الفصل الأول

جمهورية حكومة الإدارة١

استمرار محاولة الاستقرار الأولى: الديكتاتورية الخماسية٢ ٢٠ أكتوبر ١٧٩٥–١٠ نوفمبر ١٧٩٩

تمهيد

تمثِّل حكومة الإدارة أول تجربة لحكومة جمهورية مؤسسة (أو قائمة) على دستور، ولكن هذه التجربة لم تكن تجربة سعيدة الحظ؛ لسبب جوهري هو أن الحكومة الجديدة لم تختلف في شيء عن الحكومة السابقة: حكومة عهد الترميدوريين، بينما تزايدت المشاكل التي واجهتها حكومة الإدارة. ويقول «ماثييز» Mathiez ممن أرَّخوا لحكومة الإدارة: «إن رجال الحكم هم تقريبًا نفس رجال الحكم السابقين، وإن أساليبهم لم تتغير في شيء، وإن الاعتداء يقع بصورة مستمرة على المبادئ الجمهورية بحجة العمل لإنقاذ الجمهورية …»

فقد كان دستور العام الثالث (١٧٩٥) من صنع الجمهوريين المعتدلين الذين أرادوا إنشاء «خير حكومة أخرجت للناس». ولكن الدستور كما عرفنا وُضِعَ في وقت كان فيه تيار رد الفعل شديدًا بعد انقلاب ترميدور والحوادث اللاحقة، حتى إن واضعي الدستور اعتقدوا من المتعذِّر عليهم أن يُنْشِئوا نوع الحكومة التي يريدونها، إلا إذا ضحَّوْا بكثير من المبادئ الديمقراطية الصحيحة؛ كالقضاء على حق الانتخاب العام، وتقييد حق الانتخاب بنصاب معين من الضرائب — أي اشتراط حق التملك — وجعل الانتخاب على درجتين، وبمعنى آخر: العودة إلى أبرز القواعد التي أخذ بها دستور سنة ١٧٩١.

الحكومة الجديدة وبرنامجها

ولما كان قد تقرَّر أن يكون ثلثا الأعضاء في الهيئة التشريعية من بين رجال المؤتمر الوطني، فقد وجب أنه يكون خمسمائة من هؤلاء أعضاءً في الهيئة التشريعية الجديدة التي تألَّفت من ٧٥٠ نائبًا (٥٠٠ لمجلس الخمسمائة، ٢٥٠ لمجلس القدماء أو الشيوخ)، واتخذ مجلس الشيوخ مقره في قصر التويلري في نفس القاعة التي كانت للمؤتمر الوطني من قبل، بينما اتخذ مجلس الخمسمائة مقره في قاعة أخرى في التويلري كذلك، ثم انتقل بعد عامين إلى مكان آخر هو «باليه بربون».٣ وكان رئيس الشيوخ «لاريفليير لييو» La Révellière-Lépeaux، ورئيس الخمسمائة «دونو»، وكلاهما من الجيروند، ويمثِّلان البورجوازية الثورية التي ناصبت النبلاء ورجال الدين العداء، والتي هي في الوقت نفسه شديدة العداء للإرهابيين. وفي ٣٠ أكتوبر ١٧٩٥ كان قد تمَّ تشكيل مجلسي الهيئة التشريعية.
وأما الهيئة التنفيذية، فقد تمَّ تشكيلها في ٢ نوفمبر ١٧٩٥، وذلك بأن اجتمع أعضاء المؤتمر الوطني القدماء الذين تألَّف منهم ثلثا أعضاء الهيئة التشريعية؛ لإعداد قائمة بأسماء المرشحين لعضوية حكومة الإدارة؛ كي يَنْتَخِبَ منهم مجلس الشيوخ خمسة، فحصل حسب الدستور ترشيح خمسين، انتخب منهم خمسة هم «لاريفليير ليبو» و«لوتورنير» Letourneur (وأصلهما من الجيروند)، و«روبل» Reubell، و«سييس» Siéys (وقد استبدل بهذا الأخير «كارنو» منذ ٤ نوفمبر»، ثم «باراس».
أما «باراس» و«روبل» و«كارنو» فكانوا من الجبل، وجميع أعضاء حكومة الإدارة كانوا في سن الشباب (بين الأربعين والثمانية والأربعين)، ولم يكن لكلٍّ من «لاريفليير-ليبو» و«لوتورنير» أية قدرة على فهم الشئون السياسية. بينما كان «روبل» من رجال المال المعروفين بفساد الذمة، وكذلك كان حال «باراس». وأما «كارنو» فقد اشتهر بحبه أو برغبته في أن يسود السلام بين الجمهورية وأوروبا. وكانوا جميعًا — ما عدا «روبل» الذي كان موفدًا وقتئذٍ في مهمة إلى الأقاليم من قبل المؤتمر الوطني — ممن حضروا محاكمة لويس السادس عشر، ووافقوا على إعدامه: أي إن هذه «الخماسية» كانت من «قتلة الملك» Régicides، واتخذ المديرون قصر لكسمبورج مقرًّا لهم.

وقد شرعت «الإدارة» في تعيين الوزراء الستة المنصوص عليهم: للداخلية، والعدل، والخارجية، والمالية، والبحرية، والحربية. وقد ذكرنا قبلًا أن وزارة سابعة أُنشِئت بعد ذلك لشئون البوليس في ٢ يناير ١٧٩٦.

وأصدرت حكومة الإدارة بيانًا للشعب الفرنسي في ٥ نوفمبر ١٧٩٥ عرضت فيه برنامجها، فقالت: «إنه الحرب ضد الملكية وإنعاش الروح الوطنية، وإخماد الاضطرابات والعصيان، والروح الحزبية، والقضاء على كل رغبة في الانتقام، والعمل على نشر الوئام والاتحاد، وإعادة السلام، وتجديد العادات، وإنعاش مصادر الإنتاج، وإحياء الصناعة والتجارة، وإبطال المضاربة في أوراق النقد، وإنهاض العلوم والفنون، والعمل على إرجاع الرخاء، وإعادة الثقة في الدولة واسترجاع حسن السمعة، واستبدال النظام الاجتماعي بالفوضى المصحوبة دائمًا بالثورات، وأخيرًا جلب السعادة والمجد إلى الجمهورية الفرنسية التي نترقَّبها.»

صعوبات حكومة الإدارة

وكان هذا ولا شك برنامجًا كبيرًا ومعقدًا وصعب التنفيذ. وعجزت حكومة الإدارة عن تحقيق شيء مما وعدت به، بل وصارت هذه الحكومة مكروهة من الشعب؛ ومردُّ هذه الكراهية كان إلى أسباب ثلاثة رئيسية: هي الصعوبات المالية، والمنازعات الحزبية، والأزمة الخلقية (أو التدهور الخلقي).

فقد كانت خزانة الدولة خاوية على عروشها؛ لأن المتحصل من الضرائب كان قليلًا؛ لسبب سوء الحالة المالية والاقتصادية في البلاد نتيجة للهبوط المستمر في قيمة ورق النقد Assignats، وحرمان الفلاحين الأجراء من امتلاك الأرض الزراعية عندما جرى توزيع الأراضي المشاعة حسب القانون الزراعي وقتئذٍ، وبسبب عدم وجود المال؛ إذ صار الموظفون لا ينالون مرتباتهم، وكذلك لم ينل العمال أجورهم حتى صار منهم كثيرون يموتون جوعًا، فأضربوا عن العمل، وساءت حال الطرقات والجسور، وانتشرت عصابات اللصوص وقُطَّاع الطرق، ينهبون البريد ويعطِّلون المواصلات.

وهذه الحاجة الملحة للمال لم تلبث أن أملت إملاءً على حكومة الإدارة السياسة التي وجب عليها أن تتبعها، من حيث التجاؤها إلى عقد القروض من الشركات والمتعهدين وأصحاب البنوك، لآجال قصيرة أو طويلة، وبشروط قاسية، ثم اعتمادها على قوادها العسكريين أن يأتوها بالأموال التي تستطيع جيوشهم أن تنهبها من البلدان المفتوحة؛ الأمر الذي أخضع حكومة الإدارة في نهاية الأمر لنفوذ هؤلاء القواد العسكريين، ووضعها تحت رحمتهم.

وأما المنازعات الحزبية، فسببها وجود جماعات ثلاث هامة: الملكيون ومعهم المتعصِّبون دينيًّا، والفوضويون، والجمهوريون الحقيقيون. فمع أن الملكيين Royalistes قد انهزموا في ثورة (١٣ فندميير/٥ أكتوبر ١٧٩٥) التي قاموا بها في باريس ضد المؤتمر الوطني، فقد ظلوا يتَّصِلون بالأمراء المهاجرين: الكونت دي بروفنس (أو لويس الثامن عشر) الذي أذاع من فيرونا Verona منشورًا أيَّد فيه الملكية المطلقة، والكونت دارتوا الذي اتخذ مقامه في إنجلترة، والبرنس دي كونديه Condé الذي تولى قيادة جيوش الأمراء في الغابة السوداء في ألمانيا. ولقي هؤلاء كل معونة مالية من إنجلترة.
ولقد اختلفت آراؤهم بشأن أفضل الوسائل الواجب اتخاذها لاسترجاع السلطة في فرنسا؛ ففريق منهم كان يرى ضرورة القيام بعمل عسكري، وآثر فريق آخر الطريق الدستوري. وبذلت حكومة الإدارة بدورها كلَّ جهد لمقاومة نشاط الملكيين، فأمدَّت طائفة من الصحف بالمال لتكتب في تأييد الحكومة ولتحمل على الملكيين وأنصارهم. وشجَّعت إعادة تشكيل الجمعيات الشعبية، فتأسست جمعية «التئام أصدقاء الجمهورية»٤ التي صارت تعرف باسم «نادي البانثيون».٥ وكان أعضاء هذه الجمعية أو النادي على اتصال بالاشتراكي «بابيف» Babeuf، وكانت هذه الصلة سببًا في أنهم صاروا يسمون كذلك بالفوضويين، ولو أنهم من البورجوازيين (الطبقة الممتلكة) والتي تستنكر أية فكرة شيوعية. وكان برنامج «نادي البانثيون» مهاجمة دستور العام الثالث (١٧٩٥) «غير الديمقراطي»، والمقارنة بين هذا الدستور ودستور (١٧٩٣).
وأما الجمهوريون الحقيقيون، فهم المؤيدون لنظام حكومة الإدارة Directoriaux، وهم أهل الطبقة المتوسطة الغنية، الذين امتلأت جيوبهم بالأموال، واشتركوا في العمليات والصفقات المربحة والمضاربات المالية، وكان كل ما يَعنيهم أن يضمن أي نظام حكومي يقوم، استمرارَ مكاسبهم، وزيادة ثرائهم. ولما كانوا قد صاروا يمتلكون أملاك الكنيسة التي صارت كما عرفنا «أموالًا أهلية»، فقد صاروا أعداءً للكاثوليكية. ولو أنهم لم يكونوا معادين للروح الدينية في حد ذاتها، على أساس أنها دعامة أخلاقية ضرورية للمجتمع.

وكان التدهور الخلقي من العوامل التي زادت من حدة الصعوبات التي واجهتها حكومة الإدارة. فقد انتشر الفساد والرشوة بحيث صارت «الجمهورية» نهبًا للنواب الذين قبلوا العضوية في الشركات، وارتشوا من المتعهِّدين والتجار والموردين لمصالح الحكومة والجيش، وتغلغل الفساد والرشوة في كل فرع من فروع الإدارة. وفي الجيش صارت الخدمة في الجندية (كضباط أو جنرالات) وسيلة سهلة للإثراء الفاحش والسريع على حساب أغذية الجند وملابسهم، حتى صار هؤلاء يعيشون في مسبغة ويكادون يسيرون وهم عرايا، وبحيث أمكن لأي قائد من القواد أن يظفر بولائهم وإخلاصهم، إذا لم يكن مرتشيًا، وإذا قادهم — كما فعل بونابرت — إلى النصر في سهول لمبارديا الغنية.

وانتشر الفساد الخلقي في الحياة الاجتماعية. فمع أنه جاء في الدستور (دستور العام الثالث): «إن الإنسان لا يمكنه أن يكون مواطنًا صالحًا إلا إذا كان ابنًا بارًّا، ووالدًا رحيمًا، وأخًا عطوفًا، وصديقًا وفيًّا، وزوجًا طيبًا.» فقد ساد الانحلال الخلقي، حتى صارت «المتعة» هدف الجميع وغايتهم، وحتى كتب أحد المعاصرين «ماليه دي بان» Mallet du Pan في سنة ١٧٩٦: «إن أحدًا من الناس لا يفكر في شيء سوى متعته ومشربه ومأكله.» فشهدت باريس حياة ترف وبذخ ولهو ومجون، ومغامرة، ومضاربة، لم يسبق لها مثيل. وعاد عهد الصالونات، ولكن هذه بدلًا من أن تكون منتديات أدبية صارت بؤرًا للفساد. وكذلك الحال في الحدائق العامة، والمراقص والمسارح والمطاعم والمقاهي، وتزيى النساء بأزياء فاضحة، وكثرت حوادث الطلاق.

الأزمة المالية وحركة «بابيف» الاشتراكية

وعنيت حكومة الإدارة قبل كل شيء بمعالجة الأزمة المالية؛ بسبب خلو الخزانة من المال. وكان من أقوى أسباب هذه الأزمة تدهور قيمة «ورق النقد» Assignats حتى إن سعر الجنيه الذهب (Louis d’or وقيمته ٢٠ فرنكًا) بلغ في ديسمبر سنة ١٧٩٥ (٥٢٠٠) فرنك من ورق النقد. وحاولت حكومة الإدارة معالجة الأزمة بإصدار كمية أخرى من ورق النقد، ولكن ذلك سرعان ما أدى إلى تدهور أكبر في قيمته، فلجأت إلى عقد قرض إجباري قيمته مليار من الفرنكات من المواطنين الموسرين، وفرضت ضريبة استثنائية تصاعدية على رأس المال تدفع عينًا (من الحبوب) أو نقدًا (من الذهب)، وذلك مع استئناف التعامل بورق النقد على أساس واحد على مائة من قيمته. وكان غرض الحكومة من هذا الإجراء امتصاص جزء من ورق النقد المتداول، ووقف تدهور قيمته برفع سعر المبادلة.
ولكن الذي حدث كان على خلاف ما توقعته؛ لأن الحكومة بتحديدها النسبة بواحد على مائة من قيمة الورق قد أقرَّت رسميًّا الخفض الحاصل في قيمته واستمرت الأزمة، فخولت الحكومة «اللجنة المالية» Comité des Finances في ٢٣ ديسمبر ١٧٩٥ إصدار ورق نقد Assignats بمقدار أربعين مليارًا من الفرنكات، وعمدت إلى حرق ربع مقدار ورق النقد الذي حصلته عن طريق القرض الإجباري.
ولما فشلت كل هذه المحاولات وجدت الحكومة في ١٨ مارس ١٧٩٦ من الضروري إلغاء «ورق النقد»، وأن تستبدل به نوعًا جديدًا من الورق بقيمة الأملاك الأهلية التي لم تكن قد بيعت، والتي قدرت قيمتها بمليار ونصف مليار من الفرنكات، على أن يكون لحامل هذا الورق الحق في استبداله عينًا عند الطلب من هذه الأملاك الأهلية؛ ولذلك فقد سمي هذا «الورق الجديد» باسم «أذونات على الأرض أو سندات عقارية Mandats Territoriaux». وقد انفرجت الأزمة مؤقتًا ولكن لم تلبث أن هبطت قيمة هذه الأذونات كذلك. ثم كان من الإجراءات الأخرى التي حاولت بها الحكومة معالجة الأزمة المالية: فرض الضرائب المتعددة والمنوعة كضريبة التمغة، والرسوم الجمركية، والضريبة على الصحف، وعلى الأبواب، وعلى النوافذ … إلخ. ولكن كل هذه المحاولات أخفقت في حل الأزمة المالية والاقتصادية.
وعلى ذلك فقد استمرَّ الضنك والبؤس في البلاد، وزادت مدة البطالة، واشتدَّ التذمر، واضطرت الحكومة في ٢٧ فبراير ١٧٩٦ إلى إلغاء «نادي البانثيون»، وكان يضم أكثر من ألفيْ عضو. والتفَّ المتذمرون حول الاشتراكي «بابيف»، وكان هذا صحفيًّا، أسس منذ ١٧٩٣ «جريدة حرية الصحافة»،٦ وهي التي أسماها بعد ذلك «بالمحامي عن حقوق الشعب»،٧ وتزعَّم «بابيف» حركة اشتراكية كانت شيئًا جديدًا في تاريخ الثورة التي تمجد «حق الفرد» كدعامة من دعاماتها وتقدس «حق الملكية»: أهم ما تحرص عليه الطبقة البورجوازية التي قامت الثورة على أكتافها، وأنكرت في صميمها المبادئ الاشتراكية التي دعا إليها «بابيف».

بدأ «بابيف» هجومه بتناول «القانون الزراعي» الذي نقده على أساس أنه يؤدي إلى توزيع الأراضي في الريف وتقسيمها إلى ملكيات فردية، وهو نفس القانون كما ذكرنا الذي حرم الفلاحين الأُجَراء من أي نصيب في الأرض عند حصول هذا التوزيع. ولكن «بابيف» لم يلبث أن تناول مسألة أكبر أهمية في نظره، تدور حول «الصالح العام المشترك أو اشتراكية الأموال» (أو الأملاك)، فطلعت صحيفة «تريبون دي بوبل» في ٦ نوفمبر ١٧٩٥ تتساءل: «ما الثورة الفرنسية؟» ثم تجيب على هذا السؤال بقولها: «إنها الحرب المعلنة بين السادة والعامة، بين الأغنياء والفقراء!»

ثم يقول «بابيف» (في عدد ٣٠ نوفمبر ١٧٩٥):

إن الديمقراطية هي وجوب أن يقوم أولئك الذين يملكون أكثر مما يحتاجون بسد حاجة أولئك الذين لا يملكون ما يفي بحاجتهم؛ لأن النقص أو العجز الحاصل في أموال هؤلاء المحتاجين إنما منشؤه السرقات التي ارتكبها الأولون من أموالهم … والأرض القابلة للحراثة لا يملكها أحد، ولكنها ملك للجميع … والممتلكات التي يقتنيها أولئك الذين لهم أنصبة من هذه الأرض كأملاك فردية، إنما هي ممتلكات مسروقة ومغتصبة … ومن العدل لذلك أن تنتزع هذه منهم. والوسيلة الوحيدة لتحقيق الديمقراطية تكون بإقامة إدارة مشتركة وبإلغاء الملكية الفردية أو الشخصية، وإعطاء كل فرد الحرفة أو العمل الذي يعرفه ويتفق مع استعداده وكفاءته، وإلزامه بأن يسلم ثمرة (غلة) هذا العمل «عينًا» ليوضع في مخازن مشتركة عمومية، ثم إنشاء إدارة مبسطة للقيام بتوزيع هذه الغلات.

ولقد دلت التجربة على أن هذا نظام عملي، حيث إنه مطبق على (١٢٠٠٠٠٠) رجل في الجيوش الفرنسية الاثني عشر. فالشيء الممكن عمله في نطاق صغير، من الممكن عمله في نطاق كبير.

وفي عدد ٢١ ديسمبر ١٧٩٥ اختتم «بابيف» شرح نظريته هذه بقوله:

إن ثمار (غلات) الأرض ملك للجميع، ولكن الأرض نفسها ليست ملكًا لأحد.

أي إن نظرية «بابيف» تتلخَّص في أن «المساواة» التي نصَّ عليها إعلان حقوق الإنسان والمواطن يجب أن تكون «مساواة» في الغنى والفقر على حدٍّ سواء، وأن ليس لإنسان أن يملك شيئًا، بل يجب أن تكون كل وسائل الإنتاج ملكًا للجميع عامة، وعلى الدولة أن تقوم بتوزيع الغلات بين الناس بنسبة ما يؤدُّونه من عمل، وبنسبة حاجاتهم.

وأما الأداة التي كان عليها تحقيق هذا البرنامج، فكانت «لجنة مركزية» أنشئت لهذه الغاية، لم تلبثْ أن اتصلت بالإرهابيين القدماء من أعضاء المؤتمر الوطني الذين «يأسفون على دستور سنة ١٧٩٣»، كما اتصلت ببعض أعضاء مجلس الخمسمائة، وبعُضْوِ حكومة الإدارة «باراس» ثم «فوشيه»، وقام جماعة «بابيف» بحملة واسعة من الدعاية النشيطة لهذه المبادئ الاشتراكية بين العمال والأجيرين، بل وأنشئوا صلات مشتبهًا فيها مع بعض الشخصيات الأجنبية (مثل الوزير الهولندي في باريس «بلاءو» Blauw).

ولم تكن حركة «بابيف» تنطوي في حد ذاتها على خطر كبير، ولكن انضمام متطرفي اليعاقبة الساخطين على الوضع القائم إلى هذه الحركة، لا عن عقيدة، وإنما لتحقيق مآربهم، لم يلبث أن ألَّب الحكومة على «بابيف» وأعوانه، فقررت هذه في ١٦ أبريل ١٧٩٦ إعدام كل من «يحرضون بالقول أو الكتابة على حل أو إنهاء الهيئات التمثيلية الوطنية أو حكومة المديرين (السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية)، أو يحرضون على إرجاع الملكية، أو إرجاع دستور ١٧٩٣، أو يحرضون على الاعتداء على الممتلكات العامة أو نهب أو اقتسام الممتلكات الخاصة (التي للأفراد) باسم القانون الزراعي، أو بأية وسيلة أخرى.»

وعندما نمى للحكومة أن اليعاقبة يتآمرون مع «بابيف» وأنصاره لتدبير انقلاب حكومي وإرجاع دستور سنة ١٧٩٣، ألقي القبض على «بابيف» وأعوانه في ١٠ مايو ١٧٩٦، وقدموا للمحاكمة أمام المحكمة العليا في فندوم Vendome. ثم دبَّر البوليس حركة عصيان في معسكر «جرينيل» Grenelle، اتخذ منه ذريعة للقبض على عدد من الفوضويين (في ٩ سبتمبر ١٧٩٦)، وإعدام فريق منهم دون محاكمة.
وأما «بابيف» وجماعته، فقد استمرت محاكمتهم من ٢٠ فبراير لغاية ٢٦ مايو ١٧٩٧، وكان عدد المتهمين خمسة وأربعين، أعدم اثنان منهم هما «بابيف» وصديقه «دارثي» Darthé في ٢٧ مايو ١٧٩٧، وحكم على سبعة بالنفي منهم «فادييه» Vadier، وقُضي على الحركة.

السياسة الخارجية: حملة إيطاليا

واتسمت سياسة حكومة الإدارة الخارجية بطابع التناقض، من حيث إن حكومة الإدارة كانت تريد السلم؛ لأن أكثرية الأمة الفرنسية ذاتها كانت تريده، ولكنها لم تستطع الاستغناء عن الحرب؛ لأنها لم تستطعْ إغضاب العسكريين الذين كانوا يريدون الحرب. ثم إن حكومة الإدارة كانت تريد أن تستهلَّ عهدها بالفتوحات. أضفْ إلى هذا أن خزانة الدولة كانت خاوية، والحاجة حينئذٍ ملحَّة إلى أسلاب الحرب؛ لتملأ بها الدولة خزانتها.

ولقد تقدم كيف انفرط عقد المحالفة الدولية الأولى ضد فرنسا بعد أن عقدت الجمهورية الصلح مع بروسيا (معاهدة بال في أبريل ١٧٩٥)، وإسبانيا (صلح يوليو ١٧٩٥)، ثم مع تسكانيا وهس كاسل، ولم يبقَ في حرب مع فرنسا سوى إنجلترة والنمسا وسردينيا. وكانت في أوائل العام نفسه (منذ يناير ١٧٩٥) قد خضعت هولندة وتأسَّست جمهورية بتافيا بها. وعلى ذلك فقد حاولت إنجلترة خصوصًا بعد أن فقدت معاونة هولندة وإسبانيا لها، أن تصل إلى تسوية مَشَاكِلِها مع فرنسا في أواخر ١٧٩٥، وتعقد معها صلحًا بالاتفاق مع النمسا، التي ما لبثت حتى تخلَّصت من هذه المحاولة. ولكن حكومة الإدارة (في ٢٠ مارس ١٧٩٦) اشترطت للصلح احتفاظها ببلجيكا، فتوقَّفت المباحثات.

ولم تكن الحرب مع إنجلترة أمرًا ميسرًا من الناحية العملية؛ لأسباب منها أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد أبرمت في لندن معاهدة تجارية مع الإنجليز (صودق عليها في أمريكا في ١٩ نوفمبر ١٧٩٤)، حدَّت من نشاط السفن الفرنسية في المحيط الأطلنطي بدرجة كبيرة، ولأنه كان متعذرًا القيام بعمليات عسكرية ضد إنجلترة عن طريق إرلندة أو في البحر الأبيض المتوسط؛ لعدم استعداد حكومة الإدارة الكامل، ولحاجتها الشديدة وقبل كل شيء إلى أسطول.

وعلى ذلك فلم تكن الحرب متيسرة إلا مع النمسا. وقررت حكومة الإدارة الرجوع إلى الخطط العسكرية التي وضعتها «لجنة الخلاص العام» لمهاجمة النمسا، من حيث تجهيز جيوش ثلاثة للزحف على فينا في وقت واحد: جيش السامبر والموز بقيادة «جوردان»، وجيش الراين والموزل بقيادة «مورو» Moreau، وجيش إيطاليا بقيادة «بونابرت». وقد تولى بونابرت القيادة في ٢ مارس ١٧٩٦، ثم تزوج من جوزفين بوهارنيه في ٩ مارس، ثم غادر باريس إلى مقر قيادته العامة في «سافون» Savon في ١٠ أبريل ١٧٩٦.

واعتمدت حكومة الإدارة على جيشيها في ألمانيا لإحراز الانتصارات السريعة الباهرة. ولكن قائد الجيش النمساوي «الأرشيدوق شارل» لم يلبث أنه هزم «جوردان» وأرغمه على التقهقر إلى نهر الراين (سبتمبر ١٧٩٦)؛ فاضطر «مورو» بسبب هذا التقهقر إلى الارتداد هو الآخر، وكان قد استطاع اختراق الغابة السوداء، فتقهقر الآن مرتدًّا إلى الألزاس (٢٥ أكتوبر)، وتحوَّلت الأنظار نحو جيش إيطاليا، والحملة الإيطالية التي صارت تحتل المكان الأول من الأهمية بفضل كفاءة قائدها بونابرت وعبقريته.

فمنذ اللحظة الأولى التي تولَّى فيها بونابرت قيادة جيشه، كسب هذا القائد الشاب ثقة جنوده في قيادته، واحترامهم ومحبتهم لشخصه، وصار يسير بهم من نصر إلى نصر. بنى خطته لهزيمة النمساويين وحلفائهم البيدمونتيين (سردينيا) على الالتحام مع كل جيش على حدة، وعلى سرعة الحركة. وكان ذلك ضروريًّا لأن جيشه بلغ حوالي الثلاثين ألفًا فقط في حين بلغ عدد الجيش النمساوي أربعين ألفًا، والبيدمونتي حوالي الألفين. فبدأ بونابرت هجومه الخاطف على جيش سردينيا فهزمه في جملة مواقع: «مونتنوت» Montenotte و«ديجو» Dego و«مليسيمو» Millesimo و«مندوفي» Mondovi، وفرض على سردينيا هدنة «شيراسكو» Cherasco (في ٢٨ أبريل ١٧٩٦) التي تحولت إلى صلح باريس في ١٥ مايو ١٧٩٦. ونالت فرنسا بمقتضى هذا الصلح سافوي ونيس. وتفرغ بونابرت لمناجزة النمساويين؛ فهددهم بالالتفاف حول جيشهم، وخشي هؤلاء أن يقطع خط الرجعة عليهم فانسحبوا تاركين إقليم الميلانيه Milanais يسقط من غير قتال في يد بونابرت، وعقدوا العزم على مقاومة الفرنسيين عند نهر الأدا Adda. ولكن بونابرت هزمهم عند جسر لودي Lodi (في ١٠ مايو) ودخل ميلان (في ١٤ مايو)، وبدأ يحاصر «مانتوا» Mantoue.

وانحصرت من هذا الحين جهود بونابرت في ناحيتين: تهدئة إيطاليا الوسطى والجنوبية وتحصيل الأموال منها، والاستمرار في مناجزة جيوش النمسا.

ففيما يتعلق بالأمر الأول: عقد بونابرت المعاهدات مع «بارما» في ٩ مايو ١٧٩٦ و«مودينا» Modene (في ١٧ مايو)، وأملاك الكنيسة (الدولة البابوية) التي نزلت لفرنسا عن بولونا وفراره وإنكونا (٢٣ يونيو)، وأخذ منها بونابرت كثيرًا من الصور والتُّحف التاريخية، وجنوة في ٩ أكتوبر، ونابولي في ١٠ أكتوبر ١٧٩٦. وقد أنشأ من كل هذه الأراضي جمهوريتين: «جمهورية خلف أو ما وراء نهر البو» Rep. Cispadane في ١٦ أكتوبر ١٧٩٦، من بولونا وفراره ومودينا، وأعطاها دستورًا من طراز الدستور الفرنسي للسنة الثالثة (١٧٩٥). ثم «جمهورية عبر نهر البو» Rep. Transpadane في سهل لمبارديا، في ٩ يوليو ١٧٩٧. وقد انضمت الجمهوريتان في ١٥ يوليو، وتألَّفت منهما جمهورية «خلف أو ما وراء جبال الألب» Cisalpine.
وفي أثناء ذلك هزم بونابرت جيوش النمسا التي حاولت مرات أربع بقيادة «ورزمر» Wursmer، وألفينزي Alvinzi تخليص «مانتوا»، فانتصر بونابرت على النمساويين في مواقع كاستليوني Castiglione (٥ أغسطس ١٧٩٦)، بسانو Bassano (٨ سبتمبر ١٧٩٦)، أركولا Arcole (١٧ نوفمبر ١٧٩٦)، وريفولي Rivoli (١٤ يناير ١٧٩٧)، فسلمت «مانتوا» بعد هذه الموقعة الأخيرة في ٢ فبراير ١٧٩٧.

ولقد استطاع بونابرت في الوقت نفسه أن يمدَّ أهل «كورسيكا» بالمساعدات التي مكنتهم من طرد الإنجليز من جزيرتهم في نوفمبر ١٧٩٦.

وكان بعد سقوط «مانتوا» أن اتَّجَه بونابرت لمعاقبة البابا «بيوس السادس» Pius vi الذي أظهر عداءً للفرنسيين. ولم تستطع جنود البابا الصمود أمام جيش الجمهورية «الفرنسية»؛ فاضطر البابا إلى عقد صلح تولينتينو Tolinteno في ١٩ فبراير ١٧٩٧، وبمقتضاه دفع البابا أموالًا طائلةً لتعويض الفرنسيين عن خسائر الحرب، ولتعويضهم كذلك عن مقتل «باسفيل» Basseville أحد موظفي المفوضية الفرنسية في روما، والذي قتله الشعب بها في ١٧٩٣. واستولى بونابرت على التحف التاريخية في رافينا Ravenna، وريميني Rimini، وبيسارو Pesaro، وأنكونا، وبيروجيا Perugia ولوريتو Loretto، وبعث بها إلى باريس.
ولما كان متعذِّرًا على النمساويين بعد هذه الهزائم أن يعدوا جيوشًا جديدة للميدان، فقد استمرَّ بونابرت يزحف دون مقاومة، عندما استأنف عملياته العسكرية، قاصدًا إلى فينا، حتى وصل إلى «لوبن» Leoben، وعندئذٍ وقَّع النمساويون على مقدمات «صلح لوبن» في ١٨ أبريل ١٧٩٧. فنزلوا لفرنسا عن بلجيكا ولمبارديا بينما احتفظوا بمانتوا، ودلماشيا، وإستريا Istria، والبندقية، وترك أمر الصلح مع «الإمبراطورية» — أي ألمانيا — إلى مؤتمر ينعقد لهذه الغاية.

الموقف الداخلي: حزب الكليشيان٨

وفي أثناء هذه الانتصارات الخارجية، كان الموقف الداخلي ينبئ بحدوث أزمة مستعصية بين الهيئة التنفيذية (حكومة الإدارة)، والهيئة التشريعية (مجلس الخمسمائة ومجلس الشيوخ).

ومردُّ ذلك إلى ما جاء في دستور العام الثالث (١٧٩٥) من وجوب تغيير ثلث أعضاء الهيئة التشريعية كل عام، وسقوط عضو واحد من أعضاء حكومة الإدارة (الهيئة التنفيذية) كل عام كذلك.

فإن إعادة انتخاب ثلث أعضاء الهيئة التشريعية ثم تبديل أعضاء حكومة الإدارة لم يلبثا أن أتيا بأعضاء من «المعتدلين» في الهيئتين التشريعية والتنفيذية، تتعارض مبادئهم وأغراضهم مع مبادئ وأغراض الأعضاء الأصليين في كلا الهيئتين؛ وهؤلاء الأخيرون هم الذين عرفنا أنهم كانوا من أعضاء المؤتمر الوطني Conventionnels الذين اشترط الدستور أصلًا أن يكون ثلثا أعضاء الهيئة التشريعية منهم، وكانوا يمثلون مصالح الطبقة البورجوازية التي أَثْرَتْ على حساب الانقلابات الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثتها الثورة، والذين كانوا من «قتلة الملك» الذين يريدون بقاء النظام الجمهوري، ويعارضون أي اتجاه «رجعي» أو أي انحراف نحو تأييد الملكية.

ولكن التيار الرجعي الذي حدث بعد «انقلاب ترميدور» عمومًا ثم بعد قيام حكومة الإدارة ذاتها، وهي التي صارت تغض النظر عن مساعي «المهاجرين» — وهم الملكيون — الذين بدءوا يعودون في أعداد كبيرة، وصارت تتعامى عن الوسائل التي لجئوا إليها لتسهيل عودتهم إلى البلاد، وإقامتهم بها، مثل تزييف جوازات السفر، أو شهادات الإقامة … إلخ. جعل ذلك كله في وسع الملكيين أن يعودوا إلى الوطن، بل وأن يلقَوْا من يتولَّى الدفاع عنهم أمام الشعب الفرنسي حتى إنهم شرعوا علاوةً على ذلك، يؤلِّفون الجمعيات السرية (أو العلنية؛ لأن أمرها لم يكن سرًّا مكتومًا) ويضمون إليهم عناصر من البورجوازيين الذين يريدون إنهاء الحرب وعقد السلام السريع، ثم عناصر من الكاثوليك الذين يطالبون بحريات أوسع للعبادة.

ولقد تألَّف من بين هؤلاء الملكيين والبورجوازي والكاثوليكيين المنضمين إليهم، اتحاد أو حزب أُطْلِق عليه اسم «حزب الكليشيان» نسبة إلى شارع كليشي Clichy الذي كان به مقر اجتماع كثيرين من رؤسائهم، وهو منزل عضو مجلس الخمسمائة «جلبير ديموليير» Gilbert Desmolières.
وقد اشترك بعض هؤلاء «الكليشيان» في مؤامرة قام بها أحد الوكلاء الملكيين، وهو الأبيه بروتيه L’Abbe Brottier، ولكن الحكومة بادرت بالقبض على «بروتيه» وإخوانه في ٣٠ يناير ١٧٩٧، ثم حكم عليه بالسجن عشر سنوات «في ٨ أبريل»، وقد نفوا جميعًا بعد انقلاب (١٨ فريكتدور/٤ سبتمبر ١٧٩٧) إلى كايين Cayenne بأمريكا الجنوبية.
ولكن الملكيين نبذوا سريعًا كل تفكير في القيام بانقلاب بوسائل العنف، بل عوَّلوا بدلًا من ذلك على بلوغ غايتهم بطريق العمل السلمي والقانوني، حسبما أشار عليهم به كبار رجالهم مثل «بيشجرو» Pichegru وغيره، ووافق عليه الملك لويس الثامن عشر «دوق دي بروفنس» نفسه (١٠ مارس ١٧٩٧)، وكان معنى العمل السلمي والقانوني: أن يسيطر «الملكيون» أو «الكليشيان» على الهيئة التشريعية والتنفيذية، بأن تكون لهم الغلبة فيهما.
وعلى ذلك، فقد راح الملكيون يستعدون لخوض الانتخابات المتوقعة (حسب الدستور) وموعدها في ربيع ١٧٩٧؛ لتجديد الثلث الأول من أعضاء الهيئة التشريعية، وجعلت كلٌّ من إنجلترة والنمسا تتآمران لتأييد الملكيين في الانتخابات المقبلة. وبالفعل نجح هؤلاء نجاحًا تامًّا في انتخابات «المجالس الابتدائية» Assm. Primaires في ٢١ مارس ١٧٩٧، و«المجالس الانتخابية» Assm. Electorales في ٩ أبريل. فلم ينتخب من الأعضاء الذين سقطت عضويتهم — وهم كما نعرف من أعضاء المؤتمر الوطني القدامى وعددهم ٢١٦ — سوى ١٣ فقط (بالإضافة إلى أربعة منهم «بارير» ألغت الهيئة التشريعية انتخابهم).
وفيما يتعلق بالهيئة التنفيذية، خرج «لوترنير» بالقرعة وحل محلَّه «بارتليمي» Barthélemy، المفاوض الفرنسي في صلح بال سنة ١٧٩٥، ومرشح حزب الكليشيان. وقد انتخب في الوقت نفسه «بيشجرو» من كبار الملكيين، رئيسًا لمجلس الخمسمائة، و«باربيه ماربوا» Barbé-Marbois، وهو معدود من الملكيين كذلك لرئاسة الشيوخ.
ولقد ظهر أثر هذا التغيير عندما قرر مجلس الخمسمائة في ١٦ يوليو ١٧٩٧ إلغاء القوانين القائمة ضد القساوسة المستنكرين. وعندما جرى التفكير في تغيير وزراء أربعة من اليعاقبة هم: وزراء العدل، والمالية، والبحرية، والخارجية. ولكن «باراس» — «من اليعاقبة» وعضو حكومة الإدارة — استطاع أن ينتهز هذه الفرصة للإبقاء على وزيرين من هؤلاء، كانوا من أنصاره، ثم أدخل في الوزارة اثنين آخرين من أنصاره كذلك، كان أحدهما محاميه «تاليران-بيريجور» Talleyrand-Périgord.
وكان في هذه اللحظة بالذات أن جددت إنجلترة مسعاها لعقد الصلح، تحت تأثير انتصارات بونابرت في إيطاليا من جهة، ولأنها كانت تُعانِي أزمة مالية داخلية، وتخشى من وقوع عصيان في الأسطول من جهة أخرى. فقامت المفاوضات في «ليل Lille» بين الإنجليز «ومندوبهم مالمسبري Malmesbury» وبين مندوبي حكومة الإدارة، وقد بدأت هذه المفاوضات في ٧ يوليو ١٧٩٧. وكان قد استطاع «مالمسبري» بإرشاد الوزير الإنجليزي «بيت الأصغر» وتحت تعليماته، أن يظفر ببعض مزايا، عندما وقع انقلاب (١٨ فريكتدور السنة الخامسة/٤ سبتمبر ١٧٩٧).

انقلاب ١٨ فريكتدور سنة ٥ / ٤ سبتمبر ١٧٩٧

لقد بقي بونابرت بعد الانتصارات التي نالها مقيمًا في إيطاليا، حيث وافته زوجه «جوزفين بوهارنيه» إلى قصر كريفللي Crivelli العظيم في مومبللو Mombello بالقرب من ميلان، وحيث احتفل بونابرت بزواج أخته «بولين» Pauline من الجنرال لكلير Leclerc. ويصف «ألبير سوريل» Albert Sorel أسلوب أو نوع الحياة التي كان يعيشها بونابرت في ميلان وقتئذٍ فيقول: «إنه أنشأ بها بلاطًا حقيقيًّا، فالحكومة التي التفَّ رجالها حوله هي حكومة أحد كبار القناصل الرومانيين في عهد الرومان المجيد؛ هي حكومة الغازي الفاتح، ورجل الدولة، ومنظم الفتوحات، وناشر السلام بين الشعوب المقهورة. «إن مَثَل بونابرت في ميلان» كمثل يوليوس قيصر في بلاد الغال.»
وبونابرت وقتئذٍ كان قد فرغ من إنشاء جمهورية ما وراء الألب (٩–١٤ يوليو ١٧٩٧). وفي ١٤ يوليو كانت قد بلغت ثقته في قيادته وفي مقدرته حدًّا جعله يبعث بالنصح إلى حكومة المديرين في باريس؛ حتى تبذل نشاطًا أكبر ضد مؤامرات ومحاولات الملكيين ضد الحكومة، وأن يؤكد «للمديرين» ولاء جنوده الذين قال إنهم مستعدون لاجتياز جبال الألب، والحضور إلى باريس «في سرعة النسور» لحماية الحكومة ولحماية الجمهوريين. ثم إنه لم يلبث أن أوفد إلى باريس أحد قواده «أوجيرو» Augereau كي يتولى قيادة الجنود بها (٨ أغسطس ١٧٩٧).

ولما كانت أكثرية أعضاء حكومة الإدارة، وهم: باراس، وروبل، ولاريفليير ليبو، من الجمهوريين، ويؤلفون ثلاثية حكومية متشبثة بالنظام الجمهوري، بينما كان «كارنو» و«بارتليمي» من المعتدلين (أو الملكيين)، وهما أقلية، فقد بقيت الهيئة التنفيذية تؤيِّد الجمهورية، في الوقت الذي كانت فيه أكثرية الهيئة التشريعية — كما رأينا — بعد انتخابات مارس-أبريل ١٧٩٧، من «المعتدلين» الذين يؤيدون الملكية.

وكان من نقائص دستور العام الثالث (١٧٩٥) أنه لم ينصَّ على الطرق التي يمكن بها إزالة ما قد يقع من خلافات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فلم يكن لأيٍّ من المجلسين الحق في إسقاط حكومة المديرين أو السلطة التنفيذية، وليس لهذه الأخيرة حق حل المجلسين، وإجراء انتخابات جديدة، فكان المخرَج إذن هو لجوء كلٍّ منهما إلى وسائل غير قانونية لحسم ما يحدث من خلافات بينهما. فتعددت حوادث الاصطدام بين أنصار المعتدلين (الملكيين) والجمهوريين، وكثرت معارك الشوارع بين الفريقين.

وحاول «المجلسان» التخلص من «الثلاثية الديكتاتورية»: ثلاثية باراس، لاريفليير ليبو، وروبل؛ فأخذا يتهيآن (يوم ١٧ فريكتدور السنة الخامسة/٣ سبتمبر ١٧٩٧) لتوجيه الاتهام ضد هؤلاء الثلاثة، وفي المساء أقفلت «بوابات» باريس. ولكن باراس ولاريفليير ليبو وروبل أعلنوا انعقاد حكومة الإدارة في جلسة مستديمة، وبادر «أوجيرو» باحتلال مكان اجتماع المجلسين وشتَّت شمل الأعضاء الذين حاولوا الاجتماع وحبس فريقًا منهم.

وقد أُلْقِي القبض على «بارتليمي» وهو في فراشه، وتمكَّن «كارنو» من الهرب «إلى سويسرة»، واقتاد «بيشيجرو» ثلاثة عشر نائبًا إلى سجن «الهيكل».

وفي اليوم التالي من (٤ سبتمبر/١٨ فريكتدور سنة ٥) أصدرت حكومة المديرين (الإدارة) قرارًا باجتماع مجلس الخمسمائة «في مسرح الأوديون I’Odéon» ومجلس الشيوخ في مدرسة الطب I’Ecole de Medécin وأبلغوا المجلسين وثائق متعلقة بالمؤامرة الملكية ضد الحكومة، وطلبوا من الهيئة التشريعية استصدار طائفة من القرارات لاعتماد الإجراءات التي يريدها وزير العدل «مرلان دي دويه» Merlin de Douai.

وقد انتظمت هذه القرارات في قانون ٥ سبتمبر ١٧٩٧، وبمقتضاه؛ أولًا: صار إلغاء انتخاب ١٤٥ نائبًا، ونفي ٥٣ نائبًا آخر إلى كايين منهم كارنو، وبارتليمي، وباربيه، ماربوا، وبيشجرو، وكذلك عدد من الصحافيين، ثم الآبيه بروتييه الذي سبق الكلام عنه. ولم يكن كل هؤلاء في قبضة الحكومة. ومن الذين نفوا فعلًا كان بارتليمي وبيشجرو وبروتييه. وثانيًا: إلغاء كل القرارات التي صدرت في صالح المهاجرين، والقساوسة المستنكرين، ثم الاستزادة من صرامة الرقابة المفروضة على الصحافة، ثم إعطاء حكومة الإدارة سلطات استثنائية لتطهير كل فروع الإدارة في الحكومة. وثالثًا: وضع الجيش تحت سلطان وإشراف أصدقاء «باراس»: أوجيرو، وخصوصًا بونابرت الذي بدأ يسطع نجمه، لا سيما بعد وفاة الجنرال «هوش» الذي توفي فجأة في ١٩ سبتمبر ١٧٩٧، وكان المنافس القوي الوحيد لبونابرت.

وفي ٦ سبتمبر حل «مرلان دي دويه» وفرانسوا دي نوف شاتو Neufchateau محل كلٍّ من «كارنو» و«بارتليمي».

وأفادت حكومة الإدارة من هذا النصر الذي قضى (بفضل انقلاب ١٨ فريكتدور السنة الخامسة) على حزب الكليشيان والملكيين، وعلى كل معارضة وقتئذٍ؛ بأن راحت تبذل جهدًا صادقًا لمعالجة الأزمة المالية، فاستصدرت قانون ٣٠ سبتمبر ١٧٩٧ لضغط المصروفات في ميزانية الحرب، ولإنقاص الدين العام خصوصًا، ولتحسين الإدارة المالية بالعمل من أجل صيانة موارد الثورة العامة، بما في ذلك تخفيض الضريبة المباشرة، وتنظيم الاحتكار، وضريبة التمغة، وغير ذلك.

صلح كامبوفرميو (١٧ أكتوبر ١٧٩٧)

وخشي النمساويون بعد انقلاب ١٨ فريكتدور — وهو الانقلاب الذي ساعد بونابرت على إنجاحه، وصار له بفضل هذه المساعدة نفوذ ملموس في باريس — خشي النمساويون أن يتمكَّن بونابرت من إجبار حكومة الإدارة على تأييده فيما كان يريد فرضه من شروط على النمسا. وخشي وزير الخارجية النمساوي «ثوجوت» Thugut أن لا يتقيَّد بونابرت في هذه الظروف بشروط «هدنة لوبن» وأن يصر على إنشاء الجمهورية في «فينا» ذاتها.
وعلى ذلك فقد بادر «ثوجوت» بإرسال دبلوماسي ماهر هو الكونت لويس كوبنزل Cobenzl إلى «أودين» Udine حيث كان يقيم بونابرت حتى يعقد الصلح النهائي معه بكل سرعة. وفي ١٧ أكتوبر ١٧٩٧ تَمَّ إبرام الصلح بين النمسا وحكومة الجمهورية «الفرنسية» في كامبو-فرميو Campo-Formio، وفي هذا الصلح تنازلت النمسا لفرنسا عن ممتلكاتها في بلجيكا وفي إيطاليا، واعترفت بالجمهوريتين اللتين أنشأهما بونابرت في إيطاليا وهما: جمهورية ما وراء الألب Rép. Cisalpine وجمهورية ليجوريا Rép. Ligurienne «في جنوه». وكان بونابرت قد عقد مع حكومة جنوة الجمهورية القديمة معاهدة مؤقتة في «مومبللو» في ٦ يونيو ١٧٩٧ استبدل فيها بحكومة النبلاء، حكومة ديمقراطية من هيئة تشريعية في مجلسين وهيئة تنفيذية في شخص «دوج» Doge واثنيْ عشر «شيخًا» Senateurs؛ أي حكومة من نمط حكومة الإدارة في فرنسا. وقد سُمِّيَتْ هذه بجمهورية ليجوريا.
وفي نظير ذلك تنازلت فرنسا للنمسا عن جمهورية البندقية والأراضي التابعة لها في «فريولي» Fruili و«إستريا» ودلماشيا حتى نهر الأديج، وجزر بحر الأدرياتيك، وتلك أملاك ليست لبونابرت، ولا حَقَّ له في التصرف في أمرها. وقد احتفظ بونابرت لفرنسا من أملاك البندقية السابقة في بحر الأدرياتيك، بجزر الأيونيان: كرفو، زانتي، سيفالونيا، سانت مور Sainte-Maure، سيريجو Cérigo.
وفيما يتعلَّق بالصلح مع الإمبراطورية «ألمانيا» تقرَّر في ٣١ أكتوبر أن ينعقد مؤتمر لهذه الغاية في «رشتات» Rastatt. وقد بدأ هذا المؤتمر أعماله في ١٦ ديسمبر ١٧٩٧، ووافق مندوبو الولايات الألمانية والنمسا (في ٩ مارس ١٧٩٨) على التنازل لفرنسا عن كل الشاطئ الأيسر لنهر الراين باستثناءات بسيطة. فأجاب هذا الصلح (صلح رشتات) مطلب الفرنسيين من حيث إنه ربط حدود فرنسا الطبيعية بالشاطئ الأيسر لنهر الراين.

وعلى خلاف ذلك كانت على صلح كامبو-فرميو مآخذ كبيرة: منها أن النمسا بالرغم من هزيمتها في الحرب الأخيرة لم تفقد شيئًا؛ لأن خسائرها كانت في بلجيكا وإيطاليا، ولأن فرنسا «الجمهورية» قد تنكَّرت في هذه الحرب للمبادئ التي نادت بها ثورتها، من حيث الرغبة في تحرير الشعوب، ولأن هذا الصلح انطوى في الحقيقة على أصول حرب جديدة قادمة. ولكن فرنسا كانت منهوكة القوى، ولم يكن الشعب متنورًا التنوُّر الكافي في شئون السياسة الخارجية؛ ولذلك فقد قوبل صلح كامبو-فرميو بحماس عظيم.

وحقيقةً قضى إحراز هذا النصر السياسي (صلح كامبوفرميو) على الخطر من حدوث رد فعل أو حركة رجعية في صالح الملكية، ولكن هذا «الصلح» قد وضع من الآن فصاعدًا السلطة الفعلية في يد بونابرت الذي ألزمت سمعته القوية الناس على احترامه، وأخرست ألسنتهم عن توجيه أي نقد لأعماله.

وأما بونابرت فقد عاد إلى باريس يوم ١٠ ديسمبر سنة ١٧٩٧، وهو يشعر كما قال: «بأنه لم يعد قادرًا على تلقِّي الأوامر بعد اليوم من غيره.» ولو أنه حاول جهد طاقته أن يعيش عيشة «المواطن» العادي. واستقبله الشعب بمظاهرات الترحيب الحماسية واستقبلته حكومة الإدارة استقبالًا رسميًّا. وفي ٢٥ ديسمبر انتخب بونابرت عضوًا في المجمع العلمي L’Institut في مكان «كارنو»، وفي ٣ يناير سنة ١٧٩٨ أقام له «تاليران» حفلًا عظيمًا تكريمًا له حضرته «مدام دي ستال» Stael.

ولكن بونابرت لم يكن يرضى «بالبطالة»؛ فأخذ يدرس موضوع مراجعة دستور العام الثالث، والموقف السياسي الخارجي، وسياسة الدول: إنجلترة التي تعرف كيف تفيد من الظروف؛ لتحول دون تأليف محالفة فرنسية ضدها، وإسبانيا التي يحاول عضو الإدارة «روبل» أن يزجَّ بها في حرب مع البورتغال، ولكن دون جدوى، وهولندة التي أفقدتها الاضطرابات الداخلية كل قوة، والولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية … وهكذا.

كما استمرَّ يهتمُّ بشئون إيطاليا، وبالجمهوريات التي أنشئت أو التي يجب أن تنشأ على حدود فرنسا خصوصًا سويسرة … وظلَّ بونابرت يدرس ويكتب وينشر في الصحف، وتسنَّى له بفضل هذا كله أن يجذب اهتمام الرأي العام إلى شخصه، فأخذت تتزايد شهرته رسوخًا عند الجماهير، في حين استمرَّت تتناقص وتسوء سمعة حكومة الإدارة.

وكان لغضب الشعب من حكومة الإدارة عدة أسباب: منها السياسة التي جرت عليها في الداخل، والتي أوجدت ذلك التناقض الذي سمح لفريق من الناس أن يعيش في بَذَخ وتَرَف، بينما يشقى الباقون، وهم أكثرية الشعب الساحقة، ومنها ما يعرفه الشعب عن «باراس»، وإغضائه عن المتعهِّدين والمورِّدين للجيش والمضاربين أو مشاركتهم في أرباحهم التي جنوها على حساب قوت الجيش والشعب عامة، ومنها الصعوبات التي وقفت في طريق استيراد الحبوب والمواد الأولية من الخارج والتي أوجدها قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها إفلاس كثيرين من أصحاب السندات بسبب إنقاص الدين العام، وكذلك الخفض المستمر الذي حدث في قيمة أوراق النقد الجديدة المعروفة باسم «الأذونات» على الأرض، التي سبق وصفها، ثم خزين الفلاحين محصولاتهم الزراعية. أضف إلى هذا كله الفضائح الخلقية المتزايدة؛ بسبب الانحلال الذي طرأ على المجتمع مما سبق الحديث عنه.

انقلاب ٢٢ فلوريال سنة ٦ / ١١ مايو سنة ١٧٩٨

وظهر غضب الشعب من حكومة الإدارة وكراهيته لها عندما جرت الانتخابات لتجديد ثلث أعضاء الهيئة التشريعية في أبريل ١٧٩٨.

وكان الاتجاه في هذه المرة نحو انتخاب أعضاء من «اليعاقبة» وليس انتخاب «ملكيين» كما حدث في انتخابات العام السابق (سنة ١٧٩٧). فأسفرت الانتخابات عن نجاح أعضاء المؤتمر الوطني القدامى، وانتخابهم لعضوية مجلسي الخمسمائة والشيوخ.

ولما كانت الأكثرية في المجلسين (وهي الثلثان) من أنصار حكومة الإدارة، فقد رأت التخلُّص من هذه العناصر الجديدة، بالقيام بانقلاب من نمط انقلاب السنة الماضية؛ فاستصدرت الهيئة التشريعية قانونًا في (١١ مايو سنة ١٧٩٨ / ٢٢ فلوريال سنة ٦) ألغي بمقتضاه انتخاب ٩٨ عضوًا من الأعضاء الجدد؛ ليستبدل بهم ٤٥ مرشحًا (١١ للشيوخ، ٣٤ للخمسمائة).

والذي تجدر ملاحظته أن عدد الأعضاء الذين ألغي انتخابهم من «اليعاقبة» كان كافيًا لأن يجعل «اليعاقبة» الباقين الأقلية في الهيئة التشريعية (أي في المجلسين). فلم يكن الغرض إذن طرد كل «اليعاقبة» من الهيئة التشريعية: الأمر الذي يدلُّ على أن هذا الانقلاب (انقلاب ٢٢ فلوريال سنة ٦) لم يكن مبعثه سياسة واضحة مفهومة ومنطقية، وإنما كان الغرض منه — كما كان الغرض من انقلاب ١٨ فريكتدور سنة ٥ الذي سبقه — مجرد البقاء في الحكم، وذلك ليس بناءً على رغبة في إسداء خدمة معينة للأمة وللدولة، ولكن للمنفعة الشخصية فقط.

ونفس هذه الحقيقة تفسر ما حدث كذلك عند اختيار عضو الإدارة الذي يخلف «فرنسوا دي نوف شاتو» والذي سقطت عضويته، فوقع الاختيار في ١٥ مايو ١٧٩٨ على «تريلهارد» Treillhard بالرغم من أنه لم يكن حائزًا للشروط التي نصَّ عليها الدستور، وهي ضرورة أن تمضي سنة من تاريخ انتهاء عضويته في الهيئة التشريعية، حيث كان «تريلهارد» عضوًا بمجلس الخمسمائة، ولم تمضِ سنة بتمامها على خروجه من هذا المجلس حتى يصحَّ اختياره لحكومة المديرين.

ومع أن هذه الحكومة قد بذلت قصارى جهدها لإجراء عدة إصلاحات — مشهورة باسم إصلاحات العام السابع — في الإدارة المالية، وشئون الضرائب، والتعليم العام، والاقتصاد، والإدارة العامة؛ فقد ظل الناس يكرهونها بسبب البذخ والترف الذي عاش فيه أعضاؤها، والذين سماهم الشعب «بأصحاب الجلالة المقيمين في قصر لكسمبورج»، وذلك بينما يعيش الشعب في بؤس وضنك.

وسبب آخر لكراهية الناس لهذه الحكومة، هو أن هذه الديكتاتورية التي فرضها النظام القائم على الشعب، كانت لا تستنِد على رضاء هذا الشعب، بل وصارت تعمل على إهدار حرياته وحقوقه. ولقد جعلت الظروف السائدة هذا الشعب نفسه يتطلَّع إلى قيادة أو توجيه أو حكومة الجنرالات المنتصرين في الحرب، والذين في وسعهم وحدهم أن يجنِّبوا البلاد أخطار الغزو من جهة، وأن يكفُلوا لفرنسا إكليلًا من المجد والفخار بفضل انتصاراتهم من جهة أخرى.

المحالفة الدولية الثانية (١٧٩٨)

فقد نشأ عن سياسة الغزو التي اتبعتها حكومة الإدارة والتي ساعد بونابرت على نجاحها، أن تألَّبَتْ أوروبا ضد فرنسا؛ وذلك لأن السيطرة الفرنسية في القارة لم تلبث أن امتدت حتى شملت الجمهورية السويسرية. بينما تدخَّلت في إيطاليا حكومة الإدارة — وتدخَّل بونابرت الذي كان شقيقه «جوزيف بونابرت» السفير الفرنسي في رومه — تدخلت في إيطاليا: في شئون «الدولة البابوية» لتأييد الجمهوريين الرومانيين، واحتلَّ الجنرال «برتيه» Berthier مداخل رومة. حتى إذا أعلن الديمقراطيون بها «الجمهورية الرومانية» دخل القائد الفرنسي رومة في (١٥ فبراير ١٧٩٨).
ولقد أثار إنشاء هذه «الجمهورية الرومانية» حفيظة النمسا الكاثوليكية، بينما هدَّد وجودها تهديدًا مباشرًا ملك نابولي «فردنند الرابع» الذي انقلب الآن على فرنسا، وراح يبذل المساعدات لأسطول الإنجليز بقيادة اللورد نلسن في البحر الأبيض. وكانت ماري-كارولين زوجة فردنند، صديقة حميمة لليدي إما هاملتون Emma Hamilton زوجة السفير الإنجليزي في نابولي. وفي نوفمبر ١٧٩٨ قام فردنند بالهجوم على «الجمهورية الرومانية»، وفي أول ديسمبر تحالف مع إنجلترة، ومن هذا الحين صار يُسدِي كلَّ معاونة في قدرته للأسطول الإنجليزي.

ثم لم تلبث تركيا أن أعلنت الحرب على فرنسا في ٩ سبتمبر ١٧٩٨، عندما غزت الحملة الفرنسية مصر بقيادة بونابرت في شهر يوليو السابق، في ظروف سوف يأتي ذكرها.

وتزايد الخطر على الجمهورية «فرنسا» عندما قرَّر بول الأول — قيصر روسيا — مؤازرة تركيا في الحرب ضد فرنسا مع السلطان العثماني في ٧ أكتوبر ١٧٩٨، وأخذ يستحثُّ النمسا على قطع علاقاتها مع فرنسا.

وفي أكتوبر ١٧٩٨ غزت جيوش النمسا مقاطعة جريسون Grisons في سويسرة «أو الجمهورية الهلفيتية». وفي ١٦ نوفمبر تحالفت النمسا مع إنجلترة، وقامت هذه المحالفة على أساس تحرير سويسرة، واسترجاع لمبارديا «للنمسا»، واحتفاظ النمسا بالبندقية، وإرجاع فرنسا إلى حدودها القديمة، وكبح جماحها بإنشاء «دولة حاجزة» قوية على حدود فرنسا الشمالية الشرقية، تتألف من بلجيكا وهولندة، ثم إرجاع الحال في ألمانيا إلى ما كان عليه في عام ١٧٩٢.

وهكذا تألفت المحالفة الدولية الثانية ضد فرنسا. وصارت جبهة القتال حينئذٍ ممتدة من هولندة إلى نابولي، وتواجه فرنسا بجيشها المؤلف من ٢٠٠٠٠٠ جندي، جيش الحلفاء الذي كان قوامه ٤٠٠٠٠٠ جندي.

ولقد حاولت حكومة الإدارة معالجة هذا الموقف بتجنيد جميع الشبان الفرنسيين بين سِنِّ الحادية والعشرين والخامسة والعشرين، وأصدرت نداءً لتجنيد ٢٠٠٠٠٠ شاب، ولكن هذا القرار أثار غضب الشعب، وهرب كثيرون من الشبان الصالحين للخدمة العسكرية، وانضمُّوا إلى صفوف أو جماعات أو عصابات «قطاع الطريق» «الملكيين».

وأما العمليات العسكرية، فقد بدأت قبل تجهيز أية جيوش جديدة. فبدأت الحرب في إيطاليا؛ حيث استولى الفرنسيون بقيادة «شامبيونيه» Championnet على تسكانيا، ثم على مملكة نابولي (٢٣ يناير ١٧٩٩)، التي أنشئوا منها جمهورية لم تعمِّر إلا فترة قصيرة من الزمن، سميت بالجمهورية البارثينوبية Rép. Parthénopéenne. ولكن لم يلبث النمساويون أن انتصروا عليهم، فهزم هؤلاء بقيادة «الأرشديوق شارل» جيش الجنرال «جوردان» في موقعة ستوكاش Stockach في ٢١ مارس ١٧٩٩، وأرغموه على الارتداد على نهر الراين، بينما عجز جيش فرنسي آخر بقيادة الجنرال «شيرر» Sehérer عن عبور نهر الأديج «في لمبارديا»، واضطر إلى التقهقر حتى نهر «الأدا» Adda، واستطاع بعد ذلك أن يقتحم نهر الأدا قائد جيش الحلفاء الجنرال «سواروف» الروسي Souvarov بعد هزيمة الفرنسيين الذين كانوا بقيادة الجنرال «مورو» Moreau الذي خلف «شيرر» في القيادة عند «كاسانو» Cassano في ١٧ أبريل ١٧٩٩، ولم تكن هذه كل الهزائم التي أدركت الفرنسيين في إيطاليا.
فبينما كان النمساويون ينتقمون من الجمهورية الفرنسية لإعلانها الحرب عليهم، بذبح مندوبيها في مؤتمر «رشتات» عند مغادرتهم البلدة (في ٢٨ أبريل ١٧٩٩)، كان «سواروف» يواصِل تقدُّمه في شمال إيطاليا. فهزم الفرنسيين (بقيادة ماكدونالد) في تربيا Trebbia (١٧–١٩ يونيو)، ثم هزم جيش «جوبير» Joubert في نوفي Novi (في ١٥ أغسطس). وقتل القائد الفرنسي في المعركة.
وفي سويسرة كان الموقف في صالح الفرنسيين. حقيقةً أوقع بهم الأرشديوق شارل بعض الهزائم، ولكن «مسينا» Masséna — القائد الفرنسي — اشتبك مع الروس في جملة معارك ناجحة، واستطاع بعد أن أرغمهم على الارتداد، الصمود في خط يمتدُّ من زيورخ إلى ممر سان جوثارد (٣-٤ يونيو ١٧٩٩).
وفي هولندة ظلَّ الجنرال برون Brune يحتلُّ البلاد، ولو أن الخطر كان محدقًا به؛ بسبب نزول جيش إنجليزي روسي بقيادة «دوق يورك» York على الشاطئ الهولندي في سبتمبر ١٧٩٩.
وهكذا إذا استثنيت العمليات العسكرية في سويسرة وهولندة، كادت تكون جيوش الجمهورية منهزمة في كل مكان. ولقد أثارت هذه الهزائم — وخصوصًا تلك التي حدثت في إيطاليا — الشعور، وهيَّجت الخواطر ضد حكومة الإدارة. وقام الملكيون بثورات في الأقاليم الغربية، ولكن في هذه المرة ليس في «لافنديه» المنهوكة القوى، ولكن في الإقليم الواقع إلى الشمال منها، والمعروف باسم بوكاج Bocage، حيث كانت به مراكز «الشوان» من بريتاني، ونورمانديا وأنجو، ثم في جهات طولوز (في حوض الجارون الأعلى). وكذلك قاومت بلجيكا أوامر التجنيد.

انقلاب ٣٠ بريريال سنة ٧ / ١٨ يونيو ١٧٩٩

وعلى ذلك فقد أسفرت انتخابات مايو ١٧٩٩، عن نجاح عدد كبير من اليعاقبة من الذين سبق طردهم من الهيئة التشريعية في انقلاب (٢٢ فلوريال سنة ٦ / ١١ مايو ١٧٩٨) ونجاح عدد آخر من الذين عرفوا باسم «الفريكتدوريين»؛ أي الذين قام على أكتافهم انقلاب (١٨ فركتدور سنة ٥ / ٣ سبتمبر ١٧٩٧)، والذين صاروا الآن من ألدِّ أعداء المديرين الحاليين، إن لم يكونوا من ألد أعداء حكومة الإدارة ذاتها، كنوع من أنواع الأداة التنفيذية.

وزاد من أزمة حكومة الإدارة أن «روبل» أقدر أعضاء هذه الحكومة والذي كان في استطاعته من بينهم مواجهة الموقف، لم تلبث أن سقطت عضويته وأخرجه الاقتراع من الحكومة في ٩ مايو ١٧٩٩. وانتخب بدلًا منه «سييس» Sieyes، والأخير ضد دستور العام الثالث، وكان انتخابه لعضوية هذه الحكومة بمثابة الاعتراف بأن هذا الدستور (دستور ١٧٩٥) لم يعد يؤدِّي الغرض من وجوده، وقد وجب لذلك إلغاؤه.

ووقع الاصطدام بين الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية على المسألة المالية، حيث اشتدَّ الهجوم على حكومة المديرين؛ بسبب العجز الكبير في الميزانية، والفساد المنتشر بين المديرين أنفسهم، الذين تركوا المتعهِّدين والمورِّدين والمضاربين يثرون على حساب الجيش «الجائع» والأمة التي تعيش في ضنك، بل وتواطئوا معهم.

وعندما وصل «سييس» إلى باريس من برلين في مايو ١٧٩٩ — وكان موفدًا في مهمة لدى ملك بروسيا فردريك وليم الثالث لإقناعه، دون جدوى، بالخروج من حياده والتحالف مع فرنسا، وتغيب عن باريس منذ ١٠ مايو ١٧٩٨ في هذه المهمة — دخل «سييس» عضوًا في حكومة المديرين في ١٦ يونيو. ووجد «سييس» عند حضوره إلى باريس أن الرأي منعقد على ضرورة إخراج ثلاثة من المديرين حتى يتسنَّى إجراء أيِّ إصلاح جدي. وهمَّ لاريفليير ليبو، ومرلان، وتريلهارد. فلم يلبث أن اقتنع هو أيضًا بهذا الرأي، ثم وجد «باراس» في هذه الظروف من صالحه الانضمام إلى «سييس» بمجرد أن أدرك أن مصير هؤلاء الثلاثة قد صار محتومًا وأمرًا مفروغًا منه.

وعلى ذلك فقد بدأت الهيئة التشريعية هجومها في ١٦ يونيو، بأن اكتشفت الآن وبعد مضي عام بطوله أن «تريلهارد» قد انتخب عضوًا في حكومة المديرين بطريقة غير دستورية. فأخرج «تريلهارد» من حكومة المديرين، وانتخب في مكانه «جوهييه» Gohier (١٨ يونيو)، ثم أرغم كلٌّ من «لاريفليير ليبو» و«مرلان» على الخروج كذلك في مساء اليوم نفسه، وانتخب في مكانهما «روجر ديكو» Roger-Ducos، والجنرال مولان Moulins. فصارت حكومة المديرين تتألَّف الآن من: باراس، سييس، جوهييه، وروجر ديكو ومولان.
وبهذا الانقلاب الذي عرف باسم انقلاب (٣٠ بريريال سنة ٧ / ١٨ يونية ١٧٩٩) انتقمت الهيئة التشريعية من الهيئة التنفيذية صاحبة الانقلابين السابقين: (انقلاب ١٨ فريكتدور سنة ٥ / ٣ سبتمبر ١٧٩٧)، (٢٢ فلوريال سنة ٦ / ١١ مايو ١٧٩٨) ضد الهيئة التشريعية. وهكذا كما قال «لوسيان Lucien بونابرت» شقيق الجنرال بونابرت: «بفضل هذا الانقلاب الأخير (٣٠ بريريال)، استعادت الهيئة التشريعية المكان الأول الذي هو من حقها أن تشغله في الدولة.»

ولكن الشعب قابل هذا الانقلاب «ببرود» وجفاء؛ لأنه كان من المتعذِّر عليه أن ينسى الشدائد التي تحمَّلَها في أيام المؤتمر الوطني، والبؤس الذي عاش فيه والذي تزايدت حدته على عهد حكومة الإدارة. ولقد كان سبب النكبات التي نزلت بساحة الشعب، تعرض البلاد لخطر الغزو الخارجي من ناحية، ولخطر التآمر — تآمر أعداء الثورة — عليها في الداخل من ناحية أخرى؛ الأمر الذي جعل الشعب يعتقد أن قيام الحكومة القومية التي تتركَّز في يدها السلطة سوف يدفع عنه هذين الخطرين: الخارجي والداخلي معًا.

فكان لدفع هذين الخطرين إذن أن تأسَّست «الديكتاتورية» التي حكمته في عهد المؤتمر الوطني والتي لا زالت تحكمه في عهد المديرين. ومع ذلك فقد أخفقت هذه الديكتاتورية في دفع هذه الأخطار عنه، بل ظلت هذه الأخطار قائمة ومتجددة، بل واقتضى وجودها وعدم زوالها اللجوء إلى اتخاذ نفس الإجراءات التي قاسى الشعب من جرائها الأهوال في «عهد الإرهاب».

من ذلك «قانون الرهائن» Loi de Otages الذي صدر منذ ١٢ يوليو ١٧٩٧، وكان من طراز «قانون المشبوهين» المعروف الذي صدر في ١٧ سبتمبر ١٧٩٣، وكان من دعامات عهد الإرهاب. فقد أجاز «قانون الرهائن» للحكومة أن تأخذ رهائن من العائلات المشتبه في أنها تعطف على الفارين من التجنيد أو المنضمين إلى عصابات الملكيين، أو المشتبه في أنها ذات قرابة ولو بعيدة «بالمهاجرين». على أن يكون نصيب هؤلاء الرهائن الإعدام إذا حاولوا الهرب، وكذلك نفي أربعة منهم ومصادرة أموالهم، مع فرض غرامة جماعية عليهم، وذلك في نظير كل جمهوري واحد يلقى حتفه على أيدي خصوم الحكومة.

ولقد قاوم الشعب هذا القانون، «الذي أعاد — كما قال الأهلون — حكومة سنة ٩٣، والذي لا يمكن أن يتحمله إنسان.» وظهرت هذه المقاومة في تأليف الجمعيات للانتقام من الموظفين الذين يريدون تنفيذ «قانون الرهائن».

وزيادة على ذلك، فقد أفزع الشعب وأرعبه، وأعاد إلى ذهنه ذكريات عهد الإرهاب الأليمة، وجعله ينقم على حكومة المديرين، أن هذه الحكومة حتى تكسب — كما اعتقدت — الرأي العام، لم تلبث أن أجازت من جديد تشكيل «نادي اليعاقبة» القديم، فصار هذا يعرف الآن باسم «جمعية المانيج» Sociéte du Manège نسبةً إلى صالة «المانيج» — ملعب الخيل — التي كانت مكان جلسات الجمعية التأسيسية الوطنية، والجمعية التشريعية، والمؤتمر الوطني.

وقد انضمَّ إلى جمعية المانيج هذه حوالي (١٥٠) نائبًا، عكست خطاباتهم ومناقشاتهم صورة من تلك الأقوال المحمومة التي تميَّزت بها مناقشات المؤتمر الوطني في سنة ١٧٩٣، بالإضافة إلى التعبيرات الاشتراكية والشيوعية المنتشرة الآن كنتيجة للحركات الديمقراطية التي قامت في عاميْ ١٧٩٥، ١٧٩٦.

وتزايد فزع الشعب عندما صار الفوضويون Anarchistes يتحدثون علنًا في «مقهى جودو» Café Godeau بالقرب من التويلري عن ذبح ألوف من الناس انتقامًا لإعدام «روبسبيير» و«بابيف». وأخذت تروج الإشاعات بأن مجلس الخمسمائة يعتزم إعادة تأسيس «لجنة الخلاص العام»، وأن الجنرال «جوردان» — أبرز القواد في باريس — قد شرب من مأدبة نخب إحياء عهد «حاملي الحراب piques» أي الثوريين «اليعاقبة».

فقامت المظاهرات، ووقعت الالتحامات في شوارع باريس، واضطر مجلس الشيوخ إلى إغلاق صالة «المانيج». ولكن «جمعية المانيج» انتقلت إلى ضفة نهر السين الأخرى؛ لتتخذ مقرها في كنيسة اليعاقبة.

وظلت هذه الجمعية موضع كراهية عظيمة عامة، فحملت الصحف عليها حملات عنيفة، وهزأت بها الجماهير وسخرت منها في الطرقات والمقاهي والمسارح وفي كل مكان. ولكنها بقيت مبعث رعب وإرهاب للجميع؛ لأن أعضاءها كانوا في البوليس، والموظفين المنتشرين في مختلف فروع الإدارة، ثم كان لها أنصار عديدون في مجلس الخمسمائة، ويعطف عليها من حكومة المديرين اثنان، هما: «جوهييه» و«مولان»، بينما كان من بين أعضائها ثلاثة من القواد: براندوت وهو وزير الحربية، وجوردان، وأوجيرو.

والفزع الذي استبدَّ بالشعب حدث في نفس الوقت الذي كان قد أوقف فيه الهجوم العام الذي شنه الحلفاء على فرنسا (عند تشكيل المحالفة الدولية الثانية). وتركزت حينئذٍ العمليات العسكرية على خط الحدود في ميدانين أساسيين: «أولهما» في سويسرة، حيث استطاع الجنرال «ماسينا» هزيمة الروس بقيادة «كورساكوف» Korsakov في زيوريخ في ٢٥-٢٦ سبتمبر ١٧٩٩، في حين اضطر الجنرال «سواروف» إلى التقهقر صوب إقليم «جريسون» بعد أن هلك نصف عدد جيشه وفقد مدفعيته وكل عتاده. «وثانيهما» في هولندة، حيث انتصر الجنرال «برون» في برجن Bergen، في ١٩ سبتمبر ١٧٩٩، على الجيش الإنجليزي الروسي الذي ذكرنا أنه نزل على الشاطئ الهولندي بقيادة دوق يورك؛ فاضطر دوق يورك إلى التسليم في «اتفاق ألكمار Alkamaar» في ١٨ أكتوبر ١٧٩٩، والإبحار مع فلول جيشه إلى إنجلترة في ٣٠ نوفمبر، وبذلك تمَّ إنقاذ فرنسا.

الحملة المصرية وبونابرت (١٧٩٨-١٧٩٩)

ولكن هذه الانتصارات لم تُثِر اهتمام الشعب وقتئذٍ؛ بسبب سوء الموقف الداخلي من جهة، ولأن الأنظار من جهة ثانية كانت متجهة نحو مصر، التي صارت ميدانًا لانتصارات بونابرت الباهرة. ولقد أُخْفِيت عن الشعب الفرنسي أنباء أية هزائم تكون قد حلَّت بجيش الشرق في مصر، أو أية صعوبات تحيط به أو الأخطار التي كانت محدقة بهذا الجيش، فلم يعرف الشعب شيئًا عن ذلك كله، وبدأت من هذا الحين تحاك الأساطير حول البطل الذي علق الشعب المكدود الآمال العظيمة في أن تستعيد فرنسا مجدها وفخارها، بفضل هذا القائد الشاب، الذي غامر في بلاد «الشرق»: بلاد الأسرار والغموض، والبلاد التي ذهب إليها بونابرت غازيًا فاتحًا، ومنشئًا ومؤسسًا للإمبراطوريات العظيمة.

وكان المقصود من إرسال الحملة إلى مصر مهاجمة الإنجليز في طريق مواصلاتهم مع الهند عندما اتَّضَح أن من المتعذر مهاجمتهم في جزيرتهم. ومن المتواتر أن بونابرت نفسه كان عندئذٍ يحلم بمشروعه الشرقي العظيم، وأن حكومة الإدارة عندما قررت في ١٢ أبريل ١٧٩٨ إرسال «جيش الشرق» بقيادة بونابرت إلى مصر، إنما كانت تبغي إلى جانب ما ذكرنا التخلص مؤقتًا أو إلى الأبد من القائد المنتصر الذي صار يخاطبهم بلهجة الآمر صاحب السلطان والنفوذ في شئون الدولة، والذي يضع حكومة المديرين أنفسهم تحت رعايته أو حمايته.

ومن الثابت أن فرنسا كانت تريد إنشاء مستعمرة جديدة، في ميادين جديدة، ووفق مبادئ استعمارية جديدة، تعوِّض عليها خسارتها في جزر الهند الغربية، وتمكِّنها من إحياء مجد الإمبراطورية الاستعمارية القديمة.

ومهما يكن من أمرٍ، فقد جرت الاستعدادات لهذه الحملة في هدوء وكتمان، وكاد يعطل قيامها وقوع أزمة انتابت العلاقات الدبلوماسية مع النمسا عندما حدث شغب في فينا، انتزع الجمهور في أثنائه علم الثورة المثلث الألوان من مبنى السفارة الفرنسية، وغادر السفير الفرنسي «برنادوت» فينا في ١٥ أبريل ١٧٩٨، ولكن النمسا لم تستطع إثارة الإمارات الألمانية للدخول في حرب معها ضد فرنسا لعدم استعدادها. وعندئذٍ تخلَّى بونابرت عن عزمه على الذهاب إلى «رشتات» لتسوية الأمور بنفسه (٢ مايو). وذهب بدلًا من ذلك إلى طولون، فأبحرت الحملة من طولون في ١٩ مايو ١٧٩٨. وفي أول يوليو وصلت إلى الإسكندرية بعد أن استطاعت الإفلات من الأسطول الإنجليزي بقيادة «نلسن» في البحر الأبيض، واستولت على جزيرة مالطة (١٠ يونيو).

ودخل بونابرت القاهرة بعد أن أوقع بالمماليك هزيمة كبيرة في واقعة الأهرام في ٢١ يوليو ١٧٩٨. ولكن لم يلبث أن تحرَّج موقف الفرنسيين عندما حطَّم «نلسن» أسطولهم في أبي قير في أول أغسطس، فانقطعت بسبب هذه الكارثة المواصلات بين جيش الشرق وأرض الوطن، وصار من الآن فصاعدًا الفرنسيون محصورين في فتوحاتهم. وعندما أعلنت تركيا الحرب على فرنسا (٩ سبتمبر ١٧٩٨) ترك بونابرت الجنرال «ديزيه» Desaix في مصر بينما زحف هو إلى الشام، وانتصر على العثمانيين في معركة جبل طابور Mont Thabor في ١٧ أبريل ١٧٩٩. ولكنه أخفق في اقتحام حصن عكا. ولما كان الطاعون قد انتشر في جيشه، وبات مهددًا بوقوع هجوم عثماني-إنجليزي عليه، فقد اضطر بونابرت إلى التقهقر (٢٠ مايو) والانسحاب إلى مصر، التي وصلها في الوقت المناسب لينتصر على العثمانيين الذين نزل جيشهم في أبي قير (٢٥ يوليو–٢ أغسطس ١٧٩٩). وفي ٢٢ أغسطس غادر بونابرت مصر بعد أن ترك كليبر في قيادة الحملة.

ومن المعروف أن الجنرال «منو» لم يلبث أن خلف هذا الأخير في القيادة بعد مقتله، وأنه (أي منو) اضطر إلى التسليم بعد ذلك، وخرج الفرنسيون نهائيًّا من مصر (في أغسطس وسبتمبر سنة ١٨٠١).

ونجا بونابرت بأعجوبة من الأسطول الإنجليزي المتجوِّل في البحر الأبيض، فوصل إلى فيريجوز Fréjus على ساحل إقليم بروفنس الجنوبي في ٩ أكتوبر ١٧٩٩، وفي ١٣ أكتوبر دخل باريس.
وكانت باريس عندما وصلها بونابرت، تتحدث من مدة سابقة عن ضرورة إصلاح الدستور بشكل يكفُل تركيز وتقوية السلطة التنفيذية، حتى يتسنَّى بفضل ذلك إنشاء عهد من الاستقرار في فرنسا. فقد نشر «بنيامين كونستان» Beniamin Constant بوحيٍ من «سييس» كراسة عن «الثورة المضادة» الإنجليزية، والتي أعادت أسرة ستيوارات إلى العرش في سنة ١٦٦٠. وكان «بنيامين كونستان» من الذين أسَّسُوا مع «سييس»، ومدام دي ستال وتاليران، في سنة ١٧٩٧ حزبًا عرف باسم «الجماعة أو الدائرة الدستورية» Cercle Constitutionnel، وهو حزب جمهوري يؤيِّد وقتذاك حكومة الإدارة ضد حزب «الكليشيان» المعروف من «المعتدلين» الملكيين. وفي هذه الكراسة نقد «بنيامين كونستان» «الفجوات» الكثيرة في الدستور، والتي تسبب عنها اللجوء إلى استخدام وسائل العنف والشدة، فبدلًا من إنشاء أداة تنفيذية قوية، صار الاعتماد على الانقلابات والثورات لتحقيق رغبات الأحزاب المتناحرة، والتي اتخذت من دعوى وضع الدستور، أو التمسك به، أو تعديله، أو تغييره، ستارًا تخفي وراءه تنازعها على السلطة. ثم طالب «بنيامين كونستان» بإنهاء «الثورة»، وذلك كما قال بالاستفادة من الظروف القائمة فعلًا لتخليص «المبادئ» الصحيحة، والتي تجعل ممكنًا، أخيرًا، وبعد كل هذه الانقلابات والثورات «تأسيس الجمهورية».
ولقد قالت بهذا الرأي كذلك «مدام دي ستال» في كتاب نشرته في الشهور الأخيرة من عام ١٧٩٨، بعنوان «الظروف القائمة فعلًا والتي يمكن بها إنهاء الثورة».٩
وقد قرأ هذا الكتاب وصححه «بنيامين كونستان»، ومع أن كل ما عنيت به «مدام دي ستال» في هذا المؤلَّف كان ضمان مصالح الأغنياء، فقد تحدثت عن «النظام» Ordre، وعن «السلام» Paix، وهما الأمران اللذان طلبت الجماهير (الشعب) في فرنسا في سنة ١٧٩٨ أن تتأسَّس حكومة مركزية قوية في البلاد حتى يمكن تحقيقهما؛ لأن الحاجة باتت ملحة الآن «للنظام» و«للسلام» أكثر من أي وقتٍ مضى.

وأخذ «سييس» يفكر جديًّا في موضوع الوسيلة التي يمكن بفضلها حسم الخلافات التي تحدث بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. و«سييس» كان العدو اللدود لدستور العام الثالث، وهو كما نعلم لم يشترك في وضعه، ولقد كانت أكبر معايب هذا الدستور — وعلى نحو ما ذكرنا — أنه لم يبتكر الوسيلة التي يمكن بها فضُّ ما قد ينشأ من خلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بالطرق الدستورية القانونية؛ أي بالطرق السلمية والنظامية، ولم يكن أحد قد استشار «سييس» عند وضع هذا الدستور.

ولقد تخيَّل «سييس» نفسه وإلى جنبه قائد عسكري على رأس حكومة قوية وقادرة على إعادة النظام والسلام إلى فرنسا، ويلتفُّ حوله ليس فقط المعتدلون، ولكن الوطنيون المخلصون، والملكيون، والمتآمرون المغامرون، وبالاختصار كل أولئك الذين يريدون «إنهاء الثورة»؛ أي الذين يريدون تحقيق ما صار الجميع في عام ١٧٩٨ يطلبونه؛ لأن فريقًا منهم قد امتلأت جيوبهم بالمال ويبغون استمرار الفائدة التي جنوها من «الثورة»، ولأن فريقًا آخر لم يكن قد استفاد شيئًا من «الثورة»، وصار يبغي الآن الاستفادة من تغيير الأوضاع القائمة عندما تنتهي «الثورة»، ولأن فريقًا ثالثًا كان يؤمن إيمانًا صادقًا بضرورة «إنهاء الثورة» عن إيمان بالمثل العليا.

أما بونابرت فقد وقف سريعًا على كل ما كان يدور ويحدث حوله، وأشرك نفسه سريعًا في هذه المباحثات الدائرة حول ضرورة «إنهاء الثورة». وعندما سأله «تاليران» عن رأيه في دستور العام الثالث، كان جوابه: «إن تنظيم الشعب الفرنسي لم يكد يبدأ بعد!» ولقد حَمَلَ بونابرت حملة عنيفة على دستور العام الثالث الذي تَرَكَ للهيئة التشريعية — كما قال — الحق في تقرير السلم والحرب، والحق في فرض الضرائب. وأعلن بونابرت أن السلطة الحكومية هي التي يجب اعتبارها الممثل الحقيقي للأمة.

ومع أن شعورًا بالعداء كان متبادلًا بين «سييس» و«بونابرت»، فقد كَفَت الصلات التي نشأت بين الرجلين — منذ إقامة بونابرت في باريس — لأن يعتقد «سييس» أن بوسعه الاعتماد على بونابرت في تدبير الانقلاب المنتظر، ولأن يعتقد بونابرت من ناحيته، أن بوسعه بعد الانقلاب أن يسلب من «سييس» كل سلطة حقيقية بسهولة؛ وعلى ذلك فقد تَمَّ الاتفاق بينهما على أن يتعهَّد بونابرت بتنفيذ الانقلاب، في نظير أن يوضع موضع التنفيذ ذلك الدستور الجديد الذي كان قد أعده «سييس» نفسه.

انقلاب ١٨-١٩ بريمير سنة ٨ / ٩-١٠ نوفمبر ١٧٩٩

وكان «سييس» قبل مجيء بونابرت من مصر قد بدأ يدبِّر مؤامرة الانقلاب الذي يقضي على حكومة الإدارة، وعلى دستور العام الثالث، ويُتِيح الفرصة لإنشاء الحكومة المركزية القوية التي تستطيع إعادة «النظام» و«السلام» إلى فرنسا.

ولكن «سييس» وجد من المتعذِّر الاستناد على «المعتدلين» وحدهم لتنفيذ الانقلاب، ورأى من الضروري الاستعانة بقوة عسكرية؛ أي الاعتماد على قائد له من حسن السمعة وقوة النفوذ ما يضمن نجاح المؤامرة. ولما كان بونابرت بعيدًا عن فرنسا، فقد اتجه تفكير «سييس» إلى الجنرال «جوبير» Joubert، الذي أُعطِي قيادة جيش إيطاليا، على أمل أن يتمكَّن من هزيمة القائد الروسي «سواروف» في إيطاليا، فيعاون الحكومة عند عودته منتصرًا، في القضاء على اليعاقبة، ووضع دستور جديد بدلًا من دستور العام الثالث.

ومن المسلَّم به أن «سييس» وجماعة من أعوانه كانوا يفكرون وقتئذٍ في إنشاء ملكية دستورية. وهناك من يقولون إن «سييس» كان على اتصال بوكلاء الدوق دورليان. وقال غيرهم إنه متصل بأمير بروسي أو بدوق برنسويك، أو إنه يريد تولية أمير من أسرة بربون الإسبانية … إلخ إلى غير ذلك. كما أن «مدام دي ستال» كانت تدعو إلى جعل البروتستنتية دين الدولة الرسمي في فرنسا. ومن المقطوع به أن فكرة إنشاء الملكية من جديد في فرنسا كانت قائمة، قبل حدوث انقلاب بريمير بأربعة أشهر. ولقد قضى هذا الانقلاب على كل ذلك.

أما «جوبير» فقد غادر باريس في ١٦ يوليو، ولكنه لم يلبث أن انهزم كما عرفنا على يد «سواروف»، وقُتل في معركة نوفي Novi في ١٥ أغسطس ١٧٩٩، وهي المعركة التي أفقدت فرنسا كلَّ إيطاليا، ما عدا «جمهورية ليجوريا». فاتجهت الآن الأنظار إلى بونابرت كالرجل الذي في وسعه وحده إنقاذ فرنسا.
وفي ٣٠ أغسطس كتبت الصحف: «إن بونابرت هو الرجل الذي نفتقده١٠ ويعوزنا.»

ولم تلبثْ حكومة الإدارة أن سلمت بضرورة استدعائه من مصر. فقررت في ١٠ سبتمبر ١٧٩٩ أن تدخل في مفاوضات مع تركيا عن طريق السفير الإسباني لدى الباب العالي، من أجل عودة بونابرت والجيش الفرنسي، في نظير إرجاع مصر إلى الباب العالي، وفي ١٨ سبتمبر صدرت التعليمات من حكومة الإدارة إلى بونابرت بأن يتخذ كل الخطوات العسكرية والسياسية، التي يرى بعبقريته أنها ضرورية لتحقيق عودته مع جيش الشرق إلى فرنسا.

ولكن قبل أن تصل هذه التعليمات إلى بونابرت، كان هذا قد غادر مصر كما عرفنا منذ ٢٢ أغسطس. وفي ١٣ أكتوبر ١٧٩٩ وصل إلى باريس.

وبدأت الاستعدادات للانقلاب بأن أشرك «سييس» في المؤامرة اثنين من المديرين هما: روجر ديكو، وباراس، وأكثر الوزراء، وأكثرية مجلس الشيوخ. وكان من أعضاء هذا المجلس: «جوزيف» شقيق بونابرت. ومن جهة أخرى تعهَّد شقيق بونابرت الآخر «لوسيان» — وكان رئيس مجلس الخمسمائة ومشهودًا له بالكفاءة والذكاء، وبأنه برلماني ماهر — تعهَّد بأنه المسئول عن مسلك هذا المجلس.

ثم انضمَّ إلى المؤامرة نفر من رجال المال الذين أغضبهم على حكومة الإدارة ذلك القرض الإجباري الذي فرضته هذه الحكومة على الأغنياء؛ فقام بالإنفاق على الحركة وتمويلها أحد المتعهِّدين والمورِّدين للجيش ويدعى «كوللو» Collot ومصرفي يدعى «أوفرارد» Ouvrard، واكتملت الاستعدادات لتنفيذ المؤامرة (أو الانقلاب) يوم (٨ نوفمبر/١٧ بريمير سنة ٨).
واتفق رأي المتآمرين على نقل مكان اجتماع الهيئة التشريعية إلى خارج باريس، وكان لمجلس الشيوخ بحكم الدستور الحق في تغيير مكان اجتماع الهيئة التشريعية. فادعى المتآمرون اكتشاف «مؤامرة» من تدبير اليعاقبة، وانعقد مجلس الشيوخ لبحث هذه المسألة مساء يوم (٨ نوفمبر/١٧ بريمير)، وبقي منعقدًا طوال الليل حتى الثامنة من صباح اليوم التالي (٩ نوفمبر/١٨ بريمير)، وقرر المجلس أن ينقل مكان اجتماع الهيئة التشريعية إلى «سان كلو» St. Cloud، وعهد بتنفيذ هذا القرار إلى بونابرت، الذي عين لهذا الغرض حاكمًا عسكريًّا لباريس.

وبناءً على ذلك فقد حضر «بونابرت» مع قواده وضباطه إلى قصر التويلري ليحلف أمام مجلس الشيوخ يمين الولاء للدستور. وخطب بونابرت فحمل على القوانين التي تؤدي إلى بؤس الشعب وتساعد على نهبه، وحمل على حكومة فاسدة تقضي على الثمرة التي يجب أن تجنيها البلاد من فتوحاته ومن الجهود التي يبذلها من أجل إنعاشها، وزيادة ثروتها، وجلب السلام والهدوء إليها. وحمل على الاستبداد، ثم طالب بقيام الحكومة الطيبة التي تجعل الناس ينسون اختلافاتهم ونزاعاتهم الحزبية، وقال: إنما نحن نريد جمهورية تقوم على قواعد من القانون والأخلاق، والحرية المدنية، والتسامح السياسي.

وبادر بالاستقالة من حكومة المديرين كلٌّ من «سييس» و«روجوديكو»، وتبعهما «باراس». وعندما رفض «جوهييه» و«مولان» أن يَحْذُوَا حذوهم، كان نصيبهما السجن في قصر لكسمبورج تحت حراسة الجنرال «مورو».

وفي (١٠ نوفمبر/١٩ بريمير) اجتمعت الهيئة التشريعية في «سان كلو» (مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة). وكانت أكثرية أعضاء «الخمسمائة» غاضبة مما جرى في اليوم السابق، وناقمة على مدبري هذه الحركة، وبدأ الأعضاء يحلفون — عضوًا بعد آخر — يَمِينَ الولاء من جديد لدستور العام الثالث، وسط الهياج والصخب الشديدين، وعندئذٍ قَرَّر بونابرت أن يحضر بنفسه إلى المجلس لإنهاء المسألة.

وحوالي الرابعة بعد ظهر اليوم نفسه، حَضَرَ بونابرت إلى مجلس الشيوخ أولًا، وكان يبدو عليه الارتباك، وعندما تكلَّم قُوبِل بفتور، وفاته أن يذكر أن سبب الانقلاب هو مؤامرة اليعاقبة الموهومة. ثم انتقل بعد ذلك إلى مجلس الخمسمائة. ولكنه ما إن وقف خارج باب القاعة حتى تعالت النداءات والهتافات بسقوط الديكتاتور والطاغية، وبطرده خارج القانون؛ أي إهدار دمه. ثم هاجمه جماعة من النواب المهتاجين وضيَّقوا الخناق عليه وهم يهددون ويتوعدون؛ فأنقذه رجاله الذين سرعان ما أحاطوا به، يتلقَّون عنه ضربات «اليعاقبة»، واستطاعوا أن يحملوه خارج القاعة.

وعبثًا حاول «لوسيان بونابرت» — رئيس مجلس الخمسمائة — أن يذود عن أخيه أو أن يَكبَح جماح الأعضاء الثائرين. وعندئذٍ غادر «لوسيان» قاعة المجلس ليخطب في الجنود، وليطلب منهم بوصفه رئيسًا لمجلس الخمسمائة أن ينقذوا «الأكثرية» من النواب، الذين ترهبهم «الأقلية» التي أعضاؤها من اليعاقبة «الأوغاد»، صنائع الإنجليز الذين يهددون هذه «الأكثرية» بخناجرهم، والذين يريدون الفتك بقائدهم (قائد الجند) بونابرت. وحتى يزول كل تردُّد لدى الجنود، أقسم «لوسيان»: «ليخترقن بسيفه صدر أخيه إذا جرؤ هذا فعرض حرية فرنسا للخطر!» ثم تكلم بونابرت، ودخل الجنود بسلاحهم وعلى رأسهم الجنرال «مورا» Murat والجنرال «لوكلير» إلى قاعة المجلس ليطردوا هذه «العصابة — كما طلب منهم بونابرت — عن بكرة أبيهم!»

نهاية حكومة الإدارة (١٠ نوفمبر ١٧٩٩ / ١٩ بريمير سنة ٨)

وكان بعد هذا «التطهير» أن اجتمع برئاسة لوسيان بونابرت في مساء اليوم نفسه (١٠ نوفمبر ١٧٩٩ / ١٩ بريمير سنة ٨) مجلس الخمسمائة. وقد نقص عدد أعضائه فصاروا حوالي الثلاثين؛ ليتخذ القرار الذي يعترف بقانونية الانقلاب الذي حصل. فتقرر إلغاء حكومة الإدارة: «لقد صارت حكومة الإدارة منتهية.»١١ وتقرر إسقاط العضوية عن (٦١) نائبًا؛ لما ظهر منهم من تطرف وعدوان «خصوصًا في جلسة هذا الصباح»، وتقرر أن تنشأ بصورة مؤقتة «هيئة أو لجنة قنصلية تنفيذية»١٢ مؤلفة من المديرين السابقين: سييس وروجرديكو، ومن الجنرال بونابرت. على أن يمارس هؤلاء الثلاثة «سلطة الإدارة»، وأن يعهد إليهم بتنظيم كل فروع الحكومة والعمل على استتباب الهدوء والنظام في الداخل، والوصول إلى عقد السلام على أسس ثابتة متينة ومشرفة. ثم تقرر تأجيل انعقاد الهيئة التشريعية إلى يوم ٢٠ فبراير ١٨٠٠.

وأخيرًا تقرَّر أن يعين المجلسان لجنة من ٢٥ عضوًا لوضع تقرير عن التغييرات اللازم إدخالها على قوانين الدستور الأساسية، ولعرض ذلك على الهيئة التشريعية عند اجتماعها. وقد أقر مجلس الشيوخ هذه القرارات لتصبح قانونًا. وحلف القناصل الثلاثة «المؤقتون» في مجلس الشيوخ يمين الولاء للجمهورية (الواحدة والتي لا تتجزأ) وللحرية والمساواة، وللنظام التمثيلي (النيابي)، وكان «لوسيان بونابرت» هو الذي وضع صيغة هذا القسم. وبذلك يكون قد انتهى عهد حكومة الإدارة.

إنهاء الثورة

ذلك إذن كان «انقلاب ١٨-١٩ بريمير سنة ٨»، وهو انقلاب قابله سواد الشعب لأسباب عديدة ومتنوعة، ليس فقط دون إبداء أية معارضة ضده بل وبالارتياح والترحيب به؛ ذلك بأن حكومة الإدارة كانت قد صارت موضع كراهية الشعب واحتقاره؛ بسبب طغيانها وفسادها وعجزها. ولقد ترتب على سقوط هذه الحركة أن تسلم بونابرت مقاليد الأمور في فرنسا لثقة الشعب به. ومع أن بونابرت بقي لفترة قصيرة من الزمن بعد ذلك يحرص على المظاهر والعادات التي أوجدتها «الثورة» إلا أن اليوم الذي تولى فيه بونابرت السلطة والحكم في فرنسا، إنما يحدد في واقع الأمر آخر أيام الجمهورية.

قال «مينييه» Mignet تعليقًا على «انقلاب ١٨-١٩ بريمير سنة ٨»: «وهكذا وقع الاعتداء على القانون بحدوث هذا الانقلاب ضد نظام المجالس التمثيلية (النيابية). ولقد بدأت القوة تفرض سلطانها. إن انقلاب (١٨ بريمير/٩ نوفمبر ١٧٩٩) يشبه الانقلاب الذي حصل على يد الجيش ضد التمثيل النيابي يوم ٣١ مايو ١٧٩٣، (وهو الانقلاب الذي أسقط الجيروند في عهد المؤتمر الوطني)، لو أن هذا «الانقلاب» لم يكن موجهًا ضد حزب «من الأحزاب» بل ضد القوة الشعبية. ولكن من الإنصاف أن يميز الإنسان بين ١٨ بريمير، وبين الحوادث اللاحقة لهذا الانقلاب والمترتبة عليه. لقد كان في وسع المرء أن يعتقد وقتئذٍ أن الجيش إن هو إلا عضد للثورة، كما كان الشأن يوم (١٣ فندميير سنة ٤ / ٥ أكتوبر ١٧٩٥)، يوم أن دافع بونابرت عن المؤتمر الوطني، وكما كان الشأن يوم (١٨ فريكتدور سنة ٥ / ٣ سبتمبر ١٧٩٧ ضد الملكيين)، وأن هذا التغيير الذي لا مَفَرَّ منه سوف لا يتحول أثره لفائدة (أو لنفع) رجل، ورجل واحد فقط سوف يجعل من شباب فرنسا قريبًا جيشًا كبيرًا، وسوف يجعل العالم الذي كان حتى هذه اللحظة منشغلًا ومتأثرًا بتلك الرجة (أو الهزة) الأدبية والنفسية العظيمة «التي أحدثتها الثورة» لا يسمع إلا وقع أقدام جيشه، ولا يستجيب إلا لإملاء إرادته.»

لقد قام «انقلاب ١٨ بريمير سنة ٨» «لإنهاء الثورة»؛ أي لإنهاء تلك الاضطرابات التي نجمت من وجود الخطرين الخارجي والداخلي، ومن تجددهما المستمر بالرغم من الإجراءات العنيفة والدموية، التي أهدرت المبادئ التي نادت بها الثورة ذاتها، ولقد وضعت «الثورة» أسباب السلطة في أيدي ديكتاتورية بورجوازية، رضيت كي تحافظ على الثراء الذي نالته والمنافع التي حصلت عليها بسبب «الثورة»، وكي تأمن على أرواحها منذ أن تلطخت يداها بدم الملك، رضيت بأن تنقل السلطة إلى أيدي ديكتاتورية محدودة ضيقة، هي ديكتاتورية حكومة المديرين «الخماسية»، يحدوها إلى هذا رغبتها الملحة في ذلك «الاستقرار» الذي صارت تنشده منذ أن انتهى عهد الإرهاب.

ولقد خيل إليها تحت ضغط رد الفعل الذي حدث بعد ٩ ترميدور سنة ٢ أن لا سبيل إلى إنشاء الحكومة المركزية القوية إلا إذا زادت تضحية الأمة بحرياتها وحقوقها، على أمل أن يتحقق «الاستقرار» الذي إنما يحفظ في صميمه مصالح هذه البورجوازية على أساس أن يستتب «النظام» في الداخل، وأن يسود «السلام» علاقات الجمهورية مع سائر الدول.

ولكن هذه الديكتاتورية الخماسية لم تحقق شيئًا من «الاستقرار» المنشود؛ فالخطر الخارجي ماثل ومتجدد، والاضطرابات الداخلية ماثلة ومتجددة. ولقد زاد من حدتها تدهور الحالة المالية والاقتصادية والخلقية من ناحية، وتعدد الانقلابات الحكومية بسبب تنازع الأحزاب على السلطة، ونتيجة للعجز الظاهر في ترتيب نظام الحكم، الذي أوجده دستور العام الثالث (١٧٩٥)، من ناحية أخرى. وهو ذلك العجز الذي جعل «الانقلابات» الوسيلة الوحيدة لحسم كل خلاف قد ينشأ بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدولة.

ومنذ أن فشلت حكومة المديرين (أو الديكتاتورية الخماسية Pentarques) في إعادة «النظام» و«نشر السلام»، اتجهت الرغبة نحو «إنهاء الثورة»؛ أي نحو إنهاء تلك الأخطار التي أوجدتها «الثورة»: خطر الغزو الأجنبي، وخطر الانقلابات والثورات الداخلية. وذلك هو معنى الاستقرار المنشود بدعامتيه: النظام، والسلام. وكانت الوسيلة لتحقيق ذلك التسليم بضرورة التضحية مرة أخرى بحريات وحقوق الأمة، في سبيل إنشاء حكومة مركزية أشدَّ قوةً من الحكومات السابقة، فكان ذلك منشأ «جمهورية القنصلية» وكان في ذلك إنهاء «الثورة» فعلًا.

فعند انقضاء عهد الإدارة؛ أي انقضاء التجربة التي مهدت لقيام حكومة الفرد في الحقيقة، يكون قد بدأ عهد جديد، يتميَّز بقيام محاولة جديدة ثانية لتحقيق «الاستقرار» في فرنسا. ذلك كان هدف الجمهورية القنصلية التي أنشئت في «انقلاب ١٨ بريمير سنة ٨»، وذلك سوف يكون مبعث قيام ديكتاتورية الإمبراطورية: «إمبراطورية» نابليون الأول، التي حلَّت «قانونًا» محل «الجمهورية» التي اختفت عندئذٍ شكلًا، وحقيقة واقعة.

١  Le Directoire.
٢  Pentarques.
٣  Palais Bourbons.
٤  Réunion des Amis de la République.
٥  Club de Panthéon.
٦  Journal de la Liberté de la presse.
٧  Tribun du peuple.
٨  Club de Clichy. Les Clichyens.
٩  Des Circonstances Actuelles Qui Peuvent Terminer La Révolution.
١٠  C’Est Bonaparte Qui Nous Manque.
١١  II n’y a Plus de Directoire.
١٢  Commission Consulaire Exécutive.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤