الفصل الرابع

الفيزوكرات: القائلون بحكم الطبيعة

ويرى بعض المؤرخين أنَّه يصح اختيار سنة ١٧٧٦ أو سنة ١٧٨٧ لتحديد بداية «الثورة»؛ وذلك بسبب خروج «ترجو» Turgot من الوزارة في عام ١٧٧٦، وهو المصلح المالي والاقتصادي الذي لجأ إليه الملك بين ١٧٧٤–١٧٧٧ لمعالجة الأزمة المالية المُستحكمة، ثم بسبب تضافر عوامل عدة في سنة ١٧٨٧ أفضت وقتئذٍ إلى تحريك الثورة؛ منها: رداءة المحصول، وارتفاع ثمن الحبوب (الغلال)، واستحكام الأزمة المالية والضائقة الاقتصادية. وبعبارةٍ أخرى وقوع كل ما من شأنه أن يُزيل الثقة في قدرة الملكية المطلقة على الاضطلاع بالحكم، أو بأنَّ في وسعها الاستفادة من آراء أولئك المُصلحين الاقتصاديين، الذين أرادوا مُعالجة شئون الاقتصاد على أسس جديدة، وذاعت آراؤهم وقتئذٍ، وآمن بها كثيرون.
وأمَّا هؤلاء المُصلحون فقد عرفوا باسم «الاقتصاديين» Economists. وكان بعد مُضِيِّ زمن طويل من ظهورهم، أن أطلق عليهم اسم الفيزوكرات Physiocrats أو القائلين بحكم الطبيعة، فصار هذا الاسم علمًا عليهم واشتهروا به. وكان على رأس هؤلاء «فرانسوا كسناي» Francois Quesnay (١٦٩٤–١٧٧٤) مؤسس هذه المدرسة الجديدة، ثم «مرسييه دي لا ريفيير» Mercier de la Riviere (١٧٢٠–١٧٩٤) الذي وضع مذهب الفيزوكرات في أسلوب علمي واضح، كما كان الماركيز دي ميرابو Marquis de Mirabeau أبو خطيب الثورة المشهور، من أشد مؤيدي «كسناي»، بينما كان «ترجو» من الذين أيَّدوا آراء الاقتصاديين وعملوا على تحقيق مذهبهم.

وقد عني الاقتصاديون — أو الفيزوكرات — أكثر ما عنوا بمعالجة المسائل المُتَّصلة بحياة الأُمَّة المادية، وقصروا بحوثهم على بيان وظائف الطبقات المنتجة في المجتمع: أي الزُّرَّاع والصناع والتجار، ثم إظهار الوسائل الكفيلة بإنهاضهم وإنعاش أحوالهم، وبيان علاقة هذه الطبقات المنتجة بالدولة، ثم إنهم حاولوا من وجهة نظر الحكم نفسه، تحديد أكبر الوسائل أثرًا في ضمان الإيراد أو الدخل الذي يكفي الدولة ويعينها على النهوض بأعبائها.

وكان من الطبيعي للوصول إلى هذا الغرض أن تتناول بحوثهم مسألة الضرائب؛ أي الغرض من تقريرها، وكيفية فرضها وتحصيلها، والآثار المُترتبة على هذه الأمور جميعها، حتى إذا فعلوا هذا، انتقلوا إلى البحث عن مصادر الثروة التي تؤلِّف الضرائب نصيب الحكومة منها، ثم البحث في وسائل إنتاج هذه الثروة، وتوزيعها، وعلاقاتها برفاهية المجتمع، وحجم هذا المجتمع والصفات المميزة له.

على أنَّ أهم ما يسترعي النظر من مبادئهم، كان تقرير الضريبة الواحدة L’Impôt Unique، والتي تفرض على الأرض وحدها فحسب. على اعتبار أنَّ الأرض وحدها مصدر كل ثروة. ثم إلغاء المكوس الداخلية على تجارة القمح في فرنسا (أي تقرير حرية التجارة)؛ يحدوهم إلى تقرير هذين المبدأين الرغبة في إمداد الحكومة بأكبر دخل مُستطاع، مع تأمين رفاهية الشعب ورخائه في الوقت نفسه.

وتتلخص نظرية الفيزوكرات السياسية في أنَّ العدالة أول شرائط المجتمع، بل هي أول شرائط حياة البشر قبل وجود المجتمع، كما أن العدالة في أساسها هي ضمان وتأييد تلك الحقوق التي أعطتها الطبيعة لكل مخلوق في البشر: حق الفرد في الحرية، وحقه في التملك، ولا يتنازل الأفراد عن شيء من حقوقهم الطبيعية عن تأليف أو تكوين الجثمان أو الكيان السياسي. بل على العكس من ذلك؛ فإنَّ الغرض من تكوين أو تأليف أية جماعة أو رابطة، إنما هو تأكيد التمتع بهذه الحقوق في أوسع نطاق ممكن. وليست القوانين المتبعة في المجتمع سوى قواعد العدالة والأخلاق؛ لأنَّ سريان العدالة والتزام المبادئ الأخلاقية، هما مناط أو مساك الكون بأسره.

وفي رأيهم تشمل الحقوق الطبيعية التي للأفراد، والمُتعلقة بالملكية (أو التملك)؛ أولًا: حق التملك الذاتي أو الشخصي؛ أي حق الفرد في امتلاكه نفسه، بما ينطوي عليه ذلك من حقه في استخدام كل مواهبه وكفاءاته، ويستتبع هذا الحقَّ حقٌّ آخر هو «حق العمل»؛ أي حق الفرد في أن يعمل. ثانيًا: حق الفرد في ملكية منقولاته؛ أي تلك الأشياء التي أنتجها «عمله»، وكانت ثمرة هذا العمل. ثالثًا: حق الفرد في امتلاك الأرض «أو الملكية العقارية Proprieté Foncière».

ومما تجدر مُلاحظته أن حقَّ الفرد في الملكية إنما يحد منه ما يحيط به من حقوق الملكية التي يتمتع بها الآخرون، كما يحد من حقِّ الفرد في الحرية ما للأفراد من حقوق في الحرية مماثلة لحقه.

ومن آرائهم أنَّ الغرض من وجود «النظم» في المجتمع أن يكفل المجتمع للأفراد جميعهم تمتُّعهم بما يمتلكون، حقًّا طبيعيًّا لهم؛ ولذلك فقد صار وجود سلطة تعمل لحماية هذه الملكيات أمرًا ضروريًّا، كما تحتَّم أن ترتكز هذه السلطة في صاحب سيادة أو سلطان Souverain مُتسلحًا بقوة تكفي للتغلُّب على كل ما قد يصادفه من عقبات وصعوبات. ووجب أيضًا أن تجتمع السلطة في مُستقر واحد (أو في وحدة) واحدة؛ إذ من المتعذِّر تقسيم أو توزيع سلطة صاحب السيادة أو السلطان، وليس الغرض مُطلقًا من إنشاء أو إقامة هذه السلطة، التي لصاحب السيادة أو السلطان، صنع القوانين؛ لأنَّ القوانين تمَّ صنعها فعلًا على يد ذلك «الكائن الأعظم» الذي أوجد الحقوق والواجبات. وأما ما يُصدِرُه صاحب السلطان من أوامر أو مراسيم، فلا يمكن أن يكون إلا بمثابة إظهار لما هنالك من قوانين أساسية يقوم عليها النظام الاجتماعي، هي قانون الحرية، وقانون الملكية، فإذا صدرت الأوامر والمراسيم مُناقضة لهذه القوانين الأساسية، فإنها تُصبح مُلغاة ولا وجود لها، وذلك لأنَّ أهم واجبات صاحب السيادة أو السلطان في المجتمع هو التشريع بإصدار أوامر تضع موضع التنفيذ هذه القوانين الأساسية التي تحكم النظام الاجتماعي.

ويستأثر صاحب السيادة أو السلطان وحده ودون غيره بالسلطة التشريعية، أو بمعنى أصحَّ بسلطة إظهار آثار القوانين الأساسية (الخاصة بالحرية والتملك) التي يقوم عليها النظام الاجتماعي. ثم إنَّ صاحب السيادة أو السلطان يستأثر وحده كذلك بالسلطة التنفيذية. ولكنه من ناحية أخرى لا يمارس السلطة القضائية؛ لأنَّ إصدار الأحكام القضائية ضد المواطنين لا يتفق ولا يتلاءم مع خصائص السيادة العليا، حيثُ إنَّ مُمَارسة الوظائف القضائية يستدعي فحص تفصيلات دقيقة كثيرة، وبحث قضايا مُعَيَّنة، لإصدار أحكام معينة في كل واحدة منها، وذلك عمل يبعده كلَّ البعد عن الغرض من وجود السيادة العليا؛ أي تقرير قوانين النظام الاجتماعي الأساسية؛ ولذلك فالقضاة هم الذين يتولَّوْن شئون القضاء، وواجبهم مقارنة الأوامر أو المراسيم الموضوعة بقوانين «العدالة» — أي القوانين الأساسية — حتى يقوموا بتطبيق ما كان مُتلائمًا من هذه الأوامر أو المراسيم مع تلك القوانين الأساسية.

ثم كان بعد تقرير هذه المبادئ الجوهرية، أن عالج الاقتصاديون أو الفيزوكرات مسألة الحكم والحكومة. وقد انتهوا من بحوثهم إلى أن «الملكية الوراثية» أفضل أنواع الحكومات إطلاقًا. ولم يخش الفيزوكرات من أن تصطبغ المليكة الوراثية بصبغة الطغيان، طالما بقي وظلَّ قائمًا النظام الذي وضعوه للمجتمع ونفذت قواعده بصدق وأمانة، وهو النِّظام الذي سبق القول بأنه يقوم على تقرير مبدأ الحرية وحق التملك.

ولذلك فقد تحتَّم أن تُصبح وظائف الملك في ظل هذا النظام المحافظة التامة وبصورة مجدية على حقوق الحرية والتملك، كما تحتم تنفيذًا لهذه الغاية، أن يفحص القضاة المتنورون كل ما يصدره الملك من أوامر وقرارات، وأن يُدلُوا بآرائهم في شأنها، وفي كل ما يعرض لهم من قضايا مواطنيهم. وفضلًا عن ذلك، فإنَّ إقامة نظام اقتصادي يرتكز على مبدأ «الضريبة الواحدة» من شأنه أن يقضي على مبعث الظلم والشر في المجتمع؛ وذلك لأنَّ توفير قدر كافٍ من الإيراد للتاج أو الملك، نتيجة للأخذ بهذا النظام الاقتصادي، سوف يؤدي من تلقاء نفسه إلى ضمان أكبر قسط مُستطاع من الرفاهية والرخاء لرعايا الملك وشعبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤