الفصل الثاني

الفلاسفة والآراء الجديدة

على أنَّ تأثُّر الثورة بالآراء الجديدة التي أتى بها الفلاسفة حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، حتى إن التأريخ للثورة إنما يبدأ في الوقت الذي برزت فيه هذه الآراء الجديدة، وشرع المجتمع الفرنسي يتأثَّر بها. وقد اختلفت قوة هذا التأثر باختلاف الظروف والحوادث التي أحاطت بهذه الآراء نفسها، ثم إنَّ هذه الظروف والحوادث كانت كذلك بمثابة النبع الذي استقى منه «الفلاسفة» هذه الآراء الجديدة التي أتوا بها.

فكان لذلك إذن أنِ اهتَمَّ المؤرخون بتعيين بداية للثورة يفرِّعون عنها ما وقع من أحداث ويرتِّبون عليها ما ظهر من نتائج. وبفضل البحث عن هذه البداية أمكن معرفة أسباب الثورة، فوجدت هذه منقسمة إلى قسمين؛ أحدهما يرتد في أصوله إلى منبت الفكرة الثورية ذاتها، والآخر يرتبط بالحوادث التي سبقت الثورة مباشرةً وساعدت الفكرة الثورية على الخروج من دائرة التفكير العقلي إلى حيِّز الوجود الفعلي.

فكان من الحوادث التي حاولوا بها تعيين بداية الثورة: صلح إكس لا شابل Aix La Chapelle سنة ١٧٤٨، الذي اختُتمت به حرب الوراثة النمساوية، ومُحاولة «مَشُو دارنوفيل» Machault d’Arnoville — مراقب المالية العام في فرنسا — في العام التالي إصلاحَ المالية بعد أن استنفدت الحرب موارد فرنسا، وذلك بفرض ضريبة على الدخل ( ) تدفعها الطبقات الممتازة (الأشراف ورجال الدين) إلى جانب سائر أفراد الشعب. ولقد قاوم الأشراف والإكليروس هذا الإصلاح.

وكان في سنة ١٧٤٨ أن ظَهَرَ كتاب «مونتسكيو» المسمى روح التشريع، كما بدأت تقوى من ذلك الحين «مدرسة التفكير الحر» التي كان قوامها رجال من طراز فولتير نشطوا لمُهاجمة الكنيسة لمساوئها وإظهار مفاسد رجال الدين في حملة كبيرة من السخرية والازدراء والتهكُّم اللاذع.

وفي سنة ١٧٥١ نَشَرَ الفلاسفة أو «الإنسيكلوبيديون» أوَّل أجزاء موسوعتهم التي بلغت بين عاميْ ١٧٥١–١٧٦٥ سبعة عشر جزءًا. وفي ١٧٦٤ نشر «روسو» كتابه «العقد الاجتماعي» Le Contrat Social، كما نشر «رينال» Raynal — من الإنسيكلوبيديين — مؤلفه المشهور في عام ١٧٧٠ عن «التاريخ الفلسفي والسياسي لمراكز التجارة التي أسسها الأوربيون في الهندين الشرقية والغربية». وكانت على الخصوص الفترة بين عاميْ ١٧٦٠–١٧٦٥ فيما يتعلق بسمعة الملكية السياسية نقطةَ تحوُّلٍ هامة، حيث فقدت ملكية البربون قدرًا كبيرًا من سُمعتها السياسية بسبب مُعاهدة باريس المُبْرمة في فبراير ١٧٦٣، وهي المُعَاهدة التي اختتمت بها حرب السبع سنوات (١٧٥٦–١٧٦٣)، وفقدت فرنسا بسببها أكثر مستعمراتها في أمريكا الشمالية وفي جزر الهند الغربية والسنغال الأفريقي، ومنعت من الاحتفاظ بقوات مسلحة في البنغال وإنشاء أية تحصينات بها.

وصفوة القول: أنَّ فرنسا شهدت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تبلوُر الآراء والمبادئ الجديدة التي تألفت منها «الحركة التعقلية» خصوصًا، والتي نجم عنها انهيار المُثل السائدة وانتشار الفوضى الذهنية التي هدمت «النظام القديم» وأوجدت «الثورة».

فيما يلي عرض سريع لهذه الآراء الجديدة.

(١) مونتسكيو Montesquieu (١٦٨٩–١٧٥٥)

أثار مونتسكيو في كتابه «روح التشريع» مسألة فصل السلطات الثلاث (التنفيذية، والقضائية، والتشريعية)، ضمانًا للعدالة وصونًا للحرية (الحرية المدنية) أو التحرر من الرق والعبودية، سواء كان الرِّق مدنيًّا أو سياسيًّا، ثم «الحرية السياسية». ولم يكن معنى الحرية السياسية أن يفعل الإنسان ما يريد وكما تشاء إرادته المطلقة، بل معناها شعور المرء بالاطمئنان إلى أن في وسعه «أن يفعل»؛ الأمر الذي لا يتأتَّى إلا في ظل حكومة تقوم على القانون. أي إنَّ الحُرية السياسية هي شعور الاطمئنان إلى القدرة على فعل شيء — أي شيء — يُجيزه القانون. ثم إنه لمَّا كان ضروريًّا صون هذه الحرية السياسية وحمايتها من النَّزَوات البشرية والسلطة المستبدَّة، فقد صار ضروريًّا أن يخضع المرء للقانون وحده، وليس لسلطان إنسان آخر عليه؛ الأمر الذي لا يتحقَّق إلا بتوزيع السلطات الثلاث (التنفيذية، والقضائية، والتشريعية) ووجود ضوابط بينها تجعل مستحيلًا إساءةَ استخدام هذه السلطات، أو تمكين إحداها من العدوان على الأخرى. والطريق إلى ذلك إنما يكون بفصل هذه السلطات الثلاث بعضها عن بعض، وكان لهذه النظرية أثر ظاهر في تطوُّر الفكر السياسي في عهد الثورة، وفي بداية القرن التاسع عشر على وجه الخصوص.

(٢) فولتير Voltaire (١٦٩٤–١٧٧٨)

لم تكن لفولتير آراء سياسية تمتاز بأنها أصيلة أو جديدة، ولكن ميزته الكبرى كانت تفوقه في فنون النقد. ونَقَدَ فولتير كتاب مونتسكيو «روح التشريع» فكان مما عابه على صاحبه عدم تعمُّقه في الاستقصاء التاريخي عن أصول القوانين التي ذكرها لدعم نظرياته، ثم عدم رسمه في دقة ووضوح الحدود الفاصلة بين الملكية والاستبدادية؛ «لأنَّ الملكية والاستبدادية (الطغيان) — على حد قول فولتير — أخوان يُشبه أحدهما الآخر شبهًا عظيمًا لدرجة العجز عن التفريق بينهما في أكثر الأحايين. ومن الواجب أن نعترف بأنَّ الملكية والاستبدادية كان مَثَلُهُما في كل الأزمنة كمثل هِرَّتين كبيرتين تحاول الفئران تعليق الجرس في عنقيهما.»

ونَقَدَ فولتير نقدًا مرًّا ما ذهب إليه مونتسكيو من حيث موافقته على شراء وبيع الوظائف القضائية، بدعوى نفع ذلك للدولة ذات النظام الملكي، والتي قد يرفض بعض الناس فيها القيام بأعباء وظائف معينة تمسكًا منهم بالفضيلة، فتصبح هذه الوظائف حرفة أو مهنة تُزاولها الأُسر التي يدرج أبناؤها على ابتياعها، فندَّد فولتير بإجراء يجعل تنفيذ العدالة (وتلك وظيفة مقدسة) مهنة أو حرفة تُزاولها أسرة معينة.

وفي كتيِّب بعنوان «آراء جمهورية»١ ظهر سنة ١٧٦٥ عرض فولتير بعض الآراء القوية والجريئة، من ذلك قوله: إنَّ الحكومة الاستبدادية السافرة، هي عقاب حل بالناس اقتصاصًا منهم لسوء سلوكهم، فإذا خضع مجتمع من المجتمعات لسيطرة فرد واحد عليه أو عدد من الأفراد، فلا سبب لذلك إلا افتقار هذا المجتمع للشجاعة والمهارة أو القدرة على حكم نفسه بنفسه. وعرَّف فولتير الحكومة المدنية بأنها «إرادة الكل يقوم بتنفيذها شخص واحد أو جملة أشخاص تبعًا لقوانين يَدِين الجميع بالخضوع لها.» وذلك تعريف قَبِلَه كذلك جان جاك روسو.

ولقد أُعْجِبَ فولتير بحكومة إنجلترة إعجاب «مونتسكيو» بها؛ لأنَّ دستورًا — كما قال — «ينظِّم حقوق الملك والأشراف والشعب، ويكفل لكل فريق من هؤلاء أَمْنَه وسلامته، مِنْ شأنه البقاء والدوام بقدر ما في طبيعة الأشياء التي هي من صنع البشر، من قدرة على البقاء والدوام.» ثم لاعتقاده أيضًا «بأنَّ كل الدول التي تقوم على مبادئ مثل هذه لا تتعرَّض لحدوث أي ثورات بها.»

وفي رسالته عن العادات٢ التي نُشِرَتْ في عام ١٧٦٥ عرض «فولتير» بعضَ الآراء السياسية التي شرحت «المذهب الحر المستنير». فلاحظ عن الطبقة الثالثة (العامَّة) أنَّها الأساس الذي يرتكز عليه تكوين الأمة، ونفى وجود أيِّ مصلحة خاصة أو شخصية لدى هذه الطبقة. وقال عن الحرية Liberté: إنَّ حب الناس لها طبيعي لدرجة أن جميع من ظفروا بها يرضون عن الآراء الجمهورية.
وفي ضوء المذهب الحر عرَّف فولتير الملكية بأنها: «الحكومة السعيدة إذا كانت من طراز حكومة لويس الثاني عشر، وبأنها أسوأ الحكومات إذا هيمن على حكومتها ملك خاسر ضعيف.» وأشاد «فولتير» بذكر المساواة Egalité فقال: «لا تُوجد بلدان تستحقُّ السكنى بها كالبلدان التي يخضع أهلها للقانون متساوين وفي كل الظروف»، ثم فسر معنى المساواة الحقيقي فقال: «أولئك الذين يقولون بأنَّ الأفراد جميعهم متساوون، إنما يُقرِّرون الحقيقة، إذا قصدوا بذلك أنَّ الأفراد جميعهم متمتعون على قدم المساواة بحقهم في الحرية، وفي الملك، وفي حماية القانون لهم. ولكنهم يخطئون إذا توهَّموا أنَّ الأفراد يجب أن يكونوا متساوِين من حيث استخدامهم (أي ما يقومون به من أعمال) لأنَّ الأفراد لا يتساوون مُطلقًا في كفاءتهم ومواهبهم.»
ووظيفة الحكومة — في رأي فولتير — هي أن تقوم على تنفيذ ما يصدر من رغبات تبديها الإرادة العامَّة Volonte Generale وبشريطة أن يكون هذا وفق القوانين التي يُقرها الجميع أو يأتي استصدارها بموافقتهم. ووصف فولتير الحكومة المُستبدة — كما تقدم القول — بأنَّها العقوبة التي تنزل بالناس جزاءً لهم على سوء سلوكهم، والدليل على أنَّ المجتمع فقد القدرة والمهارة الكافيتين لاستلام زمام الحكم، وحكم نفسه بنفسه.

ولقد انطوت هذه الأقوال وأمثالها على رغبة في استحثاث الناس على إظهار الشجاعة والمهارة اللازمتين للتحرر من الاستبداد، وللقدرة على حكم أنفسهم بأنفسهم؛ أي الدعوة لتحقيق ذلك المبدأ العام الذي تدعو الضرورة لتطبيقه على وجه الخصوص إذا أخلَّت الحكومة بوظائفها وصارت لا تحترم «الإرادة العامة».

ولقد كان إعجاب فولتير بنظام الحكم في إنجلترة، وما وصل إليه نتيجة دراسته لنظام الحكم الدستوري في إنجلترة، من أنَّ الدول التي حكوماتها مستبدة تكون مُعَرَّضة دائمًا لحدوث الثورات بها، ينطوي كذلك على دعوة صريحة للحد من سُلطان الحكومة المُطلق في عصره، وتقرير حرية الفرد، وذلك كله في ضوء نظرية «الإرادة العامة».

(٣) أصحاب الموسوعة

نذكر من الإنسيكلوبيديين: ديدورو، ودالمبير D’Alembert، وهلفيتيوس Hélvétius، ودولباخ D’Holbach.

وقد أضيفت إلى «موسوعتهم» التي نشرت بين ١٧٥١–١٧٦٥ أصلًا في سبعة عشر جزءًا، أربعة أجزاء طبعت بعد ذلك بين عاميْ ١٧٧٦-١٧٧٧.

وهؤلاء «الإنسيكلوبيديون» أرادوا أن يحتل العقل مكانَ الضمير في تفسير سلوك الإنسان وفي السيطرة على مسلكه كذلك. واعتقدوا أنَّ جميع فعال الإنسان تهدف لتحقيق سعادته، وقد تصطبغ بالخير أو بالشر تبعًا لاتِّفاقها مع الهدف الذي ترمي إلى تحقيقه؛ أي سعادة الإنسان الشخصية. وكانت العودة إلى الطبيعة في عرف الإنسيكلوبيديين أن ينبذ الإنسان ظهريًّا كل القيود الأخلاقية. بحث هؤلاء موضوعات هامة مثل الأرستقراطية والسلطة Autorité، والديمقراطية، والقانون، والحكومة، والرق، والملكية، والسياسة، والسيادة العليا Souveraineté، وغير ذلك. وكانت أكثر بحوثهم مقتبَسة من مؤلف «مونتسكيو» السالف الذكر «روح التشريع»، وتشيع فيها روح لا تتقيَّد بغير القيود التي فرضتها الأحوال القائمة في المجتمع وقتذاك.
وكان عندما تحدث الإنسيكلوبيديون عن «السلطة» أن عمدوا إلى مهاجمة مبدأ حق الملوك الإلهي، وقالوا في تبرير مُهاجمة هذا المبدأ الذي استندت عليه الملكيات المُطْلقة في فرنسا وفي سائر أوروبا في ذلك العصر: «إنهم لا يُريدون التشكيك في أنَّ سُلطان الأمراء الشرعي مستمَد من عند الله، ولكنهم يُريدون أن يميِّزوا بين هذه السلطة الشرعية، وبين تلك التي اغتصبها المغتصبون وصاروا يمارسونها قوةً واقتدارًا فحسب. ولا شك في أنَّ السلطة الأولى الشرعية حقٌّ إلهيٌّ؛ أي مُستمدة من الإله نفسه، بدليل مُوافقة الشعب عليها. وهذه الموافقة الشعبية حتمية ولا سبيل إلى نبذها، وهي التي مكَّنت «هيو كابيه» Hughes Capet من الوصول إلى عرش فرنسا (٩٨٧م)، وهي التي وضعت التاج على هامته، وضمنت استمرار الحكم في أسرته وذريته.» وواضحٌ أنَّ هذا القول ينطوي على تقرير مبدأ «سلطة الأمة».

وفيما يلي سوف نعرض آراء طائفة من هؤلاء الإنسيكلوبيديين ومُعاصريهم، خصوصًا جان جاك روسو — صاحب «العقد الاجتماعي» — أي صاحب تلك الفلسفة التي سيطرت فعلًا على كل ما وقع من أحداث مُثيرة اختُتِم بها القرن الثامن عشر. وكانت هذه في أسلوبها ومداها من طراز غير الذي أتى به «مونتسكيو» في كتابه «روح التشريع».

روسو Rousseau (١٧١٢–١٧٧٨)

حاول روسو إقامة الدليل على أنَّ «العقد الاجتماعي» حدث نتيجةَ تطوُّر نقل الإنسان من «نظام طبيعي» Etat Naturel إلى «نظام اجتماعي» Etat Social، نظامٌ طبيعيٌّ تغلَّبت فيه رغبات الفرد الذاتية؛ أي إشباع أهوائه وتحقيق مطالبه على ما عداها، ورغبات الفرد إزاء رغبات إخوانه في المجتمع؛ أي إنه النظام الذي تتغلَّب فيه إرادة المرء ورغباته مستقلةً عن إرادة ورغبات سائر إخوانه. و«نظام اجتماعي» تنازل فيه الفرد عن رغباته وإرادته إلى «المجتمع» الذي هو مقر وموئل الرغبة والإرادة العامة التي تتألَّف بدورها من مجموع رغبات وإرادات الأفراد، والنظام الاجتماعي يمتاز بتغليب الرَّغبة والإرادة العامة على رغبات الفرد الذاتية إزاء أو نحو إخوانه في المجتمع.

ولقد بنى «روسو» العقد الاجتماعي على أساس تنازل كل فرد في المجتمع عن جميع ما لديه من رغبات وله من حقوق إلى «المجتمع» نفسه وليس إلى هيئة معينة. وحيث إنَّ هذا التنازل قد حدث للمجتمع عامةً وليس لفرد أو لهيئة مُعينة، فالتنازل — تنازل الفرد عن رغباته وحقوقه — لم يحدث لأي إنسان. ثم إنَّ الفرد لا يزال إلى جانب هذا مُتمتعًا بكامل حريته؛ لأنَّه دخل في نظام العقد الذي أوجب عليه هذا التنازل بمحض اختياره؛ ولذلك فالعقد الاجتماعي يكفل من هذه الناحية تحقيق الحالة الطبيعية الأولى التي لم تَعرِف العبودية، ولم يَعرِف الناس فيها سادةً وعبيدًا. بل صارت العبودية بعد «التعاقد الاجتماعي» هي الخروج على نظام هذا العقد نفسه.

ونشأت عن نزول كل فرد عن رغباته وإرادته الخاصة، رغبة أو إرادة عامة Volonté Générale هي التي يتمتع بها «المجتمع» وحده. وفرَّق «روسو» بين هذه الإرادة العامة وبين ما سماه «إرادة الكل» Volonté de Tous؛ فالأخيرة في رأيه هي نزول جماعة من الجماعات عن رغباتهم ومصالحهم الخاصة إلى «هيئة معينة» تقوم من بينهم لوضع هذه الرغبة موضع التنفيذ. ومع أنَّ هذه — أي رغبة أو إرادة الكل — قد حدثت فعلًا بطريق الإجماع، إلا أنها تنشد صالحًا مُعينًا على خلاف «الإرادة العامة» التي تنشد دائمًا الصالح العام. ولذلك فهناك تعارض بين الإرادتين، وقد ترتب على نزول الأفراد عن رغباتهم وإراداتهم الخاصة إلى المجتمع أن أصبح هذا المجتمع نفسه الطرف الثاني في العقد الاجتماعي، بينما بقي الأفراد أنفسهم الطرف الأول في هذا العقد، كما أنَّ المجتمع صار هو وحده صاحب القوة والسلطان المطلق، ومقر السيادة العليا Souverainété؛ أي تلك القوة والسلطة العامة التي هي قوة وسلطة Pouvoir الإرادة العامة.
ونشأ من وجود هذا العقد الاجتماعي: قيام «الجماعة السياسية» وتكوين الجثمان السياسي الذي هو دعامة الدولة Etat، والذي تستند عليه الدولة في تكوينها.

ثم إن «السيادة العليا» أو القوة والسلطة صاحبة السيادة لا يمكن تخطئتها أو النزول عنها أو تجزئتها، وهي التي وحدها لها أن تعين الحكام الذي هم أداة لها، ويقومون فقط بتنفيذ القوانين، ولا حقَّ لهم في وضعها. وهم الذين ليسوا سوى ضباط أو عُمَّال مكلفين من قبل القوة والسلطة صاحبة السيادة العُليا بتنفيذ القوانين فحسب: سواء كان هؤلاء الضباط أو العمال ملوكًا أو شيوخًا أو غير ذلك. وللقوة والسلطة صاحبة السيادة العليا أن تَعزِلهم من مناصبهم متى شاءت، ولها أن تغيِّر الحكومة في أي وقتٍ تراه؛ وذلك لأنَّه مهما تعددت أنواع وأشكال الحكومة فهي ترتدُّ جميعها إلى أصل ديمقراطي حيث إن تأسيسها جميعها مَنُوط دائمًا برغبة الشعب وإرادته العامة. ولمَّا كانت الإرادة العامة هي القوة العامة، فللشعب أن يغيِّر حكومته متى شاء؛ لأنَّ كلمة الشعب في هذه الحالة إنما تعبِّر عن رغبته وإرادته العامة.

وواضح أنَّ ذيوع هذه الآراء يهدم كلَّ الحقوق التي استندت عليها الملكية كحق الفتح أو الحق الإلهي المقدس. وهذه الآراء التي انطوت عليها نظرية العقد الاجتماعي تهدم كلَّ أساس تقوم عليه الملكية المُطْلقة والاستبدادية وحكومة الطُّغاة خصوصًا، فقد صار من حق الشعب إجراء كل تغيير يريده في حكومته وإقصاؤها عن الحكم إذا وجد أنَّ هذه الحكومة قد خرجت على إرادة الشعب العامَّة التي تستهدف الصالح العام دائمًا، وأنَّها قد أخلَّت بذلك العقد المُبرم أصلًا بينها وبين الشعب صاحب السيادة العليا في الدولة.

دولباخ D’Holbach (١٧٢٣–١٨٧٩)

وقد تناول آخرون غير «روسو» نظرية العقد الاجتماعي هذه: من هؤلاء البارون دولباخ الذي نشر في عام ١٧٧٣ كتابه «النظام الاجتماعي» Système Social. وهو كتاب تحدَّث فيه عن نظرية العقد الاجتماعي على غرار ما فعل «روسو»، وحدَّد العلاقة بين الحكومة والمجتمع، فقال في الحكومة إنها «مظهر القوى التي وضعها المجتمع بين أيدي أولئك الذين اعتبرهم صالحين لقيادته وإرشاده إلى ما فيه سعادته.» وقال «دولباخ»: إن هناك عقدًا بين الشعوب وقادتها أو رؤسائها على أساس أن يتعهَّد هؤلاء القادة أو الرؤساء بحكم الشعب حكمًا طيبًا، فإذا لم يَفْعَلوا تحرَّر الشعب من ارتباطه ومما تعهَّد به، وصار باطلًا وملغى وكأنْ لم يكن، وبمقتضى نظرية العقد هذه صارت القوانين لا تعدو كونها التعبير الذي تفصح به الإرادة العامة عن رغباتها ومطالبها، فالمُجتمع يُعبر عن إرادته باستصدار القوانين، فإذا رفض مواطن أن يُذعِن لهذه القوانين (التي هي مظهر للإرادة العامة) أنهى بذلك ارتباطاته وخرج على ما تعهَّد به، وحق للمجتمع حينئذٍ أن يُنزِل العقوبة به.

وهاجم «دولباخ» حكومات الطغاة الذين استبدوا بالشعب وبطشوا به، وندَّد خصوصًا بحكومة لويس الرابع عشر، تارة بالتمليح والإشارة، وتارة بصريح العبارة، فقال: «لقد أصبحت السياسة في كثير من الأقطار مجرد مؤامرة محبوكة الأطراف، موجهة ضد الشعوب. فالملك أو صاحب السلطان في جميع أنحاء العالم تقريبًا هو كل شيء. أمَّا الأمة فقد ظلت لا تَعني شيئًا بتاتًا.»

ومن أقواله ضد «لويس الخامس عشر»: «يندر جدًّا أن يعثر الإنسان على ملك يكلِّف نفسه مشقة القيام بأعباء وظائفه في الدولة، والسبب في ذلك أن التربية والتعليم اللذين ينالهما سادة الأرض هؤلاء يجعلانهم أكثر صلاحية لأن يكونوا هم أنفسهم عبيدًا من أن يتزودوا بما يؤهلهم لحكم غيرهم. فهم أدوات في أيدي وزرائهم ورجال بطانتهم ومحظياتهم، يحركها كل هؤلاء حسب أهوائهم ورغباتهم.»

ولم يَكْتَفِ «دولباخ» بمهاجمة الملكية، فحَمَلَ حملةً عنيفة على رجال الدين كذلك، وهم الذين في نظره قد اتحدوا مع الطغاة يستجدون منهم العطايا، وكي ينالوا منهم إعفاءهم من الواجبات التي كان عليهم قانونًا وعدلًا أن يؤدوها للمجتمع والأمة، وهذا فضلًا عن تسخير رجال الدين للمجتمع في خدمة أغراضهم ومآربهم. أي إن «دولباخ» حَمَلَ بعنف وقسوة على دعامتين أساسيتين من دعائم الدولة في «النظام القديم»: الملكية والكنيسة.

آبيه دي مابلي Mably٣ (١٧٠٩–١٧٨٥)

وكان جبرائيل دي مابلي L’Abbé Gabriel de Mably ممن اعتبروا الملكية الفردية، وخصوصًا ملكية الأرض أساس كل المساوئ الاجتماعية والسياسية التي يشكو منها المُجتمع، ومصدر كل الشرور التي حلت به والتي أوجبت على أفراده البحث عن الوسائل اللازمة لإصلاح شئون هذا المجتمع، ثم أدى بهم البحث عن هذه الوسائل إلى اقتراح أنظمة شيوعية واشتراكية لتحقيق هذه الغاية. ولقد تأثَّر مابلي بكتابات «روسو» تأثُّرًا عميقًا، ولكنَّ المصدر الذي استقى منه آراءه ونظرية الشيوعية خصوصًا التي أتى بها، كان كتاب أفلاطون عن «الجمهورية» ثم كتابه الآخر عن «القوانين»، وليس مؤلفات «روسو». فلا ذكر في كتابات «مابلي» لنظريات «روسو» المعروفة عن العقد الاجتماعي، أو الإدارة العامة، أو غير ذلك.

وكان عن طريق «مابلي» وما بسطه من آراء ونظريات، أن صار لأفلاطون تأثيرٌ مُباشرة على الثورة الفرنسية ذاتها، والسبب في هذا أن نادي اليعاقبة كان يتَّخِذ كتابات «مابلي» مصدرًا أو مرجعًا أساسيًّا يعتمد عليه في دعم آرائه وتأييد نشاطه، وبخاصةٍ عندما كانت عقيدة اليعاقبة الهامة بإلزام الدولة إنشاء نوع من الحكم تسود فيه «الفضيلة»، ولأن آراء اليعاقبة الاشتراكية قامت على اعتبار الملكية الفردية أساس الشرور التي يعاني منها المجتمع.

وتتلخَّص نظرية «مابلي» في أنَّه — كما فعل روسو — اعتبر عدم المساواة في حقوق التملُّك منشأَ كل المساوئ الاجتماعية والسياسية ومصدرها. واعتقد — كما اعتقد أفلاطون — أنَّ من الممكن إزالة هذه المساوئ عن طريق التشريع الحكيم. كما كان التشريع غير الحكيم — في نظره — هو سبب هذه المساوئ ذاتها التي ناء بها الشعب. ويتعارض عدم المساواة في التملك تعارضًا تامًّا مع أصول الطبيعة التي لم تخلق فقراء وأغنياء. ثم إنَّه لا يجوز الاعتماد على وجود تفاوت في المواهب لتسويغ عدم المساواة في التملك؛ لأنَّ التفاوت في المواهب في حد ذاته نتيجة لعدم المساواة في الفرص، أو الحظوظ، أو الثراء الناجم من عدم المساواة في التملك.

ولا يجوز الاعتماد على وجود تفاوت في القوى؛ لأنَّ الفرد مهما كان قويًّا جثمانيًّا فهو عاجز عن المقاومة إذا اتَّحَد عدد من الأفراد ضده. وفي ضوء هذه الاعتبارات إذن دعا «مابلي» إلى شيوعية الملك على أساس أن تُصبِح الدولة وحدها هي الممتلكة فعلًا لكل شيء؛ فتقوم بتوزيع ما تملكه على الأفراد، كل فرد بقدر حاجته ودون نظر إلى مواهبه أو كفاءته أو طاقته.

مورللي Morelly

ولم يكن «مابلي» وحده هو الذي دعا إلى هذا المذهب الشيوعي في عصره، بل سبقه في ذلك فرنسي آخر يدعى «مورللي» نشر كتابًا عن «قانون الطبيعة»٤ في سنة ١٧٥٥، كما نَظَمَ مقطوعة مطولة قبل ذلك بعامين ترسم «عالمًا شيوعيًّا»، ولقد تضمَّنت كتاباته الدعوة لهذه المذاهب الاشتراكية والشيوعية الحديثة التي ابتدع لتنفيذها نظامًا متقنًا استمدَّ منه المصلحون الاشتراكيون فيما بعدُ في فرنسا خططهم وبرامجهم.

ولكن «مورللي» كان خامل الذكر، وظل تاريخ مولده ووفاته مجهولًا، وساد الاعتقاد في عصره أنه لم يكن صاحب كتاب «قانون الطبيعة»، ووجد من عزا تأليف هذا الكتاب إلى «ديدرو»، خطأً بطبيعة الحال؛ ولذلك فإنه بالرغم من وضوح الفكرة الشيوعية وتنسيقها في نظام رتيب على يد «مورللي»، فقد انصرف المُعَاصرون عنه، وظلَّ تأثُّرهم بكتابات «مابلي» يفوق كل تأثر، ولا جدال في أن «مابلي» كان مصدر الآراء الشيوعية والاشتراكية التي ظهرت في عصر الثورة.

وتتلخَّص نظرية «مورللي» في أنَّ تحصيل المنفعة الذاتية هو الدافع أو المُحرك الأول للإنسان في نشاطه، وهذه المنفعة الذاتية مصدر كل شر إذا أُسِيء توجيهها؛ لأنَّ الطبيعة قصدت أن يشترك الأفراد في الملكية اشتراكًا شيوعيًّا كي تُصبح منافع الأفراد الذاتية مُتَطابقة ومتماثلة، بحيث إذا عمل إنسان لتحقيق نفعٍ ذاتيٍّ معينٍ عاد هذا النفع في الوقت نفسه عند تحقيقه على المجتمع بأسره؛ ولذلك، فإذا اختص الفرد بامتلاك شيء معين لنفسه واستأثر به دون سائر إخوانه، عاد نشاطه الذي يبذله لتحقيق هذا النفع الذاتي لنفسه بالضرر على سائر الأفراد وألحق الأذى بالمجتمع؛ لأنَّ الملكية الفردية تستتبع حتمًا انصراف الأفراد لرعاية مصالحهم الخاصة، مهما كانت هذه المصالح متناقضة، ولا مفرَّ في هذه الحالة من أن يُلْحِق هذا التناقض الأذى بهؤلاء الأفراد أنفسهم وبالمجتمع أيضًا.

وتلك — في نظر «مورللي» — حال غير طبيعية؛ أي أن يكون نشاط الإنسان بسبب محاولته تحصيل النفع لذاته مُنْصَبًّا على إلحاق الأذى بغيره. والإنسان كان أصلًا مطبوعًا على الأمانة، ولكن هذه سرعان ما أفسدها طغيان النَّهم والشره عليها عندما استبدت رغبة التملك — أساس كل شر — بالإنسان.

وعلى ذلك فقد اهتمَّ «مورللي» في كتابه «قانون الطبيعة» برسم صورة لنظام اجتماعي يُتيح للإنسان فرصة العيش بقدر المُستطاع فعلًا في هذه الحياة، في سعادة وفي فضيلة، ولو أنَّ «مُورللي» نفسه كان مُتشائمًا في إمكان الوصول إلى هذه الحياة السعيدة، بسبب ظروف الحياة الوَاقعية فعلًا، والتي يتعذَّر معها إنشاء مثل هذا المجتمع في عصره.

رينال Raynal (١٧١٣–١٧٩٦)

وآخر من نذكر من هؤلاء «الفلاسفة» آبيه غليوم رينال Guiallaume Raynal صاحب أكبر إنتاج خلَّف آثارًا لا تُمْحى في عالم الفكر والرأي في عصره، عندما اصطبغت بفضل كتاباته كل تلك الآراء والمذاهب التي انتشرت بين معاصريه بالعنف والشدة، وانتقلت من عوالم الفكر إلى ميدان العمل؛ وذلك بسبب ما أثارته كتاباته من كوامن الأحقاد السياسية لدى طبقة الشعب الفرنسي التي لم يكتمل نضجها الفكري، وكانت لا تزال وقتئذٍ «نصف متنورة». وأما الذي أحدث هذا الأثر فكان كتابه المشهور عن «التاريخ الفلسفي والسياسي لمراكز التجارة التي أسسها الأوروبيون في الهندين الشرقية والغربية».٥ نشر للمرة الأولى في سنة ١٧٧٠ دون ذكر اسم المؤلف، ثم نشر ثانيةً مع ذكر اسمه سنة ١٧٨٠، وكان في عشرة أجزاء، وصادف رَوَاجًا عظيمًا.

حَمَلَ «رينال» على الاستبداد والطغيان حملة شديدة، ولو أنه عزا وجود هذا الطغيان إلى فعل الشعوب وليس إلى الملوك. من أقواله في ذلك: «لماذا يعاني الإنسان ما يُعانيه، ولماذا لا يُندد بكل ما يملك من قوة وحماس بهذا الطغيان؟ ولماذا لا يبذل كل ما وَسِعَه من جهد وحيلة لاسترداد قدره ومكانته كإنسان؟ هل يرى في ارتفاع صيحاته مدوية ضدَّ الرق والعبودية عصيانًا وثورة جامحة؟ إنَّ الرجال الذين لا يكافحون في سبيل استرداد حقوق الإنسان وتقريرها لخليق بهم أن يهلكوا في زوايا النسيان يغمرهم الخزي والعار والفضيحة!»

وحمل «رينال» على عدم المساواة في الفرص أو الحظوظ «عدم تكافؤ الفرص» فقال: إنها أصل كل إجحاف وظلم، ومبعث كل استبداد وطغيان، ولا سبيل إلى الخلاص من ذلك طالما بقيت عدم المساواة. وعدم المساواة الظاهر في توزيع الثروة هو منشأ البلاء والبؤس الذي يُثقِل كاهل الشعب. وكذلك حمل «رينال» على النظام الملكي وأنصاره، وقال مُتَهكمًا بهؤلاء الأخيرين: «إنَّهم أولئك الذين ما كنتَ تسمع منهم إلا أمثال هذه العبارات: قام الملك! أراد الملك! شاهدت الملك! قابلت الملك! تعشيت مع الملك!»

ثم حمل على رجال الدين فقال: «وماذا يفعل القسيس؟ وما ذلك الدور الذي يؤديه؟ إنه يجعل الناس (أي البشر) ينقلبون إلى غير آدميين بفضل ما يُشَاهدونه من فعال رجال الدين ويلاحظونه على مسلكه، ويسمعونه من عظاته وأحاديثه!» ثم حمل على النبلاء فقال: «يتذلَّل كبار السادة للأمراء، ويتذلَّل أفراد الشعب لكبار السادة، وهكذا فَقَدَ الإنسان احترامه الطبيعي لنفسه، ولم تعد لديه أية فكرة عن حقوقه.»

ولكنَّ هذه الحملة الشديدة التي أثارها «رينال» ضد الطغيان، وعدم المساواة في الحظوظ أو الفرص، وضد الملكية، والكنيسة والنبلاء، لم تكن تنطوي في جوهرها على أي مذهب أو عقيدة ثورية، كما خلت كتاباته من أية آراء جمهورية أو اشتراكية بارزة. بل إنَّ «رينال» كان يؤمن بالنِّظام الملكي، ويُوصِي باتباع النظام الملكي الإنجليزي خصوصًا؛ لأنَّ الحكومة في إنجلترة حكومة «مُختلطة»؛ أي تجمع عناصرها — على حد قوله — بين الملكية الاستبدادية التي هي الطغيان بعينه، وبين الديمقراطية التي تقود في عرفه إلى الفوضى، ثم بين الأرستقراطية؛ فصارت بفضل اشتمالها على هذه القوى الثلاث — التي تحد كل واحدة منها من تطرف الأخرى، وتتآزر إلى جانب ذلك فيما بينها جميعًا — قادرةً، ومن تلقاء نفسها، على تحقيق صالح الوطن.

ولكن «رينال» — على خلاف «مونتسكيو» — كان يعترض اعتراضًا شديدًا على فصل السلطات (القضائية، والتشريعية، والتنفيذية)؛ لاعتقاده بأن فصلها بعضها عن بعض، وما سوف يستتبع ذلك من كفاح بين هذه السلطات الثلاث، سوف يؤدِّي إلى الفوضى، وإلى انحلال الحكومة في آخر الأمر.

ومع أن «رينال» لم يستطع إبراز فكرة جلية واضحة عن نوع الحكومة التي يُريدها، وظلَّت آراؤه في هذا الشأن مُبهمة، فقد نادى بمبادئ ثلاثة، كان الغرض منها «تطويع» الدين للدولة، ومُقاومة الفكرة القائلة بضرورة فصل الكنيسة أو السلطة الروحية عن الدولة أو السلطة الزمنية. وقد ذكر «رينال» هذه المبادئ الثلاثة في قوله: «أولًا: أن الدولة لم تؤسَّسْ من أجل الدين، ولكن الدين هو الذي وجد من أجل الدولة. ثانيًا: مراعاة الصالح العام هو القاعدة التي يجب أن تأخذ الدولة بها بصورة دائمة. ثالثًا: أن للشعب وحده، حيث إنه مقر سلطان السيادة العليا، الحق في إبداء حكمه فيما يتعلَّق باتفاق أي نوع من أنواع الأنظمة «الحكومية» مع الصالح العام.»

وكان أهم ما تأثَّر به معاصرو «رينال» آراؤه عن الحرية؛ حيث قال عنها: إنها لا تُباع ولا تُشترى، وقسمها إلى طبيعية ومدنية وسياسية، لا يستطيع إنسان بدونها أن يملك نفسه جثمانيًّا وروحيًّا أو يُصبح زوجًا أو أبًا، أو يكون له وطن أو يصير مواطنًا، أو يكون له إله، ولن يُجْدِي الضغط والاستبداد شيئًا في القضاء على الحرية لأنها منقوشة في الصدور.

وقال: إنه لن يمضي وقت طويل حتى يكون الناس قد شعروا جميعًا بأن الحرية أفضل نعم الله على الإنسان. وعندئذٍ سوف يتحرر الناس من استبداد الطغاة، بطردهم وإقصائهم أو بقتلهم وإفنائهم، كما قال: ولقد اعتقد رجال الدين وأذاعوا على الملأ أنَّ الملوك يستمدُّون سلطاتهم من الإله وحده، ولكنَّ هذا الزعم ليس سوى «قيود من حديد تربط أُمَّة بأسرها بقدميْ رجل واحد. وفي وسعنا أن نفرض الذل والهوان على أي شعب إذا سمينا أحد الطغاة «أبًا» لهذا الشعب ودعمنا بفضل هذا اللقب استبداده به.»

ولقد اعتبر علماء اللاهوت في جامعة باريس وقتئذٍ هذه الأقوال وأمثالها «مضادة للعقل، ومسبة للدين، وتدل على الزندقة واختلال الشعور، والكراهية الشديدة للدين ولسلطان الملوك.» ولكن هذه الصفات ذاتها هي التي حبَّبت سواد الشعب في أقوال «رينال» وجعلتهم يتأثَّرون بكتاباته. والسبب في ذلك أنَّ سواد الشعب لم يكن على قدرٍ من الثقافة يكفي لأن يميِّز بين الغث والثمين، أو يجعله قادرًا على تقليب وجوه الرأي فيما يعرض له من آراء وأقوال.

ثم إنَّ «كتاب» رينال هذا قد ظهر في وقت كان قد علا فيه ضجيج سواد الشعب ومفكريه وقادته على السواء، من تلك الفوضى التي انتشرت في فرنسا، نتيجة لزوال كل نظام في ذلك «النظام القديم» الذي انهارت أركانه.

١  Idees Requblicaines.
٢  Essai Sur les Moeurs.
٣  معنى «آبيه»: رئيس دير وأحد أفراد الإكليروس، وشمَّاس أو شدياق.
٤  Code de la Nature.
٥  Histoire Philosophique et Politiques des établissements de Commerce des Européens dans les deux Indes.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤