (المسلمين)، وكانت هذه الجزر سبعًا أكبرها كروفو وسيفالونيا، وهذه الجزر مع المدن الحصينة الأربع على ساحل إبيروس Epirus: بوتريندو Butrindo وبارجا Parga، وبريفيزا Preveza وفونيتزا Vonitza، كانت بقايا أو أملاك إمبراطورية البندقية القديمة في بلاد اليونان، وانتشرت بها الكاثوليكية إلى جانب الأرثوذكسية.
ولو أنَّ الأرثوذكس كانت لهم الأكثرية وتبع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في جزر الأيونيان بطريق القسطنطينية في حين بقيت الجزر تتبع من الناحية السياسية جمهورية البندقية يحكمها حاكم من البندقية، ويساعده موظفون إيطاليون في أعماله الإدارية، وعلى هؤلاء البنادقة تتلمذ اليونانيون في شئون الإدارة، وكان النبلاء اليونان يجتمعون سنويًّا لانتخاب مجلس من مائة وخمسين عضوًا، ينتخب بدوره ثلاثة من «الوكلاء» Syndics ليمثِّلوا هذه الجزر في مدينة البندقية، وهؤلاء النبلاء اليونان كانوا يعملون بطبيعة الحال على تأييد حقوقهم الإقطاعية بالنسبة لجمهورية البندقية، ولكن لم تكن لهم حقوق في الإشراف والهيمنة على الحكومة البندقية في الجزر (جزر الأيونيان).

ثم إن الجمهورية كانت تمنع يونانيي الجزر من الاشتغال بالملاحة حتى لا يتحد يونانيو الجزر خصوصًا مع أهل كرفو المعروفين بعدائهم الشديد — كسائر أهل الجزر — ضد السيطرة الإيطالية التي يخضعون لحكومتها، وكانت «كرفو» هذه مركزًا هامًّا للثقافة غزت بأضوائها بلاد اليونان نفسها.

وهكذا وجدت في اليونان كل العناصر التي تتألف منها «القومية» وأهم هذه اللغة والدين، وإن كانت هذه القومية لم يتح لها الظهور بعد، بل بقيت تترقَّب الفرصة تسنح في شكل مثل عليا معينة أو عواطف ملتهبة ليتسنى لها جمع هذه العناصر في «شعور قومي» ناضج كما بقيت تترقَّب الفرص تسنح في وقوع حادث سياسي، أو مجيء ظروف سياسية مناسبة لتصبح «حركة قومية». وأمَّا الذي كان صاحب الفضل في إمداد اليونانيين بهذه المثل العليا؛ ثم في تهيئة الظروف السياسية المناسبة، فكان «الثورة الفرنسية»، ثم كان عندئذٍ أن انتقل اليونان من مجرد «أمة» مشتتة وما تزال في دور الميوعة إلى أمة اكتمل نضجها وصار لها شعور قومي؛ أي إلى «أمة قومية».

إرلندة

وكانت إرلندة «دولة» — وبالأحرى «دويلة» — من طراز يختلف عن الطرازات السابقة؛ من حيث إنَّ إرلندة نقطة ابتداء لما يصح وصفه «بالقومية» الخالصة؛ وذلك لأنَّ إرلندة تمتعت «بذاتية» بدت في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية بالرغم من رزوح هذه «الذاتية» تحت أقسى أنواع البؤس والاستبداد لدرجة حطمت قواها وأعجزتها حتى عن إدراك مقدار ما صارت إليه من وهن وانحطاط، بل وأعجزتها عن الشعور بما كان يتحتم عليها فعله لمقاومة هذا الانحطاط.

وإرلندة كانت أمة قد توافرت لديها العوامل التي لا غنى عنها لتكوين الأمم، وهي وجود الأرض التي يعيش عليها شعب من جنس واحد، هم الكلت Celt ودين واحد هو الكاثوليكية، ويتكلم بلغة واحدة هي الإرلندية، وله ماض مشترك، وتلك هي العوامل التي سوف تتألف منها القومية الإرلندية.
ولكن إرلندة ظلَّت في عزلة عن سائر بقاع الأرض بسبب البحر الإنجليزي الذي فصل بين هذه الجزيرة البعيدة وبين القارة الأوروبية والغرب عمومًا. ومن زمن طويل وقعت إرلندة تحت سيطرة الإنجليز، وكانت هذه سيطرة غاشمة حتى إن ماكولي Macauley المؤرخ الإنجليزي كتب أنَّ «الإنجليز استخدموا السيف ضد الإرلنديين الكاثوليك ليس في عهد إدارة (حكومة) واحدة فحسب، أو حتى في عهد عشرين إدارة أو حكومة، ولكن طول قرن من الزَّمان بأكمله. لقد لجأنا إلى مُحاولة نشر المجاعة في إرلندة، بل ولجأنا إلى اصطناع كل أساليب الظلم والاستبداد باستصدار القوانين الغاشمة، ثم حاولنا وسائل التشريد والإفناء، ولم يكن الغرض من ذلك كله تحقير شعب بغيض أو كسر شوكته وحسب، بل عملنا من أجل إبادة شعب بأسره في بلاد نبت فيها وشب وترعرع.» ومع ذلك فقد استطاعت إرلندة اجتياز هذه الشدة والنَّجاة من الموت والفناء الذي كان ينتظرها.

ولكن كان الأثر الذي خلَّفته الكوارث والنوازل أن فقدت الأُمَّة أحاسيسها ومشاعرها لدرجة أنه لم يعد هناك مجال لحدوث «رد فعل» قد ينتشلها من الوهدة التي تردَّتْ فيها، وكان كل الأثر الذي خلفته هذه الكوارث والنوائب كراهية عظيمة تغلغلت في نفوس الإرلنديين ضد أولئك الذين بطشوا بهم.

ويتبيَّن من تاريخ إرلندة أنها كانت تخضع دائمًا لنظام حكومة تأسَّست في البلاد بطريق الفتح؛ أي تميَّزت أساليبها بالوحشية الغاشمة، وهي أساليب تركت آثارًا داميةً في حياة هذه البلاد، فقد بدأت الفتوحات في إرلندة في القرن الثاني عشر في العهد الإنجليزي النورماندي، ومن ذلك الحين عرفت منطقة الاحتلال الإنجليزي على شاطئ الجزيرة الشرقي وعلى مسافة قريبة من إنجلترة ذاتها باسم القصر أو «المسوجة» Palisade (أي الدائرة المُحَاطة بسياج من الأوتاد)، أو الحامية Garrison أو «البال» Pale (أي دائرة النفوذ الإنجليزي).

ومنطقة الاحتلال الإنجليزي هذه كانت بمثابة رأس الجسر لامتداد النشاط الإنجليزي العسكري إلى داخل إرلندة، ولكن سرعان ما اتَّضَحَ أن منطقة الاحتلال الإنجليزي كانت تَسِير تدريجيًّا وبصورة من الصور نحو الاندماج في الكيان الإرلندي، فلم تلبث إرلندة أن «تمثَّلت» الإنجليز الذين أقاموا في منطقة الاحتلال وكانوا يمتلكون الأراضي الشاسعة في إرلندة حتى انتهى الأمر بأن صار هؤلاء يؤلِّفون طبقة من النبلاء (الأنجلو أيرلنديين)، وتحتَّم حينئذٍ على حكومة الملك في لندن أن تعمل من وقت لآخر لتغذية منطقة الاحتلال بعناصر إنجليزية جديدة، وفي عهد أسرة تيودور (خصوصًا أيام الملكة إلياصابات) وفي عهد أسرة ستيوارت؛ أي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، تأيَّد نظام «الحكومة الفاتحة» وتدعمت أركانه بأن تجدَّدت العمليات العسكرية التي أرهقت البلاد وخربتها وأذاعت بها الإرهاب، وجوعت «الإدارة» الأهلين وأهلكت المجاعات عددًا عظيمًا من الناس.

وفي عهد أسرة تيودور (الملكة إلياصابات) جلب الإنجليز إلى إرلندة حواليْ عشرين أو ثلاثين ألفًا من الاسكتلنديين ليتوطَّنوا بمقاطعة «ألستر» Ulster في الشمال على حساب الإرلنديين الوطنيين الذين جردوا من أراضيهم وأملاكهم ليغتصبها هؤلاء النازحون الجدد منهم بشتى الوسائل. ثم إن إنجلترة وقد صارت «بروتستنتية» لم تلبثْ أن أدخلت «الكنيسة الإنجليكانية» إلى إرلندة؛ فصادرت دون إمهال أموال وأملاك الكنيسة الكاثوليكية بها، وعمدت إلى اضطهاد الإرلنديين الكاثوليك.
وكما كان متوقعًا أدى هذا النِّظام الغاشم إلى قيام الثورة في سنة ١٦٤١، فبدأت أولًا في إقليم «ألستر» حيث ارتكب الإنجليز الإرلنديون الفظائع الشديدة ضد بعضهم بعضًا، ووقعت المذابح العديدة بين الفريقين، وبقيت الثورة سنواتٍ حتى قمعها «أوليفر كرمويل» Cromwell الذي ترأَّس الحكومة الجمهورية في إنجلترة عندما أرسل إلى إرلندة في سنة ١٦٤٩ حملةً قضت على الحاميات الإرلندية.
ولقد اتبعت حكومة الاحتلال مع الأهلين خطة إبادة وإفناء منظم، ذهب ضحيته خلال السنوات الإحدى عشرة التالية ستمائة وستة عشر ألف إرلندي من سكان بلغ عددهم مليونًا وأربعمائة وستة وسبعين ألفًا، ثم أنشئت محاكم خاصة كأداة للاستمرار في أعمال الإفناء والإبادة سرعان ما صارت تعرف باسم «محاكم المجازر»، فترتَّب على هذه المآسي أن غادر إرلندة فرارًا من بطش الإنجليز حواليْ ثلاثين أو أربعين ألفًا لجئوا إلى أوروبا وأمريكا. ولم يكتف الإنجليز بما فعلوا؛ فباعوا في أسواق الرَّقيق حواليْ ستين ألفًا من الأطفال والنِّساء أو البنات للعمل في جزيرة جمايكا وجزر بربادوس، وبهذه الوسائل نقص عدد السكان في إرلندة إلى أقل من مليون نسمة، ثم إنه لمَّا كانت الحكومة قد صادرت أراضي الإرلنديين في مقاطعات «لينستر» Leinster و«ألستر» ومنستر Munster، فقد وزعت هذه الأراضي المصادرة على جنود كرمويل وعلى الذين استطاعوا الاستحواذ عليها بطريق التقاضي أمام المحاكم التي صارت تطبِّق قوانين التملُّك الإنجليزية. ودفع الإنجليز دفعًا أهل البلاد ليرتدوا إلى طرف الجزيرة الغربي، ليُقيموا في مُقاطعة واحدة فحسب هي مقاطعة «كنوت» Connaught والإنجليز من وراء أقفيتهم يتصايحون إلى «كنوت» أو إلى جهنم وبئس المصير.
على أن الإنجليز أدركوا أهمية الإبقاء على عدد من الإرلنديين حتى في تلك المناطق التي أُبِيدوا فيها إبادة كادت تكون تامة؛ لاستخدامهم في أغراض مناوراتهم السياسية، وكان لبقاء هذا العنصر «الضئيل» الفضل في إعادة بناء الشعب الإرلندي. وفي عهد ملكية ستيوارت الراجعة (١٦٦٠–١٦٨٨) تمسَّك الإنجليز بالنِّظام الحكومي الساري في إرلندة، فأعادوا دعم أركان الكنيسة الإنجليكانية من جهة، ثم استصدروا من جهة أخرى «إعلان سنة ١٦٦٠»٣ والذي هدف إلى مُعالجة مسألة الأراضي على أساس إعادة أملاك الكنيسة الإنجلكانية إليها، وإبقاء الأراضي في حوزة الملاك الإنجليز من الجنود الذين اشتركوا في قمع الثورة الإرلندية بين سنتيْ ١٦٤٩، ١٦٥٣، ثم أولئك المغامرين الذين أمدوا الحكومة بالأموال اللازمة لإخضاع هذه الثورة.

ولم يفد من هذه «التسوية» سوى عدد ضئيل من الكاثوليك الذين «ثبتت» براءتهم من القيام بالثورة ضد «التاج»، وكان بفضل هذه التسوية أن صار انتقال «ملكية» الأراضي من أصحابها الإرلنديين إلى سادتهم الإنجليز إجراءً يستند إلى قوانين رسمية.

ولقد تمَّ فتح إرلندة على يد وليم الثالث الذي اعتلى العرش بعد «الثورة السِّلمية» المشهورة في سنة ١٦٨٨ التي أَقْصَتْ جيمس الثاني عن العرش، وأنهت حكم أسرة ستيوارت من إنجلترة؛ فقد أرسل وليم الثالث إلى إرلندة حملة للاقتصاص منها بسبب تعضيدها لجيمس الثاني الذي كان اعتمد على الإرلنديين (الكاثوليك) في مُحاولة استرجاع عرشه، فأوقع وليم بالإرلنديين وبجيش جيمس الثاني هزيمة كبيرة في واقعة «بوين» Boyne في يوليو ١٦٩٠، وسقطت «دبلين» في قبضته وفرَّ جيمس إلى فرنسا.
وبعد أن سلَّم إقليم «لميريك» Limerick في غرب إرلندة الجنوبي في أكتوبر ١٦٩١ عقد الإنجليز مع الإرلنديين في السنة نفسها اتفاقًا (سلام لميريك) تعهَّد فيه الإنجليز باحترام مبدأيْ حرية العبادة والمُساواة في الحقوق بينهم وبين الإرلنديين. على أنَّ الإنجليز ما لبثوا حتى نقضوا هذا الاتفاق؛ فصادروا مسافة شاسعة من الأراضي، حوالي مليون فدان، ليستقر بها عدد عظيم من الإنجليز الذين أتوا بهم من جديد إلى إرلندة؛ وفقد كبار الإرلنديين كل رجاء في إمكان الاحتفاظ «بالقومية الإرلندية» فغادر هؤلاء أوطانهم، وهاجروا إلى فرنسا. وأمَّا الذين آثروا البقاء في إرلندة فقد رضخوا لكل إرهاق وقع عليهم دون أن يحركوا ساكنًا لدفعه ودون أن يُفكروا في إثارة أية مقاومة ضده. وهكذا كان يبدو «الفتح» كأنه يريد إنشاء إرلندة إنجليزية تقوم عروشها على بقايا الوطن الإرلندي الصميم.
على أن قصة الفتح الإنجليزي في إرلندة لم تكن قد استكملت فصولها بعد؛ فقد استصدر البرلمان الإرلندي نفسه في «دبلن» تحت تأثير النفوذ الإنجليزي طائفة من القوانين بين سنتيْ ١٦٩٥، ١٧٠٩ عرفت باسم «قوانين العقوبات» Penal Laws قُضِيَ بسببها على حريات الأهلين الكاثوليك، وحقوقهم المدنية، ومنع أتباع البابوية من التدريس في المدارس وفي منازلهم الخاصة، وصار مُحَرَّمًا على الأطفال تلقِّي العلم على أيدي معتنِقي الكاثوليكية في بلادهم، كما منعوا من التعليم الكاثوليكي خارج بلادهم، ثم نُفِيَ رجال الدين الكاثوليك من إرلندة، وحرم على البروتستنت الزواج من كاثوليك، ووضعت عدة شروط لتنظيم وراثة الأرض والأملاك الأخرى بصورة تمنع الكاثوليك من توريثها أو وراثتها.

وموجز القول: أن هذه القوانين (قوانين العقوبات) فرضت سيطرة أقلية من البروتستنت على أكثرية من الكاثوليك هم أهل البلاد الإرلنديون، وكان واضحًا أنَّ الحكومة الإنجليزية لم تكن تستهدف من سياستها إدماج الإرلنديين أو استيعابهم، وإنما كانت تَبْغِي إخضاعهم لسيطرتها الباطشة المُستبدَّة من ناحية، ثم استغلال موارد البلاد واستنزاف دماء أبنائها من ناحية أخرى، تعتمد في تحقيق مأربها على وجود «الحامية» الإنجليزية البروتستنتية مما كان معناه أن حالة حرب فعلية كانت قائمة بصورة مستديمة تحت ستار «نظام سياسي» معيَّن.

ولقد قامت هذه السيطرة الإنجليزية في إرلندة على دعامات عدة منها «قانون بويننجس» Poynings Law نسبةً إلى «إدوارد بويننجس» الذي حكم إرلندة نائبًا للملك هنري السابع (من أسرة تيودور) فترة من الزَّمن، وصدر هذا القانون في ديسمبر سنة ١٤٩٤، وتضمَّن المبادئ التي صارت مَرْعِيَّة طول القرون الثلاثة التالية في حكم إرلندة، وبمقتضى هذا القانون صار البرلمان الإرلندي مُرْغَمًا على الموافقة على القوانين التي تُقَدَّم إليه واستصدارها دون مناقشة أو تعديل لها، وكما أعدتها الحكومة الإنجليزية، وكان معنى ذلك إدخال التشريع الإنجليزي في إرلندة وسَرَيَانه بها، وإخضاع البرلمان الإرلندي لرغبات الحكومة الإنجليزية.

وأمَّا الدعامة الثانية للسيطرة الإنجليزية فكانت الكنيسة الإنجليكانية، ولو أن هذه الكنيسة لم يكن لها أتباع من بين الإرلنديين أنفسهم؛ لأنَّ هؤلاء كما هو معروف إنَّما كانوا من الكاثوليك ما عدا أقلية بروتستنتية في شمال الجزيرة الشرقي في مُقاطعة «ألستر». ولقد اعتمدت الكنيسة الإنجليكانية في تقرير العقيدة وتنظيم العبادات على القرارات والقوانين التي يستصدرها البرلمان، وهذا فيما يتعلق بالعقيدة ذاتها، ثم على الملك الذي كان من حقه تعيين القساوسة والأساقفة، وهذا فيما يتعلَّق بملء الوظائف الكنسية. وقد بلغ عدد الأساقفة اثنين وعشرين أسقُفًا والقساوسة ثلاثة آلاف، في حين لم يكن يوجد إرلندي واحد يَدِين بالولاء للبروتستنتية في الأبرشيات الإنجليكانية في إرلندة وعددها المائتان.

ثم إن هؤلاء الأساقفة ظلوا يعيشون أكثر الوقت في إنجلترة، وكانت هذه الكنيسة الإنجليكانية التي فُرِضَت فرضًا في إرلندة ذاتَ ثراء عريض نتيجة مصادرة أملاك الكنيسة الكاثوليكية، كما صارت تُحَصِّل العشور من الإرلنديين، وأشرفت على التعليم وعلى حياة الأهلين المدنية، وتمتعت بالولاية القضائية على الأراضي التي تملكها، وعلى الفلاحين المُقيمين عليها، وذلك كله دون أن يُفِيد الإرلنديون وهم كاثوليك شيئًا من الخدمة الرُّوحية التي تؤديها الكنيسة، وفضلًا عن ذلك لم يَنْجُ من سلطان الكنيسة الإنجليكانية أولئك الاسكتلنديون أتباع «الكنيسة المشيخية» والذين عاشوا في مقاطعة ألستر.

وكان الملاك الدعامة الثالثة التي قامت عليها السيطرة الإنجليزية في إرلندة، وهذه كانت أبعد الدعامات أثرًا وأقواها نفوذًا؛ ذلك أنَّ الإنجليز كانوا يملكون في إرلندة الأرض التي استولوا عليها نتيجة مُصادرة أملاك الأفراد الصغيرة وأملاك كبار الإرلنديين من أصحاب الأراضي الشاسعة.

ولقد كان هناك طبقتان من الملاك الإنجليز؛ الطبقة الأولى: وتتألَّف من كبار الملاك الذين لم يتخذوا مقامهم في إرلندة وعهودًا باستغلال أراضيهم إلى طائفة من الوكلاء كانوا في أحايين كثيرة من أهل البلاد أنفسهم، وذلك في نظير نسبة معينة من الإيراد، الأمر الذي جعل هؤلاء الوكلاء يشتدُّون في معاملتهم ويقسون على المشتغلين في هذه الأراضي من أجل الحصول على أعظم قدر ممكن من الإيراد.

أما الطبقة الثانية: فكانت جماعة الملاك متوسطي الحال الذين عاشوا في البلاد نفسها وصاروا يؤلِّفون طبقة أقل في مستواها من كبار الملاك، ونعني أعيان الطبقة المتوسطة Gentry، وكان هؤلاء هم الذين عمدت الحكومة إلى ملء وظائف الإدارة منهم، فجمعوا إلى جانب السيطرة الاقتصادية بسبب ثرائهم أسبابَ السيطرة الإدارية والحكومية في أيديهم كذلك، وهؤلاء المُلَّاك (من طبقة أعيان البورجوازية) انتشروا على وجه الخصوص في مقاطعات «لينستر» و«ألستر» على شواطئها وفي «منستر». ولقد كان للملاك الإنجليز الحق في توريث أراضيهم إلى أكبر أبنائهم الذكور، كما كان لهم الحق في توريثها مقدمًا كذلك لأكبر حفدتِهم الذكور؛ وذلك حرصًا على بقاء الثروة مُرَكَّزة في يد كبير الأسرة.

ولقد حَرَمَ هذا النظام الإرلنديين الذين عاشوا في هذه الأراضي من الحماية التي كانت لهم في علائقهم كفلاحين بالسادة الأشراف أو ملاك الأرض وفق القواعد والأنظمة «الإقطاعية» القديمة، ثم إن الأرض ما لبثت حتى فقدت جودتها وقلَّت غلتها تدريجيًّا بسبب امتناع الملاك عن إنفاق أموالهم في استصلاحها أو في استخدام طرائق حديثة في استغلالها؛ فنزل الضنك والبؤس بالفلاحين وهَمَّ جمهرة الشعب الإرلندي نتجية لسوء الحالة الاقتصادية، وكان الملاك يُعْطُون بطريق الإيجار إلى المزارعين الإرلنديين جزءًا صغيرًا من أراضيهم لمدة لا تزيد على عشرين أو ثلاثين سنة، في نظير أن يؤدي هؤلاء المستأجرون خدمات معينة إلى جانب ما يدفعون من إيجار، فكان أشقَّ هذه الخدمات تسخيرُهم في العمل في أراضي الملاك لقاءَ أجر ضئيل أو بالمجَّان.

ومما زاد هذه السيطرة الإنجليزية قوةً وإحكامًا أنَّ الإنجليز استمالوا إليهم بشكل ما جماعة من الإرلنديين الذين سوف يُصبحون عند الضرورة «الصفوة الإرلندية» الذين تتألَّف منهم طبقة بورجوازية ريفية، فقد حدث خلال القرن الثامن عشر خصوصًا أن تحوَّلت بعض الأراضي الإرلندية إلى مزرعات لتربية الماشية بسبب استغلال الأراضي مراعي بدلًا من زراعتها، فسُوِّجَتْ هذه المزرعات المخصصة للرعي وعرفت باسم «التحويطات الزراعية» Enclosures في مقاطعات «ليمريك» و«تيبراري» Tipperary و«كلير» Clare و«ميث» Meath و«ووترفورد» Waterford، ولو أنها كانت قليلة العدد بسبب ما يَلزَم لهذه المراعي من مساحات من الأرض شاسعة.
وكان مُلَّاك هذه «المسوجات» أو مستغلوها من الإرلنديين يحاكون أهل طبقة أعيان البورجوازية Gentry من الإنجليز في عيشهم ويُقلِّدونهم في كل شيء ويَقْفُون أثرهم. ولقد وُجِدَ إلى جانب هؤلاء فريق من أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) الإرلندية من جماعة «الوسطاء» Middlemen الذين استأجروا (التزموا) بجزء من أراضي المُلَّاك الإنجليز؛ فاحتفظوا بقسم منها يستغلونها بأنفسهم في حين وَزَّعُوا القسم الآخر في أجزاء صغيرة على «مستأجرين» آخرين، وكان هؤلاء «الوسطاء» الإرلنديون الذين عاونوا الملاك الإنجليز على استغلال أراضيهم موضع كراهية واحتقار هؤلاء الإنجليز أنفسهم الذين استخدموهم، ثم كراهية واحتقار الفلاحين الإرلندين الذين استبدَّ بهم «الوسطاء» وأساءوا مُعَاملتهم فاعتبرهم مواطنوهم خونة لقضية الوطن.

وأما هؤلاء «الوسطاء» فقد صاروا يتطبَّعُون بطباع الإنجليز ويُمْعِنون في تقليدهم ومحاكاتهم، على أنه مما تجدر ملاحظته أنَّ جميع هؤلاء الملوك الإنجليز من أعيان البورجوازية ثم هؤلاء الوسطاء الإرلنديين كان ينقصهم التهذيب والتعليم ولا ثقافة لهم، كما كانوا غِلَاظَ الطباع أصحاب خشونة ووحشية في مسلكهم وأساليب حياتهم.

تلك إذن كانت دعامات السيطرة الإنجليزية في إرلندة: الإدارة السياسية، الكنيسة الإنجليكانية، نظام الملكية العقارية «والأرض»، ثم ذلك النظام الحكومي الذي هدف إلى تحطيم جميع أسباب الحياة الروحية والمادية في إرلندة.

ولقد كان لهذه السيطرة الإنجليزية آثار بعيدة؛ من ذلك أنَّ البروتستنتية الإنجليكانية التي فُرِضَتْ على إرلندة دَرَجَتْ على تعقُّب الكاثوليك بالاضطهاد والتشريد، فمُنِع الكاثوليك وهم الإرلنديون من مزاولة طقوس العبادة الظاهرة كالحج ودَقِّ النواقيس وما إلى ذلك، وعظمت حروجة مركز القساوسة الكاثوليك دينيًّا واجتماعيًّا، ثم إنه تقرَّر في سنة ١٥٩٨ إرسال الأساقفة الكاثوليك والقساوسة الذين تمسَّكُوا بالعقيدة ومظاهر العبادة الكاثوليكية إلى المنفى، وأُجِيز فقط بقاء القساوسة الذين سجلت الحكومة أسماءهم في سجلاتها، وكان عليهم أن يَحلِفوا يمين الولاء للحكومة ولكنيستها، وكان عدد هؤلاء القساوسة المسجلةِ أسماؤهم قليلًا، وفيما عدا ذلك فقد اعتبر الأساقفة والقساوسة «خارج القانون»، وخُصِّصت المكافآت المالية للإرشاد عنهم، وسُمي هؤلاء الذين يُرْشِدون عن رجال الدين «الخارجين على القانون» بصائدي القساوسة Priest Hunters.
وكثرت القيود التي ضيَّقت من الناحية القانونية سبل العيش في وجه الكاثوليك؛ أي الإرلنديين، فإلى جانب عجز هؤلاء عن مزاولة طقوس عبادتهم وحرمانهم من حقوق الملكية وقصر مدة «استئجارهم» الأراضي على عشرين أو ثلاثين عامًا (التزامًا)، فقد حُرِمُوا كذلك من مزاولة المهن الحرة ما عدا مهنة الطب، ثم حرموا من مزاولة أكثر المهن المُتعلِّقة بالتجارة إلا في حالات معينة؛ ولما كان البرلمان الإنجليزي يَبْغِي استبعاد الكاثوليك من الوظائف الحكومية في الدولة، فقد استصدر في سنة ١٦٧٣ «قانون التمييز الطائفي Test Act» يحتم على جميع موظفي الحكومة أن يحلفوا يمين الولاء للكنيسة الإنجليكانية وأن يؤمنوا بسر القربان المقدس وفق طقوس هذه الكنيسة، وأن يرفضوا علنًا الإيمان بتحوُّل الخبز والنبيذ إلى جسد المسيح ودمه، فكان هذا القانون «اختبارًا» استُبْعِد بفضله عند تطبيقه في إرلندة كل الكاثوليك — أي الإرلنديين — من شَغْل الوظائف العامة؛ أضف إلى هذا أن هؤلاء كانوا قد حُرِمُوا كذلك حقَّ الولاية على أطفالهم، كما قدمنا، فمنع غير البروتستنت من القيام على تعليمهم في إرلندة كما منع غير البروتستنت من تعليمهم في خارج إرلندة.
وعلاوةً على ذلك فقد حُرِم الكاثوليكي قانونًا من حقه في إرث أبويه إذا كان من البروتستنت، وتمتع البروتستنت بحق حصر الوراثة في الابن الأكبر في حين تجزَّأت أملاك الكاثوليك بين الأبناء بالتساوي، وهكذا لم يعترف القانون في نظر الحكومة الإنجليزية بوجود الكاثوليك أتباع الكنيسة الرومانية. وقد وصف «إدموند بيرك» Burke — الفيلسوف الإنجليزي — هذه الأحوال السائدة في إرلندة في عصره، وكان مولده في دبلن ١٧٢٩ ودرس بها قبل أن يُتِمَّ دراسته القانونية في لندن، ثم زار إرلندة بعد ذلك، وتوفي بإنجلترة سنة ١٧٩٧، وهو صاحب شهرة ذائعة بسبب كتاباته ضد الثورة الفرنسية. وصف «بيرك» الحالة في إرلندة بأنها «منتهى درجات التمام التي يمكن أن تَصِلَهَا الرذيلة، ورق تقشعر منه الأبدان، ينطوي على جحود وكفران مُبِين، وطغيان يدل على أقصى ما تصل إليه وقاحة الإنسان وفساد خلقه.»
هذا أمَّا حياة البلاد الاقتصادية؛ فقد تدهورت تدهورًا عظيمًا بسبب أن إرلندة كان يحكمها الإنجليز بوصف أنها مُستعمرة وحسب، يستغلها حكامها لصالح العاصمة «لندن» وحدها. ولقد قضى قضاءً منظمًا على الصناعات الإرلندية الوطنية الواحدة بعد الأخرى بفضل القوانين العاتية التي استصدرت والضرائب المرهقة التي فرضت على الإرلنديين، فاختفت منذ أواخر القرن التاسع عشر صناعة الصوف وحَذَتْ حذوها صناعة الخزف والفَخَّار، ولم يترك الإنجليز سوى صناعة الأقمشة من القنب أو الكتان في بعض المدن الشمالية الشرقية مثل «بلفاست» Belfast و«لندوندري» Londonderry، وترتَّب على هذا الضِّيق الاقتصادي أنَّ إرلندة لم تُفِدْ شيئًا من الانقلاب الصِّناعي الذي حدث في إنجلترة في القرن الثامن عشر.

ومن نَاحية الزِّراعة، بَقِيَتْ إرلندة في حالة تأخُّر ظاهر تزاول أساليب الزراعة القديمة وأدواتها المحاريث الخشبية، فاستمرت فلاحة الأرض طالما أخرجت الأرض محاصيلها، حتى إذا ضعفت التربة تُركت الأرض بورًا وانصرف الناس عن فلاحتها وزرعها، أضف إلى هذا انعدام وجود الطرق وعربات النقل؛ مما جعل متعذرًا نقل المحاصيل إلى الأسواق لبيعها، فلم تنل زراعة الحنطة أي عناية، واقتصرت زراعتها في بعض أجزاء إرلندة الجنوبية الغربية فقط لإنتاج مشروب الويسكي، وصار البطاطس محصول البلاد الرئيسي وذلك على حساب المحصولات الأخرى، وزاد في ضنك أهل البلاد وبؤسهم تقسيم الأراضي إلى أجزاء صغيرة، وكان من عوامل هذا التفتيت والتجزئة نظام الوراثة الذي ذكرنا أنَّه قضى بتوزيع أملاك المورث على الورثة بالتساوي، وثمة عامل آخر وهو تجزئة أراضي القرية «المشاعة» على أهل القرية بالتساوي، وقد ظلت تنقص وتتضاءل مساحات هذه الأجزاء من الأراضي المُقَسَّمة والموزعة تبعًا لزيادة عدد السكان.

وأمَّا العامل الأخير؛ فكان انعدام وجود المزارعين المأجورين. ولقد عرفنا أن طريقة التأجير والوساطة كانت الطريقة المتَّبَعة في استغلال الأراضي، وكانت لا تزيد مساحة كل منطقة حسب هذا النظام على عدد من الأفدنة يتراوح تقريبًا بين الخمسة عشر والأربعين فدانًا. وهكذا بقيت إرلندة بعيدةً كلَّ البعد من تلك الحركة الاقتصادية الزراعية التي قامت وقتئذٍ في إنجلترة وفي قسم من فرنسا وأَحْيَت النشاط الزراعي من جديد في كلٍّ منهما.

تلك إذن كانت مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية في إرلندة تحت السيطرة الإنجليزية الغاشمة. وأما لإدراك ما كان عليه حال الإرلنديين في هذه الحياة، فإنَّ أوَّل ما ينبغي ذكره كحقيقة تساعد على فهم موقف هؤلاء أنَّ الإرلنديين أُمَّة تتناسل بكثرة عظيمة، فقد بلغ عدد سكان إرلندة في آخر القرن الثامن عشر حوالي خمسة ملايين، عاشوا في ضنك وبؤس استرعيا نظر الإنجليز أنفسهم في ذلك الحين، فتحدث عن هذا الضنك والبؤس «جونثان سويفت» Jonathan Swift أحد كتاب الإنجليز المشهورين الذي نشر في سنة ١٧٢١ بحثًا عن الحالة في إرلندة لم يلبث أن أعقبه في سنة ١٧٢٩ بنشر مقترحاته «المتواضعة» لمُعالجة مسألة الفقراء والبؤساء الإرلنديين الذين وصلوا إلى درجة من البؤس والشقاء تفوق ما كان عليه الشحَّاذون في إنجلترة.
ولقد تصدَّى آخرون كذلك لوصف حال هؤلاء البؤساء الإرلنديين كما فعل «إدموند بيرك» الذي سبق ذكره، ثم لورد «شيسترفيلد» Chesterfield الذي وصف الإرلنديين بأنهم كانوا أسوأ حالًا من العبيد السود، وسماهم شعبًا من الرقيق والشحَّاذين، ثم «آرثر يونج» Arthur Young الذي وصف معيشة الأيرلنديين في آخر القرن الثامن عشر فقال: إنهم يعيشون في أكواخ حقيرة ويضعون على أجسامهم خرقًا مهلهلة، وينام أفراد الأسرة مع مواشيهم في غرفة واحدة. ولقد كان من دواعي البؤس كذلك أن انتشرت المجاعات بين هذا الشعب الإرلندي، فحدث خلال العشرين سنة في القرن الثامن عشر وحده ما لا يقل عن أربع مجاعات اجتاحت عددًا عظيمًا من أهل البلاد.

وترتَّب على وجود هذا البؤس والشقاء أن اضطرَّت العناصر النشيطة إلى الهجرة من البلاد وبخَاصة عندما تعذَّر عليهم العمل كأُجَراء زراعيين في أراضي المُلَّاك الإنجليز الذين منعوهم من الدخول في أراضيهم. ولما كان الانقلاب الصناعي قد حصل وقتئذٍ في إنجلترة فقد نشأت مراكز صناعية جديدة صارت بسببها الحاجة مُلحة إلى الأيدي العاملة الكثيرة، فقصد هؤلاء المهاجرون الإرلنديون إلى هذه المراكز الصناعية الجديدة وسرعان ما تألَّفت منهم «جاليات» كبيرة في ليفربول ومانشستر خصوصًا، وتزايد عدد الإرلنديين في هذه المدن بنسبة نمو الصناعة بها.

ثم إن فريقًا آخر هاجر إلى الخارج للعمل كجنود مرتزقة في جيوش فرنسا وإسبانيا والنمسا، فكان لدى جيش الملك في فرنسا دائمًا «فرقة إرلندية»، ومثل هؤلاء المهاجرين هم الذين أطلق عليهم مواطنوهم اسم «الإوز البري» Wild geese، ويقدر عدد الإرلنديين في جيش الملك الفرنسي الذين هلكوا في الحروب التي دارت أثناء القرن الثامن عشر بحوالي أربعمائة وخمسين ألفًا، ومع ذلك، فقد تولَّى بعض هؤلاء الإرلنديين مناصب القيادة في فرنسا وإسبانيا وامتاز منهم قُوَّاد عظام من أسرة «لالي» Lally وأسرة «ديلون» Dillon في فرنسا، ثم أسرة «أونيل» O’Neill و«أودونيل» O’Donnel في إسبانيا، بل شغل أحد أفراد الأسرة الأخيرة وهو «دي وال» De Wall منصب رئيس الوزارة بها، وفي النمسا كان القائد الكونت لافال نوجنت Nugent ثم «موريس لاسي» Lacy القائد النِّمساوي الآخر من أصل إرلندي. ثم إنَّ نفرًا آخر من الإرلنديين هاجروا إلى أمريكا.

ولقد ترك هذا البؤس والضنك آثارًا لا تُمحى في نفوس الإرلنديين؛ فمن النَّاحية النفسية (السيكولوجية) زادت حِدَّةُ ذلك الطابع الذي امتاز به الخلق الإرلندي، ونعني بذلك عدم الاكتراث وعدم المبالاة وقلة التبصر في عواقب الأمور ثم «المطاوعة» والتزام مسلك سلبي إزاء كل ما يقع من أحداث، فهم يستسلمون للبؤس راضخين ويوطنون النفس على ضرورة الثقة بحُسن نوايا «ساداتهم» فلا يهتمون حتى بأن يكون استخدامهم بناءً على على عقود مكتوبة؛ مما جعل الإنجليز يتشجعون على الاستهانة بهم والإمعان في إذلالهم وإرهاقهم؛ ففقد الإرلنديون بسبب البؤس والضنك الذي كانوا فيه كل شعور باحترام أنفسهم أو الثقة في أنفسهم، حتى أنَّ المُثقفين منهم كان يُسيطر عليهم الخمول الذهني والجسمي معًا لدرجة منعتهم حتى من التفكير في الإتيان بأي نشاطٍ كان.

وكان طبيعيًّا لهذا كله أن يقتنع الإنجليز أنَّ من العبث أن يرجو المرء خيرًا من هؤلاء الإرلنديين أو أن يستحثهم على فعل شيء وهم الذين اعتقد الإنجليز أنهم شعب من المنافقين الكذابين الذين انطبعت نفوسهم على القسوة والوحشية والحقد لا يعرفون معنى النِّظام ولا يصلُحون إلا للخضوع لنير حكومة باطشة مستبدة. وهذا الاعتقاد كان من أهم أسباب إمعان السادة الإنجليز في سياستهم القائمة على العَسْفِ بالإرلنديين ومحاولة إبادتهم وإفنائهم.

ولا جدال في أنَّ هذا الاعتقاد الخطير في نتائجه كان اعتقادًا خاطئًا، فالإرلنديون كما يتبيَّن من وثائق العصر كانوا يتمتعون بروح عظيمة حقيقة، أرغم البؤس والضنك الذي حلَّ بالأُمَّة الإرلندية أبناءها أن يؤمنوا بحكم القضاء والقدر، وجعلهم البؤس والضنك في حالة ركود نفساني ظاهر؛ فقدوا بسببه القدرة على تنظيم صفوفهم والشعور بما كان لديهم من قوَّة كامنة، ولكن ذلك لم يكن إلا نتيجة نظام الحكم الإنجليزي السائد في بلادهم؛ النِّظام الذي حطَّم نفوسهم تحطيمًا، حتى إنهم لم ينتهزوا فرصة نزول جيمس الثاني في بلادهم وما تبع ذلك من اضطرابات ناجمة من مُحاولة هذه الأخير استرداد عرش أسرة ستيوارت، فيقوم الإرلنديون بثورة مُستطيرة تخلِّصهم من ظلم السادة الإنجليز. ومع ذلك، فقد بقيت الروح الإرلندية حية ولم تندثر بالرغم من كل ما حدث.

وهذه القوة الرُّوحية، وبمعنًى أدق روح الإرلنديين «الاستقلالية»، قد استندت على عقيدتهم الدينية الكاثوليكية؛ لقد شاهدنا كيف حطَّم الحكم الإنجليزي كلَّ أنظمة الأيرلنديين وأساليب حياتهم في شتَّى نواحيها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولكنه عجز عن تحطيم الكنيسة الكاثوليكية وعجز عن مَحْوِ عقيدة الإرلنديين الدينية، فبقيت الكنيسة في إرلندة بأنظمتها وتقاليدها، وكما كانت قبل السيطرة الإنجليزية، فاستمرت البلاد مقسمة إلى ست وعشرين أبرشية أسقف تحوي أربعة رؤساء أساقفة، وحوالي الألف من القساوسة ومائتيْ كاهن موزعين على «خوريات» بهذا العدد، فضلًا على قساوسة الأبرشيات الذين بلغوا تسعمائة.

وقد عين الأساقفة في أول الأمر المطالبُ بالعرش الإنجليزي جيمس الثاني بعد ثورة ١٦٨٨، ثم صار يعيِّنهم المطالبون بالعرش من بعده من أسرة ستيوارت: جيمس إدوارد ثم شارل إدوارد، وباختفاء هذا الأخير اتبع القساوسة والأساقفة الإرلنديون نظامًا آخر، فصاروا يعدون قائمة بأسماء المرشحين لملء المناصب الدينية يَعْرِضونها على البابا الذي يختار لهذه المناصب من يشاء من بينهم. وحيث إنَّ الإنجليز قد صادروا أملاك الكنيسة الكاثوليكية، فإن هذه لم تلبث أن اعتمدت في إدارة شئونها على المساعدات التي يقدمها لها أتباعها. على أنَّ الذي تجدر ملاحظته أنَّ هذه الكنيسة ظلت قائمة في الخفاء بسبب القوانين التي استصدرتها الحكومة الإنجليزية لتعطيل نشاطها، فلم يكن لها كنائس؛ لاستيلاء الكنيسة الإنجليكانية على دُورِها المُخصصة للعبادة وعجزها بطبيعة الحال عن بناء غيرها، ومُنِعَتْ من دَقِّ النواقيس أو الاحتفال علنًا بأعيادها، إلى غير ذلك من المظاهر والطقوس الدينية، فاكتفت حينئذٍ بإعداد معابد صغيرة في الأكواخ الحقيرة غالبًا وفي الأهراء أو المخازن، وفي بلفاست لم يكن يوجد سوى «معبد» كاثوليكي واحد.

وأمَّا القساوسة أنفسهم فكانوا يتلقَّون دروس اللاهوت في خارج إرلندة لتعذر إنشاء المدارس الإكليريكية أو غيرها من المدارس الكاثوليكية في داخل إرلندة، فدرسوا اللاهوت في «لوفان» Louvin و«دويه» Douai في بلجيكا وفي باريس بفرنسا و«سلامنكا» في إسبانيا، وكانت كل هذه، وفي فرنسا على وجه الخصوص، مراكز للتعاليم الجاليكانية، التي نبذت العلاقة مع كنيسة رومة وجعلت التعيين للوظائف الكنسية يخضع لسلطان الحكومة والملك مع بقائها تَدِين في الوقت نفسه بالعقيدة الكاثوليكية. وعلى ذلك، فقد تلقَّى القساوسة الإرلنديون في هذه المراكز مبادئ الخضوع الكامل لسلطان الحكومة وصاحب السيادة العليا؛ فانطبعوا على الطاعة التامة وعدم الثورة ضد الحكومة، وكان بفضل هذه التنشئة ذاتها أن صارت الحكومة الإنجليزية تعتمد عليهم أنفسهم في تهدئة الشعب الإرلندي وتسكينه، وفي فضِّ الخلافات والنزاعات المحلية، كما أنها صارت تعتمد عليهم في القبض على المجرمين وفي منع الفلاحين من التفكير في الثورة عليها.

ولقد خضع الشعب الإرلندي لسلطان ونفوذ هؤلاء القساوسة ورجال الدين خضوعًا مُطلقًا، ومما ساعد على هذا الخضوع أنه لم تقم في إرلندة أية حركة «تعقلية» تستند على تحكيم العقل والتفكير المنطقي فيما يعرض من أمور. ثم إن من أسباب هذا الخضوع كذلك امتياز الجنس الكلتي الذي منه الإرلنديون بالانكباب على العبادة والتدين لدرجة التصوف.

على أن تمسُّك الإرلنديين بعقائدهم وديانتهم الكاثوليكية كان الأساس الذي أوجد العاطفة الوطنية لديهم، بمعنى أن الإرلنديين شهدوا في واقع كونهم «كاثوليكًا» الوسيلة التي أبقت لهم كيانهم ووجودهم بل واستقلالهم إزاء الإنجليز، بالرَّغم من كل ما فعله هؤلاء لإفنائهم وإبادهم، بل إن إمعان الإنجليز في اضطهادهم كان من أثره زيادة هذه العاطفة، وإن شئت الغريزة الدينية، وبالتالي العاطفة أو الغريزة الوطنية شدةً على شدتها وقوةً على قوتها.

ثم إنَّ القساوسة الكاثوليك هم الذين اضطلعوا وحدهم بشئون التعليم وكان في استطاعتهم تعليم الأبناء الإرلنديين لغة بلادهم وتاريخها بل وأغانيها، وذلك عندما منعت الحكومة تدريس ذلك كله ضمن برامج التعليم العام، وأصبحت جامعة دبلن والثالوث الأقدس Trinity College التي تأسست سنة ١٥١١ إنجليزية بروتستنتية، ولم يعد للكاثوليك وسيلة لتعليم أبنائهم سوى تلقينهم مبادئ العلوم والمعارف الأولية فيما يعرف باسم المدارس «المسوجة» وهي بمثابة كتاتيب في الهواء الطلق تنشأ جنب دغلٍ من الأدغال يتلقى فيها أطفال القرية المبادئ الأولية على أيدي القساوسة في بعض الأهراء أو في الهواء الطلق، ثم كان عند صدور «قانون الاندماج» في سنة ١٨٠٠ في المملكة البريطانية المتحدة أن تأسست جمعيات أو محافل لتعليم الأطفال وتنشئتهم، وهي جماعات «الإخوان المسيحيين» Christian Brothers أو إخوان (رهبان) القديس باتريك.
وعلى ذلك، فقد ارتبطت الكاثوليكية بالعاطفة الوطنية في إرلندة ارتباطًا وثيقًا، بل واندمجتا في بعضهما بعضًا اندماجًا كليًّا، ثم إنَّ هذه العاطفة الوطنية تبدَّت في ضرورة واحدة وحسب، هي تصميم الإرلنديين على تمسكهم بتقاليدهم الدينية، وكان هذا «العناد الخلقي» المُتعلق بكل ما يَمَسُّ عقائدهم الدينية لا يمتُّ بسبب أو صلة كما هو واضح إلى أي شعور أو يقظة «قومية» أو عاطفة سياسية، وكان كُلَّما تقدَّم الزمن بالإرلنديين تزايد عناد الإرلنديين الخلقي وإصرارهم على التمسك بكاثوليكيتهم، حتى إن الحركة الدينية التي ظهرت في إنجلترة وعرفت باسم الحركة «النظامية الدينية» Methodism — وهي بروتستنتية — بزعامة جون وزلي Wesley (١٧٠٣–١٧٩١) وكان من أعظم الوعاظ وأقدرهم على التنظيم الديني، لم تلبث أن أخفقت في محاولتها جعل الإرلنديين ينبذون عقائدهم الكاثوليكية بالرَّغم من أن «وزلي» نفسه زار إرلندة للوعظ والإرشاد بها سبع عشرة مرة.

ومع ذلك؛ فإنَّ إرلندة التي عظم بؤسها وشقاؤها لدرجة أن خَمَدَ كل شعور لدى الشعب بالحاجة لمُقاومة السيطرة الإنجليزية، لم تَلْبَثْ في السنوات القليلة التي سبقت اشتعال «الثورة الفرنسية» أن أصبحت مسرحًا لبعض حركات المقاومة التي اقترنت بأعمال العنف والشدة ضد هذه السيطرة الإنجليزية.

ففي عهد جورج الثالث تكوَّنت بين سنتيْ ١٧٦٠، ١٧٧٠ عصابات المقاومة ممن عُرِفُوا في مبدأ الأمر باسم العاملين من أجل المُساواة وإزالة الفوارق بين البشر Levellers ثم صاورا يعرفون من آخر سنة ١٧٦١ باسم «الصبيان البيض» Whiteboys توزعوا في جماعات من مائتين أو ثلاثمائة رجل يرتدون عباءات بيضاءَ فوق ملابسهم العادية ويضعون شارات بيضاء فوق رءوسهم، أو حول قُبَّعاتهم، وكانوا من الفلاحين.

ولقد صارت هذه العصابات تسطو على «التحويطات الزراعية» لتخريبها وعلى الماشية لإيذائها بكسر أرجلها، وكل ذلك انتقامًا من القوانين الصارمة التي حرمت الإرلنديين من الأرض، وكانت مصدر كل تلك المساوئ التي سَبَقَ وصفها عند الكلام عن ملاك الأرض الإنجليز، واعتدى «الصبيان البيض» على أتباع هؤلاء الملاك وموظفيهم واستفحل شرُّهم، فصار لا يجرؤ أحد على الشهادة ضدهم، وعجز القانون عن تأديبهم أو وقف اعتداءاتهم، وكانت هذه العصابات أولى تلك «التنظيمات الزراعية» التي تعددت واستمر رجالها أو «أعضاؤها» طول قرن من الزَّمان يتحدون القانون ويُحطِّمونه دون أن تستطيع الحكومة ردعهم. ولقد شهدت إنجلترة نفسها مثل هذه الحركات وقتئذٍ، ومنشأ ذلك كله ولا شك نظام «التحويطات الزراعية» الذي ضُمَّتْ بمقتضاه الحقول الصغيرة لتؤلِّف حقولًا كبيرةً ثم حُوِّطَت الأراضي أو سُوِّجَتْ وقُسِّمت تقسميًا جديدًا وأدمجت المساحات البور والمراعي المشاعة في أراضي كبار الملاك، وكثرت هذه التحويطات الزراعية في إرلندة كما كثرت في إنجلترة.

ولقد تألفت بعد سنة ١٧٧٠ عصابات أخرى من طراز «الصبيان البيض»، ولقد أفادت هذه العصابات من المتاعب والصعوبات التي صادفتها إنجلترة حينئذٍ بسبب ثورة مستعمراتها (الولايات) الثلاثة عشر في أمريكا واستقلالها.

ودرج الإرلنديون على الاستفادة دائمًا من متاعب الإنجليز ليفوزوا ببعض ما يصبون إليه، حتى لقد قيل: في مصاعب إنجلترة الفرصة السانحة لنفع إرلندة.٤ وكذلك فقد استفاد الإرلنديون من قيام الثورة في الولايات (المستعمرات) الأمريكية، فظفروا ببعض الحقوق التي اضطُرَّ الإنجليز إلى التنازل عنها لهم؛ فإنَّ الثورة الاستقلالية في أمريكا لم تلبث أن أسفرت عن نتيجتين: اتساع الحركة الثورية في إرلندة حتى تزايدت العصابات من طراز «الصبيان البيض» كما ذكرنا، فوجدت عصابات المُكافحين أو المُدافعين Defenders، وهؤلاء من الكاثوليك الذين ناصبوا العداء البروتستنت، ثم «الصبيان القويمين» Right boys ابتداءً من سنة ١٧٨٥، ثم «صبيان السنديان» Oakboys الذين قاموا بحركتهم الثورية سنة ١٧٦٣ بالقرب من أرماغ Armagh.

وقد انتشرت حركتهم حتى امتدَّت بعد ذلك إلى كل المُقاطعات المُجَاورة لها، وكان منشؤها الشكوى من العشور ومواجهة الضرائب المُخَصَّصة لصيانة الطرق وسوء توزيع هذه الضرائب؛ الأمر الذي جعل عبء صيانة الطرق يقع على كاهل مستأجري الأرض وحدهم، وكان بعض هذه العصابات جماعات دينية غرضها الدفاع عن العقيدة الكاثوليكية في حين تصدى بعضها الآخر لمقاومة الضرائب المحلية والعشور خصوصًا، ثم قام فريق ثالث لمقاومة ذلك النظام الاقتصادي الذي جمع الأرض في أيدي الملاك الإنجليز، وحرم الفلاحين الإرلنديين من الاستقرار في الأراضي التي استأجروها وعاشوا عليها واضطروا إلى دفع الإيجارات الفادحة عنها، والتي كانت لا تتناسب مع غلتها وريعها.

وفضلًا عن ذلك؛ فقد تألَّفَتْ في الجهات الشمالية خصوصًا في إقليميْ «داون» Down و«أنتريم» Antrim عصابات من الفلاحين البروتستنت أتباع «الكنيسة المشيخية» تحت اسم أصحاب القلوب الفولاذية Steel boys Steel Heart تشبه عصابات «الصبيان البيض» للنِّضَال ضدَّ كبار الملاك الإنجليز أتباع الكنيسة الإنجليكانية، واستمرت ثورة أو عصيان هؤلاء مدة سنتيْ (١٧٧٢، ١٧٧٣) وقد قُضِيَ عليها بعد مشقَّات كبيرة، واضطر أصحاب القلوب الفولاذية إلى مغادرة البلاد مع زوجاتهم وسائر أفراد عائلاتهم إلى أمريكا، فانضمُّوا هناك إلى أعداء إنجلترة في المستعمرات (الولايات) الثائرة عليها، ويقدر ما فقدته «ألستر» — وهي المنطقة الشرقية في إرلندة والتي تشمل أقاليم «داون وأنتريم وأرماغ» — بين سنتيْ (١٧٦٧–١٧٧٣) بحواليْ ربع الأموال المستغلة في التجارة، وحوالي ربع عدد السكان المشتغلين بالصناعة بها.

على أنَّ هذه الحركات الثورية جميعها كان مبعثها المُطالبة بحقوق اجتماعية لفريق من النَّاس أرهقهم البؤس وأضناهم الضنك والشقاء بسبب الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية الغاشمة السائدة تحت سيطرة الإنجليز، فلم تكن هذه الحركات الثورية بحالٍ من الأحوال «قومية» أو سياسية.

ومع ذلك، فالجدير بالمُلاحظة أنَّ الثورة الاستقلالية الأمريكية سرعان ما أحدثت أثرًا كبيرًا بين الأقلية الإرلندية البروتستنتية وحرَّكتهم إلى المطالبة بالحقوق السياسية، وتلك هي النتيجة الثانية التي أشرنا إليها لهذه الثورة الاستقلالية؛ فقد كان الإرلنديون البروتستنت — ومن هؤلاء التجار والملاك — وعلى الرَّغم من اعتناقهم البروتستنتية، يرزحون بدورهم تحت أثقال القوانين الإنجليزية، وكان البروتستنت من أتباع الكنيسة المشيخية — أي البرسبتيريين — محرومين من الوظائف العامة بسبب «قانون التمييز الطائفي لسنة ١٦٧٣» الذي سبق الحديث عنه، فكان موقفهم يُشْبِه من عدة وجوه موقف أولئك «الأمريكيين» الذين أرادوا الدفاع عن حقوقهم كمواطنين إنجليز ضد الحكومة.

ثم إنهم أنشئوا — وكما فعل الأمريكيون أيضًا — نوعًا من «المليشيا الوطنية» أو الجيش الإقليمي والقوات المُرابطة للدفاع عن جزيرتهم بلغ عدده أربعين ألفًا من المتطوِّعين، ثُمَّ قاموا بحركة واسعة لمقاطعة التجارة الإنجليزية في إرلندة. وبفضل إنشاء المليشيا الوطنية ومقاطعة التجارة الإنجليزية استطاع الإرلنديون إبلاغ احتجاجاتهم المدوية إلى أسماع الحكومة وإرغام الحكومة على التسليم ببعض مطالبهم. ومع ذلك فلم تكن هذه حركة قومية؛ لأنَّ هؤلاء الإرلنديين البروتستنت لم تكن تحدوهم في حركتهم هذه أية رغبة في الانفصال عن إنجلترة، ولقد كان أتباع الكنيسة المشيخية (البروتستنت) دائمًا من أنصار الملكية، كما كان الإرلنديون الكاثوليك أعداء البروتستنت الأمريكيين، وعلى ذلك فقد بات متعذرًا اعتبار الحركات التي قامت في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر في إرلندة «حركات قومية».

وهذه الحركات الثورية التي كان قوامها البروتستنت لم تلبث أن أدركت نجاحًا في ميادين عدة، وذلك حينما تحوَّلت لفترة من الزمن إلى حركة أساسها المطالبة بحُرِّية التجارة والاستقلال التشريعي؛ أي قدرة البرلمان الإرلندي على استصدار القوانين، وذلك إلى جانب العمل للظفر بحُرِّية الفرد وتأييدها، وعلى ذلك اضطر البرلمان الإنجليزي في «وستمنستر» Westminister في سنة ١٧٧٩ أولًا إلى إلغاء القيود التي قَيَّدَت التجارة في إرلندة، والتي حتَّمَتْ على إرلندة الإِتْجار مع إنجلترة وحدها شأنها في ذلك شأن سائر المستعمرات الإنجليزية، فصار في قدرة الإرلنديين بعد إلغاء هذه القيود أن يصدِّروا أصوافهم إلى الأسواق الأوروبية، وثانيًا إلى سحب قانون التمييز الطائفي وإبطال عمله في إرلندة، وهو القانون الذي عَرَفْنَا أنَّه حرَّمَ على غير البروتستنت ملءَ الوظائف العامة.
ثم ظفر الإرلنديون بانتصارات أُخرى، فصار يُطَبَّق في إرلندة منذ ١٧٨١ المبدأ القانوني الذي يمنع حبس الأفراد وتوقيفهم دون تقديمهم للمُحاكمة Habeas Corpus، وترجع أصول هذا المبدأ إلى ما قبل «العهد الأعظم» Magna Carta الصادر سنة ١٢١٥، ثم استصدر به «البرلمان القصير» في عهد أُسْرة ستيوارت قانونًا في مايو سنة ١٦٧٩ وكان الغرض منه دعم حريات الفرد ضد السلطة الاستبدادية.
وأخيرًا ظفر الإرلنديون باستقلال السلطة التشريعية في بلادهم عندما نزلت إنجلترة عن حقها في سَنِّ القوانين لإرلندة، فصار للبرلمان الإرلندي منذ ١٧٨٢ حَقُّ التشريع في حين احتفظ التاج بحق الاعتراض Veto على مشروعات القوانين فحسب، وهكذا استطاع الإرلنديون البروتستنت الحصول من البرلمان الإنجليزي على نوع من الاستقلال الذاتي للبرلمان الإرلندي.
ومع أن هذه الحركة كانت بروتستنتية بحتة؛ فقد أفاد منها الكاثوليك الإرلنديون أيضًا؛ وذلك لأنَّ هنري جراتان Grattan — مُتَزَعِّم هذه الحركة البرلمانية في إرلندة — كان يعمل لجمع كلمة الإرلنديين البروتستنت والكاثوليك على السواء في جهد موحَّد ضد السيطرة الإنجليزية؛ فقد كان يعتبر من العار أن يعمل المرء من أجل أن يظفر بالحرية لعدد لا يتجاوز ستة عشر ألف رجل في حين يكون في استطاعته الظفر بالحرية لحواليْ مليونيْ نسمة، وبفضل هذه الخطة الحكيمة أدرك الكاثوليك بعضَ الخير من هذه الحركة، من ذلك تخفيف صرامة بعض القوانين والعقوبات التي ذكرنا أنها أرهقتهم زمنًا طويلًا. وفي سنة ١٧٧٨ أُلْغِيَ القانون الذي كان يقضي بانتقال الإرث عند وفاة أحد الكاثوليك إلى أي ولد من أبنائه يعتنق البروتستنتية، وفي سنة ١٧٨٢ اعترفت الحكومة بحرِّيَّة العبادة والتعليم.
وإذا كان البرلمان الإرلندي قد أَجَاز تمتع الكاثوليك بكل هذه الحقوق، فالسبب في ذلك ولا ريب هو حدوث ذلك التطور الذي بدأت تظهر آثاره في الرأي العام البروتستنتي في إرلندة ذاتها نتيجة لتلك الصورة التي رسمتها للحالة في إرلندة أقلام «جونثان سويفت» الذي سبق ذكره و«جورج بيركلي» Berkeley الفيلسوف الذي تولَّى فيما بعد أسقفية «كلوين» Cloyne في جنوب إرلندة (وقد تُوُفِّيَ سنة ١٧٥٢)، وسويفت وبيركلي كانا من أصل إرلندي وكان كلاهما بروتستنتيًّا، كتبا بالإنجليزية وتَرَكَتْ كتاباتهما آثارًا لا تُمْحى في الأوساط الإرلندية والإنجليزية على السواء.
أَضِفْ إلى هذا أن الإرلنديين الأحرار من حزب «الويجز» Whigs في البرلمان الإنجليزي قاموا بحملة تشهير ضد المظالم التي أنهكت قوى الشعب الإرلندي. ومع ذلك فالفضل الأكبر في هذا التطور الذي حدث في الرأي العام البروتستنتي في إرلندة خصوصًا إنما يعود إلى «إدموند بيرك» الذي مَرَّ بنا ذكره، والذي دخل البرلمان الإنجليزي في سنة ١٧٦٥، ثم إلى هنري جراتان الإرلندي الذي ترأَّس حركة الاحتجاج ضد إنجلترة؛ فقد أدرك «بيرك» و«جراتان» أن إرلندة البروتستنتية لن تحرر بتاتًا إذا بقيت إرلندة الكاثوليكية ترسُف في أغلالها، وأنه طالما كانت إرلندة راسفة في أغلالها فسوف تبقى دائمًا مسرحًا للثورة؛ ولذلك فمن صالح الإنجليز والإرلنديين البروتستنت معًا إزالة تلك القيود التي صُفِّدَتْ بها إرلندة وتخفيف وطأة النظام الغاشم الذي فرضته السيطرة الإنجليزية عليها.

وهكذا نَسْتَبِين من دراسة تاريخ إرلندة في آخر القرن الثامن عشر أن العناصر التي تتألف منها «القومية» قد وُجِدت مجتمعة في إرلندة، ولو أنَّ هذه القومية كانت لا تزال مُفتقرة إلى الشعور بذاتيتها وإلى ضرورة العمل من أجل إبراز وجودها بصورة قاطعة؛ وذلك لأنَّ الحقوق التي حصل الإرلنديون عليها لم تكن كافية لأنْ يتحرَّر هؤلاء بفضلها من ذلك البؤس والشقاء الذي نَزَلَ بساحتهم وظلوا يقاسون من آثاره، بل إن هذا البؤس والضنك بَقِيَ على شدته وقسوته حتى إنهم كانوا بحالة يَعْجِزون فيها عن القيام بأي عمل إيجابي لطرده عنهم.

وفي آخر القرن الثامن عشر كان الإرلنديون قد نسوا تمامًا كل ما تمتَّعت به أمتهم من أمجاد غابرة أو حاضرة زاهرة نشرت ألويتها في إرلندة قبل الغزو أو الفتح الأنجلوسكسوني لبلادهم، فلم يكن يقضُّ مضاجعهم سوى شعور الألم بسبب الفوارق التي فصلت بينهم وبين الإنجليز الذين نكَّلوا بهم وأخضعوهم لسيطرتهم الباطشة. وغنيٌّ عن البيان أن الشعور بالألم وحسب لا يُمكن اعتباره شعورًا بالقومية.

الخلاصة

تلك إذن كانت الأمم التي تمتَّعت بوجود وكيان ذاتي في آخر القرن الثامن عشر، ولكن دون أن يشعر أهلها شعورًا قوميًّا بهذه الذاتية حتى يمكن أن ترتفع بفضل ذلك إلى مصافِّ الدول القومية التي عرفها القرن التاسع عشر. والذي يُسْتَخْلَصُ من تاريخ هذه الأمم الأربع: أولًا أن كل واحدة منها — بولندة، المجر (هنغاريا)، اليونان، إرلندة — كانت ذات شخصية أو ذاتية تاريخية. وتشترك جميعها في وجود هدف تاريخي واحد يربط بين كل شعب من شعوبها، ولو أن هذه كانت شعوبًا يختلف أحدها عن الآخر فقد ظلَّ سواد الشعب في كلٍّ من بولندة والمجر (هنغاريا) بعيدًا كلَّ البعد عن حياة «الدولة» — والحكومة — ونشاطها، ولا أثر له في تاريخ الأمة. فصارت تمرُّ الحوادث وتقع الوقائع دون أن يَأْبَهَ لها سواد الشعب ودون أن يُسْهِمَ فيها بشيء، حتى إنه لو صَحَّ التسليم بوجود أي شعور في بولندة والمجر، فذلك ملحوظ فقط في جماعات قليلة من أهل الطبقة العليا، ولم يَنْفُذْ هذا الشعور بتاتًا إلى سواد الشعب نفسه.

وأمَّا الحال فقد كان على العكس من ذلك في اليونان وإرلندة، ففي كلٍّ منهما كان سواد الشعب نفسه هو الذي تتمثَّل فيه الحياة الجماعية المستمَدَّة من تطورات التاريخ نفسه ومن حوادثه، فانتفى في كلٍّ منهما وجود طبقة أرستقراطية ذات امتيازات مُعينة، بل كان سواد الشعب نفسه مبعث كلِّ عناصر القوى التي وجدت بهما، والتي اعتمد عليها الشعور القومي فيما بعدُ عند ظهوره.

وعلى ذلك، فقد ارتدَّت يقظة الشعور القومي في أسبابها إلى دوافع عاطفية كانت تختلف في كل مجموعة من هاتين المجموعتين؛ أي بولندة والمجر في جانب، واليونان وإرلندة في جانب آخر.

ومما تجدُر مُلاحظته أنَّه مع تعذُّر ظهور الشعور القومي بصورة واضحة، أو بمعنًى آخر مع عجز هذه الأُمم عن إدراك أن لها ذاتية مستقلة وخاصة بها، فقد كانت من ناحية أُخرى تخضع لسيطرة العاطفة القومية التي أرغمتها على إدراك ما كان يوجد من فوارق تفصل بينها وبين الدول التي فرضت عليها سيطرتها وأخضعتها لسلطانها كجزء لا يتجزَّأ منها. مثال ذلك: العاطفة الدينية القومية في اليونان؛ حيث قاوم أهلها الأرثوذكس سلطان الحكومة الإسلامية العثمانية، والعاطفة الدينية الكاثوليكية في إرلندة، حيث قاوم الإرلنديون الكاثوليك سلطان الحكومة البروتستنتية الإنجليكانية، وفي إرلندة — كما شاهدنا — تضافر مع العاطفة الدينية الشعور بالألم العميق نتيجة لما نزل بالشعب من كوارث ونكبات ليجعل أهل هذه الجزيرة يُدركون أنَّ هناك فوارقَ عميقة تفصل بين جزيرتهم وبين إنجلترة.

وأمَّا في المجر (هنغاريا) فقد لعبت اللغة ولعب اعتزاز الهنغاريين بتقاليدهم السياسية هذا الدور نفسه. وفي بولندة كانت العاطفة الانتقامية هي المتغلِّبة حيثُ أصرَّ البولنديون على النِّضال ضد أولئك الغرباء الذين اجتاحوا بلادهم واقتسموها فيما بينهم غنيمةً باردةً.

أضفْ إلى هذا كله عاطفة الاعتزاز بالجنس: ففي إرلندة الشعب كلتي، وفي هنغاريا مجياري، وفي اليونان يوناني لاتيني، وفي بولندة سلافي. يقابل ذلك الجنس التوتوني في إنجلترة والنمسا، والأورالي الطائي في تركيا (آسيا الصغرى).

ولذلك فقد اختصت هذه الأمم التي لم ينضج شعورها بقوميتها بعدُ بوجود عنصرين مُتَّحدين أحدهما إنساني وتاريخي والآخر طبيعي ووراثي، وهذان العنصران هما اللذان سوف يتألَّف من اجتماعهما دائمًا تلك الأسس التي قامت عليها الحركات القومية في القرن التاسع عشر.

تلك إذن كانت الأصول النظرية أو المثالية «الفلسفية» ثم التاريخية الواقعية «المادية» التي تستند عليها الحركة القومية، والتي بتناولها أمكن تصوير ما كانت عليه أوروبا كذلك سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا في آخر القرن الثامن عشر. وقد اتَّضَحَ من هذه الدراسة أنَّ الشعور القومي كان قد بدأ يستيقظ في إبهام عبَّرَتْ عنه العاطفة ذات النوازع المختلفة، إمَّا على يد طبقة أرستقراطية (إقطاعية) وإما بجهد طبقة بورجوازية (متوسطة) ناشئة ولا تزال ضعيفة في ظل الإقطاع القديم.

وهذا الشعور القومي المستيقظ لم يلبث أن اكتمل نضجه في السنوات التالية مباشرةً بسبب قيام الثورة الفرنسية وإنشاء الإمبراطورية النابليونية لتنتقل الفكرة التي انطوى عليها هذا الشعور إلى «مبدأ»؛ أي إلى قوة تؤثِّر في مجرى الحوادث لإخراج هذه الفكرة إلى عالم الوجود السياسي في القرن التاسع عشر. ولقد اقترن وصول الشعور القومي إلى مرتبة النضج هذه باكتمال نمو الطبقة البورجوازية (المتوسطة) كقوة تَبْرُزُ إلى الميدان لتدخل في صراع مرير مع الإقطاع لتحاول بالقضاء عليه الظفر بالحقوق المدنية والسياسية التي تكفل لها السيطرة «القانونية» والفعلية في المجتمع الجديد.

ولقد كان لقيام الثورة الفرنسية وبناء عروش الإمبراطورية النابليونية أكبر الأثر في أن تفوز البورجوازية بالسلطة في فرنسا ثم في أنحاء أوروبا تدريجيًّا لتدخل بعد انقضاء عهد الثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون في صراع جديد مع بقايا الإقطاع بعد أن تحطَّم النظام القديم «عمليًّا» في أكثر بُلدان أوروبا وصارت تبذل العناصر الرجعية كلَّ ما وسعها من جهد وحيلة لترميم بنائه، ولكن في النهاية، من غير طائل.

١  وهي جزر «ناكسوس» Naxos، «أندروس» Andros، «باروس» Paros، «سانتوريون» Santorion، «ميلوس» Melos، «سيرا» Syra.
٢  Les Chants Populaires de la Grèce Moderne.
٣  The Declaration of 1660.
٤  England’s difficulty, Ireland’s opportunity.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤