مقدمة المترجم

بقلم  محمود محمود

يسرُّني أن أُقدِّم إلى قُرَّاء العربية هذه القصة التي اقترحتُ على لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة ترجمتها فتفضَّلَت اللجنة مشكورةً بالموافقة.

مؤلِّف هذه القصة هو الكاتب الإنجليزي المعاصر أولدس هكسلي الذي وُلد في عام ١٨٩٤م ومات في عام ١٩٦٤م. وقد قضى حياته كلها بين الكتب يقرأ ويكتب في محاولة لإصلاح المجتمع بالنقد البَنَّاء ورسم صورةٍ لعالم جديد تتوافر فيه السعادة والحرية للناس أجمعين.

وهو، من ناحية أبيه، حفيدُ توماس هنري هكسلي العالم الشهير، وينتمي من ناحية أمه إلى أسرة توماس أرنولد ناظر مدرسة رجبي المعروف في عالم التربية في بلاد الإنجليز. ومن بين أفراد أسرته من كان أستاذًا، ومن كان عالمًا، أو شاعرًا، أو روائيًّا. فهو من بيت علم وأدب، تأثَّر في نشأته بهذا الوسط الثقافي، وتزوَّد بقسطٍ وافرٍ من المعارف وقدرٍ كبيرٍ من الألفاظ المعبِّرة. ولما كان من الأدباء الموهوبين فقد كانت كتاباته دسمة تنطوي على فكرٍ عميق وأسلوب رائع خلاب.

قاسى كثيرًا في طفولته من ضعف بصره الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرًا كفيف البصر، وقضى أيامًا كثيرة وحده في غرفة مُظلمة لا يستطيع القراءة ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يفكر ويتأمل. وكان لهذه الفترة من حياته أثرها الكبير في كلِّ ما كتب فيما بعدُ، بعدما زال عنه خطر العمى الكامل واستردَّ شيئًا من قدرته على الرؤية؛ فهو يميل دائمًا إلى التفكير المستقل والتأمل الصوفي.

غير أن ما أصابه في عينيه لم يصرفه عن التعلم وإدمان القراءة. وقد بدأ حياته الأدبية شاعرًا محتذيًا في ذلك حذو أكثر الكُتَّاب من جيله، ولبث شاعرًا طوال حياته حتى عندما تحوَّل من التعبير بالكلام المنظوم إلى النثر الفني يكتب به القصص والمقالات. فهو في نثره ينضح من الوجدان أكثر مما يبني على العقل والمنطق، يُحلِّق في الخيال ويستخدم الطريف من التشبيه والاستعارة والكناية.

ولمَّا أتمَّ تعليمه الجامعي في أكسفورد رحل إلى لندن واشتغل بالصحافة، يكتب المقالات والقصص القصيرة.

ثم شرَع بعد ذلك يكتب الروايات الطويلة متأثرًا بمنهج الكاتب الروائي توماس بيكوك الذي عاش في القرن التاسع عشر، واشتهر بسعة الاطلاع وروح التهكم والخيال الجامح. وأخرج هكسلي العديد من الروايات التي اتخذ منها وسيلةً لبثِّ كثير من آرائه التي بشَّر بها.

وهو كاتبٌ متنوع المواهب متنوع الموضوعات. يقول عنه أخوه العالم جوليان إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم، ولكنه — على الرغم من عمق ثقافته وغزارة علمه — لم يقصر نفسه على مجرد التفكير، بل كان يمارس كثيرًا من الأعمال ويعاشر الكثير من الرجال، وكانت حياته الاجتماعية خصبة تَمدُّه بكثير من التجارب والخبرات.

يقول في إحدى قصصه التي كتبها في باكورة حياته الأدبية:

أكثر الناس يُقبِل على معركة الحياة يخوضها بآراء مسبقة عن كلِّ شيء وله فلسفة جاهزة يحاول أن يُخضع لها أمور هذه الدنيا بأَسْرها. وهذا وضع مقلوب، والصحيح هو أن يمارس المرء حياته أولًا، ثم يحاول بعد الخبرة أن يصوغ فلسفته وآراءه التي تتفق مع الحياة كما عرفها.

وعلى هذا النهج سار هكسلي في حياته؛ يمارس العمل ويكتسب الخبرة قبل أن يصوغ الرأي، لا تكبِّله قيود المبادئ والأصول والتقاليد الموروثة؛ ومن أجل هذا كان ثائرًا على المألوف. وكانت له آراء عجيبة لا يسيغها المجتمع، ولكنه وضع حريته في الرأي فوق استرضاء الجماهير.

وشغل نفسه طوال حياته بالعلاقة بين العلم والمجتمع، فكتب روايته الشهيرة «العالم الطريف» التي سبق لي أن نقلتها إلى اللغة العربية. وفي هذه الرواية عبَّر هكسلي عن خوفه من سيطرة العلم سيطرة كاملة على حياة الناس، وأشفَقَ على المجتمع البشري من المغالاة في تطبيق العلم إلى الحد الذي تنتفي معه في حياته العاطفةُ والشِّعرُ وتقديرُ الجَمال.

في مثل هذا العالم الذي يقوم على قواعد العلم دون غيرها تصبح الحياة آليةً يتشابه فيها زيد مع عمرو وتتلاشى المميزات الخاصة لكل فرد.

كان هكسلي في كتابه هذا متشائمًا في مستقبل البشرية إلى أقصى الحدود. وبعدما مرت السنون أدرك أن هذا التشاؤم لا يؤدي إلى إصلاح أسباب المعاناة والشقاء، فأخرج كتابًا آخر أسماه «عود إلى العالم الطريف» راجع فيه آراءه السابقة، وكان أكثر تفاؤلًا وأشد ميلًا إلى الفكر البَنَّاء، ودعا إلى المزيد من الديمقراطية والحرية، وإلى رفع مستوى المعيشة بضبط النسل وتنظيم الأسرة.

ولبث يفكر في تصوير عالم جديد تتوافر للمرء فيه الحرية والسعادة، وأخيرًا انتهى إلى رسم صورة خيالية لهذا العالم في قصته «الجزيرة» التي أقدِّمها اليوم إلى القراء.

ولي مع هذا الكتاب قصة؛ فلقد كنت دائمًا شغوفًا بكل ما كتب هكسلي أقرؤه وأتدبَّره وأنقل بعضه إلى العربية بنصِّه الكامل أحيانًا وفي صيغةٍ ملخَّصةٍ أحيانًا أخرى. حتى كان صيف عام ١٩٦٢م حينما أتيحت لي فرصة لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وطفت بالعديد من ولاياتها. ولما بلغت سان فرانسسكو بولاية كاليفورنيا وقابلت هناك المسئولين عن تنظيم رحلتي، بادرني أحدهم بقوله إنهم يعلمون عني أني من المولعين بأدب هكسلي. ولما كان الرجل في ذلك الحين يقيم في بركلي على مقربة من مدينة سان فرانسسكو أستاذًا زائرًا في جامعة كاليفورنيا، يُلقي على طلبتها محاضرات في الأدب المعاصر؛ فقد اتصلوا به يُخطرونه بقدومي، وتفضَّل بدعوتي إلى زيارته بمنزله. ولبَّيت الدعوة بسرورٍ بالغٍ لأنني وجدت فيها فرصة ألتقي فيها بهذا الكاتب العظيم، وأُجري معه حديثًا يزيدني علمًا وبصيرة بفكره ونظراته في الحياة.

ودُهشت لبساطة المنزل، وتواضُع الرجل، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث زهاء ساعتين، وأذهلني منه عمق ثقافته واتساعها وشمولها؛ فهو على دراية تامة بتقدُّم العلوم الطبيعية، وبالتاريخ السياسي وتاريخ الأديان، وبكثيرٍ من اللغات الحية واللغات البائدة، وآداب الشعوب، ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، ونظريات التطور وعلم النفس الحديث، والفنون القديمة والحديثة بضروبها كافة، وعلوم الفلسفة والتربية … ماذا أقول! إنني لا أكون مُغاليًا إذا قلت إن الرجل موسوعة علمية كاملة، امتزجت في شخصه مختلف المعارف والثقافات، وكوَّن لنفسه من هذا المزيج فلسفته الخاصة التي أخرجها في كتب أدبية رائعة تتسم بروعة الأسلوب والأداء.

وراعني من الرجل خاصةً وعيُهُ لمشكلات هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها، منطقة الشرق الأوسط، مهبط الوحي والديانات، وعطفه على العروبة وآمالها، وميله إلى التصوف وتقديره له، وإيثاره التصوف الإسلامي على التصوف البوذي الهندي؛ لأن النوع الأول من التصوف مُنشئ بَنَّاء، في حين أن التصوف البوذي سلبي هدَّام، لا يحثُّ على عمل، ولا يدفع إلى خلق أو ابتكار. وأخذ يروي لي أبياتًا من الشعر بالإنجليزية هي ترجمة لشعر جلال الدين الرومي الذي أبدى إعجابًا شديدًا به. كما عبَّر عن أسفه الشديد لأنه لا يعرف اللغة العربية لكي يتمكن من أن ينهل من الثقافة الإسلامية من مصادرها الأصيلة.

وأردت أن أظفر من الرجل في نهاية الزيارة بحديثٍ عن أحدث آرائه في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وتقدُّم العلوم والحضارة البشرية عامةً، أنشره بعد عودتي لبلادي، فقال: خير من حديثٍ مطوَّلٍ ربما لا يلمُّ بكل أطراف الموضوع أن أُهديَ إليك آخر مؤلفاتي؛ لعلك واجدٌ فيه بُغيتك. ونهض إلى مكتبته وعاد منها بكتابٍ أَمهرَهُ بعبارة إهداءٍ لطيفة، فقبِلْته منه شاكرًا، ثم انصرفت.

والكتاب الذي أهداني إياه هو قصة «الجزيرة» التي أشرت إليها من قبلُ في هذه المقدمة، ولعل هذه القصة هي آخر ما كتب قبل وفاته. وعكفت على الكتاب أقرؤه، وعزمت على أن أنقله إلى اللغة العربية، ومضت السنون دون أن أحقِّق ما اعتزمت حتى كانت هذه الفرصة الطيبة التي أتاحها لي المجلس الأعلى للثقافة.

والكتاب عبارة عن قصة حول جزيرة خيالية اسمها بالا تقع في بقعة نائية بالمحيط الهادي بعيدة عن حضارات الشرق والغرب، عاش أهلها مائة وعشرين عامًا في مجتمع مثالي توافرت فيه كل أسباب الحرية والسعادة، لا يتقيد بما ألِفْنا من نُظم، فلا هو بالمجتمع الرأسمالي، ولا هو بالمجتمع الشيوعي. أهله متصوفون يؤمنون بالعلم الحديث وإمكاناته، العلم الذي يتحرر به الإنسان، وليس العلم الذي يستعبد الإنسان. وإن كان العلم في قصة «العالم الطريف» قد جعل الحياة على الأرض جحيمًا؛ فالعلم ذاته في هذا العالم الجديد قد أقام على الأرض نعيمًا.

وقد تم هذا اللقاء بين الشرق والغرب، وهذا التزاوج بين العلم والإيمان عندما وفد إلى جزيرة بالا طبيبٌ من أهل الغرب يمثِّل العلم الحديث استدعاه حاكم الجزيرة لمعالجته من مرضٍ عُضالٍ ألمَّ به وكاد أن يُودِيَ بحياته، وهذا الحاكم رجلٌ بوذيٌّ مُغرِق في تصوفه، وأفلح الطبيب في علاج الرجل فنشأت بينهما صداقة قوية ترمز للجمع بين العلم والدين، واتخذ الحاكم طبيبه وزيرًا له، وتعاهدَا على إصلاح الأمور في مملكة بالا على هذا الأساس. وسرعان ما أخذ الناس جميعًا بهذا الأسلوب الجديد من العيش الذي يجمع بين العلم والإيمان.

وبهذه الجزيرة ثروات طائلة من البترول والمعادن أثارت حسد العالم المحيط بها ومطامع المستعمرين وشركات الاستثمار في أوروبا وأمريكا. فرأى أحد مديري هذه الشركات الذي يملك كذلك الكثير من الصحف أن يبعث إلى بالا وكيلًا عنه — هو ويل فارنبي — أحد المحرِّرين في صحفه، ليستطلع مجالات الاستثمار في الجزيرة، ويلتقي بالمسئولين فيها يدرس معهم إمكان إبرام اتفاق مشترك شبيه بما يحدث عادةً في بلاد الثروة البترولية.

ويصل ويل فارنبي بعد مشقَّةٍ إلى الجزيرة ويجوس خلالها ويتعرف على أهلها وأمورها فيرى العجب الذي يستنكره أولًا، ولكنه لا يلبث أن يقتنع به ويعتقد فيه.

ماذا رأى ويل فارنبي في جزيرة بالا؟

رأى قومًا يأخذون بالصوفية البوذية مسلكًا في حياتهم وبالعلم الحديث طريقًا إلى التقدم والتطور.

والصوفية فوق هذه الجزيرة سبيلٌ لتحرير النفوس من سلطان المادة، وطريقٌ إلى بلوغ الاستنارة الكاملة والوعي الشامل بالتأمُّل العميق في الحياة ومغزاها.

وقد أفاض الكاتب في مواضعَ عدَّةٍ من الكتاب في تفصيل الكلام عن البوذية وأشار إلى كثير من معالمها وأعلامها. وقد أوضحت في هوامش من عندي بِنُبذٍ قصيرة ما يشير إليه الكاتب من أسرار هذه العقيدة الدينية، كما حاولت في الهوامش كذلك أن أفسر ما قد يُغمض على القارئ من الإشارات والأعلام التاريخية الكثيرة التي يورِدها في سياق القصة بفرض أن القارئ على علم مسبق بها.

وأهل بالا يفيدون من قوة الإيحاء والتنويم المغناطيسي في تعليم الأطفال وعلاج المرضى، ويمكنهم بتأثير عقار يتعاطونه اسمه «الموكشا» أن يعيشوا في أحلام حلوة عذبة يتصلون فيها بالواحد الأحد ويتأملون في خلق السموات والأرض، ويتَّحِدون مع الكون بمظاهره كافة؛ وذلك هدف من أهداف التصوف السامية.

ولأهل بالا فلسفتهم الخاصة في التربية وتنظيم الأسرة، وفي الاقتصاد والسياسة، وفي العلاقات الإنسانية، والفنون والثقافة، ونظرة الإنسان إلى الموت، والتكنولوجيا الحديثة، وكل شأن من شئون الحياة، متحررين تمامًا من العُقد وقيود الماضي ومن الاستعمار البغيض.

وفي رواية «الجزيرة» مجال فسيح لعرض هذه الآراء وأمثالها في حوار ممتع؛ لأنها ليست قصة بالمعنى المألوف، فهي تكاد أن تخلو من العُقدة، ولا تأبه بتحليل الشخصيات، إنما هي قصة لعرض الآراء والأفكار.

ولست أريد أن أسترسل في مقدمة الكتاب في بسط كل ما جاء به من طريف هذه الآراء والأفكار، وأوثر على ذلك أن أضع الكتاب بين يدي القارئ يستغرق فيه مع خيال الكاتب الذي آمل أن يجد فيه متعة ذهنية ولذة روحية.

ولم يكن هكسلي في كتابه هذا متفائلًا كل التفاؤل بسيادة النظام الجديد؛ لأن العالم ما تزال به كثير من الشرور التي تفتك بمحاولات التقدم وبما تحرزه الشعوب من نعمة الحرية والاستقرار والاستقلال.

وفي قمة هذه الشرور نقمة المطامع المادية والاستعمار؛ ولذلك نرى هكسلي يتخيل في نهاية القصة بأن الطامعين من أهل الغرب يحيكون مع أحد الحكام المستبدين في بلد مجاور لبالا مؤامرة للاستيلاء عليها، فيدخل هذا الحاكم المستبد الجزيرة غازيًا ليحكمها حكمًا مطلقًا ويمنح المستثمر الأجنبي امتيازات يستولي بها على ثروة البلاد. وبهذا تنتهي القصة وتخضع أرض الأحلام إلى الواقع المرير.

ومما شجعني على القيام بترجمة هذا الكتاب هو تلك الدعوة التي ينطوي عليها إلى الأخذ بالعلم والإيمان، وإلى الجمع بين فلسفة الشرق الروحية وفلسفة الغرب المادية في كيان واحد، وهو ما نهدف إليه في نهضتنا الجديدة، وما يتطلع إليه المفكرون والمصلحون في العالم الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤