الفصل الأول

سياسة الثورة

تمهيد

قال أنصار الثورة: إن من مآثرها أنها أحلت القانون والعقل محلَّ القوة، فاتسمت أعمالها بهذا الطابع الجديد في الداخل؛ أي أثناء حوادث الثورة ذاتها في فرنسا، وفي الخارج؛ أي في علاقات الثورة أو «الجمهورية» بسائر الدول الأوروبية، وبشعوب هذه الدول، وكان إحلال القانون والعقل محلَّ القوة في حياة الأفراد والشعوب، ثم في علاقات الدول بعضها ببعض، عنصرًا جديدًا ينطوي على مبدأ «مثالي».

ولقد أرادت «الثورة» أن يَذِيع هذا المبدأ المثالي في أوروبا، فلا تختص به فرنسا وحدها. ولا يشمل أثره الفرنسيين وحدهم، بل يتعدَّى الحدود الفرنسية ليتسنَّى «تطبيقه» في بلدان أخرى، ولا تظل آثاره مقصورة على الفرنسيين وحدهم. وعملت «الثورة» لتحقيق هذه الغاية. وكان عندئذٍ أن انتقلت «الثورة» ذاتها من حادث «موضعي» أو «محلي» إلى «حركة» عامة شاملة. ولقد عبَّر خير تعبير عن اصطباغ الثورة بهذا «الشمول» الذي صار لها أحد الذين عاصروا الثورة، وراقبوا حوادثها، ونعني به «ماليه دي بان» Mallet du Pan وكان من جنيف، ويرأس تحرير صحيفة من صحف الرأي المعارض للثورة «عطارد فرنسا» Mercure de France، وشهد له «تين» Taine بالقدرة والحصافة ودقة الملاحظة وعمقها، في حين اعتبره مؤرخ الثورة «أولار» Aulard، أحد القادحين في الثورة، الذين أكل الحقد قلوبهم. فقد قال «ماليه دي بان» منذ ١٧٩٣ ما معناه: إن الثورة لم تعد «ملكًا» للفرنسيين وحدهم فحسب، يستأثرون بامتلاكها دون غيرهم من الشعوب؛ لأن الثورة بفضل «الطابع العام» الذي صار لها لم تعد حركة يختصُّ بها شعب دون آخر.

وأما السبب في أن «الثورة» صارت «حركة شاملة» فهو من شقين: أولهما أن الثورة أتت بالمبادئ الجديدة التي نادى بها أصحابها (البورجوازيون)، والذين دانت لهم السلطة في بلادهم على أنقاض «النظام القديم» الذي حطموه بأيديهم بعد نضال عنيف ضد الإقطاع وبقاياه في بلادهم (فرنسا). فقرروا المبادئ التي كفلت حقوق الأفراد والشعوب وحرياتهم وأكدت سيادة الأمة، التي ترتب عليها أن تكون الأمة نفسها مصدر السلطات، وأقامت نوع الحكومة المستندة على «المذهب الحر» الذي يكفل تأمين البورجوازية على مصالحها، بأن يقرر لها حقًّا صريحًا وقبل كل اعتبار آخر، ليس في مشاركة الحكم فحسب، بل والسيطرة عليه كذلك، سواء جاءت هذه السيطرة بطريق ممارسة الديمقراطية الصحيحة، أم بتأسيس ديكتاتورية الفرد.

ولقد كانت القومية كذلك من المبادئ الجديدة التي أذاعتها الثورة، وعملت على نشرها خارج حدودها، وتطبيقها على الشعوب التي احتكَّت بها في حروبها، وكنتيجة لتشكل علاقتها بالحكومات «الأوروبية» وتطورها. فقد كانت «الذاتية» التي يقوم عليها الشعور القومي من الأهداف التي عملت «الثورة» من أجل إحيائها أو إيقاظها أو استكمالها لدى «الأمم» التي لم يكن هناك معدى عن تأثرها بصورة أو بأخرى بالمبادئ الحرة والقومية التي نادت بها الثورة. وكان معنى «الذاتية» أن تتحرر الشعوب من كل سلطان أجنبي عنها، وأن تبني في الوقت نفسه كيانها السياسي إلى جانب «ذاتيتها» الروحية والاجتماعية، وتلك مهمة من حق «البورجوازية» — الطبقة المتوسطة، وقبل غيرها من الطبقات في اعتبار الثورة — القيام بها.

على أن أصداء الاصطدام بين هذه الآراء والمبادئ الجديدة، وبين مصالح الإقطاع في «النظام القديم» كانت متفاوتة في أوروبا، حيث قد قاومت «الحكومات» الإقطاعية المتشبعة بالنظم القديمة كلَّ هذه الآراء والمبادئ الجديدة، في حين أقبلت الأمم والشعوب في أكثر أنحاء أوروبا، إن لم يكن فيها جميعها، على اعتناقها وتأييدها.

على أن الذي يجب ذكره كحقيقة واضحة الأثر في يقظة الشعور القومي، ونمو القومية في أوروبا، نتيجة لذيوع الآراء والمبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية: أن من عوامل هذه اليقظة القومية الشاملة، كان التطور الذي طرأ على المبادئ الحرة والمذهب القومي، بين أيدي رجال الثورة أنفسهم، حين انتقلت «الدعاية» لهذه المبادئ من ميدان الدعوة «النظرية» لتحرير الشعوب إلى محاولة «عملية» لفرض «سيطرة» فرنسية على الحكومات والشعوب في أوروبا، بدعوى «تطبيق» هذه المبادئ ذاتها؛ الأمر الذي ترتب عليه أن تزايد تكاتف «حكومات» النظام القديم في النضال ضد الثورة من جهة، في حين تبدت «ذاتية» الشعوب و«قوميتها» في مقاومة «الثورة» المتمثلة في السيطرة «الأجنبية» المفروضة عليها من جهة أخرى. وفي كلا الحالين كان للبورجوازبة الناهضة — ولفريق من نبلاء العهد القديم في بعض البلدان كذلك — نصيب ظاهر في هذه المقاومة «الوطنية».

وأما حقيقة هذا كله، فسوف تتَّضِح من عرض الآراء والمبادئ التي نادت بها الثورة في موضوع «القومية» أولًا، ثم تتبع الطرق «العملية» التي حاولت بها الثورة «تطبيق» هذه المذاهب الحرة والقومية في أنحاء أوروبا، وبيان التغيير الذي طرأ على هذه الآراء والمبادئ لدى رجال الثورة، وقت أن أرادوا «تعميم» فوائدها لنفع الشعوب التي دعوا أصلًا لتحريرها. ولقد كان من أثر الآراء والمبادئ الفرنسية هذه، هدم القواعد التي قام عليها وقتئذٍ القانون العام في أوروبا.

(١) الدعوة للمبادئ والآراء الجديدة

فلقد جعلت الثورة بادئ ذي بدء من نظرية «العقد الاجتماعي» التي أتى بها «روسو» برنامجًا سياسيًّا. فلم تكتفِ الثورة بإعلان حقوق الإنسان، وحقوق الأمم وحرياتها، بل ناضلت جاهدة فيما يشبه حملة صليبية كبيرة من أجل تقرير الحرية، وتأييد حقوق الشعوب كافة، واستندت في حملتها هذه — قبل كل شيء — على «دعاية» واسعة منظمة وقوية.

فقد تقدم كيف سبق استصدار إعلان بحقوق الإنسان والمواطن (٢٦ أغسطس ١٧٨٩)، الانتهاء من وضع دستور الثورة الأول. واعتماد الملك له (٣ سبتمبر ١٧٩١). وكفل إعلان الحقوق حرية الفرد الشخصية، وحرية الرأي والعقيدة، وحق الملك. ثم أقرَّ المساواة أمام القانون والمساواة الاجتماعية، ومبدأ سيادة الأمة. وكل تلك مبادئ من المعروف أن أصحابها قد قصدوا من تقريرها العمل على تنفيذها في فرنسا. ولكن سرعان ما برز وقت إعداد الدستور واستصداره فريق من الكتاب والناشرين مثل «كاميل ديمولان» و«مارا» وغيرهما، أخذوا يدعون لضرورة أن تتدخَّل فرنسا من أجل نصرة الشعوب في أوروبا.

وعندما تمَّ ظهور «الجيروند» حزبًا سياسيًّا، كان من القواعد التي قام عليها برنامج الحزب تدبير حملة قوية لتتمكَّن فرنسا من تأييد الحرية في أوروبا، ونشر كل تلك الآراء التي أتت بها الثورة والمبادئ التي صار يتألف من مجموعها المذهب القومي.

ولقد تبيَّن أثر هذه الدعوة الجديدة في حادث «الألزاس» الذي سبق أن عرضنا له أثناء دراستنا لأصول «القومية» الفلسفية. فأشرنا إلى الخلاف الذي حصل بين بعض الأمراء الألمان في هذا الإقليم، و«الجمعية الوطنية التأسيسية» على إثر إلغاء الامتيازات الإقطاعية في عهد هذه الجمعية. فقد بعث هؤلاء الأمراء الألمان احتجاجًا إلى الحكومة الفرنسية في فبراير ١٧٩٠، أحالته «الجمعية الوطنية» على اللجنة الإقطاعية بها، التي قررت في أكتوبر ١٧٩٠ تحت تأثير «مرلان دي دوويه» خصوصًا، أن اندماج «الألزاس» في فرنسا إنما حصل تأسيسًا على ما صدر من جانب أهل الألزاس من قرار إجماعي بذلك، ثم قالت: إن كل ما أبرم من معاهدات قديمة، أو اشترطه الملوك السابقون لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون شعبٌ حر طليق ملزمًا باتباعه.

ولما كان «ميرابو» يخشى أن تَعتبر الإمبراطورية — «الرومانية الجرمانية المقدسة» والتي كان هؤلاء الأمراء الألمان، كما عرفنا، أتباعًا لها — هذا القرار بمثابة إعلان حرب عليها، فقد اقترح أن تستصدر «الجمعية الوطنية» قرارًا يؤكد السيادة الفرنسية على الألزاس، ثم يطلب من الملك «لويس السادس عشر» في الوقت نفسه أن يسوي هذه المسألة بتعويض الأمراء الألمان عن الامتيازات التي فقدوها تعويضًا كافيًا، ورفض الأمراء الألمان هذا الحل، وبادروا بعرض «قضاياهم» على «الدياط» أو المجلس الإمبراطوري لفحصها.

على أن أهم ما يسترعي النظر في هذا الحادث — كدليل على ما كان لدى «الجيروند» من رغبة صادقة في تأييد حرية الشعوب إطلاقًا — أن أحد رجالهم (بريسو Brissot) لم يلبث أن كتب باسم «اللجنة السياسية» في الجمعية التشريعية، وذلك ضمن تعليمات بعث بها إلى الممثلين الفرنسيين في الخارج بتاريخ ٢٢ نوفمبر ١٧٩١ بشأن هذه المسألة:

أبلغوا الدول الأجنبية أننا سوف نحافظ بأمانة على اليمين التي حلفناها بعدم القيام بأية فتوحات، وبأننا سوف نحترم قوانين هذه الدول ودساتيرها (أي أنظمتها الحكومية)، ولكننا إنما نبغي في الوقت نفسه أن يحترم غيرنا كذلك قوانيننا ودستورنا. ثم أبلغوا الدول الأجنبية أنه إذا استمرَّ يمضي الأمراء الألمان في الاستعدادات العدائية ضد فرنسا، فإننا لن نأتي بالحديد والنار إلى بلادهم، ولكننا سوف ننشر ألوية الحرية بين ربوعهم، وهم وحدهم الذين يعنيهم أن يتدبروا كل ما يترتب على يقظة الأمم (والشعوب) من نتائج!

وفي اليوم نفسه (٢٢ نوفمبر ١٧٩١) أعلن «إسنار» Isnard أحد كبار زعماء الجيروند في الجمعية التشريعية: «ولنقلها كلمة صريحة وموجهة لأوروبا بأسرها. إذا سعت الوزارات (الحكومات) لتجعل الملوك يخوضون غمار الحرب ضد الشعوب، فسوف نسعى نحن كذلك لنجعل الشعوب تخوض حربًا لا تعرف رحمةً ولا شفقةً ضد الطغاة الذين يحكمونهم. وعندئذٍ تتعانق الشعوب اغتباطًا بما ظفرت به على مرأى ومسمع من أولئك الطغاة الذين استلت عروشهم، فتهدأ الأرض وتسعد، وتُبارِك السماء ما حدث!»

ولقد تأيدت هذه المبادئ مرة أخرى حين أعلنت «الجمعية التشريعية» الحرب على فرنسيس الثاني — ملك بوهيميا والمجر «هنغاريا» — والذي نال لقب الإمبراطورية في ١٤ يونيو ١٧٩٢ بعد شهور قليلة من وفاة أبيه ليوبولد الثاني الذي توفي في أول مارس. فجاء في قرار إعلان الحرب الصادر من الجمعية التشريعية أن الثورة الفرنسية لا تؤيد إطلاقًا حرب أمة ضد أمة أخرى، بل هي تقاتل من أجل الدفاع عن حرياتها ضد اعتداء ملك على هذه الحريات اعتداءً ظالمًا.

وبسط «كوندرسيه» أمام الجمعية التشريعية الأسباب التي جعلت «اللجنة السياسية» تريد الحرب، فقال: «إن لكل أمة السلطة لأن تضع هي وحدها القوانين الخاصة بها، ومن حقها الذي لا يمكن نقله إلى غيرها تغيير هذه القوانين. أما اغتصاب هذه السلطة وهذا الحق من أي أمة أجنبية عنوةً واقتدارًا، فمعناه أن المرء لا يحترم هذا الحق وهذه السلطة اللتين لأمته التي ينتمي إليها هو نفسه، والتي هو مواطن فيها وزعيم لها، وأنه إنما يرتكب بفعل ذلك خيانة في حق الوطن، ويُصبِح عدوًّا للإنسانية ولكافة البشر.»

ولما كان رجال الثورة قد أكدوا في دستور ١٧٩١ مبادئهم السلمية، فتضمن «الفصل السادس» من هذا الدستور — وعلى نحو ما أشرنا إليه في موضعه سابقًا — استنكارًا تامًّا للحرب التوسعية، وتعهدًا صريحًا من جانب الأمة الفرنسية بعدم الدخول في أية حروب غرضها الفتح، أو استخدام القوة ضد حريات الشعوب، فقد وجدوا في اعتبارهم أن الحرب لم تكن موجهة ضد الشعوب، بل ضد الملوك فقط وسيلة طيبة، ومسوغًا يفرقون بفضله بين المبادئ السلمية التي نادوا بها، وبين الحرب التي أعلنوها نهائيًّا على النمسا في ٢٠ أبريل ١٧٩٢.

وترسَّم المؤتمر الوطني طريق هذه الدعاية الثورية نفسها؛ أي العمل لنشر مبادئ الثورة وإذاعتها في كل أنحاء أوروبا، وخطا رجال الثورة في هذا السبيل خطوة حاسمة. فاستصدر المؤتمر الوطني غداة تأسيسه قرارًا في ١٩ نوفمبر ١٧٩٢، أعلن فيه باسم الأمة الفرنسية مد يد الأخوة والمساعدة لجميع الشعوب التي تريد استرجاع حرياتها المسلوبة، وتكليف السلطة التنفيذية إعطاء القواد العسكريين الأوامر اللازمة ليقوموا بنجدة هذه الشعوب والدفاع عن المواطنين الذين قد يضارون بسبب تأييدهم لقضية الحرية.

وواضح أن «الثورة» باتخاذ هذا القرار قد انتقلت من أسلوب الدعاية السلبية لنشر المبادئ التحررية والقومية التي نادت بها، إلى توجيه الدعوة الصريحة للشعوب حتى تقوم بالثورة لتظفر بحرياتها، ثم تعهدت «الثورة» بنجدة هذه الشعوب ومعاونتها على التحرر. وكي تضمن «الثورة» اطمئنان الشعوب، إلى أنها لا تبغي من هذه النجدة إتاحة الفرصة لأمة تريد أن تفرض سلطانها على أمة أخرى وحسب، لم يلبث أن أوضح المؤتمر الوطني معالم السياسة التي أراد السير عليها، والتي لم يكن يهدف من روائها إلى ضم فتوحات جديدة، أو التدخل في شئون الأمم والشعوب الأخرى الداخلية؛ فاستصدر في ١٣ أبريل ١٧٩٣ بناءً على اقتراح من «دانتون» قرارًا أعلن فيه: «أن الجمهورية لن تتداخل بحال من الأحوال في شئون حكومات الدول الأخرى.»

وهذه الدعوة الموجهة للشعوب لتظفر بحرياتها، وتستيقظ «لقوميتها»، والمستندة في الوقت نفسه إلى نظرية حقوق الشعوب، لم تلبث أن برزت معانيها في التعلميات التي أصدرها «كارنو» باسم «اللجنة السياسية» بشأن الأراضي التي من المحتمل انضمامها إلى فرنسا نتيجةً للحرب. فقال «كارنو»: «لا تنبغي الموافقة على انضمام أية أقاليم إلى فرنسا إلا إذا طلبت شعوبها ذلك، وأفصحت عن هذه الرغبة رسميًّا في صراحة وحرية تامتين؛ لأن السيادة حقٌّ للشعوب قاطبة. ومن المتعذر كذلك حدوث مشاركة أو اتحاد بين شعب وآخر دون اتفاق (أو إجراء) رسمي وفي حرية كاملة، وليس لشعب منها الحق إطلاقًا في أن يُخْضِع شعبًا آخر لقوانين مشتركة، من غير موافقته الصريحة على ذلك … والمبدأ الذي نَدِين به هو أن كلَّ شعب من الشعوب مهما ضؤلت مساحة بلده التي يسكنها، صاحب السيادة والسلطان في داخل بلاده، ويقف على قدم المساواة من الناحية القانونية مع غيره من الشعوب الكبيرة. وليس في وسع إنسان شرعًا وقانونًا الاعتداء على استقلاله.»

وهكذا استطاعت «الثورة» أن تضع مذهبًا جديدًا، تواجه به أوروبا في وقت كانت فيه سياسة حكوماتها تقوم على الروابط والمحالفات المستندة على القوة؛ لتحصيل المنافع الذاتية. وحينما كان سياسيو النظام القديم لا يزالون متمسِّكين بأساليبهم البالية الغابرة، في الوقت الذي أخذت تنشر فيه الثورة هذه المبادئ السياسية المؤسسة على احترام حقوق الشعوب وحرياتها، والتي كانت بمثابة إنجيل جديد مَزَجَ بين الآراء الحرة القومية.

ولقد حرصت «الثورة» على تطبيق تلك القاعدة التي بسطها «كارنو» في تعليماته السالفة الذكر؛ أي حق الشعوب في الموافقة أو عدم الموافقة على الانضمام إلى فرنسا. ولقد شهدنا في موضع آخر كيف استفتيت الشعوب — تطبيقًا لهذا المبدأ — في مصيرها، فكان أن ضمت فرنسا إليها سافوي بعد استفتاء شعبها (٢١ أكتوبر ١٧٩٢). وفي اليوم نفسه حصل استفتاء في «نيس» أدى إلى هذه النتيجة، وقررت «لييج» Liége في استفتاء عام في ١٦ يناير ١٧٩٣ اتحادها مع فرنسا، وقرر أهل «بلجيكا» مصيرهم بالاتحاد مع فرنسا بطريق الاستفتاء كذلك في شهر مارس من السنة نفسها.
وعلى الشاطئ الأيسر للراين أدى الاستفتاء إلى تقرير مؤتمر وطني من أهل المقاطعات الراينية في ٢١ مارس ١٧٩٣، الاتحادَ مع فرنسا والانضمام إليها. وطلبت «مونتبليار» Montbéliard بعد استفتاء أهلها نفس الشيء في فبراير ١٧٩٤. يقابل ذلك إقدام حكومات النظام القديم على تقطيع أوصال بولندة عندما اجترأت هذه الحكومات على تقسيمها عنوةً واقتدارًا، ودون أن يكون لأهلها صوت في تقرير مصيرهم، مرة ثانية في سنة ١٧٩٣ بين بروسيا والنمسا، ثم مرة ثالثة وأخيرة سنة ١٧٩٥ بين بروسيا والنمسا وروسيا؛ فقضوا عليها سياسيًّا.

(٢) التحول في سياسة الثورة

وعلى هذا النحو إذن أُتيحت الفرصة لتطبيق مبدأ «مثالي» يحترم حقوق الشعوب وحرياتها. غير أن هذا المبدأ المثالي لم يلبثْ أن انحرف به أصحابه — ولما يمضِ وقت طويل — عن جادة الطريق، وساروا به في مسالك أخرى. وكان السبب في ذلك أن هذه المبادئ المثالية التي بنت عليها «الثورة» دعوتها ليقظة القوميات ولتحريرها، لم تلبث أن أيقظت لدى الفرنسيين أنفسهم العواطف «الوطنية» الجامحة التي صارت تدفع الفرنسيين دفعًا نحو المجد والعظمة الوطنية.

ثم إن هذه «المبادئ المثالية» سرعان ما صادف أصحابها مسائل عملية وحقائق واقعية كان لا معدى عن معالجتها ومواجهتها، مثل الترتيبات الإدارية اللازمة لحكومة الأراضي التي احتلَّها جنود «الثورة» وشئون التموين والامتياز، وضرورة تدبير وسائل الدفاع عن هذه الأراضي المحتلة. وهكذا فإن تغير الموقف العسكري أثناء حروب الثورة، وما تبعه من ظهور مشكلات جديدة تتطلَّب حلًّا سريعًا ومتلائمًا مع الظروف المتغيرة، قد ترتَّب عليه أن أخذت تتطور شيئًا فشيئًا تلك الحملة الصليبية التي كانت تبغي أصلًا نشر مبادئ الثورة المثالية في أوروبا، حتى صارت «حركة» إحياء وبعث لتلك التقاليد السياسية التي بها جرى العمل في النظام القديم نفسه، في كل ما يتصل بشئون السياسة الخارجية، ولكن مع فارق واحد فقط، هو أن «الثورة» سارت الآن في هذه السياسة تحت ستار نظرية «حقوق الشعوب» الجديدة.

وهذا التحول — كما أشرنا — لم يحدث فجأة، بل إن إجراءات «الاستفتاءات» السابقة الذكر، كان بعضها يبرر الشك في سلامتها. ولا جدال في أنه كان «للمهارة» في تنظيم هذه الاستفتاءات، خصوصًا في بلجيكا، وفي أقاليم الراين اليسرى لمعرفة رغبات أهليها الصحيحة في الاتحاد مع فرنسا، دخلٌ كبيرٌ في الوصول لتلك النتائج التي أسفر عنها الاستفتاء في صالح فرنسا.

وحرصت «الثورة» في بعض الأماكن على حشد الذين وثقت في أن يأتي استفتاؤهم لصالحها. فكان استفتاءً ناقصًا؛ أي إن الانضمام إلى فرنسا والاتحاد معها إنما كان نتيجة لرغبة أبدتها «أقلية» فحسب، وليس سواد الشعب أو أكثره. وحصل هذا خصوصًا في بلجيكا والأقاليم الراينية (الرينانية).

ووقع في بداية ١٧٩٤ ما يصحُّ اعتباره خطوة أخرى في طريق هذا التحول، وذلك عندما أخذت «الثورة» بنظرية الوصول إلى الحدود الطبيعية «لفرنسا»، وتلك نظرية تستمد كيانها من أصول الدولة الفرنسية الفلسفية والتاريخية، على نحو ما اتجهت إليه بحوث الفلاسفة والمفكرين ورجال السياسة في القرن الثامن عشر. ولقد اعتبرت هذه النظرية أن فرنسا إنما هي بلاد غالة القديمة، واستتبع ذلك تخطيط الحدود الفرنسية الحالية بالصورة التي كانت عليها حدود بلاد غالة في العهد الروماني القديم؛ أي حينما كانت حدود غالة تصل إلى نهر الراين، وكان «دانتون» هو الذي تولى صياغة نظرية الوصول إلى الحدود الطبيعية للمرة الأولى، وذلك عندما أعلن يوم ٣١ يناير ١٧٩٣ في «المؤتمر الوطني»: «أن الطبيعة قد عيَّنت حدود الجمهورية، وسوف تصل إلى هذه الحدود في جهاتها الأربع ببلوغ المحيط الأطلسي، وشواطئ الراين، وجبال الألب، وجبال البرانس.

وعند هذه الحدود الطبيعية يجب أن تقف حدود جمهوريتنا (أي المدى الذي يبلغه اتساعها في هذه النواحي الأربع)، ولن تستطيع قوة بشرية أن تمنعنا من الوصول إلى هذه الحدود الطبيعية.»

ولقد كثرت الإشارة إلى نظرية الحدود الطبيعية أثناء عاميْ ١٧٩٤ و١٧٩٥، وكثر ذكرها في الرسائل والمذكرات والكراسات التي صدرت، وفي المناقشات التي دارت في هذه الفترة بشكل يستلفت النظر، خصوصًا بعد انقلاب (٩ ترميدور/٢٧ يوليو ١٧٩٤) الذي أطاح برأس «روبسبيير» على المقصلة، وأنهى عهد الإرهاب. فقد بعث أحد أعضاء «لجنة الخلاص العام» البارزين (مرلان دي دوويه) إلى مندوبي المؤتمر الوطني لدى جيش الجنرال «ديجومييه» Dugommier، جيش الجنوب الذي يقاتل عند البرانس، برسالة في ٧ أكتوبر ١٧٩٤ طلب فيها العمل من أجل الوصول إلى الحدود الطبيعية في هذا الجانب.
وفي ٧ أكتوبر من السنة نفسها ألقى «تاليان» Tallien خطابًا تناول فيه الكلام عن نظرية الحدود الطبيعية؛ أضف إلى هذا أن «دوهيم» Duhem — وكان من كبار مؤيدي الحكومة التي تسلمت زمام الأمور في البلاد بعد انقلاب ترميدور — لم يلبث أن تقدم بمذكرة إلى «اللجنة السياسية» في المؤتمر الوطني بعنوان: «آراء في موضوع السلام»١ تحدث فيها عن مسألة الحدود الطبيعية (٣ نوفمبر ١٧٩٤). وفي ٩ نوفمبر تقدم «إيشاسيريو» Eschasériaux — أحد أعضاء لجنة الخلاص العام بعد انقلاب ترميدور — بمذكرة بعنوان: «حقوق الشعب»٢ تناول فيها الموضوع نفسه. ولقد كانت نظرية الحدود الطبيعية شيئًا مغايرًا لنظرية حقوق الشعب.

ثم إنه حدث في بداية عام ١٧٩٥، أن برزت إلى الوجود نظرية تختلف عن سابقتيها: حقوق الشعب، والوصول إلى الحدود الطبيعية، وإن كانت متصلة بهذه الأخيرة، ونعني بذلك فكرة تأمين البلاد والمحافظة على سلامتها. وكان «كمباسيرس»، من أعضاء لجنة الخلاص العام، ومن الذين اشتركوا في وضع دستور العام الثالث (١٧٩٥) — صاحب الفضل في تحديد هذه النظرية — وذلك حين خطب في المؤتمر الوطني يوم ٥ مارس ١٧٩٥ يقول: «إن الواجب يقتضي إعادة بناء أوروبا على قواعد العدالة، وليس اغتصاب حقوق الشعب أو الاعتداء عليها.

ومع ذلك يجب أن يستأصل السلام (عند إبرامه) جراثيم الحرب في المستقبل. والجمهورية تجد نفسها مصاقبة في الشمال لبلدان وممتلكات أجنبية تسببت بفضل تخطيط حدودها، والحكومات التي طمست الغيرة بصيرتها، في إشعال الحروب قرونًا عديدة. وعلى ذلك فالواجب أن تقطعوا برأيٍ فيما إذا كانت تجارب القرون العديدة وأحكام الطبيعة تحتِّم عليكم أن ترسموا بيد ثابتة قوية حدود الجمهورية.» وهكذا احتلَّت مكان الصدارة نظرية تأمين فرنسا والمحافظة على سلامتها عن طريق إنشاء حدود جديدة، تتمكن بها البلاد من إدراك هذه الغاية.

ولقد أتيحت الفرصة في اليوم نفسه (٥ مارس ١٧٩٥) لأن ينتظم عقد هذه النظريات جميعها في قاعدة عامة واحدة، حينما قال أحد أعضاء المؤتمر الوطني «ديبوا-جرانسيه» Dubois-Grancé: «الطبيعة ورغبات الشعوب وصالح الجمهورية، تحتِّم جميعها أن تبقى هذه البلاد — وكان يتحدث عن الأقاليم الراينية — دائمًا وإلى الأبد أقطارًا تسود الحرية في ربوعها.»

وفي أبريل من السنة نفسها (١٧٩٥)، قدم «سييس» إلى لجنة الخلاص العام، مشروع معاهدة للصلح مع الدول تضمنت الآراء نفسها بشأن إعطاء فرنسا حدودًا طبيعية تكفل أمن البلاد وسلامتها. ولقد كانت هذه الرغبة ذاتها هي التي أملت على «بارتليمي» و«رينار» و«كمباسيرس» التعليمات التي بعثوا بها باسم المؤتمر الوطني إلى المندوبين الفرنسيين في يناير ١٧٩٥ وقت المفاوضة مع الدول. ولقد كان بفضل المعاهدة المبرمة في «بال» بين فرنسا وهولندة من جانب آخر أن استولت فرنسا على البلجيك، والأقاليم الواقعة على شاطئ الراين الأيسر، وحصلت على اعتراف الدول بانضمام هذه الأراضي إليها.

وحتى يمكن إقناع الشعب الفرنسي بعدالة الأسباب التي دعت لإبرام معاهدات أسفرت عن توسيع حدود فرنسا، وإدخال ممتلكات جديدة في حوزتها، لم يلبث أن انبرى رجال من طراز «كارنو» و«بواسي دانجلاس» Boissy d’Anglas و«روبيرجو» Roberjot يتحدثون عن نظرية الحدود الطبيعية، وضرورة تأمين فرنسا والمحافظة على سلامتها. ثم تحدث «مرلان دي دوويه» صاحب المواقف المعروفة في مسألة الألزاس، والذي كان قد أعلن أن الألزاس إذا كان فرنسيًّا فذلك لم يحدث بسبب الفتح على يد لويس الرابع عشر، ولكن لأن الألزاس بمحض اختياره رأى أن يَهَبَ نفسه إلى فرنسا وأن يرتمي في أحضانها، ويطلب الاندماج بالوطن الفرنسي، فقال — الآن — في خطاب له في ٣١ أكتوبر ١٧٩٥:

لا شك أنكم أدركتم حتى يتسنَّى تعويضنا عما لحقنا من أضرار، وما تحملناه من نفقات؛ بسبب الحروب التي خضنا غمارها، والتي كانت — بلا مراء — من أعظم الحروب عدالة في أسبابها وأغراضها، وأنه حتى يتسنَّى لنا أن نكون قادرين على منع استئناف هذه الحروب باتخاذ وسائل للدفاع جديدة، كان على الجمهورية الفرنسية، وذلك ما كان لزامًا عليها فعله، أن تستبقي في حوزتها إما بحكم الفتح، وإما بمقتضى المعاهدات المبرمة، البلاد التي ترى في صالحها الاستحواذ عليها، وذلك دون استشارة أهلها.

وواضح أن هذه «النظرية» التي أعلنها — الآن — «مرلان دي دوويه» وزملاؤه، كانت متباينة تمامًا عن النظرية الأولى التي نادت بها «الثورة» والتي شاهدنا «تطبيقها» في الاستفتاءات التي جرت في سافوي ونيس وبلجيكا، والأقاليم الراينية (الرينانية)، ولييج، ومونتبليار، بين أكتوبر ١٧٩٢ ومارس ١٧٩٣.

ولكن يجب ملاحظة أن المؤتمر الوطني حين عقد الصلح مع بروسيا في «بال» في أبريل ١٧٩٥، لم يكن يعتبر هذا الصلح إلا وسيلة مواتية وحسب، تمكِّنه من متابعة النضال ضد النمسا، كما أن التفرغ لهذا النضال كان بدوره في نظر المؤتمر الوطني، مجردَ وسيلة أخرى لاستنقاذ ألمانيا من السيطرة النمساوية وتحريرها. وعلى ذلك فقد جاء في نفس التعليمات المرسلة إلى المفاوضين الفرنسيين في «بال» في ١٥ يناير ١٧٩٥:

لقد آن الأوان لتحرير ألمانيا وتخليصها من وطأة الاستبداد النمساوي الشديد، وإنهاء عهد هذه الأسرة النمساوية التي بقيت أطماعها قرونًا عديدة مبعث الكوارث التي نزلت بأوروبا، فلا يعود هذا البيت النمساوي يعكِّر صفو السلام، وتنعم أوروبا حينئذٍ بالهدوء والراحة.

وفي مذكرة «سييس» عن الصلح، حرص — «سييس» — على تعيين الدولتين اللتين اعتبرهما أعداءً ألداء لفرنسا، وأعداءً ألداء لحقوق وحريات الأمم والشعوب، وهما إنجلترة وروسيا، اللتان كان يتحتَّم على فرنسا أن تبذل قصارى جهدها للانتصار عليهما وهزيمتهما؛ ضمانًا لبقاء فرنسا ذاتها ومحافظةً على كيانها. أما كيف يتسنَّى بلوغ هذه الغاية، فقد ذكر «سييس» أن ذلك يكون بإعادة بناء وتنظيم ألمانيا على قواعد حرة في شكل جمهوري، ولن يكون لإنجلترة شأن إطلاقًا في هذا النظام الجديد، بل إنها تطرد من ألمانيا طردًا، ومعنى ذلك أن تفقد إنجلترة بمقتضى هذا التنظيم الجديد هانوفر. كما أن هذا التنظيم الجديد سوف يرغم كلًّا من بروسيا والنمسا بصورة من الصور على الاتجاه صوب الشرق، حتى يتسنَّى بفضل ذلك إنشاء «مخافر أمامية» للدفاع عن أوروبا ضد روسيا، والحاجز الذي يمنع الزحف الروسي عليها.

على أن ذلك لم يكن كل الخروج الذي حصل عن «نظرية حقوق الشعوب» التي بدأت بها الثورة نشاطها في الحقل الدولي. فقد اتبعت «حكومة الإدارة» سياسة اتسمت «بالواقعية» البحتة في علاقاتها الخارجية.

ولقد كانت هذه سياسة لا تستهدف غير النفع الذاتي، وتحقيق المصلحة الشخصية «للدولة» وحسب؛ أي إنها كانت سياسة خوض غمار الحروب، والالتجاء إلى أساليب الشدة والعنف لتحقيق المآرب التي نشدتها «الثورة». وأما هذه المآرب، فالمباشرة منها كانت إمداد خزينة «حكومة المديرين» الخاوية بالأموال التي يمكن ابتزازها من البلدان التي تغزوها جيوش الجمهورية، ثم توفير النفقات التي تتكبدها «الخزينة» بسبب هذه الفتوحات. وذلك بإرغام «الممتلكات» الجديدة على سد حاجات الجيوش الغازية، ودفع رواتب الجند التي عجزت حكومة الإدارة (المديرين) عن دفعها؛ بسبب اختلال ميزانيتها. ولقد كان كذلك لهذه السياسة «الواقعية» هدف «وطني» و«سياسي» ظاهر. من ذلك المحافظة على فتوح «الثورة» في الأقاليم الراينية، وفي بلجيكا. تستخدم لتحقيق هذه الغاية الموارد التي تحصل عليها من أملاكها وفتوحها الجديدة في إيطاليا الشمالية خصوصًا.

ومن ذلك أيضًا تأمين فرنسا ذاتها والمحافظة على سلامتها بإنشاء حلقة حولها مما كان يعرف سابقًا باسم «الطرق العسكرية» Boulevards Militaires والذي صار من الآن فصاعدًا سلسلة من «الجمهوريات الشقيقة» Les Républiques Soeurs التي سوف تُقِيمها فرنسا وراء حدودها.
فقد بدأت فرنسا بأن جعلت من أسقفية «بال» في سويسرة «دولة» علمانية باسم جمهورية «روراشيا» Rauracia (١٧٩٢)، ثم ضمتها إليها في العام التالي. ولو أن السويسريين لم يصدِّقوا على هذا الانضمام إلا في سنة ١٧٩٨، وتأسست الجمهورية الهلفيتية Rép. Helvetique على أنقاض الاتحاد السويسري (١٧٩٨)، وفي إيطاليا تألَّفت في سنة ١٧٩٦ جمهورية «شمال نهر البو» Transpâdane، وجمهورية «جنوب نهر البو» Cispadane ليحصل اندماجهما في السنة التالية (١٧٩٧) في جمهورية واحدة «جمهورية ما وراء الألب» Cisalpine، وفي سنة ١٧٩٧ تأسست من مدينة جنوة جمهورية ليجوريا Ligurienne، وفي سنة ١٧٩٥ تأسَّست الجمهورية البتافية Batave التي قامت على أنقاض مملكة هولندة.
وفي فبراير ١٧٩٨ تألَّفت الجمهورية الرومانية Romaine من بقايا الأملاك البابوية لتعيش بعض الوقت، حيث أعيد الحكم البابوي مرة أخرى في يونيو ١٨٠٠، وبين يناير ويوليو ١٧٩٩ حلَّت جمهورية بارثينوبيا Parthénopéenne محلَّ مملكة نابولي في إيطاليا. وسوف يأتي ذكر ذلك مفصلًا في موضعه.

ولكن الذي تجب ملاحظته أن سياسة حكومة الإدارة لم تكن — وكما يبدو لأول وهلة — متناقضةً تمامًا مع المبدأ الذي أخذت به «الثورة» في الأصل، من حيث احترام «حقوق الشعوب»، أهم عناصر المبدأ القومي عند تقريره بصورة نهائية؛ وذلك لأن الاستيلاء على بلجيكا وعلى شاطئ الراين الأيسر حدث — كما شاهدنا — بعد استشارة الشعوب و«استفتائها» في هذه الجهات، ولأن إنشاء جمهورية «بتافيا» ذات حكومة من طراز «حكومة الإدارة» بفرنسا، إنما حصل على أيدي الهولنديين أنفسهم.

ومع ذلك فلا ريب في أن السياسة التي سارت عليها حكومة الإدارة كانت بعيدة كلَّ البعد عن تلك السياسة المثالية التي استرشدت بالمبادئ التي أعلنتها الجمعية الوطنية التأسيسية، أو الجمعية التشريعية، أو سار عليها المؤتمر الوطني في أول عهده. كما أنها كانت تبعد كثيرًا عن السياسة التي اتَّبَعَها نابليون بونابرت. والتي أسفرت عن التنظيمات التي تضمَّنتها معاهدة «كمبوفرميو» في ١٧ أكتوبر ١٧٩٧؛ لتعزيز السيطرة الفرنسية، وتأمين حدودها، والمحافظة على سلامتها، في كل الأملاك التي استولت عليها في ألمانيا وإيطاليا، و«الجمهوريات الشقيقة» والتي كانت حكوماتها من طراز الحكومة القائمة في فرنسا، التي تأسَّست قبل هذه المعاهدة وبعدها.

تلك إذن كانت الخطوات التي حصل فيها التحول من سياسة تسترشد في أهدافها بمبادئ «مثالية» صريحة، إلى سياسة «واقعية» نفعية بحتة، في عهد حكومة الإدارة. وهذا التحول إن دلَّ على شيء، فإنما على أنه قد بات متعذرًا أن تبقى «الحرية» أو «القومية» فكرة نقية، أو مذهبًا خالصًا من الشوائب. فإن اصطدام هذه «الفكرة» بالحقيقة الواقعة، سرعان ما أخضعها لكل ما طرأ عليها من تعديل وتحول، ولم يعد مستطاعًا بقاؤها في نطاق المثالية التي كانت لها، بل صار لا معدى عن خضوعها لتفاعل عناصر عديدة، أهمها الاعتبارات الجغرافية والاستراتيجية والاقتصادية، وذلك إلى جانب الاعتبارات السياسية ذاتها، المتمثِّلة في ضرورة استقرار نظام الدولة الداخلي، والمحافظة على توازن القوى بين الدول.

وثمة ملاحظة أخرى؛ هي أن الانتقال من عالم الفكر النظري إلى دائرة التطبيق العملي، من شأنه أن يضع المسائل المراد معالجتها في وضعها الصحيح، والمجرد من كل ما يكون قد أحاط به من مظاهر السهولة، واحتمال تدبير الأمور في يسر ومن غير عناء. وعلى ذلك، وفي ضوء ما تقدم، قد يُصبِح المذهب القومي ستارًا يحجب وراءه طائفة من العواطف القائمة على الغريزة والرغبات التي لا تمتُّ بأية صلة إلى المبادئ المثالية والحرة، بل قد يُصبِح المذهب القومي عند يقظة الشعور بالقومية وشعور الأمم بذاتيتها وكيانها الخاص بكل واحدة منها، مجردَ رغبة في التوسع والاستئثار بفتوحات جديدة، فتتخذ هذه الرغبة التوسعية من مبدأ القومية ستارًا يُخفِي عن الأنظار حقيقتها. ولقد كانت تلك هي «التجربة» التي مرَّت بها الثورة الفرنسية ذاتها، والتي ظهرت آثارها في عهد الثورة، ثم طوال القرن التاسع عشر.

(٣) آثار السياسة الواقعية

فلقد كان لما طرأ من تحول في «المذهب القومي» على أيدي رجال الثورة آثار لم تكن مقصورة على فرنسا وحدها، بل امتدَّت إلى أوروبا، نجمت من «تطبيق» تلك النظريات التي أتت بها الثورة، سواء في مراحلها الأولى، أو عند تحول المذهب القومي إلى سياسة «واقعية»، وذلك عن طريق ذيوع الآراء والمبادئ التي تألَّفت منها «القومية»، أو بسبب النتائج السياسية التي أسفرت عنها حروب الثورة؛ ولذلك فإن الثورة ما لبثت حتى وجدت في «المذهب القومي» أداةً فعَّالة لإدخال تغيير ظاهر على قواعد القانون العام في أوروبا من جهة، وعلى السياسة الدولية السابقة من جهة أخرى.

على أن الدور الذي كان للمذهب القومي في الحوادث التي وقعت، لم يكن واحدًا في كل الحالات، بل اختلف في جهة عنه في أخرى، باختلاف البيئة والظروف. فهناك بلدان دخلت مباشرةً في دائرة نشاط السياسة الفرنسية بحكم موقعها الجغرافي ومتاخمتها لفرنسا، كأقاليم ألمانيا الواقعة على نهر الراين، ومثل إيطاليا وسويسرة. وتلك جميعها كانت ميادين لحروب الثورة، وطرأ على أوضاعها السياسية تغيير كامل بسبب هذه الحروب. وهناك بلدان خرجت من نطاق السياسة الفرنسية المباشر، ولكنها تأثَّرَت بتعاليم الثورة، فقبلت المبادئ الجديدة، أو ناضلت ضد هذه المبادئ نضالًا عنيفًا، كهنغاريا «المجر»، وأسبانيا والبرتغال، وإنجلترة وبولندة وروسيا وإرلندة.

ولقد تضافر في ألمانيا عاملان هامان على تغيير الأوضاع السياسية بها تغييرًا كليًّا، هما — كما سبقت الإشارة إليه في موضعه — أن ألمانيا كانت بلادًا امتازت بثروتها الفكرية العظيمة، فسهل لذلك أن تلقى الآراء الفرنسية حقلًا خصيبًا؛ لنموها في هذا الوسط الفكري بصورة تصبح معها نقطة تحول جديد لمناقشات ونظريات جديدة. وإلى جانب هذا فقد نجحت السياسة الفرنسية في ضم الشاطئ الأيسر لنهر الراين إلى فرنسا، وكان لهذا الحادث تأثير كبير في موقف الشعوب الألمانية من الثورة، ومن النظريات والتعاليم الجديدة التي أتت بها. وتلك جميعها موضوعات سوف يأتي الكلام عنها بشأن ألمانيا في دراسة مفصلة تالية.

في إيطاليا

ولقد بدأ عهد التوسع الفرنسي في إيطاليا من أيام «حكومة الإدارة»؛ وذلك نتيجة للمناورات السياسية والحركات العسكرية التي أجرتها حكومة المديرين بسبب الحرب مع النمسا. فكانت إيطاليا — كما شاهدنا — أحد ميادين القتال. أما قبل تجربة هذه الحروب القاسية، فإن إيطاليا كانت من أواسط القرن الثامن عشر مستمتعةً بحياةٍ رغدةٍ سعيدةٍ، لم يعكِّر صفو السلام في أرجائها حادث واحد منذ إبرام معاهدة «إكس لاشايل» في سنة ١٧٤٨، وهي المعاهدة التي اختتمت بها حرب «السبع سنوات». ومن المعروف أن من الدويلات الإيطالية التي اشتركت في هذه الحرب، كانت سردينيا ونابولي وجنوة ومودينا. ومن ذلك الحين لم يقع اعتداءٌ ما على إيطاليا.

ولقد كانت إيطاليا مقسمةً إلى عددٍ من الدويلات الصغيرة التي لم يكن يربط بينها رابط سياسي، ويختلف المظهر الخارجي الذي كان لنظام الحكم في كلٍّ منها عن الأخرى، ولو أنها جميعها كانت تشترك في ظاهرةٍ واحدةٍ هي خضوعها لنوعٍ من الحكم الاستبدادي، يستند إلى «هيراركية» اجتماعية، أساسها طبقيٌّ؛ أي إنه يقوم على استئثار طبقةٍ معينةٍ بوظائف الحكم والإدارة. ثم إن هذه الدويلات الإيطالية كانت تشترك من الناحية الفكرية في وجود اتساق فكري وذهني ظاهر، عنيت «الكنيسة» بتأييد وجوده، كما تضافرت المدارس والجامعات والأكاديميات — وعند الضرورة السياسة ذاتها — على استمرار بقائه.

ونجح هذا «النظام» في نشر الهدوء والسكينة في ربوع إيطاليا. ثم إنه أضفى عليها مظهرًا خارجيًّا، كان ينبئ بأن «الاستقرار» الدائم صار يسود إيطاليا، وبأنه صار لا يسمح بحالٍ من الأحوال بعودة «الفوضى» التي شهدتها البلاد في الماضي، وخصوصًا أثناء «عصر النهضة الأدبية والفنية» في إيطاليا، وصار يبدو أن إيطاليا قد ألف أهلها العيش في هدوءٍ وسكينةٍ ونظامٍ كاملٍ.

وكان من عوامل هذا «الاستقرار» أن إيطاليا كانت تتمتع طوال القرن الثامن عشر بثراءٍ عريضٍ؛ مبعثه إتقان أساليب الزراعة وفلاحة الأرض، وكثرة مشروعات الري في حوض نهر البو، من أيام «ليوناردو دافنشي» Leonardo Da Vinci، ونشاط تجاري استمر طيلة القرون الثلاثة السابقة. ولقد ظهرت آثار هذا الثراء العريض في وجود عدد عظيم من أصحاب رءوس الأموال، أو إذا شئت في وفرة الأموال، التي زخرت بها خزائن الطليان، ثم في وفرة الإنتاج الفني حينما اكتظَّت الكنائس ومنازل الخاصة، وقصور الأمراء بالتحف الفنية العظيمة.

ولقد كان من أسباب هذا الثراء العريض كذلك، الأموال العظيمة التي حصلتها «الكنيسة الرومانية» — في روما — من العالم الكاثوليكي قاطبةً. ومع ذلك، فقد كانت طائفة أو طبقة معينة فحسب، هي التي استمتعت في إيطاليا بكل هذا الثراء، ونعني بذلك الطبقة التي تألَّفت من صفوة الناس وخيارهم في مصطلح ذلك العصر، وهم النبلاء، والإكليروس (الكنسيون)، ورجال الحكم والإدارة (أي البيروقراطية) التي اضطلعت بشئون الحكم والإدارة في «الحكومات» المختلفة.

على أنه كان يقابل هذه الصورة «البراقة» أن الصناعة كانت متأخرة؛ لأن أرباب الصناعة إنما كانوا يهتمُّون بسد المطالب المحلية من ناحية، وإنتاج السلع التي تساعد على استمرار البذخ والترف. ثم إن التجارة كانت منزلقة في طريق الانحدار والتدهور، إذا قيست بما كانت عليه سابقًا. ولكن الذي تجب ملاحظته أنه بالرغم مما طرأ على الصناعة والتجارة من أسباب الانحلال والتأخر، حتى فقدتا المكانة التي كانت لهما خلال العصور الوسطى، فقد كانتا كافيتين لسد مطالب سواد الشعب من الصناع والفلاحين كي يعيش هؤلاء دون عنتٍ وإرهاقٍ ملحوظين، وحتى إن هذه الطبقات الدنيا التي تألَّف منها سواد المجتمع الإيطالي وقتئذٍ، لم تكن تشعر بأية نزعة إلى العصيان والثورة.

ولقد امتازت إيطاليا «بطابعٍ» خاصٍّ تميزت به عن غيرها في هذا العصر، هو أنها كانت في القرن الثامن عشر تحتلُّ مكانة مرموقة، كأحد عوامل التقدم الفكري في أوروبا، فمن الأسماء التي سطعت في ميادين الآداب والعلوم والفنون في ذلك الحين: «دي فولتا» Volta في الطب، و«موراتوري» Muratori وغيره في التاريخ، و«بيتنيلي» Bettineli و«الجاروتي» Algarotti وغيرهما في تاريخ الأدب والنقد الأدبي، و«جالياني»  Galiani و«فيلانجييري» Filangieri، ثم «بيكاريا» Beccaria، وهو أعظمهم في القانون والاقتصاد السياسي. وكان تحت تأثير «الاقتصاديين» والقانونيين أن بدأ الإمبراطور جوزيف الثاني (١٧٦٥–١٧٩٠) يعمل لتغيير «المجموعة القانونية» المعمول بها في إيطاليا الشمالية. كما أصدر ليوبولد غراندوق تسكانيا (والذي صار الإمبراطور ليوبولد الثاني فيما بعد) (١٧٩٠–١٧٩٢) ما يعرف باسم «قوانين ليوبولد»، والتي كانت أكثر القوانين التي عرفتها أوروبا تقدمًا من الناحيتين: التشريعية والاجتماعية. ولقد ازدهر الأدب، فاشتهرت «هزليات» جولدوني Goldoni و«مآسي» ألفييري Alfieri، ومنظومات «باريني» Parini. وأدرك كل هؤلاء عصر الثورة الفرنسية، فلم يقضوا نحبهم إلا في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر.

وهذه الحركة الفكرية كانت تشبه لحدٍّ كبيرٍ الحركة الفكرية في فرنسا، في أن نشاطها لم يكن محصورًا في داخل إيطاليا وحدها فقط، بل شمل كذلك أصقاعًا أخرى، فلم تكن الحركة الفكرية الإيطالية «محلية» وحسب. ثم إنها زيادةً على ذلك قد احتفظت بطابعها الإيطالي الخالص بالرغم من اتساع ميدانها، وتمتعت بوحدة روحية وذهنية «وثقافية» إيطالية. فاعتبر «ألفييري» نفسه «إيطاليًّا» وليس «بيدمنتيًّا» — وبيدمونت مسقط رأسه — وأعلن أنه خلع عن نفسه «بيدمنتيته» ونبذها ظهريًّا. وكل هؤلاء المفكرين رغبوا في اعتناق فكرة «الحرية» كما صاغها الفلاسفة الفرنسيون، ومع أنه لم يكن يوجد في إيطاليا حينئذٍ أي شعورٍ قوميٍّ، فقد تحدث المفكرون الطليان عن «الوطن»، واحتل «ألفييري» مكان الصدارة بين معاصريه كشاعر «وطني» ويدين بالمبادئ الحرة.

وصفوة القول: إن إيطاليا في آخر القرن الثامن عشر كانت تبدو وقد اكتست حلية زاهية من الحضارة «الأرستقراطية»، وذات تراث فني عظيم، ولم يعتور نشاطها الفني فتور منذ «عصر النهضة»؛ ولذلك فقد صار متوقعًا أن يترتَّب على الآراء الفرنسية التي جاءت بها الجيوش الفرنسية إلى إيطاليا في عهد الثورة، نتائج على جانب عظيم من الخطورة، يتأثر بها هذا الوسط «المرهف» تأثيرًا عميقًا.

فلقد قضى جنود الثورة حينما غزوا هذه البلاد واحتلوها على هذه الحضارة الإيطالية الزاهية قضاءً مبرمًا. وتفصيل ذلك أن إيطاليا سرعان ما تعرَّضت لغزوين فرنسيين متتالين، بين سنتيْ ١٧٩٦، ١٧٩٧، وهو الغزو الأول، وبين سنتيْ ١٨٠٠، ١٨٠١، وهو الغزو الثاني، كما عرفنا في عهديْ حكومة الإدارة، ثم القنصلية على التتابع، فأسفر الغزو الأول عن تحطيم دوقية ميلان النمساوية، وجمهورية البندقية وجمهورية جنوة، ولم تنجُ أملاك البابا من الاعتداء عليها، وذلك في أراضي إيطاليا الشمالية. ثم انتقل الغزو إلى إيطاليا الوسطى والجنوبية؛ فأنشأ الفرنسيون في رومة «الجمهورية الرومانية» في ١٥ فبراير ١٧٩٨، ووضعوا لها نظامًا للحكم على غرار نظام «حكومة الإدارة». وعندما احتلَّ الفرنسيون «بيدمونت» اتخذوها قاعدة يعملون منها لتوطيد السيطرة الفرنسية في إيطاليا، وأضحت كلٌّ من جنوة ونيس بمثابة مراكز أمامية للجيوش الفرنسية.

وأما الغزو الثاني الذي وقع في سنة ١٨٠٠، فقد أتاح لنابليون بونابرت الفرصة لأن يَعْبُر بجيوشه جبال الألب «ممر سان برنار»، وينقضَّ على النمساويين في سهول لمبارديا، فيهزمهم هزيمة قاصمة في واقعة «مارنجو» المشهورة في ١٤ يونيو ١٨٠٠. كما أن قائدًا آخر (الجنرال مورو) لم يلبثْ أن انتصر على النمساويين في ميدان آخر في واقعة «هوهنلندن» في ٢ ديسمبر ١٨٠٠. وبذلك رأى النمساويون أنفسهم مرغمين على عقد الصلح مع فرنسا في «نفيل» في ٩ فبراير ١٨٠١ بنفس الشروط تقريبًا التي قامت عليها قبلًا معاهدة «كمبوفرميو»، فأخذت فرنسا إلى جانب أراضي شاطئ الراين الأيسر، كلًّا من بلجيكا ولكسمبورج، واعترف الإمبراطور باستقلال جمهورية بتافيا «هولندة»، والجمهورية الهيلفيتية (سويسرة). ونال الأمراء الألمان تعويضًا عما فقدوه من أراضيهم في إقليم الراين، في شكل أراضٍ أخرى أعطيت لهم في ألمانيا، على أن يشترك بونابرت نفسه في تقدير هذه التعويضات.

أما في إيطاليا فقد احتلَّت فرنسا «بيدمنت» وضمتها إليها، ووسَّعت رقعة جمهورية ما وراء الألب (أو شمال إيطاليا)، حتى وصلت حدودها إلى نهر الأديج وصارت تضم «مانتوا»، ثم وضعت تحت حماية فرنسا، كما وضعت جمهورية «ليجوريا» تحت حمايتها كذلك، ثم تأسَّسَتْ في تسكانيا مملكة «إتروريا» Etrurie، وولي عليها دوق بارما، الذي خضع لبونابرت خضوعًا كليًّا، ثم بسط بونابرت نفوذه على روما، وأرغم ملك نابولي على قبول حامية فرنسية في «تارنتو» Tarento، في حين بقيت أراضي جمهورية البندقية القديمة في حوزة النمسا منذ أن استولت هذه عليها في معاهدة كمبوفرميو.

وهكذا توزَّعت الأراضي الإيطالية من جديد، بصورة تجعل ممكنًا لفرنسا أن توطِّد سيطرتها الكاملة على شبه الجزيرة الإيطالية. فأنشأت فرنسا في الشمال كتلتين كبيرتين، تحفظان نوعًا من التوازن في هذا الجزء: هما الجمهورية الإيطالية «ما وراء الألب»، تقابلها «دولة» البندقية القديمة التي ضمت بقايا أراضيها الآن إلى النمسا. وهاتان الكتلتان تقفان شمال الولايات البابوية التي امتدت في وسط إيطاليا، وصارت حدودهما الشمالية الشرقية تلاصق مملكة إتروريا (تسكانيا). أما في الجنوب، فقد عادت الأوضاع إلى سابق عهدها؛ أي بقيت مملكة نابولي، ولكن مع فارق هام، هو انعدام كل هدوء واستقرار من هذه الأقاليم.

ومثلما تحطَّم التنظيم الإقليمي والسياسي القديم في إيطاليا، فقد تحطَّم كذلك التنظيم الاقتصادي والاجتماعي بها بسبب الغزو الفرنسي؛ وذلك لأن الجنود الفرنسيين الذين وقعت هذه البلاد فريسة في أيديهم، سرعان ما صاروا يجمعون منها الأسلاب والغنائم، فنهبوا تلك الثروة التي تجمَّعت بها خلال القرون العديدة. أضفْ إلى هذا أن هذه الجيوش «الفرنسية» الغازية كانت تعيش بفضل «المصادرات» و«الغرامات الحربية» عالة على المدن، والمقاطعات الإيطالية، بل واستطاع الغزاة أن يبعثوا من «حصيلتها» الإمدادات المالية إلى خزينة حكومة الإدارة.

ثم إن الغزاة أخذوا يطبِّقون القوانين الفرنسية التي مكنت الدولة من الاستيلاء على أملاك الكنيسة وبيعها، وزيادة على ذلك فقد استولى الفرنسيون على الأموال التي كانت مودعة في نوعٍ من المصارف (في إيطاليا الشمالية) لتسليف النقود بفوائد بسيطة لمكافحة الربا الفاحش، وكان هذا النوع من المصارف منتشرًا في القرن الثامن عشر وتتولى الحكومات الإشراف عليها. ولقد كان معنى كل هذه المصادرات والمغارم، وأعمال السلب والنهب، تجريد الطبقة الإيطالية الغنية من أموالها وثروتها.

وبذلك تَكُون قد اختفت من الوجود في إيطاليا — وفي وقت واحد — كل التنظيمات السياسية والإقليمية والاجتماعية والاقتصادية، كما اختفت ثروة البلاد في حين لم تستطع «الثورة الفرنسية» حتى هذا الوقت أن تُعَوِّض إيطاليا شيئًا عن كل ما فقدته؛ لأن عهد «الإنشاء» الجديد لم يبدأ في إيطاليا إلا في عهد الإمبراطورية النابليونية، كما سيتَّضِح لنا فيما بعد، ومع ذلك فإن «الثورة» عندما حطمت أنظمة «العهد أو النظام القديم»، وقضت على الحضارة التي اختصت بها إيطاليا وقتئذٍ، كانت قد جعلت ظهور تنظيم آخر جديد، وانبثاق روح أخرى جديدة، أمرًا لا مفرَّ منه ولا معدى عنه في إيطاليا.

في سويسرة

وسويسرة كانت من بين البلدان المجاورة لفرنسا، والتي وقعت تحت تأثير «الثورة الفرنسية»، وطرأ تغيير كبير على تكوينها نتيجة لذلك. وسويسرة لم تكن في هذا الحين «دولة»، بل كانت اتحادًا كونفدرائيًّا، وبمعنى أصح «محالفة» قصدت منها الولايات (أو الكانتونات) السويسرية الثلاث عشرة، معاونة بعضها بعضًا في الدفاع عن نفسها. ولم يكن هذا الاتحاد أو المحالفة يشمل كل سويسرة، فقد بقي خارجًا عنه ولايات «جنيف» و«فاليه» Valais، و«جريسون» Grissons، في حين كانت ولاية «نيوشاتل» تابعة لملك بروسيا، وكانت «سانت جالين» St. Gallen تخضع لرئيس الأديرة بها، وتخضع «بال» لأسقفها.
ثم كانت لا تزال بعض الأقاليم (والتي صارت كانتونات فيما بعد) تخضع لسلطات كانتونات أو «ولايات» أخرى: «آرجو» Aargau، «تورجو» Thurgau، «فود» Vaud، «لوتيسان» Le Tessin، أو «تشينو» Ticino و«فالتلين» Valtelline.
وفي هذه الكانتونات (الولايات) قام التنظيم الداخلي على أسس أرستقراطية، تركزت بفضلها السلطة في أيدي طبقة من البورجوازية، لها امتيازات كبيرة، عملت على حرمان كل أولئك الذين عرفوا باسم (المَوْلِديين Natifs)، وهم أهل المدن والكانتونات الذين لم تكن لهم حقوق البورجوازية، و«المهاجرين» الذين نزحوا من كانتون — أي ولاية — إلى أخرى ليستقر مقامهم بها.
ومن أواخر القرن الثامن عشر — وبالتحديد ابتداءً من سنة ١٧٧٠ — ساد في داخل الولايات نضالٌ سياسيٌّ عنيفٌ كان ينتهي في كل الأحوال تقريبًا بفوز الطبقة الأرستقراطية، وتشريد كثيرين من المواطنين السويسريين وطردهم خارج البلاد. ولقد لجأ جمعٌ غفيرٌ من هؤلاء المنفيين إلى البلدان الأخرى وخصوصًا فرنسا، ينشدون العيش والاستقرار بها، نذكر من هؤلاء «إتيين كلافيير» Etienne Claviére، وقد تولى وزارة المالية في الوزارة التي تشكَّلت في مارس ١٧٩٢، أيام الجمعية التشريعية بموافقة الملك، وكان «كلافيير» من المنتمين لليعاقبة، كما كان من هؤلاء المهاجرين المشردين «جان بول مارا» Marat صاحب التاريخ المعروف في الثورة.

ذلك إذن كان الوضع في سويسرة التي لم يكن لها وقتذاك شكل «الدولة» الحديثة.

وأما خضوع هذه البلاد لتأثير الثورة الفرنسية فقد تبدَّى في ناحيتين؛ أولاهما: أنه ظهرت بالبلاد رغبة جامحة للظفر بالحقوق الديمقراطية، وصمدت الطبقة الأرستقراطية المستأثرة بكل أسباب السلطة في وجه هذه الحركة. وثانيتهما: أن اللاجئين السويسريين في الخارج لم يلبثوا أن قاموا تحت حماية الحكومة الفرنسية وبتشجيعها، بحملة قوية لدعوة فرنسا إلى التدخل في شئون سويسرة الداخلية، وكانت تحدو هؤلاء اللاجئين الرغبة في العودة إلى أوطانهم، والمساهمة في إدارة شئون بلادهم، على أن يأتي ذلك إما عن طريق تدخل سياسي من جانب فرنسا، وإما عن طريق تدخُّل عسكري من جانبها كذلك.

وعلى ذلك، فقد ظلَّ اللاجئون السويسريون طوال عهد «المؤتمر الوطني» يدفعون الحكومة الفرنسية دفعًا لتتدخَّل في شئون سويسرة، وحينما تسلَّمت حكومة الإدارة أزمَّة الحكم في فرنسا، وجد هؤلاء نصيرًا لهم في شخص «روبل» عضو هذه الحكومة، والذي استأثر بشئون السياسة الخارجية بعد انقلاب (١٨ فريكتدور/٤ سبتمبر ١٧٩٧). واتبع «روبل» سياسة توسعية تسلطية واضحة المعالم، فلم يلبث أن وثَّق صلاته باثنين من المهاجرين هما: «بيتر أوشز» Peter Ochs السياسي «الديمقراطي»، و«فردريك سيزار دي لاهارب» La Harpe مستشار القيصر إسكندر الأول فيما بعد، وكان الأول من «بال» والثاني من «برن».

ورأت فرنسا في تدخلها في شئون سويسرة فرصة مواتية، تمكِّنُها من القضاء على المؤامرات التي كانت تُحَاك ضد الجمهورية الفرنسية في تلك البلاد؛ وذلك لأن أعداء «الثورة» والمنشقين عليها كانوا قد اتخذوا سويسرة مقرًّا لنشاطهم ضد «الثورة» من مدةٍ طويلةٍ، ولم تلبث أن قويت حركتهم عندما انضمَّ إليهم الذين اضطروا إلى مغادرة فرنسا بعد حادث انقلاب ١٨ فريكتدور، وكانت إنجلترة تمدهم بالأموال اللازمة لاستمرار نشاطهم.

وترأَّس في سويسرة هذه الحركة العدائية ضد فرنسا كلٌّ من السويسري «فرنسيس ديفرنوا» Divernois، وأحد العملاء الإنجليز «ويكام» Wickham. ووجدت الحكومة الفرنسية مسوغًا لهذا التدخل في ضرورة إتقان خططها العسكرية والاستراتيجية؛ وذلك أنه طالما بقيت الجيوش الفرنسية مستمرة في عملياتها العسكرية في إيطاليا الشمالية، فقد تحتَّم العمل على تأمين المواصلات السهلة بين هذه الجيوش وقواعدها عن طريق ممر سمبلون، ثم عن طريق جنيف.
وفي سنة ١٧٩٨ قررت الحكومة الفرنسية نهائيًّا التدخل في شئون سويسرة، وقبلت العمل بالبرنامج الذي وضعه اللاجئون السويسريون، وعكف «أوشز» في باريس على وضع «دستور» سلفًا للدولة الجديدة على أساس ديمقراطي، ويكفل في الوقت نفسه تحقيق الوحدة القومية، وكان هذا الدستور من طراز دستور حكومة الإدارة. وعلى غراره عاون في إعداده مع «أوشز» كلٌّ من «مرلان دي دوويه» و«بيير دونو» Daunou، وكانا — كلاهما — قد اشتركا في وضع دستور حكومة الإدارة (دستور العام الثالث).

وبموجب هذا الدستور السويسري تحررت من التبعية لغيرها كل تلك «الكانتونات» السويسرية التي سبق ذكرها، وصار يتألَّف من الولايات جميعها دولة واحدة ذات طابعٍ اتحاديٍّ (كونفدرائيٍّ)، وضمت إليها «فاليه» على قدم المساواة مع الكانتونات أو الولايات الأخرى. وصار لهذه الدولة الاتحادية حكومة مديرين من نمط الحكومة التي أقامها دستور العام الثالث في فرنسا (١٧٩٥)؛ أي على أساس أن تتألَّف السلطات التشريعية والتنفيذية من ممثلي الشعب المنتخبين؛ ولذلك فقد اعتبر هذا الدستور بدايةً طيبةً لتركيز السلطة وتوحيد البلاد.

ولقد استطاعت القوات الفرنسية في حملة ناجحة ضد ولاية «برن» Bern — وكانت أهم الكانتونات الأرستقراطية وأعظم الولايات شأنًا في الاتحاد الكونفدرائي — أن ترغم هذه الولاية على قبول الدستور الجديد، والاعتراف به في ٦ مارس ١٧٩٨. ولما كان من أغراض حكومة الإدارة الحصول على المال دائمًا للأسباب التي ذكرناها، فقد استولى الفرنسيون — الآن — على «الخزينة» في برن، ولقد خُصِّصَتْ نصف هذه الأموال المستولى عليها تقريبًا في تمويل الحملة على مصر.
وبقيت الكانتونات الجبلية: «أونترفالدن» Unterwalden، «أوري» Uri، و«شويتز» Schwyz مصممة على الاحتفاظ باستقلالها. وحينئذٍ سيرت حكومة الإدارة جيوشها عليها وأرغمتها على الخضوع والإذعان، وأبدت ولاية «شويتز» مقاومةً كبيرةً، ولكن انتصرت جيوش الثورة عليها في أكثر من معركة، وكان بعد واقعة «مورجارتن» Morgarten في ٢ مايو ١٧٩٨، أن أمكن تطبيق الدستور الجديد في سويسرة.
وكانت «الجمهورية الهلفيتية» قد تأسَّست رسميًّا منذ ١٢ أبريل ١٧٩٨، على أن تكون مدينة «آراو» Aarau — في ولاية أو كانتون «آرجو» — عاصمة وقتية. وجرت الانتخابات ثم تشكَّلت الحكومة الجديدة. وفي ١٩ أغسطس ١٧٩٨ عقدت الجمهورية الهلفيتية معاهدة تحالف مع فرنسا، فوعدت بمعاونة الجمهورية الفرنسية في كل الحروب التي تخوض غمارها — ما عدا الحرب البحرية — واعترفت بالحكم الفرنسي في أسقفية «بال» السابقة، وخوَّلت فرنسا حقَّ استخدام كل طرق المواصلات التي تربط بين فرنسا وبين ألمانيا الجنوبية وإيطاليا، ووعدت فرنسا بدورها بأن تسحب عسكرها من البلاد في خلال شهور ثلاثة، ولكنها لم تنفِّذ وعدها.

وهكذا أمكن بفضل هذا التدخل من جانب الثورة، إنشاء جمهورية سويسرية في دولة واحدة تضمُّ في حدودها كل الولايات (أو الكانتونات)، وتحلُّ محل ذلك الاتحاد المفكك السابق. على أن خروج «دولة» سويسرية للمرة الأولى إلى عالم الوجود لم يكن معناه إطلاقًا أن سويسرة قد صار بها «شعورٌ قوميٌّ»، ذلك أن الشعور القومي لم يكتمل نضجه في سويسرة إلا بعد فترة طويلة من الزمن، وفي خطواتٍ تدريجيةٍ.

•••

تلك إذن كانت آثار «الثورة» على البلاد التي خضعت مباشرةً لتفاعل الآراء والمبادئ التي نادى بها رجال الثورة، وفي الأقطار المتاخمة لفرنسا. بيد أن آثار «الثورة» لم تلبث أن ظهرت كذلك في البلدان التي لم تكن متاخمة لفرنسا مباشرةً، وفي هذه الحالة حصل التأثُّر بطريق غير مباشر، أي ليس بسبب فرض آراء «الثورة» ومبادئها في البلاد التي خضعت لجيوشها، وبواسطة رجال الثورة الذين مارسوا بأنفسهم السلطة في هذه الأقاليم التي دانت لهم ليروِّجوا الآراء والمبادئ التي جاءوا بها، وليرغموا الأهلين والحكومات على تنفيذها. وإنما حصل التأثر بطريق احتكاك الآراء والأفكار الذي حدث بسبب ذيوع الآراء والمبادئ «الثورية»، ونتيجة للسياسة التي اتبعتها «الثورة» في علاقاتها الخارجية.

ولم يكن رد الفعل الذي حصل — سواء من جانب الحكومات، أو من جانب الشعوب تجاه الآراء التي أتت بها الثورة — في درجة واحدة أو في صورة واحدة. فلقد اعتبرت الحكومات «الثورة الفرنسية» خطرًا داهمًا، من واجبها أن تبذل كل ما وسعها من جهدٍ وحيلةٍ للقضاء عليه وإزالته؛ لأن «الثورة» عمدت إلى تشجيع حركات المقاومة التي كانت قد بدأت ضد هذه الحكومات وقتئذٍ، ولأن «الثورة» كان في استطاعتها كذلك تحريك الثورة ضد الحكومات القائمة. مما تذرعت به الدول لتضم صفوفها، ولتوطِّد دعائم الحكم المطلق وأساليبه في داخل بلادها. وعلى ذلك فقد صار «للثورة» من هذه الناحية أثر عكسي، من حيث إنها عوقت بداية ظهور أو تطور المطالبة بالحقوق السياسية والقومية.

فلقد حدث في هنغاريا «المجر» أن امتنعت الحكومة من ذلك الحين عن دعوة «الدياط» إلى الاجتماع، ثم راحت تشدِّد الرقابة البوليسية لتعطيل نشاط الوطنيين. وفي غضون سنة ١٧٩٥ اكتشفت الحكومة مؤامرة سرية لإنشاء جمهورية تضم إليها أقطار الدولة النمساوية، وأدى اكتشاف هذه المؤامرة إلى القبض على كثيرين، كان منهم أحد الأساتذة الهنغاريين «مارتينوفيتش» Martinovitch، وأقبل النبلاء على تأييد خطة الحكومة، حتى ليصح لنا القول بأن «الحركة القومية» في هنغاريا قد وقفت وتعطَّلت تمامًا من ذلك الحين إلى سنة ١٨١٥، بل وإلى ما بعد هذا التاريخ أيضًا.

وثمةَ مثل آخر لتوضيح هذا الأثر العكسي؛ أي التوقف الذي حصل في الحركات الحرة والمطالبة بالحقوق الديمقراطية؛ بسبب الذعر والخوف الذي أوجدته الثورة الفرنسية. ذلك كان توقف عهد الإصلاحات فجأة في شبه جزيرة إيبريا، وكانت هذه الإصلاحات قد بدأت في إسبانيا والبرتغال تحت نظام الحكومة المستبدة المستنيرة في كلٍّ منها. ثم كان ذلك نفس ما حصل في إنجلترة حينما أدى الخوف من الثورة، ثم اشتباك البلاد في الحروب التي خاضتها ضد الجمهورية الفرنسية، إلى تولي حزب «التوري» الحكم؛ فتعطَّل كل إصلاح على أيدي هؤلاء المحافظين في إنجلترة.

ولقد كان للثورة أثر عكسي كذلك، وإن كان من نمطٍ آخر، هو أن الضعف الذي أصاب الحكومة بفرنسا بسبب هذه الثورة، كان عاملًا قويًّا في إغراء الدول على تحقيق مآربها، بإخراج فرنسا ذاتها من دائرة النشاط السياسي من ناحية، والمضي في تقسيم بولندة من ناحية أخرى. فاستطاعت الدول تقسيمها مرة ثانية في ١٧٩٣ (بين روسيا وبروسيا)، ثم مرة ثالثة وأخيرة في سنة ١٧٩٥ (وهذا منذ التقسيم الأول المعروف في سنة ١٧٧٢)؛ الأمر الذي ترتَّبَ عليه اختفاء بولندة من خريطة أوروبا السياسية.

في بولندة

ولم تكن آثار الثورة مع ذلك كلها عكسية؛ ففي الوقت الذي ساعدت فيه «الثورة» على اختفاء بولندة سياسيًّا — أي كدولة — من عالم الوجود، كان «للثورة» ذاتها فضلٌ في تحديد معالم حركة وطنية كانت قد بدأت بشائرها عشية حادث «الثورة» كحركة موجهة في صميمها ضد روسيا، ثم ما لبثت حتى نمت واتسعت عند قيام الثورة «الفرنسية». ولقد كان عماد هذه الحركة القومية أولًا: شباب النبلاء الذين تلقَّوْا علومهم في المدارس التي أنشأتها لجنة التربية والتعليم الوطنية منذ ١٧٧٤ — على نحو ما سبق ذكره — وتلك مدارس تأثرتْ برامجها بآراء الفلاسفة الفرنسيين، ثم قامت هذه الحركة على أكتاف الأساتذة المثقفين الذين عرفوا باسم «الأكاديميين»، وعلى وجه الخصوص الأساتذة في جامعتيْ «كراكاو» و«فيلنا».

وأخيرًا كان عماد الحركة القومية أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في «وارسو». وكان أثناء انتعاش الحركة الفكرية في بولندة وتقدمها عشية «الثورة الفرنسية» وفي أوائل أيامها، أن قام «المفكرون» أو قادة الرأي البولنديون بحملة واسعة، يؤيِّدون الآراء الفرنسية الجديدة، فيما أصدروه من بحوث ودراسات عديدة، ومنها ما عُنِيَ فيها أصحابها بنقل كتابات الفرنسيين وحسب، كنقل رسالة «سييس» المشهورة عن «الطبقة الثالثة»، وحَرَصَ البولنديون على الاتصال برجال الثورة الفرنسية؛ ليقفوا منهم على برامج الثورة، والإصلاحات الحرة التي تعتزمها «الثورة»؛ ليعثروا فيها على ما قد يستطيعون الانتفاع به في إصلاح أحوال بلادهم.

ولقد انكبَّ البولنديون البورجوازيون على تتبُّع أنباء الثورة الفرنسية، وقراءة كل ما كانت تنشره الصحف عنها، أو تُذِيعه عن الآراء والمبادئ الجديدة التي أتت بها. واشتهر في ذلك الحين نخبةٌ من أعلام الثقافة والأدب والقانون البولنديين، واحتل مكان الصدارة بينهم «أبو الديمقراطية البولندية» الأب ستانسيلاس ستاتزيك Staszic الذي بذل قصارى جهده بالخطابة والكتابة والوعظ والإرشاد في الدفاع عن الفقراء والمطالبة بتحسين أحوالهم، وناشد أمته أن تنبذ ظهريًّا فوارق الطبقات الاجتماعية، ثم كان من هؤلاء الأعلام أيضًا الأب «هيو كولونتاي» Kollontay الذي اشتهر «برسائله» وبمؤلفاته في القوانين الطبيعية الاجتماعية، وبمذكراته التاريخية. كان «مربيًا» ممتازًا ورجل دولة وخطيبًا مفوهًا، سرعان ما صار بيته «ندوة» للمفكرين التقدميين، نادى بضرورة إصلاح الحكومة وإلغاء رقيق الأرض، كان عضو «لجنة التربية والتعليم الوطنية» النشيط، وأبرز أعضاء هذه الجمعية إطلاقًا.
ولقد تعاونت هذه اللجنة مع رئيس «البرلمان» «ستانسيلاس مالاكوسكي» Malachowski، ووزير التربية «إجناز بوتوكي» Ignace Potocki في إعداد مشروع قانون الدستور البولندي الذي صدر في ٣ مايو ١٧٩١ على نحو ما سيأتي ذكره. وكان للأب «كولونتاي» اليد الطولى في وضع هذا الدستور.
تلك إذن كانت العوامل التي ساعدت على ظهور الحركة القومية في بولندة ونموها. وكان من أثر ذلك كله أن شرع مجلس «الدياط» خلال سنوات ١٧٨٩–١٧٩١، ينفِّذ برنامجًا من الإصلاحات الواسعة، والتي يتَّضِح من معرفة أغراضها الأثر الذي كان عليها للثورة الفرنسية؛ ذلك أن هذه الإصلاحات استهدفت تقوية الحكومة، بأن تصبح حكومة تمثِّل الشعب وتقوم على تأييده لها، ثم تقوية الحكومة بالقضاء على أسباب الضعف الناجمة من وجود الامتيازات أو «الحقوق» السياسية التي عطلت أعمال الحكومة، وساعدت على انتشار الفوضى، ومن هذه «حق» النبلاء في تعطيل قرارات «الدياط» باللجوء إلى استخدام «حق الاعتراض» Liberum Veto الذي تحدثنا عنه في فصل سابق. وفضلًا عن ذلك فقد كفل هذا البرنامج التحاق أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) بالوظائف العامة في كل فروع الإدارة، وكفل هذا الحق للنبلاء أنفسهم الذين أعطوا وظائف «الشرف» العامة. وأخيرًا، تضمن البرنامج إصلاحات عدة لصالح الفلاحين.
ولقد تسنَّى تنفيذ هذا البرنامج الإصلاحي بفضل «انقلابٍ» حدث على يد الملك «ستانسيلاس أوجستس بونياتوسكي» Poniatowski (١٧٦٤–١٧٩٥)، بالاتفاق مع جماعة من أعضاء مجلس الدياط، فأعلن الدستور يوم ٣ مايو ١٧٩١، وبمقتضى هذا الدستور تقرَّر انتقال الملك إلى أسرة ناخب سكسونيا؛ لعدم وجود وارث للعرش للملك «ستانسيلاس أوجستس»، وفيما عدا ذلك جاء هذا الدستور البولندي على غرار دستور الثورة الأول (١٧٩١) الذي وضعته الجمعية الوطنية التأسيسية في فرنسا.
وتضمَّن الدستور الإصلاحات المنشودة، فألغى «حق الاعتراض»، فكان حينئذٍ أن أُقِيم بفضل هذا الدستور في بولندة ما صار يعرف باسم «الجمهورية الملكية».٣ وكان لإعلان الدستور في بولندة صدًى بعيد، فلم يلبث أن نهض «إدموند بيرك» Burke يعلق على هذا الحادث في مجلس العموم البريطاني، فقال: «إن هذا التغيير الذي حدث (أي إعلان الدستور في بولندة بالإصلاحات التي تضمنها) يجعل من حقِّ الإنسانية أن تستعد وأن تزهوَ عجبًا، وقد زال ما كان يندى منه جبينها خجلًا، وانتهت آلامها بفضل هذا التغيير الذي أدخل على حياة الأمة البولندية. فأهل المدن حصلوا على مقومات حياتهم الاجتماعية بعد أن عاشوا محرومين من كل الامتيازات والفرص، وأما النبلاء وعِليَة القوم (وأعيان الطبقة المتوسطة)، الذين اشتهروا في العالم بالصرامة والبأس والبطش، فقد أُعِيد تنظيمهم، وصاروا الآن يحتلون مرتبة أمامية في صفوف المواطنين الأحرار والأكرمين. وصار الناس إطلاقًا، ابتداءً من الملك حتى العامل الذي يكسب قوت يومه بعمله وجده، يعيشون في عزةٍ وكرامةٍ، وقد تحسَّنت أحوالهم جميعًا …

ومما يدعو للعجب حقًّا ويبعث على الشعور بالسعادة المتزايدة، أن هذا كله قد حصل من غير أن تُسفَك قطرة دم واحدة، ودون غدر أو خيانة من جانب أحد، أو ارتكاب جريمة، أو أن يقذف الناس في حق بعضهم بعضًا — ولعمري إن ذلك لأشد قسوةً وأعظم نفاذًا من ضربة سيف بتار — ثم دون تعمُّد توجيه الإهانات للحطِّ من كرامة الدين والأخلاق والعادات، ودون الالتجاء إلى اغتصاب ما بِيَدِ الغير أو مصادرة ثرواتهم. ثم إن أحدًا لم يُحبَس أو يُنْفَى، كما لم ينزل الإملاق بمواطن من المواطنين يُرغِمه على الاستجداء والشحاذة، بل لقد حدث هذا التغيير العظيم بناءً على وجود سياسة موضوعة وخطة مرسومة، أُحِيطَتَا بسياج من الكتمان التام. واجتمعت الكلمة على تنفيذ هذه السياسة، التي اتَّصَف أصحابها بالحكمة وأصالة الرأي، حتى إنه لم يسبقْ حصول مثيلها في أي ظرف مضى. ولقد كان هذا المسلك العجيب مدخرًا لتحقيق تلك المؤامرة الباهرة (الانقلاب) التي دبَّرها أصحابها لتأييد حقوق الإنسان ومصالحه الصديقة الصادقة.»

وواضح أن «بيرك» في هذا الخطاب إنما كان يقصد كذلك التنديد بحوادث الثورة الفرنسية من طريق غير مباشر، وهو المعروف بعدائه لها.

ولقد كان طبيعيًّا أن يترتَّب على هذه الحركة الإصلاحية التي استهدفت إعادة بناء «الدولة» البولندية من جديد، إزعاج روسيا وإغضابها. وعلى ذلك، فإن القيصرة كاترين الثانية بمجرد أن استطاعت إنهاء الحرب مع تركيا في معاهدة «ياسي» Jassy في يناير ١٧٩٢، قررت التدخل في شئون بولندة بصورة جدية، ولقيت في هذه الرغبة تأييدًا من جانب كبار الطبقة الأرستقراطية من «العظماء» Magnates، ثم من جانب المتمسِّكين بالتقاليد القديمة، والذين أفزعتهم إصلاحات «الدياط» الاجتماعية والسياسية. فارتمت الأرستقراطية العالية البولندية في أحضان روسيا. وأقامت اتحادًا أو حلفًا كونفدرائيًّا — من ذلك الطراز من الاتحادات التي سبق الكلام عنها — عرف باسم اتحاد «تارجويتز» Targowitz في مارس ١٧٩٢ تحت ستار الدفاع عن الحريات البولندية.
وأراد البولنديون الاعتماد على بروسيا لمؤازرتهم ضد روسيا، ولكن بروسيا لم تشأ التدخل إلا إذا وافقت إنجلترة على هذا التدخل واشتركت معها فيه وقامت بعمليات بحرية ضد روسيا في بحر البلطيق. وكانت تلك شروطًا رفضتها الحكومة الإنجليزية (وزارة بت Pitt) فتخلَّت بروسيا عن مساعدة بولندة. بل إن بروسيا لم تلبث أن قررت التدخل هي الأخرى في المسألة البولندية (فبراير ١٧٩٢) لتحقيق مآربها الخاصة بالحصول من بولندة على الأموال التي تسدُّ بها نفقات الحرب المتوقعة مع فرنسا، وأبلغت بروسيا هذه الرغبة حكومة القيصرة في منتصف مارس ١٧٩٢، وبذلك وجدت بولندة أنها صارت منفردة، ولا أمل في نجدة خارجية تأتي لمعاونتها في النضال ضد روسيا.
وفي ١٩ مايو اخترق الغزاة الروس حدود بولندة. وانهزم البولنديون الوطنيون في كل مكان، وسقطت «وارسو» في شهر يوليو. وفي ٢٢ يوليو ١٧٩٢ أعاد الروس العمل بدستور بولندة القديم، وكان مما ساعد الروس على إدراك هذا النجاح أن الملك «ستانسيلاس أوجستس بونياتوسكي» — وكان ضعيفًا — قد تخلى في اللحظة الأخيرة عن موقفه وضرب ببرنامج إصلاحاته عرض الحائط، وانحاز إلى «اتحاد تارجويتز». ورضي بالمفاوضة والاتفاق مع روسيا. فانعقد «الدياط» في «جرودنو» Grodno في «ليتوانيا». وعلى يده تم عقد معاهدة تحالف مع روسيا في ١٦ أكتوبر ١٧٩٣ وإلغاء دستور ١٧٩١.
وهكذا نجم من حركة الإصلاح الوطنية التي بدأها «البورجوازيون» البولنديون، وأهل الفكر وقادة الرأي في البلاد، نزول الكوارث من جديد ببولندة. فقد سبق أن انتهت المفاوضة بين روسيا وبروسيا إلى الاتفاق في ٢٣ يناير ١٧٩٣، على ما صار يعرف باسم «تقسيم بولندة الثاني»، فنالت روسيا بمقتضى هذا الاتفاق: الأوكرين وروسيا البيضاء، وعدد سكانهما حوالي الثلاثة ملايين نسمة، وحصلت بروسيا على دانزج، وتورن Thorn، وبوزن Posen وكاليش Kalish، وعدد سكانها جميعها حوالي مليون نسمة. وبذلك صارت بولندة، التي كان عدد سكانها في سنة ١٧٩٢ يبلغ خمسة عشر مليون نسمة، «دولة» لا يزيد عدد سكانها — الآن — على أربعة ملايين تقريبًا.

وأرغمت روسيا «الدياط» البولندي على إقرار هذا التقسيم، فقَبِل «الدياط» المجتمِع في «جرودنو» تحت الضغط والتهديد، هذا البتر الجديد من جثمان الوطن البولندي في سبتمبر، وكانت روسيا وبروسيا قد احتلَّتا فعلًا هذه الأراضي في الشهر السابق. وفي أكتوبر أبرم الدياط معاهدة التحالف السالفة الذكر مع روسيا، والتي كانت بمثابة الاعتراف من جانب بولندة بخضوعها للسيطرة الروسية. وصار «ستانسيلاس بونياتوسكي» مجرد عميل للوزير الروسي في وارسو.

غير أنه سرعان ما ظهر في بولندة عقب هذه الكارثة الوطنية، جماعة من الوطنيين الذين تزايد غضبهم من روسيا وحنقهم عليها؛ بسبب «الحكم الروسي» الذي تأسَّس في الأقاليم المبتورة، والذي اتصف «بعسكرية» صارمة تعمَّدت إلحاق الإهانة والأذى بالبولنديين. وكان هؤلاء الوطنيون على استعداد للقيام بالثورة بمجرد أن يقوى ساعدهم. ونشطت العناصر الوطنية التي غادرت البلاد، لتجد في سكسونيا أو فرنسا مكانًا أمينًا تلجأ إليه، فصارت تعمل لتدبير حركة عصيان خطيرة في بولندة، فتألفت من ثم تحت سمع جيش الاحتلال الروسي وبصره، بقيادة «إجلستروم» Egelstrôm الجمعيات السرية، وصارت تحاك خيوط المؤامرات ضد السيطرة الروسية. وكان هدف هذه الحركة استقلال بولندة، وعودة دستور ١٧٩١.
فدارت المراسلات بين المتآمرين الوطنيين وبين الزعماء البولنديين في المنفى. وكان قد اتَّخذ جماعة من هؤلاء مقرهم في سكسونيا، ويتزعَّمهم «تاديوس كوشيسكو» Thaddeus Kosciusko، وطلب «كوشيسكو» النجدة من «المؤتمر الوطني» في باريس. ولكن فرنسا كانت تخوض غمار الحرب وقتئذٍ (١٧٩٣). ناهيك بالصعوبات الداخلية التي صادفها المؤتمر الوطني، فلم يَسَعِ الفرنسيين تقديم أية مساعدة فعلية، أو التدخل في المسألة البولندية.

ثم إن دولةً أخرى غير فرنسا من تلك التي حاول زعماء الحركة استمالة حكوماتها لتأييدهم، لم تشأ التدخُّل أو تعضيدهم ضد روسيا. فإن النمسا التي كانت قد رفضت الموافقة على تقسيم ١٧٩٣، صارت الآن تريد «تقسيمًا» جديدًا يكفل لها نصيبًا من الأراضي المنهوبة. ولقد كان من صالح تركيا أن تبقى روسيا مشغولة عنها في بولندة، فلا تستأنف الحرب ضدها، ولكن تركيا خرجت من الحرب الأخيرة مع روسيا منهوكة القوى وتعجز عن مؤازرة البولنديين في نضالهم ضد روسيا.

ثم إن السويد لم يكن في استطاعتها مقاومة روسيا وبروسيا متحدتين، بل ووجد بالسويد جماعة من النبلاء تميل لمؤازرة روسيا. وعلى ذلك، اتَّفَق الرأي بين قادة الحركة البولندية الوطنية في الخارج بسبب هذا كله، على أن الواجب على البولنديين أن يتريَّثُوا في الأمر فترة من الزمن قبل القيام بحركتهم.

وكان قائد جيش الاحتلال الروسي في بولندة «إجلستروم»، يدرك مقدار الخطورة التي صارت تكتنِف الموقف، ولو أنه عجز عن معرفة شيء عن حقيقة «المتآمرين» الذين بلغوا وقتئذٍ حوالي العشرين ألفًا. فلم يلبث أن قرر في بداية مارس ١٧٩٤ تجريد قسم كبير من الجيش البولندي الوطني من سلاحه وتسريحه. ولكن تجريد الجنود — إذا حدث — كان معناه في نظر المتآمرين أن من المتعذر عليهم القيام بحركتهم، فدفعهم هذا القرار إلى القيام بثورتهم دون إمهال. وبالفعل، قامت الثورة في شهر مارس في كلٍّ من «كراكاو» و«وارسو» في وقت واحد. وفي ٢٤ مارس سنة ١٧٩٤، أذاع «كوشيسكو» منشورًا دعا فيه الأمة لتأييده. وكان إصدار هذا المنشور بمثابة إعلان الحرب على روسيا وبروسيا. وفي وارسو استطاع الوطنيون مفاجأة الحامية الروسية بها في ٢٩ أبريل، وأرغموا الحامية على الانسحاب.

على أنه كان من أثر هذا الفشل المؤقت الذي أصاب الروس، أن نشطت كلٌّ من بروسيا والنمسا تريدان التدخل. فزحف البروسيون على «كراكاو» واحتلوها في ١٥ يونيو ١٧٩٤، وبدءوا في الوقت نفسه يتفاوضون في الصلح مع فرنسا حتى يتفرَّغوا لنشاطهم العسكري في بولندة. وكان الروس أثناء ذلك قد أعادوا تنظيم قواتهم، وعينوا لقيادة جيوشهم هذه المرة «سواروف» Souvorov أعظم قوادهم إطلاقًا، ثم إن جيشهم المنسحب من وارسو لم يلبث أن أنزل الهزيمة بقوات «كوشيسكو» التي كانت تجد في مطاردته، وذلك عند «ماشيوفيتش» Maciejowice فانتصر قائدهم «فرسن» Fersen على البولنديين انتصارًا حاسمًا في ١٠ أكتوبر، وأصيب «كوشيسكو» بجرحٍ ووقع في الأسر، ومن ذلك الحين استبدَّ اليأس بالوطنيين البولنديين. أما «سواروف» فقد أخضع وارسو في ٤ نوفمبر سنة ١٧٩٤ واحتلها الروس بعد أربعة أيام. وفي هذه الأثناء كان النمساويون بدورهم قد حشدوا قواتهم في «غاليسيا» لتأييد مفاوضتهم المقبلة مع روسيا وبروسيا.

وبسبب هذه الهزائم إذن اضطر الملك «ستانسيلاس بونياتوسكي» إلى الإقامة مرغمًا في «جرودنو» في حين بدأت المفاوضات بين روسيا والنمسا لتصفية المسألة البولندية. وكانت بروسيا مشغولة في مفاوضاتها مع فرنسا في «بال» — والتي انتهت بعد قليل بمعاهدة بال في أبريل ١٧٩٥ — فقد اتفق الفريقان روسيا والنمسا، على تعيين نصيب كلٍّ منهما، وترك وارسو وشمال بوميرانيا حتى نهر «النيمن» إلى بروسيا. وفي ٣ يناير سنة ١٧٩٥ تمَّ توقيع معاهدة التقسيم الثالث بين بروسيا وروسيا والنمسا، وهي المعاهدة التي اختفت وقتئذٍ بسببها بولندة كلية من خريطة أوروبا السياسية.

على أن الذي تجدر ملاحظته بشأن هذه الثورة التي أخفقت وانتهت بضياع بولندة في هذا التقسيم الثالث، أنها كانت «حركة قومية» حقيقية. آية ذلك الاستعدادات التي سبقت اشتعال الثورة، وكانت هذه تسير عندئذٍ في خطًى وئيدة. فتسلم الشباب الذي أثرت فيه الدعاية الوطنية وألهبت شعوره الوطني، زمام هذه الحركة في المدارس، وأنشد التلاميذ في إحدى مدارس الجنوب في «ولودزيميرز» Wlodzimierz نشيدًا وطنيًّا من نمط نشيد «المارسيليز» الفرنسي: «أيها الشباب سلالة الشعب الحر الطليق الذي دافع دائمًا عن حقوق الإنسان المقدسة ضد العنف والعسف المنتشر في كل مكان، ضموا صفوفكم وكونوا يدًا واحدةً وروحًا واحدةً.»
ولقد كان الكلام عن «حقوق الإنسان» شيئًا جديدًا أخذه الوطنيون من فرنسا. وأما هذا النشيد فقد اختتم بعباراتٍ تشبه ما جاء في نشيد «المارسيليز»: «هيا إلى السلاح يا أبناء «كودجيسكي» Codjewski، وأحفاد «سوبيسكي» Sobeiski، و«تزارنكي» Czarnecki الأبطال، هبوا للنضال ولا تتركوا العدو يمزق أوطانكم، فلنعمل إذن للاتحاد في تحالف مقدس، وليصبح كل فرد منا جنديًّا يضحِّي في سبيل الوطن بدمه وروحه وماله، حتى نحطِّم قوات العدو تحطيمًا، وإلا فالخير لنا أن نلحق بآبائنا وأجدادنا في قبورهم.»

ثم إن «الدياط» لم يلبث أن أصدر نداءً إلى الأمة في ٢٩ مايو ١٧٩٤، اشترك في إعداده «كولونتاي»، كان متسمًا بهذا الطابع القومي نفسه، جاء فيه: «إن بولندة تجد نفسها اليوم في موقف الدفاع ضد جيش الروس … أيها البولنديون، إنما أنتم تحاربون اليوم للذود عن أنظمتكم السياسية والدينية، عن قوانينكم، عن حرياتكم، عن ممتلكاتكم!»

ولقد حدث أثناء الثورة، ومن أجل الدفاع عن الوطن، أن امتزجت العناصر المختلفة التي يتألَّف منها المجتمع، فقام الفلاحون حول «لوبلن» — أي في بولندة الصغرى — بطرد الروس بعد أن انتصروا عليهم في واقعة «راكافيتش» Rackavicz في ٤ أبريل سنة ١٧٩٤. وفي «وارسو» تألف مجلس وطني كان قطب الرحى فيه الزعيم «كوشيسكو»، لغرض إعداد جيش الثورة، فضمت السلطات المشرفة على هذا الجيش عناصر متعددة: من أساتذة الجامعات، ورجال الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، والنبلاء. ثم إن الأهلين من البروتستنت سرعان ما اتحدوا مع مواطنيهم الكاثوليك، فتصدت ميدنتا «تورن» و«دانزج»، وهما لوثريتان لمقاومة الجيش البروسي، في حين انضم الكلفينيون إلى صفوف الكاثوليك في إقليم «ليتوانيا» للنضال ضد الروس. وهكذا اختفت للمرة الأولى الفوارق الدينية في جهد مشترك من أجل النضال ضد العدو.
والذي تجدر ملاحظته أن الثورة اعتمدت قبل كل شيء على الطبقة البورجوازية في المدن، وانتعشت المثل العليا بين طبقة النبلاء الذين كانوا في الماضي دائمًا قوام الاتحادات الكونفدرائية، ومن بين هذه الاتحادات القديمة، كان اتحاد «بار» Bar الذي كان قد تألَّف من النبلاء الذين عرفوا باسم «فرسان بار» سنة ١٧٦٤ عقب انتخاب الملك «ستانسيلاس بونياتوسكي»، وفي وقت كان قد عظم فيه النفوذ الروسي لدرجة خطيرة، وكان «لاتحاد بار» هذا شهرة ذائعة تعدَّت حدود بولندة، وانضم إليه كثيرون من الخارج نذكر منهم الجنرال «ديمورييه» الفرنسي صاحب الانتصارات المعروفة على البروسيين في واقعتي «فالمي» و«جيماب».

ولقد خاض «اتحاد بار» الحرب ضد جيوش روسيا، ولكن جهوده ذهبت سدى، ففشلت محاولته لمنع التقسيم الأول الذي حدث في بولندة سنة ١٧٧٢. ومع ذلك استمرت باقية مثل الاتحاد العليا، وانتعشت في عهد الثورة الأخيرة (١٧٩٤). واشترك مع «اتحاد بار» في هذه الحركة الوطنية أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية). وهكذا لم تعد الأرستقراطية وحدها هي المتكفِّلة بالنضال، إما للمحافظة على امتيازاتها، وإما من أجل المحافظة على الصالح العام للدولة.

ولا ريب في أن ذلك كله إنما يدل على أنه كان قد وجد في بولندة «شعورٌ قوميٌّ» لا سبيل إلى نكرانه.

حقيقةً اختفت بولندة من عالم الوجود السياسي، ونقل الروس الملك «ستانسيلاس بونياتوسكي» إلى سان بطرسبرج ليَلقَى منيته بها في سنة ١٧٩٨. ولكن ذلك لم يكن معناه إطلاقًا اختفاء «الأمة» البولندية. لقد تشرَّد الوطنيون في كل أنحاء أوروبا، ولجأ منهم كثيرون خصوصًا إلى فرنسا، وقصد «كوشيسكو» إلى أمريكا لاجئًا بها، ولكن هؤلاء الوطنيين سرعان ما صاروا ينضمُّون في كل مكان إلى الجيوش المحاربة ضد روسيا.

وحينما رجع «كوشيسكو» من أمريكا إلى فرنسا، عملت حكومة الإدارة في سبتمبر ١٧٩٨ على الوصول إلى تفاهُم معه من أجل تنظيم فرق عسكرية من المتطوِّعين البولنديين، تضمُّ إليها كذلك الهاربين من الجيوش الروسية والنمساوية. فكان في خارج بولندة إذن، وفي البلاد الأجنبية، وبفضل احتكاك البولنديين «بالغرب»، أن نما «الشعور القومي» البولندي ووصل إلى ذروته. غير أن «المسألة البولندية» ظلت وقتئذٍ واستمرت مدة طويلة بعد ذلك، عنصرًا هامًّا من عناصر المناورة والمساومة السياسية، وهذا حتى في اعتبار الحكومة الفرنسية ذاتها، ينهض دليلًا على ذلك أن «سييس» وهو يتفاوض في برلين سنة ١٧٩٨ لاستمالة بروسيا إلى عقد محالفة مع فرنسا، لم يتردَّد في التلويح أمام حكومتها باحتمال إعطائها بولندة بأكملها.

وصفوة القول أنه كان للثورة الفرنسية إذن أثران واضحان؛ فهي قد كانت مبعث الكوارث التي حلت بساحتها إما مباشرةً وإما بطريق غير مباشرة، ثم أفضت إلى تقسيمها واختفائها «سياسيًّا» من الخريطة الأوروبية، وهي قد كانت في الوقت نفسه مصدر خير لبولندة بسبب ما فعلته من ناحية إحياء «الشعور القومي» بها.

١  Réflexions Sur La Paix.
٢  Les Droits des Peuples.
٣  A Royal Republic.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤