الفصل الثالث عشر

بعدما انتهى التوءمان من الاستحمام وتسريح الشعر جلسا فوق مقعديهما المرتفعين. وحومت ماري ساروجيني حولهما أمًّا فخورة بهما قلقة عليهما، وعند الفرن كان فيجايا يغرف الأرز والخضروات من إناء من الفخار، وبحذرٍ شديد وتعبير على وجهه ينمُّ عن تركيز الفكر حمل توم كريشنا الأطباق بعد ملئها إلى مائدة الطعام.

قال فيجايا بعدما انتهى من ملء الطبق الأخير: انتهينا. ومسح يديه وسار نحو المائدة واتخذ له مقعدًا، ثم وجَّه خطابه إلى شانتا قائلًا لها: يحسُن أن تخبري ضيوفنا بطريقة صلاتنا قبل البدء في الطعام.

فالتفتت إلى ويل وقالت: في بالا نحن لا نصلي صلاة المائدة قبل تناول الطعام، إنما نصليها ونحن نتناوله. ولعل الأصح أن أقول إننا لا نقول الدعاء وإنما نمضغه.

– تمضغونه؟

قالت: صلاة المائدة هي اللقمة الأولى من كل طبق من أطباق الطعام؛ نمضغها ونمضغها حتى لا يبقى شيء منها. وفي أثناء المضغ نوجِّه انتباهنا إلى نكهة الطعام ودرجة نضجه وحرارته، كما نوجِّه الانتباه إلى الضغط الواقع على الأسنان وإحساس عضلات الفكين.

– وأظنكم أثناء ذلك تشكرون الواحد المستنير، أو شيفا، أو أيًّا كان ما تقدسونه.

وهزت شانتا رأسها مؤكِّدة قولها: إن ذلك يشتت الانتباه، وتركيز الانتباه هو المقصود، الانتباه إلى ممارسة شيء أعطيته، شيء لم تخترعه. وليس تذكر صيغة من الكلمات موجَّهة إلى شخص ما في خيالك، وأدارت عينيها حول المائدة، وقالت: هل نبدأ الآن؟

صاح التوءمان بصوت واحد: هيا. والتقط كل منهما ملعقته.

ولبرهةٍ طويلة ساد الصمت الذي لم يُسمع فيه سوى طقطقة التوءمين بشفاههما لأنهما لم يتعلما بعدُ أن يأكلا إلا بهذه الطريقة.

وأخيرًا سأل أحد الصغار: هل نبلع الآن؟

وأومأت شانتا برأسها موافقة، وقام الجميع بابتلاع الطعام، وحدثت بعد ذلك قرقعة بالملاعق وتفجَّر الكلام من الأفواه الممتلئة.

وسألت شانتا: كيف أحسست بالنعمة؟

قال ويل: أحسست مذاق أشياء مختلفة تتتابع، أو لعله من الأصح أن أقول إنها صور مختلفة متتابعة من الموضوع الرئيسي الذي يتألف من الأرز والكركم والفلفل الأحمر (الشطة) وشيء مُورِق لم أتبينه وغير ذلك. ومن الممتع حقًّا أن المذاق لم يثبُت على شكل واحد، إنني في الواقع لم ألاحظ ذلك من قبلُ.

– وبينما كنت تتنبه إلى هذه الأشياء كنت لوقتٍ ما تتخلص من أحلامك في اليقظة، ومن ذكرياتك، ومن طموحاتك، ومن الآراء السخيفة؛ من كل أعراض «ذاتك».

– تقصدين لا أتذوق «نفسي»؟

ونظرت شانتا إلى الطرف الآخر من المائدة حيث كان زوجها، وسألته: ما رأيك يا فيجايا؟

قال: الأمر وسط بين من أنا ومن لست أنا. التذوق هو اللاأنا يقوم بشيء لكل كياني العضوي. والتذوق في الوقت نفسه هو أنا في حالة وعي بما يحدث. وهذا هو مغزى صلاة المائدة بالمضغ؛ أن أجعل الأنا أكثر وعيًا بما يقوم به اللاأنا.

وعلق على ذلك ويل بقوله: جميل. ولكن ما مغزى هذا المغزى؟

وتصدت شانتا للجواب وقالت: مغزى المغزى هو أنك حينما تتعلم أن توجه مزيدًا من الانتباه إلى كثير مما هو ليس أنت في هذا المحيط (أعني الطعام) وإلى كثير مما هو ليس أنت في كيانك (أعني إحساسك بالتذوق) ربما وجدت نفسك فجأة متنبهًا إلى ما ليس أنت في الجانب الآخر من الوعي، ثم قالت: وربما كان من الأفضل أن نعبِّر عن ذلك بطريقة مخالفة فنقول إن ما ليس أنت على الجانب الآخر من الوعي يجد أنه من الأيسر له أن يجعل نفسه معروفًا لك أنت الذي تعلمت أن تكون أكثر وعيًا بما لست أنت في جانب الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء). وحدث صوت تصادمٍ أعقبه صراخٌ من أحد التوءمين فقطع ذلك عليها حديثها، وبعدما مسحت ما انسكب على الأرض، واصلت حديثها قائلة: وبعد ذلك على المرء أن يفكر في مشكلة الأنا واللاأنا من حيث علاقتهما بالناس الذين يبلغ طول الواحد منهم أقل من اثنين وأربعين بوصة. من يجد لذلك حلًّا مضمونًا له جائزة قدرها ستة بلايين وأربعمائة ألف روبية. ومسحت عينَي الطفل، وجعله ينظف أنفه، ثم قبَّلته وذهبت إلى الفرن لتأتي بطبق آخر من الأرز.

وبعدما انتهى الغداء سأل فيجايا: ما هي أعمالكم بعد ظهر اليوم؟

أجاب توم كريشنا جادًّا: علينا واجب خاص بالفزَّاعة.١

قالت ساروجيني: في الحقل الذي يقع تحت المدرسة.

قال فيجايا: إذن سأحملكما إلى هناك في العربة. والتفت إلى ويل فارنبي وقال: هل تحب أن ترافقنا؟

أومأ ويل برأسه موافقًا، ثم قال: ولو سمح لي، أود أن أزور المدرسة، وأنا قريب منها، وربما حضرت بعض الدروس في الفصول.

ولوَّحت لهم شانتا من الفراندة مودِّعة، وبعد بضع دقائق بلغوا عربة الجيب المركونة.

قال فيجايا وهو يدير محرك السيارة: المدرسة في الطرف الآخر من القرية، وعلينا أن نسلك الطريق الجانبي إلى أسفل ثم نصعد ثانيةً.

وانحدروا خلال الحقول التي تحيط بها المصاطب، حقول الأرز والذرة والبطاطا، ثم ساروا فوق أرض مستوية، وعلى يسارهم بركة أسماك صغيرة كثيرة الوحل، وعلى يمينهم بستان من أشجار ثمرة الخبز، وأخيرًا بلغوا حقولًا أخرى، بعضها أخضر، وبعضها الآخر ذهبي؛ وهناك ظهرت المدرسة، فسيحة بيضاء تظللها أشجار باسقة.

قالت ماري ساروجيني: هناك تقبع الفراغات.

ونظر ويل في الاتجاه الذي كانت تشير إليه، ولاحظ أن الأرز الأصفر الذي ينمو في أقرب الحقول المحاطة بالمصالب كاد أن يستحق الحصاد. وكان هناك صبيان صغيران يرتدي كل منهما إزارًا قرنفلي اللون وفتاة صغيرة رداؤها الأسفل أزرق اللون، وثلاثتهم يتناوبون جذب الخيوط التي تحرِّك عرائس في الحجم الطبيعي متصلة بأعمدة على جانبَي الحقل الضيق، والعرائس من الخشب منحوتة نحتًا جميلًا وليست مكسوة بالخرق وإنما بأردية فاخرة. وتطلَّع إليها ويل في دهشة.

وصاح: إن سليمان بكل ما كان له من أمجاد لم يكن في زي هذه العرائس.

واسترسل في خياله وذكر أن سليمان لم يكن إلا ملكًا من الملوك. أما هذه الفزَّاعات الفاخرة فهي كائنات من مرتبةٍ أعلى. إحداها بوذا المستقبل، والأخرى تمثِّل الآب عند أهل جزر الهند الشرقية مرحًا مبتهجًا، الآب كما يراه الرائي في كنيسة «سيستين»٢ وهو ينحني على آدم ذلك المخلوق الجديد. وعند كل جذبة للخيط حرك بوذا المستقبل رأسه وباعد بين ساقيه فلا يكونان في شكل اللوتس، ثم رقص رقصة إسبانية في الهواء، ثم ضم ساقيه مرة أخرى وجلس لحظة بلا حراك، حتى كانت جذبة أخرى للخيط تُفيقه من تأملاته. وفي تلك الأثناء يلوِّح الأب بذراعه الممتدة، ويهز سبابته مُنذرًا، ويفتح ويضم فمه الذي يحيط به الشعر كالحصان، ويدير عينين من الزجاج تشع منهما نار الوعيد يهدد بها أي طائر يجسر على الاقتراب من الأرز. وهبَّت أثناء ذلك ريح عاتية رفرفت من شدتها أرديته ذات اللون الأصفر الفاقع الموشحة بتطريز بارز — بني وأبيض وأسود — يمثل النمور والقردة. في حين أن ثياب بوذا المستقبل الفاخرة المصنوعة من حرير الرايون الأحمر والبرتقالي تنتفخ وتلتف حوله، وبها عشرات من الأجراس الصغيرة الفضية تشنشن بغير توقف.

سأل ويل: هل كل الفزَّاعات عندكم مثل هذه؟

أجاب فيجايا: تلك كانت فكرة راجا العجوز، أراد أن يجعل الأطفال تدرك أن كل الآلهة من صنع الإنسان، ونحن الذين نشد خيوطهم لنزودهم بالقوة التي يشدون بها خيوطنا.

وقال توم كريشنا: نجعلهم يرقصون، ونجعلهم يهتزون. وضحك مسرورًا.

ومد فيجايا يدًا غليظة ربَّت بها على رأس الطفل الأسمر ذي الشعر المجعد، وقال: أحيِّي فيك هذه الروح. ثم التفت ثانيةً إلى ويل وقال بأسلوب شبيه بأسلوب راجا العجوز بشكل واضح: إن الصفة الوحيدة الكبرى التي تميِّز «الآلهة» (بغضِّ النظر عن تخويف الطيور والآثمين ومواساة البائسين أحيانًا) تنحصر في هذا: إنها ترتفع فوق الأعمدة؛ ولذلك فإن الناظر إليها يتطلع إلى أعلى. وعندما يتطلع إنسان إلى أعلى؛ حتى إن كان إلى الإله، لا يمكنه أن يرى السماء. وما أدراك ما السماء؟ إنها هواء وضوء منتشر، ولكنها كذلك رمز للفضاء الذي لا يُحَد، الفضاء الحامل (واعذرني في هذه الاستعارة) الذي منه يخرج كل شيء، الحي وغير الحي، صانعو العرائس وعرائسهم المقدَّسة، يخرج إلى العالم الذي نعرفه؛ أو على الأصح العالم الذي نظن أننا نعرفه.

وكانت ماري ساروجيني تُصيخ لهذا الحديث فهزت رأسها موافقة عليه، وتطوعت بقولها: كان أبي يقول إن النظر إلى الطيور في السماء أفضل. واعتاد أن يقول إن الطيور ليست ألفاظًا، إنما هي حقائق، حقائق كالسماء ذاتها. وأوقف فيجايا العربة، وقال والأطفال يقفزون منها: أتمنى لكم وقتًا ممتعًا. اجعليهم يرقصون ويهتزون.

وهرع توم كريشنا وماري ساروجيني صائحَين مهطعَين لكي يلحقا بالمجموعة الصغيرة التي كانت في الحقل الواقع في أسفل الطريق.

وأدار فيجايا عربة الجيب إلى الطريق المؤدية إلى المدرسة وقال: لننتقل الآن إلى الأوجه التربوية الجادة. سوف أترك العربة هنا وأعود إلى المحطة سيرًا على قدمي، وبعدما تنتهي من جولتك اطلب إلى غيري أن يسوق لك العربة حتى البيت، وأطفأ كهرباء العربة وسلَّم مفتاحها إلى ويل.

وفي مكتب المدرسة كانت السيدة نارايان مديرة المدرسة تتحدث من خلف الطاولة إلى رجل ذي شعر أبيض ووجه مستطيل حزين كوجه كلب من كلاب الشرطة تظهر عليه خطوط وتجاعيد.

وعند تقديم كل فرد إلى الآخر قال فيجايا: هذا مستر شاندرا مينون وكيل الوزارة عندنا.

قالت المديرة: وهو يقوم الآن بدورة تفتيشية لنا.

وأضاف إلى ذلك وكيل الوزارة وقد أحنى ظهره احترامًا للسيدة نارايان وهو يواجهها: وأنا أوافق كل الموافقة على كل ما شهدت.

قال فيجايا معتذرًا وهو يتجه نحو الباب: لا بُدَّ أن أعود إلى عملي.

وسأل مستر مينون: هل تهمك التربية بصفة خاصة؟

أجاب ويل: بل الأصح أن تقول إنني جاهل بها بصفة خاصة، نشَّئُوني ولم يربُّوني؛ ولذلك أحب أن أرى التربية على حقيقتها.

وأكد له وكيل الوزارة أنه جاء إلى المكان الصحيح: «لأن روثامستد الجديدة من أحسن مدارسنا.»

سأل ويل: وبماذا تقيسون جودة المدرسة؟

– بالنجاح.

– النجاح في أي شيء؟ الحصول على المنح الدراسية؟ أم الإعداد للوظيفة؟ أم إطاعة الأوامر على إطلاقها بغير شرط؟

قال المستر مينون: كل ذلك. ويبقى السؤال الأساسي، لماذا يكون لنا بنون وبنات؟

هز ويل كتفيه وقال: الإجابة تتوقف على الموطن؛ مثلًا لماذا يكون هناك بنون وبنات في أمريكا؟ الإجابة: للاستهلاك على نطاق كبير، ويترتب على الاستهلاك على نطاق كبير الاتصال الجماهيري، والإعلان الجماهيري، والمخدرات الجماهيرية متمثلة في التلفزيون، والتفكير الوضعي، والسجائر، والآن بعدما دخلت أوروبا في تجربة الإنتاج على نطاق واسع، لماذا يكون لهم بنون وبنات؟ للاستهلاك الجماهيري، وما يترتب عليه؛ شأنهم في ذلك شأن البنين والبنات في أمريكا. في حين أن في روسيا إجابة أخرى. البنون والبنات لتقوية الدولة الوطنية؛ ومن ثَمَّ كان هناك كل هؤلاء المهندسين ومعلِّمي العلوم، وخمسون فرقة عسكرية مستعدة للضرب المباغت ومجهَّزة بكل شيء من الدبابات إلى القنابل الهيدروجينية والصواريخ بعيدة المدى. والأمر كذلك في الصين، مع المبالغة فيه، لماذا يكون لديهم بنون وبنات؟ ليكونوا وقودًا للمدافع، وقودًا للصناعة، وقودًا للزراعة، وقودًا لبناء الطرق؛ ولذلك فالشرق شرق والغرب غرب؛ في الوقت الراهن. ولكن الشرق والغرب قد يلتقيان بإحدى طريقتين. الغرب قد يخشى الشرق إلى الحد الذي يجعله يتخلى عن فكرته من أن البنين والبنات للاستهلاك على نطاق واسع، ويقرر — بدلًا من ذلك — أنهم وقود للمدافع وأنهم لتعزيز قوى الدولة، ومن الناحية الأخرى فإن الشرق قد يجد نفسه تحت ضغط الجماهير التواقة للأجهزة والتي تتحرق شوقًا لكي تحيا حياة أهل الغرب، إلى الحد الذي يجعل الشرق يغيِّر وجهة نظره ويقول إن البنين والبنات هم في الواقع للاستهلاك على نطاق كبير. ذلك ما سوف يقرره المستقبل. أما الآن فالإجابات الحالية عن سؤالك متعددة تستبعد كل إجابة منها الأخرى.

قال مستر مينون: والإجابة في الشرق والغرب على السواء تختلف عن الإجابة عندنا. لماذا يكون لأهل بالا بنون وبنات؟ إنهم ليسوا للاستهلاك الكبير ولا لتعزيز الدولة. نعم إن الدولة لا بُدَّ أن توجد، ولا بد أن يتوافر لكل امرئ ما يكفيه. هذا أمر لا يحتاج إلى نقاش، وبهذين الشرطين يستطيع البنون والبنات أن يتبيَّنوا ما يراد بهم في الواقع؛ بهذين الشرطين فقط نستطيع أن نُبرم أمرًا.

– ولماذا يكون عندكم — في واقع الأمر — بنون وبنات؟

– لكي يحققوا ذواتهم، لكي يصبحوا كائنات بشرية ناضجة.

وأوما ويل برأسه إيجابًا وعلَّق على ذلك بقوله: هذا ما جاء في «مذكرات عن حقائق الأشياء». جاء في هذه المذكرات: كن مَن أنت في الواقع.

قال مستر مينون: كان الراجا العجوز مهتمًّا أساسًا بالناس كما هم في الواقع على المستوى الذي يجاوز الفردية. وبطبيعة الحال نحن من هذه الناحية لا نقل عنه اهتمامًا. ولكن همنا الأول هو التعليم الأولي. والتعليم الأولي يعالج الأفراد على اختلاف أشكالهم وأحجامهم وأمزجتهم ومواهبهم ونقائصهم. أما الأفراد في وحدتهم التي تجاوز وجودهم المادي فهم من شأن التعاليم العالي. ويبدأ ذلك في سن المراهقة وهو يسير جنبًا إلى جنب مع التعليم الأولي في مرحلته المتقدمة.

قال ويل: فهمت أنه يبدأ مع تجربة عقار الموكشا لأول مرة.

– وهل سمعت عن عقار الموكشا؟

– شهدته وهو يفعل فعله.

وأوضحت ذلك المديرة بقولها: لقد أخذه الدكتور روبرت بالأمس ليشهد حفلًا من حفلاته.

وأضاف ويل: ولقد ترك في هذا الحفل أثرًا عميقًا. إنني حينما أفكر في تربيتي الدينية … ولم يكمل العبارة فكان ذلك أفصح منه لو أكملها.

وواصل مستر مينون حديثه قائلًا: المراهقون — كما كنت أقول — يتلقون النوعين من التربية في آنٍ واحد، نساعدهم في ممارسة وحدتهم التي تُجاوز وجودهم المادي، وحدتهم مع كل الكائنات الحساسة الأخرى، ونعلمهم في الوقت نفسه في فصول السيكولوجيا والفسيولوجيا أن كل فرد منا له تكوينه الذي يتفرد به، وأن كل امرئ يختلف عن كل امرئ آخر.

قال ويل: عندما كنت في المدرسة بذل المربون جهدهم لكي يزيلوا هذه الفوارق، أو على الأقل يكسونها بنفس المثل التي سادت في الفترة المتأخرة من حكم الملكة فيكتوريا؛ حينما كان المثل الأعلى أن يكون المرء رجلًا مهذبًا دارسًا إنجليكانيًّا لاعبًا للكرة. والآن خبِّرني ماذا تصنعون وأنتم تعلمون أن كل امرئ يختلف عن كل امرئ آخر.

قال مستر مينون: نبدأ بتحديد الفوارق؛ من هذا الطفل بالضبط أو ما هو من حيث التشريح والكيمياء الحيوية والسيكولوجيا؟ وفي المراتب العضوية أي هذه الأجهزة له عنده الأسبقية: الأمعاء، أم العضلات، أم الجهاز العصبي؟ ما مدى اقترابه من هذه الحدود المحورية الثلاثة؟ ومزيج عناصره التي يتألف منها، بدنية كانت أم عقلية، إلى أي حد هي منسجمة وإلى حد هي متنافرة؟ ورغباته الموروثة، ما مقدار حجمها من حيث حب السيطرة، والروح الاجتماعية، والانزواء في عالمه الداخلي، كيف يقوم بالتفكير والإدراك الحسي والتذكر؟ هل هو ممن يتعلمون بالنظر أو من غير هؤلاء؟ هل يُعمِل عقله بالصور أو بالألفاظ، أو بهما معًا في آن واحد، أو بغير هذا وذاك؟ وقدرته على رواية القصص، إلى حد هي قريبة من السطح؟ هل يرى العالم كما كان يراه وردزورث٣ وتراهيرن٤ حينما كانا في عهد الطفولة؟ وإذا كان كذلك ماذا نعمل لكي نحول دون أن يتلاشى تألق النفس ونضرتها في ضوء النهار المشترك بين الناس أجمعين؟ وبعبارة أعم، كيف نربي الأطفال على مستوى المفاهيم دون أن نقتل قدرتهم على الخبرة المركزة التي لا يعبر عنها باللفظ؟ وكيف نوفِّق بين التحليل والرؤية؟ وهناك أسئلة عديدة أخرى يجب أن نسألها وأن نجيب عنها. مثلًا، هل هذا الطفل يمتص كل الفيتامينات التي يحتويها طعامه، أم هل هو عرضة لنقص مستديم إذا نحن لم نتعرف عليه ونعالجه يحدُّ من حيويته، ويظلم مزاجه، ويجعله يرى القبح، ويحس الملل، ويفكر تفكير الأحمق والحاقد؟ وماذا عن مقدار السكر في دمه، وعن تنفُّسه، وعن وقفته وجلسته والطريقة التي يستخدم بها كيانه العضوي حينما يعمل، أو يلعب أو يدرس، ثم هناك أيضًا تلك الأسئلة التي تتعلق بمواهبه الخاصة. هل تبدو عليه أمارات تدل على أن له موهبة موسيقية، أو حسابية، أو موهبة في تناول الألفاظ، ودقة الملاحظة والتفكير المنطقي والخيالي فيما يلاحظه؟ وأخيرًا إلى حدٍّ سوف يستجيب للإيحاء عندما يكبر؟

إن كل الأطفال أفراد يسهل التأثير عليهم بالتنويم المغناطيسي؛ وهم في هذا وسطاء جيدون لدرجة أن كل أربعة من خمسة منهم يمكن أن يساقوا بالكلام حتى يستطيعوا المشي وهم نيام. في حين أن النسبة على عكس ذلك من البالغين. فأربعة من كل خمسة منهم لا يمكن إطلاقًا أن تحادثهم حتى يستطيعوا المشي وهم نيام. وإذا أخذنا مائة من الأطفال عشوائيًّا، من هم العشرون طفلًا الذين سوف يكبرون ويصبحون قابلين للإيحاء إلى حد المشي وهم نيام؟

سأل ويل: وهل تستطيعون أن تحددوهم مسبقًا؟ ثم ما جدوى ذلك إن كان هذا ممكنًا؟

أجاب مستر مينون: نعم نستطيع أن نحددهم. ومن الأهمية بمكان أن نتعرف عليهم. بل هو أكثر أهمية في عالمكم الذي يتعيشون فيه؛ فمن الناحية السياسية تجد أن العشرين في المائة الذين يمكن تنويمهم مغناطيسيًّا بسهولة وإلى حد معين هم أخطر العناصر في مجتمعاتكم.

– أخطر العناصر؟

– نعم لأن هؤلاء هم الذين قُدِّر لهم أن يكونوا ضحايا الدعاة. في الديمقراطيات القديمة فيما قبل العصر العلمي كان الخطيب الذي يسحر بلفظه والذي يستند إلى تنظيم من ورائه يستطيع أن يحول هذه العشرين في المائة ممن عندهم استعداد للمشي أثناء النوم إلى جيش منظم من المتعصبين الذين يكرسون حياتهم لجلب المزيد من المجد والسلطة للرجل الذي قام بتنويمهم. وفي ظل النظام الدكتاتوري هؤلاء المنوَّمون أنفسهم يمكن التحدث إليهم وإقناعهم بعقيدة معينة ويمكن تعبئتهم ليكونوا نواة قوية للحزب الذي يقدر على كل شيء؛ ومن ثَمَّ ترى أنه من الأهمية بمكان لأي مجتمع يقيم للحرية قدرها أن يكون باستطاعته أن يتعرف على أولئك الذين يمكن في المستقبل تنويمهم وهم لما يزالون في الصغر. وبعدما يتم التعرف عليهم ينوَّمون ويدرَّبون تدريبًا منظمًا على ألا يستسلموا لتنويم أعداء الحرية. ومن الأفضل — بطبيعة الحال — إعادة تنظيم المؤسسات الاجتماعية لكي يصبح من العسير أو المستحيل أن يظهروا أو أن يكون لهم أي تاثير.

– وهذه هي الحال عندكم في بالا على ما أظن؟

قال مستر مينون: تمامًا؛ ولذلك فإن الذين لديهم الاستعداد لتلقي التنويم لا يشكلون خطرًا ما.

– لماذا إذن تجشمون أنفسكم مشقة التعرف عليهم مقدمًا؟

– لأن موهبتهم لها قيمة كبرى إذا أُحسن استخدامها.

سأل ويل: هل ذلك للتحكم في المصير؟ وتذكَّر ذلك الإوز العراقي الذي يُستخدم في العلاج النفسي، وكل ما قالت سوزيلا بشأن إمكان الضغط على أزرار النفس الذي يقوم به كل امرئ لنفسه.

هز وكيل الوزارة رأسه وقال: إن التحكم في المصير لا يتطلب شيئًا أكثر من غيبوبة خفيفة. وكل امرئ تقريبًا قادر على ذلك. أما أولئك المستعدون لاستقبال التنويم فهم العشرون في المائة الذين يمكن أن يروحوا في غيبوبة عميقة. وفي الغيبوبة العميقة وحدها دون سواها يمكن تعليم الشخص كيف يتلاعب بالزمن.

وسأل ويل: وهل تستطيع أنت أن تتلاعب بالزمن؟

هز مستر مينون رأسه وقال: لسوء حظي أني لم أستطع قط أن أروح في غيبوبة عميقة. كل ما أعرف تعلَّمته بالطريقة البطيئة الطويلة. ولكن السيدة نارايان كانت أحسن مني حظًّا. كانت واحدة من العشرين في المائة أصحاب الامتياز فأخذت كل أنواع الطرق التربوية المختصرة مما لم يتيسر أبدًا لي ولأمثالي.

سأل ويل وقد التفت نحو السيدة المديرة: ما هذه الطرق المختصرة؟

أجابت بقولها: هي طرق مختصرة للتذكر، وللحساب، وللتفكير، وحل المسائل. يبدأ الفرد بأن يتعلم كيف يحس عشرين ثانية وكأنها عشر دقائق، والدقيقة كأنها نصف ساعة، وهذا أمر سهل جدًّا في حالة الغيبوبة العميقة. يستمع المرء إلى إيحاء معلمه ويجلس ساكنًا لفترة طويلة جدًّا؛ ساعتين كاملتين، ويستطيع أن يُقسم بذلك، وبعد أن يفيق من الغيبوبة ينظر إلى الساعة، فيدرك أن الزمن الذي أحسه ساعتين لم يستغرق سوى أربع دقائق في الواقع.

قال مستر مينون: لا يعرف أحد كيف يكون ذلك. غير أن كل تلك الحكايات التي تُروى عن الغرقى الذين يرون حياتهم كلها منبسطة أمامهم في بضع ثوانٍ صادقةٌ كل الصدق. إن العقل والجهاز العصبي — أو لعل من الأصح أن نقول بعض العقول وبعض الأجهزة العصبية — قادران على هذا العمل الفذ. وهذا كل ما يعرفه أي إنسان. وقد عرفنا هذه الحقيقة منذ ستين عامًا، ونحن نستغلها منذ ذلك التاريخ، نستغلها — كما نستغل غيرها من الحقائق — لأغراض تربوية.

واستأنفت السيدة نارايان حديثها قائلة: هذه — مثلًا — مسألة حسابية، قد تستغرق في الحالة الطبيعية نحو نصف ساعة لحلها. أما اليوم فأنت تستطيع أن تتلاعب بالزمن بحيث تصبح الدقيقة الواحدة في اعتبارك الشخصي مساوية لثلاثين دقيقة. وعندئذٍ تشرع في حل المسألة. وبعد ثلاثين دقيقة باعتبارك الشخصي تجد أن المسألة قد حُلت. ولكن ثلاثين دقيقة باعتبارك الشخصي ليست بمؤشرات الساعة إلا دقيقة واحدة، فأنت كنت تعمل — بغير إحساس بالعجلة أو الإجهاد — بالسرعة التي يعمل بها أحد أولئك الأطفال الذين يحسبون بسرعة غير عادية ممن يظهرون بين الحين والحين. سوف يظهر في المستقبل عباقرة مثل أمبير٥ وجوس،٦ أو بُلهاء مثل ديز؛ كلهم بحيلة التلاعب بالزمن التي نبثها في نفوسهم يستطيع أن يؤدي عمل ساعة في دقيقتين؛ وأحيانًا في بضع ثوانٍ. أنا لست إلا طالبة متوسطة، ولكني كنت أستطيع أن أروح في غيبوبة عميقة، فكان معنى ذلك أنه كان من المستطاع تعليمي كيف أختصر الزمن إلى واحد على ثلاثين من طوله الطبيعي؛ والنتيجة أنني استطعت أن أستوعب قدرًا من المعرفة ما كان من الممكن أن أستوعبه بالطريقة العادية. وتستطيع أن تتصور ما يحدث إذا عرف إنسان من أصحاب معدلات الذكاء العبقرية أن يتلاعب بالزمن. سوف تكون النتائج خيالية!

قال مستر مينون: إنهم لسوء الحظ قليلون جدًّا؛ ففي الجيلين السابقين توافر لنا اثنان فقط من أصحاب العبقريات الحقيقية الذين يستطيعون أن يتلاعبوا بالزمن، ونحو خمسة أو ستة أشخاص من المرتبة الثانية. غير أن ما تدين به بالا لهذه القلة يفوق كل تقدير؛ ولذلك لا عجب أننا نبحث بدقة عمن لديهم استعداد لتلقي التنويم!

وبعد فترة قصيرة من الصمت ختم ويل الحديث بقوله: أنتم بالتأكيد توجهون أسئلة عديدة خاصة بفحص التلاميذ الصغار. ماذا تصنعون عندما تعثرون على ما تبتغون؟

قال مستر مينون: نبدأ بتعليمهم وفقًا لنتائج البحث؛ فنحن مثلًا نوجِّه أسئلة خاصة بالتكوين البدني للطفل وخاصة بمزاجه. وعندما نظفر بالإجابة نفرز أكثرهم خجلًا، وأشدهم توترًا عصبيًّا، وأكثرهم سرعة للاستجابة والمنطوين على أنفسهم من الأطفال، ونضمهم في مجموعة واحدة، وشيئًا فشيئًا تتضخم المجموعة. نضم إليها أولًا بضعة أطفال ممن لهم ميول نحو الاجتماع بغير قيود، ثم نضم بعد ذلك طفلًا أو طفلين من أصحاب العضلات ممن لهم ميول عدوانية وعندهم حب للسيطرة. وقد وجدنا أن هذه هي أفضل السبل لكي نجعل الأطفال — بنين وبنات — المتطرفين في هذه الاتجاهات الثلاثة متفاهمين متسامحين بعضهم مع بعض. وبعد بضعة أشهر من الاختلاط الذي يخضع للرقابة الدقيقة نجد أنهم على استعداد لأن يعترفوا بأن الناس من أصحاب التكوين الوراثي المختلف لهم من حق البقاء ما لغيرهم.

قالت السيدة نارايان: وهذا المبدأ نعلمه صراحة كما نطبقه تدريجًا، في الصفوف الدنيا نقوم بالتعليم عن طريق التشبيه بالحيوانات المألوفة، القطط تحب الاعتزال، والأغنام تحب التجمع. الدَّلَق متوحش لا يمكن استئناسه، وخنزير غينيا رقيق ودود. هل أنت كالقط أو النعجة أو الخنزير الغيني أو الدلق؟ نتحدث في هذا بالحكايات الرمزية، ويتبين لنا أن الأطفال الصغار أنفسهم يمكن أن يدركوا حقيقة التنوع البشري والحاجة إلى التسامح المتبادل والعفو المتبادل.

قال مستر مينون: وفيما بعدُ حينما يبدءون في قراءة «جيتا»٧ نبين لهم العلاقة بين التكوين والدين. أشباه الغنم وأشباه الخنازير الغينية يحبون الطقوس والحفلات العامة والأحاسيس التي تُثيرها الاجتماعات الدينية التي تُعقد لإحياء الروح الدينية في النفوس. وهؤلاء يمكن توجيه ميول أمزجتهم نحو طريق العبادة. وأشباه القطط يحبون العزلة ويمكنهم بتأملاتهم الذاتية أن يسيروا في طريق معرفة النفس. وأشباه الدلق يريدون أن يصنعوا شيئًا ما، والمشكلة هي كيف نحوِّل رغبة العدوان في نفوسهم إلى طريق العمل المنزَّه عن الغرض.

قال ويل: وهل طريق العمل المنزه عن الغرض هو ما كنت أشاهد بالأمس؟ الطريق الذي يتمثل في قطع الأخشاب وتسلُّق الصخور؟

قال مستر مينون: قطع الأشجار وتسلُّق الصخور حالات خاصة. وإذا عممنا الأحكام قلنا إن الطريق الذي يبلغ إلى «كل الطرق» يتمثل في إعادة توجيه السيطرة.

– وما تلك؟

– المبدأ غاية في البساطة. تأخذ القوة التي تتولد عن الخوف أو الحسد أو كثرة النورأدرينالين، أو عن أي دافع باطني آخر يكون لسببٍ ما وفي وقتٍ ما في غير موضعه؛ تأخذ هذه القوة وبدلًا من أن تستخدمها في القيام بعمل يسيء إلى شخص ما، وبدلًا من كبتها وبذلك تفعل بصاحبها شيئًا لا يسرُّ، توجِّهها شعوريًّا في مجرًى يمكن عن طريقه أن تصنع شيئًا نافعًا، وإن لم يكن نافعًا فهو على الأقل لا يضر.

قالت المديرة: إليك مثالًا بسيطًا، الطفل الغاضب أو الذي خاب أمله يستجمع قوةً تمكِّنه من أن ينفجر باكيًا، أو أن يسبَّ أو يقاتل. وإذا كانت القوة التي تولَّدت تكفي لشيء من هذا فهي تكفي للجري أو الرقص، وأكثر من كافية للشهيق بعمقٍ خمس مرات، وسوف أريك شيئًا من الرقص فيما بعدُ، أما الآن فدعنا نحصر أنفسنا في التنفس. إن الشخص الغاضب الذي يتنفس خمس مرات بعمق يخفف كثيرًا من التوتر وبذلك يتيسر له أن يتصرف تصرفًا معقولًا؛ لذلك نحن نعلِّم أطفالنا كل أنواع الألعاب التي تعتمد على التنفس، يلعبونها كلما غضبوا أو اضطربوا. وبعض هذه الألعاب تقوم على أساس المنافسة، من المتنافسين مثلًا يستطيع أن يشهق بدرجة أعمق ويقول وهو يزفر «أوم» لأطول وقت ممكن. هذه مضاربة بين اثنين تنتهي دائمًا بالتصالح. غير أن التسابق في التنفس لا يكون في محله — بطبيعة الحال — في كثير من الحالات؛ ولذلك كان لدينا لعبة صغيرة يستطيع الطفل الغاضب أن يلعبها منفردًا، وهي لعبة تقوم على أساس الفنون الشعبية المحلية. إننا ننشئ كل الأطفال في بالا على الأساطير البوذية. وفي أكثر هذه القصص الخيالية الدينية يوجد شخص ما لديه رؤية الكائن العلوي. البوذيساتفا٨ مثلًا يرى رؤيته في تفجُّر الأضواء، وفي المجوهرات وأقواس قزح. ومع الرؤية المتألقة هناك دائمًا حاسة للشم على نفس الدرجة من الروعة؛ فالصواريخ الضوئية تكون مصحوبة بعطر شذى يفوق الوصف. نحن نأخذ هذه الصور الخيالية التقليدية؛ وليس بي حاجة إلى القول بأنها جميعًا تقوم على أساس التجارب الخيالية التي تحدث فعلًا من أثر الصوم أو حرمان الحواس أو بعض العقاقير، ونُطلِقها لتفعل فعلها. نقول للأطفال إن المشاعر العنيفة هي كالزلازل، تهزُّنا هزًّا شديدًا حتى تظهر الشروخ في الجدران التي تفصل ذواتنا عن طبيعة بوذا العالمية المشتركة. يغضب المرء فيتشقق شيء في نفسه، ومن خلال الشقوق تهبُّ نفحة من عطر الاستنارة السماوية، فيها رائحة الشنبق والإيلنغ والفردينيا ولكنها أكثر منها عجبًا بدرجة لا تُحَد. وهذا المعنى السماوي الذي تكشَّف لك مصادفة يجب ألا يفوتك. هذا المعنى يوجد كلما ثار في نفسك الغضب، استنشقه، وتنفَّسه، واملأ به رئتيك، مرة بعد أخرى.

– وأطفالكم يقومون بذلك فعلًا؟

– بعدما نقوم بتعليمهم بضعة أسابيع يفعله أكثرهم كشأنٍ من شئون حياتهم العادية. وكثيرون منهم — فوق ذلك — يشمُّون فعلًا ذلك العطر الذي حدثتك عنه. والنواهي القديمة (لا تفعل كذا، ولا تفعل كذا) تتحول إلى إيجابيات (افعل كذا، وافعل كذا) ويجد ثوابه لما يفعل. لقد حولنا مسار القوة الضارة بطبيعتها إلى اتجاهات لا تكون فيها ضارة، بل قد تعود فعلًا بالخير. وفي أثناء ذلك نعطي الأطفال — بطبيعة الحال — تدريبًا منتظمًا ومتدرجًا بعناية تامة في الإدراك وفي استخدام اللغة استخدامًا صحيحًا. نعلِّمهم الانتباه إلى ما يرون وما يسمعون، ونطلب إليهم في الوقت نفسه أن يلاحظوا كيف تؤثِّر مشاعرهم ورغباتهم فيما يمارسونه في العالم الخارجي، وكيف تؤثر عاداتهم اللغوية في مشاعرهم ورغباتهم بل وفي إحساساتهم. إن ما تسجله عيناي وأذناي شيء، والكلمات التي أستخدمها والحالة النفسية التي أكون عليها وما تسمح لي بإدراكه وتفهُّمه والعمل بمقتضاه الأهداف التي أتجه نحوها؛ كل ذلك شيء آخر؛ ومن ثَمَّ فأنت ترى أننا نضم ذلك كله بعضه إلى بعض في عملية تربوية واحدة. إن ما نقدمه للأطفال في وقت واحد هو تدريب في الإدراك والتخيل، وتدريب في الفسيولوجيا والسيكولوجيا التطبيقيَّين، وتدريب في السلوك الخلقي العملي والديانة العملية، وتدريب في استخدام اللغة استخدامًا صحيحًا، وتدريب في معرفة النفس. وبعبارة موجزة: هو تدريب لمركَّب الجسم والعقل كله من كل أوجُهه.

سأل ويل: ما علاقة كل هذا التدريب المعقَّد لمركَّب الجسم والعقل بالتربية النظامية؟ هل هو يعاون الطفل في حل مسائل الحساب، أو التزام قواعد النحو في الكتابة، أو فهم مبادئ الفيزياء؟

قال مستر منيون: إن ذلك يعاونه كثيرًا؛ فمركَّب الجسم والعقل المدرَّب يكون أسرع وأشمل كثيرًا في تعلُّمه من هذا المركَّب إذا لم يدرَّب. وهو كذلك أقدر على ربط الوقائع بالأفكار، وربطهما معًا بحياة صاحبه. وفجأة وعلى حين بغتة أخذ يضحك عاليًا. وكانت مفاجأة لأن ذلك الوجه المستطيل الحزين يوحي بأنه لا يتلاءم مع أي تعبير عن المرح أكثر من ابتسامة خفيفة يُخرجها صاحبها من قلب حزين.

– ما يضحكك؟

– طاف بخيالي شخصان التقيت بهما في زيارتي الأخيرة لإنجلترا، في كمبردج. أحدهما عالِم في الذرة، والآخر فيلسوف، وكلاهما من المشاهير. أما أحدهما فعمره العقلي — خارج المعمل — يبلغ نحو إحدى عشرة سنة. أما الآخر فقد كان أُكَلَةً بَدِينًا، لا يحاول أن يخفف من وزنه. وهذان مثلان متطرفان لما يحدث إذا أنت أخذت صبيًّا ذكيًّا، وأخضعته خمسة عشر عامًا لتربية نظامية مركزة وأهملت مركَّب العقل والجسم الذي يقوم بالتعلم وبالعيش.

– أفهم من ذلك أن نظامكم لا يُخرج هذا النوع الشاذ من الوحش الأكاديمي؟

هز وكيل الوزارة رأسه وقال: لم أرَ قط أحدًا من هذا الطراز حتى ذهبت إلى أوروبا. إنهم هناك مبعثٌ للضحك من شدة الغرابة. ولكنهم كذلك مدعاة للأسى. مساكين! إنهم منفِّرون بدرجة عالية!

– هذا الذي يدعو إلى الأسى والذي ينفِّر بدرجة عالية هو الثمن الذي ندفعه نظير التخصص.

ووافقه على ذلك مينون وقال: نعم للتخصص، ولكن ليس بالمعنى الذي تستخدمون الكلمة لتدل عليه. التخصص بالمعنى الآخر ضروري ولا مناص منه. وليست هناك حضارة بغير تخصص. ولكنك إن تعهدت بالتربية مركَّب العقل والجسم كله مع الذكاء الذي يستخدم الرمز، فإن ذلك النوع من التخصص اللازم لا يؤذي كثيرًا. ولكنكم لا تتعهدون بالتربية مركَّب العقل والجسم. وعلاجكم للمبالغة في التخصص العلمي هو بضع دراسات في العلوم الإنسانية. حسنًا! إن كل تربية يجب أن تتضمن دراسات في العلوم الإنسانية. ولكن لا تخدعكم الأسماء. إن العلوم الإنسانية وحدها لا تجعل من الطالب إنسانًا. وليست إلا صورة أخرى من صور التخصص على المستوى الرمزي. إن قراءة أفلاطون أو الاستماع إلى محاضرة عن ت. س. إليوت لا تُربِّي الإنسان الكامل. إنها تربي الطالب على معالجة الرموز — شأنها في ذلك شأن دراسة الفيزياء أو الكيمياء — وتترك بقية مركَّب العقل والجسم الحي في حالة بدائية من الجهل البدائي والعجز. ومن هنا كانت تلك المخلوقات المنفرة التي تثير الأسى أمثال أولئك الذين أدهشوني عند أول زيارة لي للخارج.

وسأل ويل: وماذا عن المعلومات التي لا غنى عنها والمهارات العقلية اللازمة؟ هل تعلمون بالطريقة التي نعلم بها؟

– نعلم بالطريقة التي أرجح أنكم سوف تعلمون بها بعد نحو عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. خذ الرياضيات على سبيل المثال. بدأت الرياضيات — تاريخيًّا — بتطوير بعض الحيل النافعة، وحلَّقت فيما وراء الطبيعة، وأخيرًا عبَّرت عن نفسها في بنيات وتحولات منطقية. ونحن في مدارسنا نعكس هذه المراحل التاريخية. نبدأ بالبنية والمنطق، ونتخطى مرحلة ما وراء الطبيعة، ونسير من المبادئ العامة إلى تطبيقات معينة.

– وهل يفهم الأطفال؟

– أفضل بكثير مما يفهمون لو بدأنا بالحيل النفعية. بعد الخامسة من العمر تقريبًا يستطيع أي طفل ذكي أن يتعلم أي شيء تقريبًا إذا نحن قدمناه له بالطريقة الصحيحة. المنطق والبنية في شكل ألعاب وألغاز. الأطفال يلعبون وبسرعة لا تُصدَّق يدركون المغزى. وبعدئذٍ نستطيع أن ننتقل إلى التطبيقات العملية. وإذا نحن علَّمنا بهذه الطريقة تعلَّم الأطفال على الأقل ثلاثة أمثال ما يتعلمونه اليوم من حيث المقدار، وأربعة أمثاله من حيث الشمول، في نصف الوقت. خذ مجالًا آخر يستطيع المرء فيه أن يستخدم الألعاب في تثبيت فهم المبادئ الأساسية. إن كل التفكير العلمي يقع في حدود الاحتمالات، والحقائق الأزلية الأبدية ليست سوى درجة عالية من الاحتمال. وقوانين الطبيعة التي لا تتغير إن هي إلا متوسطات إحصائية. كيف يمكن أن نُقحم هذه الأفكار العميقة غير الواضحة في رءوس الأطفال؟ نلعب معهم الروليت، ونُجري القرعة ونسحب اليانصيب. نعلمهم كل صنوف الألعاب بالورق والنرد.

قالت السيدة نارايان: أكثر ما يحب الأطفال لعبة الأفاعي والسلالم المتطورة كما يحبون لعبة الأسر المندلية السعيدة.

وأضاف مستر مينون: وفيما بعدُ نعلِّمهم لعبة أكثر من ذلك تعقيدًا، يشترك فيها أربعة أشخاص يلعبون بمجموعة من الأوراق مؤلَّفة من ستين ورقة مصمَّمة برسوم خاصة ومقسَّمة إلى ثلاثة أصناف؛ هذه اللعبة نسميها البريدج السيكولوجي. توزع الأوراق اعتباطًا بالصدفة. ولكن اللعب يحتاج إلى مهارة، وإلى تمويه وتعاون مع الشريك.

قال ويل: ألعابكم فيها التطور، ومندل، والسيكولوجيا. الظاهر أن التربية عندكم متأثرة بالبيولوجيا إلى حد كبير.

قال مينون: هي كذلك. إن اهتمامنا الأول ليس بالفيزياء والكيمياء، إنما هو بعلوم الحياة.

– هل هذا مبدأ من مبادئكم؟

– ليس إلى كل الحدود، إنما هو أمر يتعلق كذلك بالملاءمة والضرورة الاقتصادية. ليس لدينا المال الذي يكفي للبحث في الفيزياء والكيمياء على نطاق واسع، والواقع أننا لسنا في حاجة فعلية إلى مثل هذا البحث؛ فليست لدينا صناعات ثقيلة ننافس بها غيرنا ولا تسليح نجعله أشد فتكًا، ولا أقل رغبة في الهبوط على ظهر القمر. طموحنا متواضع يقتصر على أن نعيش بإنسانية كاملة منسجمين مع أوجه الحياة الأخرى فوق هذه الجزيرة على خط العرض هذا على هذا الكوكب. نستطيع أن نأخذ عنكم نتائج البحوث في الفيزياء والكيمياء ونطبقها — إن أردنا أو استطعنا ماديًّا — على أغراضنا الخاصة. وفي الوقت نفسه نركز على البحث الذي يبشر بأن يجلب الخير الوافر لنا؛ وذلك في علوم الحياة والعقل. وأضاف إلى ذلك قوله: لو أن رجال السياسة في البلاد التي استقلت حديثًا تصرفوا بالعقل لفعلوا مثلنا، ولكنهم يريدون أن يبددوا طاقاتهم، يريدون أن تكون لهم جيوش، ويريدون أن يلحقوا بأهل أمريكا وأوروبا الذين يدمنون التحرك بالآلات والنظر إلى التلفزيون، وواصل حديثه قائلًا: ليس أمامكم اختيار، فأنتم ملتزمون بتطبيق الفيزياء والكيمياء بلا رجعة، على الرغم من نتائجها السيئة، العسكرية والسياسية والاجتماعية. ولكن البلاد النامية غير ملتزمة. ليس عليها أن تحذو حذوكم، وما زالت حرة تستطيع أن تسلك الطريق الذي سلكنا؛ طريق البيولوجيا التطبيقية، طريق تنظيم التناسل، والإنتاج المحدود والتصنيع المختار الذي يتيحه تنظيم التناسل، الطريق الذي يؤدي إلى السعادة التي تنبع من الباطن وتنعكس على الظاهر، من خلال الصحة، والوعي، وتغيير وجهة النظر إلى العالم. وليس إلى أوهام السعادة التي تسير عكسًا من الظاهر إلى الباطن، من خلال لعب الأطفال وحبوب الدواء وأسباب اللهو التي لا تتوقف. هذه البلاد النامية ما زال بوسعها أن تأخذ بأسلوبنا، ولكنها لا تريد، وترغب في أن تكون مثلكم تمامًا. كان الله في عونها. ولما كان مستحيل عليها أن تفعل ما فعلتم، على الأقل في خلال الفترة التي قدَّرتها؛ فقد حكمت على نفسها بالفشل وخيبة الأمل، وكُتِب عليها الشقاء الذي يترتب على الانهيار الاجتماعي والفوضى، ومن ذلك إلى شقاء العبودية للحكام المستبدين. هذه مأساة يمكن التنبؤ بها تمامًا، وهم يسيرون نحوها وعيونهم مفتوحة.

قالت المديرة: وليس بوسعنا أن نفعل شيئًا في هذا الصدد.

قال مستر مينون: لا نستطيع أن نفعل شيئًا اللهم إلا أن نستمر في أداء ما نفعل الآن، ونأمل أملًا مستحيل التحقيق أن تكون الأمة التي وجدت سبيلها لأن تعيش عيشة سعيدة سعادة إنسانية مثلًا يُحتذى. الفرصة ضعيفة جدًّا. ولكن من يدري؟! ربما حدث ذلك.

– ما لم تتكون راندنج الكبرى قبل ذلك.

قال مستر مينون جادًّا وموافقًا: نعم، ما لم تتكون راندنج الكبرى قبل ذلك. ومع ذلك فلا بد لنا من مواصلة السير في ما أخذناه على أنفسنا؛ أعني التربية. هل هناك شيء آخر تريد أن تعرفه يا مستر فارنبي؟

قال ويل: هناك الكثير؛ مثلًا متى تبدءون تدريس العلوم؟

– نبدؤه في نفس الوقت الذي نبدأ فيه تعليم الضرب والقسمة، والدروس الأولى في علم البيئة.

– علم البيئة؟ أليس هذا موضوعًا معقَّدًا بعض الشيء؟

– من أجل هذا نبدأ به. يجب ألا نعطي الأطفال فرصة لكي يتخيلوا أن أي شيء من الأشياء له كيان مستقل عن غيره من الأشياء الأخرى. يجب أن نوضح لهم منذ البداية أن الحياة كلها علاقات. نريهم العلاقات في الغابات، والحقول، والبِرك والمجاري المائية، والقرية والريف من حولها، ولا نكل التكرار.

وقالت المديرة: وأحب أن أضيف إلى ذلك أننا نعلِّم دائمًا علم العلاقات موصولًا بأخلاقيات العلاقات، الاتزان، الأخذ والعطاء، لا إسراف؛ هذه هي القاعدة في الطبيعة. وإذا نقلنا هذه القاعدة من الوقائع إلى الأخلاق كان من الواجب أن تكون هي كذلك القاعدة بين الناس. وكما قلت من قبلُ إن الأطفال يجدون أن من اليسير أن يفهموا الفكرة إذا قدمناها لهم في حكاية عن الحيوان، نعطيهم تفسيرًا حديثًا لحكايات إيسوب الخرافية؛ لا نقصُّ عليهم القصص الذي نُضفي فيه صفات الإنسان على الحيوان، وإنما نحكي لهم حكايات صادقة من البيئة تنطوي على أخلاقيات عالمية في صلبها.

ومن الحكايات العجيبة التي نرويها للأطفال قصة التآكل. وليس عندنا هنا أمثلة جيدة للتآكل؛ ولذلك نعرض عليهم صورًا لما حدث في راندنج وفي الهند والصين واليونان وبلاد المشرق، في أفريقيا وأمريكا؛ كل الأماكن التي حاول فيها الإنسان بجشعه وغبائه أن يأخذ ولا يعطي، وأن يستغل بغير محبة أو إدراك. إذا أنت أحسنت معاملة الطبيعة أحسنت الطبيعة معاملتك. وإذا أنت آذيت الطبيعة أو حطمتها حطمتك الطبيعة. في منطقة من المناطق التي تتصحر بسبب إجهادها بالزراعة تظهر هذه الحقيقة بجلاء: «افعل بغيرك ما تحب أن يُفعل بك»؛ ومن الأسهل للطفل أن يدرك ويفهم هذا المبدأ في الطبيعة أكثر مما يستطيع في أسرة أو قرية متهالكة. إن الجروح النفسية لا تظهر؛ وعلى أية حال فإن الأطفال لا يعلمون عن الكبار إلا القليل. ولما كانوا يفتقرون إلى معايير للمقارنة فهم يظنون أن المواقف السيئة من المسلَّمات، كأنها من طبيعة الأشياء. في حين أن الفرق واضح بين عشرة أفدنة من المراعي الخضراء وعشرة أفدنة من الأخاديد الجرداء التي تعصف فيها الرمال. والرمال والأخاديد من الرموز التي نتمثل بها. إذا واجهها الطفل سهل عليه أن يدرك الحاجة إلى المحافظة على الخضرة، ومن المحافظة على الخضرة ينتقل إلى الأخلاق؛ يسهل عليه أن ينتقل من «القاعدة الذهبية» فيما يتعلق بالنبات والحيوان والأرض التي تغذيها إلى «القاعدة الذهبية» فيما يتعلق بالإنسان.

وهنا نقطة هامة أخرى. إن الأخلاق التي يصل إليها الطفل من حقائق علم البيئة ومن الحكايات الرمزية عن التآكل هي أخلاقيات عالمية. ليس في الطبيعة «شعب مختار» ولا «أرض مقدَّسة» ولا «رؤيا تاريخية فذة». إن الأخلاق القائمة على أساس الاحتفاظ بالخضرة لا تعطي الفرد مبررًا لإحساسه بعلو المنزلة، أو لمطالبته بمزايا خاصة. إن مبدأ «افعل بغيرك كما تحب أن يفعل بك» ينطبق على تعاملنا مع كل أنواع الحياة في كل أرجاء الأرض. ولن يبقى الإنسان فوق هذا الكوكب إلا إذا عامل الطبيعة بالرحمة والذكاء. إن مبادئ علم البيئة تؤدي مباشرةً إلى مبادئ البوذية.

وبعد لحظة من الصمت قال ويل: منذ بضعة أسابيع كنت أتصفح كتاب ثوروالد عما حدث في ألمانيا الشرقية فيما بين يناير ومايو من عام ١٩٤٥م. هل اطلع أحدكما على هذا الكتاب؟

هزَّا رأسيهما.

فنصحهما ويل ألا يفعلا وقال: كنت في درسدن بعد ضربها بالقنابل في شهر فبراير منذ خمسة أشهر. وفي ليلة واحدة احترق من المدنيين الأحياء خمسون أو ستون ألفًا؛ أكثرهم من اللاجئين الهاربين من الروس. وقد حدث كل ذلك لأن أودلف الصغير لم يتعلم علم البيئة.

وابتسم ويل ابتسامته التهكمية الساخرة وقال: إنه لم يتعلم المبادئ الأولية لصيانة الطبيعة.

وأخذ الناس ما حدث مأخذ الفكاهة لأنه كان أفظع من أن يتناولوه بالحديث جادِّين.

ونهض مستر مينون والتقط حقيبته.

وقال: لا بُدَّ أن أنصرف. وصافح ويل، وكان اللقاء بينهما مصدر سرور له، وتمنى لمستر فارنبي إقامة سعيدة في بالا، وقال له إنه إن أراد أن يعرف المزيد عن التربية في بالا فليس عليه إلا أن يسأل السيدة نارايان، فليس هناك من يَفضُلها في الإرشاد والتعليم.

وبعدما انصرف وكيل الوزارة قالت السيدة نارايان: هل تحب أن تزور بعض فصول الدراسة؟

ونهض ويل وسار خلفها حتى خرجا من الغرفة وبلغا إحدى الردهات.

وفتحت المديرة باب فصل من الفصول وقالت: هنا رياضيات، وهذا هو الصف الخامس في المرحلة الأعلى، تقوم بها السيدة أناند.

وانحنى ويل وهي تقدِّمه إليها، ورحَّبت به المدرسة ذات الشعر الأبيض مبتسمة وقالت هامسة: نحن كما ترى مستغرقون في إحدى المسائل.

وتلفَّت حواليه، ورأى عشرين طالبًا وطالبة منهمكين وهم في مقاعد جلوسهم في التفكر، منكبِّين على كراساتهم مركِّزين الأذهان في صمت وهم يعضون أطراف الأقلام. تتألق في حرارة الجو أجسامهم الذهبية فيما فوق السراويل القصيرة البيضاء أو الكاكي أو فيما فوق الجونيلات الطويلة زاهية الألوان. أجسام البنين يبدو منها القفص الصدري تحت البشرة، وأجسام البنات أكثر امتلاءً وأشد نعومة. وقد بدأت أثداؤهن الصغيرة تعلو صدورهن، قوية، جميلة التكوين، رشيقة كأنها من تصميم مثال زخرفة ينحت الحور من الصخر، ولا يلتفت إليهن أحد. وما كان أشد سرور ويل لأن يكون في مكان يباح فيه هذا الذي يعد في مكان آخر إثمًا من الآثام.

وفي أثناء ذلك كانت السيدة أناند تشرح له — في صوت خافت حتى لا تشتت أذهان المشتغلين بحل المسائل عن أداء واجبهم — كيف أنها تقسم كل فصل دراسي من فصولها مجموعتين، مجموعة الذين يتعلمون بالنظر ممن يفكرون في إطار هندسي كما كان يفعل قدماء اليونان، ومجموعة الذين لا يتعلمون بالنظر الذين يفضلون الجبر والتجريدات التي لا شكل لها. وعلى كرهٍ منه صرف ويل نظره عن هذا العالم من الجمال الذي لا تأثيم فيه، جمال الأجسام الشابة، واستسلم لتفكير عميق في تنوع البشر وتدريس الرياضيات.

وانصرفا. وفي الغرفة المجاورة، وهي عبارة عن فصل دراسي جدرانه باهتة زرقاء معلق عليها صور لحيوانات استوائية كان البوزيساتفا (صغار البوذيين) ومعهم الشاكتي،٩ وهم يشكِّلون الصف الخامس الأدنى، يتلقون درسًا في مبادئ الفلسفة التطبيقية يأخذونه مرة كل أسبوعين. وأثداء البنات في هذا أصغر حجمًا، والأذرع أرقُّ والعضلات أخفُّ، وطلاب الفلسفة هؤلاء لم يتجاوزوا حد الطفولة إلا بعام واحد فقط.

وعندما دخل ويل والسيدة نارايان الغرفة كان الرجل الواقف إلى جوار السبورة يقول: الرموز شائعة. ورسم صفًّا من الدوائر الصغيرة وأخذ يرقمها ١، ٢، ٣، ٤، ن، وقال تصوروا أن هذه الأرقام تمثل أفرادًا من الناس، ومن كل دائرة صغيرة رسم خطًّا يصل الدائرة بمربع على يسار السبورة. وفي وسط المربع كتب حرف «ر» وقال: هذا الحرف هو نظام الرمز الذي يستخدمه الناس عندما يريدون أن يتبادلوا الحديث، كلهم يتحدث نفس اللغة؛ إنجليزي، بالي، إسكيمو، الأمر يتوقف على المكان الذي يعيشون فيه. الألفاظ عامة، يختص بها كل المتكلمين بلغة ما، وهي مدونة في القواميس، والآن دعنا ننظر إلى الأشياء التي تحدث خارج الفصل.

وأشار إلى النافذة المفتوحة وظهر من خلالها ستة ببغاوات تطير بألوانها الزاهية تحت سحابة بيضاء، ومرت الببغاوات خلف شجرة ثم اختفت، ورسم المعلم مربعًا آخر في الجانب الآخر من السبورة وأسماه «أ»؛ وهو الحرف الأول من «أحداث». وربط هذا المربع بالدوائر بخطوط، وقال: إن ما يحدث في الخارج عامٌّ؛ أو على الأقل عامٌّ إلى حد كبير. وما يحدث عندما يتكلم فردٌ ما أو يكتب الكلمات عامٌّ كذلك. ولكن ما يحدث داخل هذه الدوائر الصغيرة خاص. وأكد كلمة خاص بوضع إحدى يديه على صدره، ثم مسح جبينه، وكرر كلمة «خاص»، ومس جفنيه وطرف أنفه بسبابته السمراء وقال: دعونا الآن نقوم بتجربة صغيرة، رددوا بعدي كلمة «يقرص».

وبصوت واحد أجشَّ ردد الطلاب: «يقرص، يقرص … ي، ق، ر، ص «يقرص»»، هذه كلمة عامة، تجدونها في المعاجم اللغوية. والآن يقرص كل منكم نفسه، شديدًا أشد!

وفعل الأطفال كما أُمروا متأوهين: آه، أوه. وهم يقهقهون.

– هل يستطيع أحدكم أن يحس ما أحسه جاره؟

رددوا جميعًا بصوت واحد: لا.

قال الرجل: يبدو أن … كم عددكم؟

ونقل بصره على المقاعد التي كانت أمامه وواصل الحديث قائلًا: يبدو أنه كان هناك ثلاثة وعشرون ألمًا منفصلًا متميزًا عن غيره. ثلاثة وعشرون في هذه الغرفة الواحدة، وما يقرب ثلاثة آلاف مليون في العالم كله، أضف إلى ذلك آلام جميع الحيوانات. وكل ألم من هذه الآلام خاص كل الخصوصية. ليست هناك وسيلة لنقل الخبرة من أحد مراكز الآلام إلى مركز آخر. لا اتصال إلا بطريق غير مباشر عن طريق «ر». وأشار إلى المربع الذي يقع على يسار السبورة، ثم إلى الدوائر التي تقع في الوسط وقال: هنا آلام خاصة في ١، ٢، ٣، ٤، ن؛ وهناك أخبار عن الآلام الخاصة في المربع «ر» حيث يمكنك أن تقول «يقرص» وهي كلمة عامة مدونة في المعجم اللغوي، ولاحظ ما يلي: هناك كلمة عامة واحدة هي «يقرص» لتدل على ثلاثة آلاف مليون تجربة خاصة، كل واحدة منها تختلف عن غيرها بنفس الدرجة تقريبًا التي يختلف بها أنفي عن أنوفكم، كما أن أنوفكم يختلف كل واحد منها عن الآخر، الكلمة ترمز فقط للطرق التي تتشابه بها الأشياء أو الأحداث التي هي من نوع واحد عام؛ ولذلك كانت الكلمة عامة. ولما كانت عامة فلا يمكن أن تمثِّل الطرق التي تختلف بها الأحداث التي هي من نوع واحد عام.

وساد صمت. ثم رفع المعلم بصره إلى أعلى وألقى سؤالًا: هل يعرف أحد منكم هنا شيئًا عن ماهاكاسيابا؟

وارتفعت أيدٍ كثيرة، وأشار بإصبعه إلى فتاة صغيرة في إزار أزرق وحول عنقها عقد من الصدف جالسة في الصف الأول.

– آميا، تكلمي.

وفي لهفة بدأت آميا تتكلم وفي لسانها لثغة.

قالت: ماهاكاثيابا هو الحواري الوحيد الذي استطاع أن يفهم ما كان يتحدث عنه بوذا.

– وفيمَ كان بوذا يتكلم؟

– إنه لم يكن يتكلم ولذلك لم يفهموه.

– ولكن ماهاكاسيابا فهِم ما كان يتحدث عنه على الرغم من أنه لم يتكلم؛ هل هذا ما قصدت؟

وأومأت الفتاة الصغيرة برأسها إيجابًا فقد كان ذلك ما قصدت تمامًا، وقالت: ظنوا أنه سوف يُلقي عليهم موعظة، ولكنه لم يفعل. وكل ما فعله هو أنه التقط زهرة ورفعها إلى أعلى لكي يراها الجميع.

وصاح صبي صغير يرتدي مئزرًا أصفر اللون كان يتلوَّى في مقعده، ويكاد لا يستطيع أن يكبت رغبته في الإفصاح عما كان يعرف، وقال: تلك كانت الموعظة. ولكن أحدًا لم يستطع أن يفهم هذا النوع من المواعظ، فيما عدا ماهاكاسيابا.

– وماذا قال ماهاكاسيابا عندما رفع بوذا تلك الزهرة؟

صاح الصبي الذي كان يرتدي مئزرًا أصفر اللون بنغمة الظافر: لا شيء!

وأضافت إلى ذلك آميا قولها: ابتسم فقط، ومن ذلك عرف بوذا أنه فهم كل ما كان يقصد إليه؛ ولذلك بادله الابتسام، ولبثا كذلك يبتسمان، ويبتسمان.

قال المعلم: حسنًا. والتفت إلى الصبي ذي المئزر الأصفر وقال له: اذكر لنا ما تظن أن ماهاكاسيابا قد فهم.

وساد الصمت، ثم هز الطفل رأسه خجلًا وتمتم قائلًا: لست أدري.

– وهل يدري منكم أحد؟

وكانت هناك محاولات عدة للإجابة، ربما قد فهم أن الناس قد سئمت الموعظة؛ حتى موعظة بوذا. وربما كان يحب الزهور كما أحبها الواحد الرءوف. وربما كانت الزهرة بيضاء اللون مما جعله يفكر في (الضوء الصافي). وربما كانت زرقاء اللون، وذلك كان لون شيفا.

قال المعلم: هذه إجابات جيدة، وبخاصة الإجابة الأولى؛ فالمواعظ فعلًا مملة وبخاصة للواعظ. ولكن هناك سؤالًا آخر. إذا كانت إحدى إجاباتكم هي ما فهم ماهاكاسيابا عندما رفع بوذا الزهرة، فلماذا لم يعبر عنها بالألفاظ؟

– ربما كان ممن لا يحسنون الكلام.

– بل كان متحدثًا ممتازًا.

– ربما كان في حلقه التهاب.

– إذا كان حلقه ملتهبًا ما ابتسم مبتهجًا كما فعل.

ومن آخر الغرفة صاح صوت أجش قال: خبِّرنا أنت.

وقاطعته أصوات أخرى قائلة: نعم خبِّرنا أنت.

وهز المعلم رأسه وقال: إذا كان ماهاكاسيابا والواحد الرءوف لم يستطيعا أن يعبِّرا بالكلمات فكيف أستطيع أنا؟ والآن دعنا نُلقِ نظرة أخرى على الأشكال المرسومة على السبورة. هناك الكلمات العامة، والأحداث العامة إلى حد ما، ثم الأفراد، وهم مراكز خاصة كل الخصوصية للألم واللذة. وإني لأتساءل هل هي خاصة كل الخصوصية. ربما كان ذلك لا يصدق كل الصدق. ربما كان هناك نوع من الاتصال بين الدوائر؛ بطريقة غير الطريقة التي أتصل أنا بكم بها الآن، أعني الكلمات؛ طريقة مباشرة. وربما كان ذلك هو ما كان يتحدث بوذا عنه بعدما انتهت موعظته التي ألقاها بالزهر ولم يستعمل فيها الكلمات. قال لتلاميذه: عندي كنز من التعاليم التي لا تخطئ، عقل النيرفانا١٠ العجيب، الشكل الحقيقي الذي لا شكل له، الذي يجاوز كل الألفاظ؛ أقصد التعليم الذي يُعطى ويُستقبل خارج جميع المذاهب. هذا التعليم أسلمته الآن لماهاكاسيابا.

والتقط المعلم إصبع الطباشير مرة أخرى ورسم قطعًا ناقصًا تقريبيًّا أحاطت خطوطه كل الأشكال الأخرى على السبورة؛ الدوائر الصغيرة التي تمثِّل الكائنات البشرية، والمربع الذي يمثل الأحداث، والمربع الآخر الذي يمثل الألفاظ والرموز، وقال: كل شكل من هذه الأشكال منفصل، ومع ذلك فكلها واحد. الناس، والأحداث، والألفاظ: كلها مظاهر للعقل الكبير، للحقيقة الكبرى، للفراغ. وما كان يقصده بوذا وما فهمه ماهاياكاسيابا هو أن المرء لا يستطيع أن يعبر عن هذه التعاليم باللفظ. وليس بوسعه إلا أن يكون هو هي، وذلك شيء سوف تتكشفونه حينما يحين أوان دخولكم أعضاء في هذا المذهب.

قالت المديرة هامسة: آن لنا أن نخرج.

ولما انغلق الباب خلفهما وأصبحا في الردهة مرة أخرى قالت لويل: نحن نستخدم هذه الطريقة عينها عند تدريس العلوم، بدءًا بعلم النبات.

– ولماذا تبدءون بعلم النبات؟

– لأن هذا العلم يمكن ربطه بسهولة بما كان يدور حوله الحديث الآن؛ قصة ماهاكاسيابا.

– هل هذه هي نقطة البدء؟

– لا، نحن نبدأ بداية عادية بالكتاب المقرر. نعطي الأطفال كل الحقائق الأولية الواضحة، مرتبة ترتيبًا مُحكمًا ومصنفة وفقًا للقوالب المعروفة. المرحلة الأولى هي مرحلة علم النبات البحت، وتستغرق من ستة إلى سبعة أسابيع، وبعد ذلك يقضي الأطفال يومًا كاملًا فيما نسميه بناء الجسور، ساعتان ونصف الساعة نحاول خلالها أن نجعل الأطفال يربطون كل ما تعلموا في الدروس السابقة بالفن، واللغة، والدين، ومعرفة النفس.

– علم النبات ومعرفة النفس؛ كيف تقيمون بينهما جسرًا؟

أكدت له نارايان أن الأمر غاية في البساطة وقالت: نعطي كل طفلة زهرة معروفة؛ زهرة الخبيزة مثلًا، وأفضل منها زهرة الجاردينيا (لأن زهرة الخبيزة ليس لها أريج). ما هي الجاردينيا من الناحية العلمية؟ ممَّ تتألف؟ أوراق، والسداة، والمدقة، والمبيض، وما إلى ذلك. ونطلب إلى الأطفال أن يدونوا وصفًا تحليليًّا للزهرة موضحين الوصف بالرسم الدقيق، وبعدما يؤدون ذلك نمنحهم فترة للراحة. وفي نهايتها نقرأ لهم قصة ماهاكاسيابا ونطلب إليهم أن يفكروا فيها. هل كان بوذا يعطي درسًا في علم النبات؟ أم هل كان يعلِّم تلاميذه شيئًا آخر؟ وإن كان الأمر كذلك فما هو؟

– خبِّرينا ما هو؟

– وليس هناك — بطبيعة الحال — إجابة يمكن أن تصاغ في الألفاظ؛ كما يتضح ذلك جليًّا من القصة؛ لذلك نطلب إلى البنين والبنات أن يتوقفوا عن التفكير ويكتفوا بالنظر، ونقول لهم: «لا تنظروا نظرة تحليلية، لا تنظروا كما ينظر العلماء، أو حتى كما ينظر البستاني. حرِّروا أنفسكم من كل شيء تعرفونه وانظروا ببراءة تامة إلى ذلك الشيء الماثل أمامكم والذي لا تكاد تصدِّقه العقول. انظروا إليه وكأنكم لم تروا له شبيهًا من قبلُ، وكأنه لا يحمل اسمًا ولا ينتمي إلى فصيلة معروفة. انظروا إليه منتبهين ولكن بموقفٍ سلبي، مستقبلين، دون أن تطلقوا عليه اسمًا أو تُصدِروا عليه حكمًا أو تُخضِعوه للمقارنة، واستنشقوا لُغزه وأنتم تنظرون إليه، وتنفَّسوا روح الحس، وعطر الحكمة، حكمة الضفة الأخرى.»

وعلَّق على ذلك ويل بقوله: ما أشبه ما تقولين بما كان يقول الدكتور روبرت في حفل التنصيب.

قالت السيدة نارايان: شبيه به بطبيعة الحال؛ ذلك أن تعلُّم نظرة ماهاكاسيابا للأمور هو أفضل إعداد لتجربة عقار الموكشا، كل طفل يبلغ سن التنصيب يُقبل عليه بعد تربية طويلة على فن الاستقبال؛ أي أن يكون المرء مستقبلًا. الجاردينيا أولًا كنموذج نباتي، ثم الجاردينيا ذاتها في تفرُّدها، الجاردينيا كما تراها عين الفنان، ثم بعد ذلك الجادرينيا وهي في أشد حالات الإعجاز كما يراها بوذا وماهاكاسيابا.

ثم أضافت إلى ذلك قولها: ولست بحاجة إلى أن أقول إننا لا نحصر أنفسنا في الزهور. كل دراسة يتلقاها الأطفال تتخللها وقفات دورية لبناء الجسور. كل شيء من الضفدعة المشرَّحة إلى المجرة اللولبية ينظر إليه الطلاب مستقبلين له ومفكرين فيه، باعتباره تجربة جمالية أو روحانية وباعتباره في الوقت نفسه من حقائق العلم أو التاريخ أو الاقتصاد. والتدريب على الاستقبال متمم ومصحح للتدريب على التحليل ومعالجة الرموز. وكلا التدريبين لا غنى عنهما إطلاقًا، إذا أنت أهملت أحدهما فلن تصبح كائنًا بشريًّا كامل النمو.

وساد صمت، وأخيرًا سأل ويل: وكيف ينظر المرء إلى الآخرين؟ هل يأخذ بنظرة فرويد أو بنظرة سيزان؟ بنظرة بروست أو بنظرة بوذا؟

ضحكت السيدة نارايان وسألته: بأي نظرة من هذه النظرات تراني؟

أجاب: أعتقد أولًا أني أراك بنظرة عالم الاجتماع. أنظر إليك باعتبارك ممثلة لثقافة غير مألوفة. ولكني كذلك أدرك من أنت من حيث الانطباع، وأظن — وأرجو أن تسامحيني في ظني — أنك قد تقدمت في السن بصورة تثير الإعجاب. فأنت على صورة طيبة من حيث الجمال والعقل والنفس والروح بأي معنى من معاني هذه الكلمة؛ وإذا أخذت بالانطباع كان لذلك أهميته. أما إذا أنا لم آخذ بالانطباع وحكمت بمفهومي للكلمة كان الأمر كله هراءً بحتًا.

وضحك ضحكة خفيفة كما يضحك الضبع.

قالت السيدة نارايان: يستطيع المرء دائمًا — إن أراد — أن يستبدل بالفكرة الشائعة أفضل الأفكار الذهنية التي يستمدها من استقبال المحسوسات. ولكن المسألة هي: لماذا يحتم المرء على نفسه أن يختار إما هذا وإما ذاك؟ لماذا لا يؤثِر أن يستمع إلى الجانبين ويوفِّق بين نظرتيهما؟ صانع المفاهيم التي تحكمه التقاليد والذي يأخذ بالتحليل، ومن يستقبل المؤثرات الخارجية ويكوِّن الصورة وهو متنبه برغم موقفه السلبي؛ إن كلا الطريقين ليس معصومًا من الخطأ، وكلاهما مما يؤدي للمرء وظيفة طيبة معقولة.

واستوضحها ويل: إلى أي حد يكون تدريبكم على فن الاستقبال فعالًا؟

أجابت: للاستقبال درجات؛ ففي دروس العلوم — مثلًا — قليل جدًّا منه. العلم يبدأ بالملاحظة. ولكن الملاحظة دائمًا تتخير؛ فالمرء ينظر إلى العالم من خلال نافذة مخرمة للمفاهيم التي أُسقطت عليه. وإذا أنت أخذت عقار الموكشا كادت هذه المفاهيم أن تتلاشى، فلا تختار وتصنف خبراتك فورًا، بل تكتفي بالاستقبال. والأمر في هذه الحالة أشبه بما قاله وردزورث: «هات معك قلبًا يشاهد ويستقبل.» وفي ساعات بناء الجسور التي تحدثت عنها يكون هناك قدر كبير من الانتقاء والإسقاط، ولكنه أقل حجمًا مما كان يحدث في الدروس السابقة للعلوم، فالطفل لا يتحول فجأة إلى تاثاجاتا صغير، ولا يصل إلى حالة الاستقبال الصافية التي تأتي مع عقار الموكشا، ما أبعد الأطفال عن ذلك. وكل ما أستطيع أن أقوله إن الأطفال يتعلمون ألا يأخذوا الأسماء والأفكار السائدة مأخذ الجد. ولفترة قصيرة تراهم يأخذون أكثر مما يعطون.

– وماذا يفعلون بما يأخذون؟

أجابت السيدة نارايان وعلى ثغرها ابتسامة: إننا نكتفي بأن نطلب إليهم أن يحاولوا المستحيل، نطالبهم بأن يترجموا الخبرة إلى ألفاظ. ماذا تكون هذه الزهرة؟ وهذه الضفدعة المُشرَّحة؟ وهذا الكوكب الذي تراه على الطرف الآخر من المنظار المقرِّب؟

ماذا تعني؟ بماذا توحي إليك لكي تفكر، أو تشعر، أو تتصور، أو تتذكر؟ نوجِّه إليهم هذه الأسئلة لتكون جزءًا من العطاء البحت الذي لا يخضع للمفاهيم المسبقة. ونطلب إليهم أن يدونوا إجاباتهم على الورق. نقول لهم إنكم بطبيعة الحال لن تفلحوا، ولكن عليكم أن تحاولوا؛ فإن ذلك يساعدكم على إدراك الفرق بين الألفاظ والأحداث، بين أن تعرف عن الأشياء وأن تتعرف عليها. وبعد أن ينتهوا من الكتابة نقول لهم أعيدوا النظر إلى الزهرة، وبعد ذلك أغمضوا عيونكم دقيقة أو دقيقتين، ثم ارسموا ما خطر لكم عندما كانت عيونكم مغمضة، ارسموه أيًّا كان؛ شيئًا غامضًا أو واضحًا، شيئًا كالزهرة أو مختلفًا عنها كل الاختلاف. ارسموا ما رأيتم أو حتى ما لم تروا، ارسموه ولوِّنوه بأصباغكم وأقلامكم، واستريحوا مرة أخرى، وقارنوا الرسم الأول بالرسم الثاني، وقارنوا بين الوصف العلمي للزهرة وبين ما كتبتم عنها حينما لم تكونوا تحللون ما ترون، وحينما كنتم تتصرفون وكأنكم لم تعرفوا شيئًا عن الزهرة ولم يكن متاحًا لكم سوى لغز وجودها يهبط عليكم طفرة من السماء. ثم قارنوا رسومكم وما كتبتم من رسوم غيركم من البنين والبنات زملائكم في الفصل الدراسي وما كتبوا. سوف تجدون أن الأوصاف والرسوم التحليلية متشابهة. في حين أن الرسوم والكتابات الأخرى يختلف كل واحد منها عن الآخر اختلافًا كبيرًا. ما صلة ذلك بما تعلمتم من المدرسة، والبيت، والغابة، والمعبد؟ عشرات الأسئلة، وكلها مُلحة. إن الجسور يجب أن تُقام في جميع الاتجاهات، يبدأ الطالب بعلم النبات — أو بأية مادة أخرى في منهج الدراسة — ويجد أنه في نهاية فترة بناء الجسور يفكر في طبيعة اللغة، وفي الأنواع المختلفة للخبرة، وفيما وراء الطبيعة وسير الحياة، وفي المعرفة التحليلية وحكمة «الشاطئ الآخر».

سأل ويل: إني لأعجب أشد العجب كيف استطعتم أن تعلِّموا المعلمين الذين يقومون الآن بتعليم الأطفال بناء هذه الجسور؟

قالت السيدة نارايان: بدأنا تعليم المعلمين منذ مائة وسبعة أعوام. شكَّلنا فصولًا من الشبان والشابات ممن تلقَّوا تعليمهم بالطريقة التقليدية بين أهل بالا. تعلموا أدب المعاشرة، والزراعة الجيدة، الفنون والحرف الجيدة وشيئًا عن الطب الشعبي، وطرائف عن الفيزياء والنبات والعقيدة في قوة السحر، وصدق القصص الخيالية. لا علم، ولا تاريخ، ولا شيء عما يجري في العالم الخارجي. ولكن معلمي المستقبل هؤلاء كانوا من البوذيين التُّقاة، مارس أكثرهم التأمل، وقرءوا جميعًا الكثير من فلسفة ماهايانا أو استمعوا إليها، ومعنى ذلك أنهم في مجالات الميتافيزيقا التطبيقية وعلم النفس كان تعليمهم أكمل وأكثر واقعية عما تتعلمه أية مجموعة من معلمي المستقبل في الجزء من العالم الذي تسكنونه. وكان الدكتور أندرو إنسانيًّا تدرب تدريبًا علميًّا ولم يأخذ العقائد مأخذ التصديق بغير فحص، كما كشف عن قيمة الماهايانا البحت والماهايانا التطبيقية. وكان صديقه الراجا بوذيًّا على مذهب نانترا وقد كشف عن قيمة العلم البحت والعلم التطبيقي؛ ومن ثَمَّ فلقد رأى كلاهما بكل وضوح أن المعلم الذي باستطاعته أن يعلِّم الأطفال كيف يكونون إنسانيين كاملين في مجتمع يليق بالكائنات البشرية الكاملة أن يعيشوا فيه؛ هذا المعلم ينبغي أن يتعلم أولًا كيف يستغل هذين العالمين أحسن استغلال.

– وماذا كان إحساس هؤلاء المعلمين أثناء إعدادهم إزاء ذلك؟ هل قاوموا هذا الاتجاه؟

هزت السيدة نارايان رأسها وقالت: كلا، لم يقاوموه لسببٍ وجيه وهو أن هذا الاتجاه لم يهاجم أي شيء عزيز عليهم؛ فلقد كانت بوذيتهم محلًّا للاحترام. وكل ما طلب إليهم التخلي عنه هو علم العجائز والحكايات الخرافية. وفي نظير ذلك قدمت إليهم كل ضروب الحقائق التي كانت وأكثر تشويقًا والنظريات التي كانت أكثر نفعًا. واتحدت الآن تلك الأمور المثيرة الواردة من العالم الغربي، عالم المعرفة والقوة والتقدم، مع نظريات البوذية والحقائق النفسية في الميتافيزيقا التطبيقية. وبمعنًى ما خضع علم الغرب لمذهب البوذية. وهذا البرنامج الذي جمع بين أفضل ما في العالمين لم يكن به ما يؤذي إحساس الوطنيين المتدينين حتى أشدهم حساسية وأكثرهم حماسة.

وبعد فترة من الصمت قال ويل: إنني أفكر في معلمي المستقبل عندنا. هل يمكن تعليمهم في هذه المرحلة المتأخرة؟ وهل يمكنهم أن يتعلموا كيف يستغلون أفضل ما في العالمين أحسن استغلال؟

– ولمَ لا؟ فإنه لا يتحتم عليهم أن يتخلوا عن أي أمر من الأمور التي لها عندهم أهمية حقيقية. غير المسيحيين منهم يستطيعون أن يواصلوا تفكيرهم في الإنسان، والمسيحيون يستطيعون أن يواصلوا عبادتهم لله. لن يحدث أي تغير. غير أن يفكروا في الله باعتباره موجودًا في كل الوجود، ويفكروا في الإنسان على أنه يستطيع بطبيعته أن يتجاوز حدود نفسه.

ضحك ويل وقال: وهل تظنين أنهم يتقبلون هذا التغيير بغير احتجاج؟ أنت متفائلة.

قالت السيدة نارايان: نعم متفائلة لسببٍ بسيط وهو أن الإنسان إذا عالج مشكلةً ما بذكاء وواقعية، فإن النتائج لا بُدَّ أن تكون طيبة، وهذه الجزيرة تبرر قدرًا من التفاؤل. والآن دعنا ننصرف لنشاهد درس الرقص.

وعبَرا فناءً تظلِّله الأشجار، ودفعا بابًا متحركًا، وخرجا من الصمت إلى دق الطبل الإيقاعي وصوت الناي يردد نغمة خماسية كانت في مسمع ويل شبيهة بالنغمة الأسكتلندية.

وسأل: هل هذه موسيقى حية أم معبأة؟

وأجابت نارايان في اقتضاب: هذا شريط ياباني، وفتحت بابًا آخر وكشفت عن جيمنازيوم فسيح به شابان ملتحيان وسيدة عجوز تسترعي النظر بخفة حركتها وترتدي سروالًا من الساتان الأسود، وهؤلاء يقومون بتعليم حركات الرقص الرشيق لنحو عشرين أو ثلاثين من صغار البنين والبنات.

سأل ويل: ما هذا؟ أهو لهو أو تعليم؟

قالت المديرة: كلاهما، وهو كذلك درس في الأخلاق التطبيقية، شبيه بتمرينات التنفس التي كنا نتحدث عنها منذ لحظة؛ ولكنه أكثر فعالية لأنه أشد عنفًا.

كان الأطفال يتغنَّون غناءً جماعيًّا بهذه العبارة: ضربوا بأقدامكم. ومع الغناء يضربون الأرض — بكل قواهم — بأقدامهم الصغيرة التي يكسونها بالصنادل. وفي المرة الأخيرة وهم يكررون قولهم: اضربوا بأقدامكم، ضربوا الأرض بشدة، وبدءوا حركة راقصة جديدة وهم يدورون ويهتزون.

قالت السيدة نارايان: هذه رقصة راكشاسي على المزمار.

سأل ويل: وما هي راكشاسي؟

– راكشاسي نوع من العفاريت، ضخم جدًّا، منفِّر للغاية، كل الميول القبيحة تتمثل فيه. ورقصة راكشاسي على المزمار حيلة للتنفيس عن الطاقة التي يثيرها الغضب والفشل.

وطرقت مسمعي ويل مرة أخرى تلك النصيحة: اضربوا بأقدامكم، يتغنى بها الأطفال مرددين.

وصاحت السيدة العجوز الضئيلة؛ وهي تضرب لهم مثلًا قويًّا قائلة: اضربوا مرة أخرى، بكل قواكم، وكل عنف!

وفكَّر ويل بينه وبين نفسه: أيهما أفضل للأخلاق وللسلوك الرشيد؟ طقوس العربدة أو «الجمهورية».١١ أخلاق نيقوماخوس أو الرقص الكوريبانتي؟١٢

قالت السيدة نارايان: كان الإغريق أعقل من أن يفكروا بصيغةِ إما هذا وإما ذاك. كانوا يفكرون دائمًا بصيغة ليس هذا فقط، وإنما كذلك. ليس فقط أفلاطون وأرسطو، وإنما كذلك ربات المهرجانات. ولولا تلك المزامير التي تخفف التوتر لعجزت الفلسفة الأخلاقية، ولولا الفلسفة الأخلاقية لما عرفت المزامير في أي اتجاه تسير. كل ما فعلناه هو أننا أخذنا صفحة من كتاب الإغريق القديم.

قال ويل: حسنًا ما فعلتم، ثم تذكَّر أنه رجل لا يصدق كل ما يقال (وكان دائمًا يتذكر ذلك في الحين أو فيما بعدُ، ومهما كان سروره ومهما كانت حماسته). تذكَّر ذلك فانفجر ضاحكًا، وقال: إن الرقص الكوريباتي لم يمنع الإغريق من التقاتل، وإن كان ذلك أمر لا أهمية له على المدى البعيد. ثم ماذا ينفعكم رقص راكشاسي على المزمار إذا قرر الكولونيل ديبا أن يتحرك ضدكم؟ هل يساعدكم الرقص على الرضا بما قُدِّر لكم؟ ربما؛ وهذا كل ما في الأمر.

قالت السيدة نارايان: نعم هذا كل ما في الأمر. غير أن مجرد الرضا بالقدر ميزة كبرى في حد ذاته.

– الظاهر أنك تأخذين كل الأمور بنفس مطمئنة.

– وما جدوى أن نأخذ الأمور بعصبية؟ إن ذلك لا يجعل موقفنا السياسي أفضل، ولا يترتب عليه إلا أن يكون موقفنا الشخصي أسوأ بدرجة كبرى.

وكان الأطفال يرددون جماعة: اضربوا بأقدامكم. والألواح الخشبية تهتز تحت أقدامهم الضاربة.

وواصلت السيدة نارايان حديثها قائلة: أرجو ألا تتصور أن هذه هي الرقصة الوحيدة التي نعلمها. نعم إن تحويل اتجاه القوى التي تولِّده المشاعر السيئة أمر هام، ولكن لا يقل عنه أهمية توجيه المشاعر الطيبة والمعرفة الصحيحة نحو الإفصاح عن نفسها. في هذه الحالة تكون الحركات تعبيرية، وكذلك تكون الإشارات تعبيرية. لو أنك زرتنا بالأمس حينما كان الأستاذ الزائر هنا لأطلعتك كيف نعلِّم هذا النوع من الرقص. ولا أستطيع ذلك اليوم لسوء الحظ، ولن يعود إلى زيارتنا قبل الثلاثاء.

– أي أنواع الرقص يعلِّم؟

حاولت السيدة نارايان أن تصف هذا الرقص: لا وثب، ولا رفص إلى أعلى، ولا عدْو. الأقدام ثابتة دائمًا فوق الأرض، مجرد انحناءات وحركات جانبية بالرُّكب ومفاصل الأوراك. كل التعبير تقوم به الأذرع والمعاصم والأيدي، والرأس والعنق، والوجه، والعينان خاصةً. حركات بالأكتاف إلى أعلى وإلى أمام؛ حركات رشيقة في حد ذاتها ومحمَّلة كذلك بالمعنى الرمزي. الفكر يتخذ شكلًا بالطقوس وبالحركات الرشيقة. الجسم كله يتحول إلى حروف هيروغليفية، والحروف يتبع بعضها بعضًا، كما تتتابع الأوضاع متغايرة للانتقال من دلالة إلى دلالة، كالقصيدة الشعرية أو قطعة الموسيقى. حركات العضلات تمثِّل حركات الوعي، والانتقال من الصيغة المثالية إلى الصيغ المتعددة، والانتقال من المتعدد إلى الواحد الموجود في كل مكان وزمان.

وختمت حديثها بقولها: إنه تأمُّل بالحركة. هو ميتافيزيقا ماهايانا يعبَّر عنها لا بالكلمات ولكن بالحركات الرمزية والإشارات.

وانصرفا من الجيمنازيوم عن طريق باب غير الباب الذي دخلا منه، واتجها يسارًا سائرَين في ممرٍّ قصير.

وسأل ويل: وماذا بعد ذلك؟

وأجابت السيدة نارايان: الصف الرابع الأدنى، وهم الآن يدرسون مبادئ علم النفس العملي.

وفتحت بابًا أخضر اللون.

وسمع ويل صوتًا ليس غريبًا عنه يقول: تعلمون الآن أنه لا داعي لأن يحس أحد بالألم؛ فلقد قلتم لأنفسكم إن الدبوس لا يؤذي، فلم يؤذِ.

وولجا الغرفة، ووجدا سوزيلا ماك فيل، طويلة القامة وسط نحو عشرين طالبًا، من الصغار ذوي البشرة السمراء، بعضهم بدين وبعضهم هزيل، فابتسمت لهما، وأشارت إلى مقعدين في إحدى زوايا الغرفة، ثم عادت إلى الأطفال. وكررت قولها: لا داعي لأن يحس أي إنسان بالألم. ولكن لا تنسوا أبدًا أن الألم دائمًا يعني أن هناك خللًا ما. لقد تعلَّمتم أن تُبعدوا الألم. ولكن لا تفعلوا ذلك بغير تفكير، ولا تفعلوه دون أن تسألوا أنفسكم ما سبب هذا الألم؟ وإذا كان الألم شديدًا، أو إذا لم يكن هناك سبب واضح له، أفضوا إلى أمهاتكم به أو إلى معلِّمكم أو إلى أي كبير في نادي التبني المتبادل الذي تنتسبون إليه، ثم أبعدوا الألم بعد ذلك، أبعدوه وأنتم تعلمون أنه إذا كانت هناك حاجة إلى عمل ما، فلا بد من أدائه. هل فهمتم؟ …

وبعدما أجابت عن جميع الأسئلة التي وُجِّهت إليها قالت: والآن دعنا نقُم ببعض ألعاب التظاهر، أغمضوا عيونكم وازعموا أنكم تنظرون إلى طائر المَيْنة العجوز المسكين صاحب الساق الواحدة الذي يزور المدرسة كل يوم لكي تُطعموه. هل ترونه؟

وطبعًا استطاعوا أن يروه، وكان من الواضح أن المَيْنة صاحبة الساق الواحدة صديقة قديمة.

– انظروا إليه بالوضوح الذي رأيتموه به اليوم ساعة الغداء، ولا تحملقوا فيه، ولا تبذلوا جهدًا، اكتفوا بأن تروا ما ينطبع في أعينكم، ونقِّلوا عيونكم، من منقاره إلى ذيله، ومن عينه المستديرة الصغيرة اللامعة إلى ساقه البرتقالية.

وتلقائيًّا قالت فتاة صغيرة: إنني أسمعه كذلك، إنه يصيح: «كارونا، كارونا!»

وبسخط شديد قال طفل آخر: ليس هذا صحيحًا، إنه يقول: انتباه!

وأكدت لهما سوزيلا أنه يقول هذا وذاك: وربما كان ينطق بكلمات كثيرة غير كذلك. ولكنا الآن سوف نقوم بتظاهر واقعي، ازعموا أن هناك طائرين من طيور المَيْنة من ذوي الساق الواحدة، ثلاثة منها، أربعة. هل ترون الأربعة؟

واستطاعوا.

– أربعة طيور من طيور المَيْنة ذوي الساق الواحدة في الأركان الأربعة لأحد الميادين، وطائر خامس وسط الميدان. والآن تخيلوا أن الطيور قد غيَّرت لونها فصارت بيضاء، خمس مَيْنات بيضاء برءوس صفراء وساق واحدة برتقالية. والآن تخيلوا أن الرءوس زرقاء، فاقعة الزرقة، والطائر فيما عدا ذلك قرنفلي اللون. خمسة طيور قرنفلية رءوسها زرقاء، وهي في تغير دائم؛ فهي الآن أرجوانية، خمسة طيور أرجوانية رءوسها بيضاء ولكل منها ساق واحدة خضراء باهتة اللون. يا إلهي! ما هذا الذي يحدث! إنها ليست خمسة، بل هناك عشرة. لا، عشرون، خمسون، مائة، مئات ومئات، هل ترونها؟

واستطاع بعضهم أن يراها دون أدنى صعوبة، وأما أولئك الذين لم يستجيبوا كل الاستجابة فقد اقترحت لهم سوزيلا أهدافًا أكثر تواضعًا.

قالت: تخيَّلوها اثني عشر. وإذا استكثرتم هذا العدد فاجعلوها عشرة أو ثمانية؛ فهذا العدد كذلك كبير جدًّا.

واسترسلت في حديثها بعدما استحضر الأطفال جميعًا كل الطيور الأرجوانية التي خلقها كل منهم وفق قدرته، وقالت: والآن تطير المَيْنات. وصفَّقت بيديها ثم قالت: طارت كلها، ولم تبقَ واحدة منها، ولن تروا بعد ذلك مَيْنات، سترونني أنا، أنا واحدة صفراء، وأنا مرتين خضراء، وأنا ثلاث مرات زرقاء فوقي بقع قرنفلية، أربعة مني في لون أحمر قانٍ، كأشد ما تكون الحمرة. وصفقت بيديها مرة أخرى وقالت: لقد ولَّوا جميعًا، وهذه المرة ترون السيدة نارايان مع ذلك الرجل العجيب صاحب الساق المتصلبة الذي جاء معها، أربعة من كل منهما، ويقفون في دائرة كبرى بالجيمنازيوم. إنهم الآن يرقصون رقصة الراكشاسي على المزمار ويُنشدون، اضربوا بأقدامكم، اضربوا بأقدامكم.

وقهقهوا جميعًا؛ لأن ويل المتعدد والمديرة المتعددة ظهروا قطعًا في صورة هزلية للغاية.

وطقطقت سوزيلا بأصابعها.

وقالت: أبعدوا هذه الصور عن أذهانكم! لقد اختفت! والآن كل منكم يرى ثلاثًا من أمهاتكم وثلاثة من آبائكم يَجْرون حول الملعب. إنهم يُسرعون في الجري، وفجأة يختفون، ثم يظهرون، وبعد لحظة لا ترونهم. إنهم هناك. إنهم ليسوا هناك، هناك، لا …

وتحوَّلت القهقهة إلى ضحك متواصل. وعندما بلغ الضحك أقصاه دق الناقوس، وانتهى درس مبادئ علم النفس العملي.

وبعدما انصرف الأطفال إلى اللعب وعادت السيدة نارايان إلى مكتبها سأل ويل: ما مغزى هذا كله؟

أجابت سوزيلا: المغزى هو أن نجعل الناس يدركون أنهم ليسوا تحت رحمة الذاكرة أو التصورات الخيالية كليةً. فإذا اضطرب المرء لما يجري في رأسه استطاع أن يفعل شيئًا للتخلص من هذا الاضطراب. الأمر كله أن نعلِّمه ما يفعل ونمكِّنه بعد ذلك من الممارسة؛ وهي الطريقة التي يتعلم بها المرء كيف يكتب أو يعزف بالمزمار. هؤلاء الأطفال الذين رأيتهم كانوا يتعلمون طريقة غاية في البساطة؛ طريقة سوف ننميها فيما بعدُ حتى تصبح وسيلة للتحرر. ولن يكون التحرر كاملًا بطبيعة الحال. ولكن نصف الرغيف أفضل كثيرًا من انعدام الخبز. إن هذه الطريقة لن تسوقك إلى الكشف عن طبيعتك البوذية، ولكنها تعينك على الاستعداد لهذا الكشف؛ تعينك بتحريرك من مطاردة ذكرياتك الأليمة لك، ومطاردة الندم والقلق على المستقبل من غير مبرر.

قال ويل: صدقت، وأحسنت اختيار اللفظ حينما قلت: المطاردة.

– ليست المطاردة أمرًا محتومًا؛ فإن بعض الأشباح يمكن طردها بسهولة كبرى، كلما ظهر شبح منها عالجه بالخيال، وعامله كما تعاملنا مع تلك المَيْنات، ومعك ومع السيدة نارايان. غيِّر زيَّه وأعطِه أنفًا آخر، وعدِّده، ثم مُرْه بالانصراف، واستدعِه مرة أخرى واجعله يقوم بعمل يثير الضحك، ثم امحُه محوًا. تصوَّر ما كان بوسعك أن تفعله بأبيك لو كنت تعلمت قليلًا من هذه الحيل الصغيرة في طفولتك! لقد كنت تحسبه عملاقًا مخيفًا. ولكن ذلك لم يكن ضروريًّا. كنت تستطيع بخيالك أن تحوِّل هذا العملاق إلى صورة أخرى خيالية، بل إلى مجموعة من الصور الخيالية، فترى عشرين منها ترقص على كعوب أقدامها وتغني وتنشد: رأيت في المنام أني أقطن قاعات من المرمر. إن دراسة مختصرة في مبادئ علم النفس العملي كان من الممكن أن تجعل حياتك مختلفة كل الاختلاف.

وفكَّر ويل؛ وهما يتجهان نحو العربة الجيب التي كانت بانتظاره فيما كان يمكنه أن يفعل في حادث وفاة مولي. أيُّ طقوس كان يمكنه أن يمارسها بالتعاويذ الخيالية يطرد بها الأرواح الشريرة التي كانت تتلبس بها تلك الشيطانة البيضاء التي تعطرت بالمسك وجسَّدت رغباته المقيتة المسعورة؟

وبلغا عربة الجيب، وسلَّم ويل سوزيلا المفاتيح واستقر في مقعده بشيء من المشقَّة. واقتربت منهما عربة قديمة صغيرة من ناحية القرية محدِثة ضجيجًا عاليًا وكأنها تحت دافعٍ عصبي لتعوِّض حجمها الصغير. ودارت العربة على طريق سير العربات وهي ما تزال تقعقع وتهتز، وأخيرًا توقفت إلى جوار عربة الجيب.

والتفتا، وألفيا موروجان مطلًّا من نافذة العربة أوستن الملكية، ووراءه كانت تجلس الراني بحجمها الضخم مرتدية الموصلين الأبيض ومنتفخة كركام السحاب. وانحنى ويل في اتجاهها واستخرج منها ابتسامة غاية في اللطف، سرعان ما اختفت عندما التفتت إلى سوزيلا التي ردت الراني تحيتها بإيماءة بعيدة برأسها.

وسألها ويل في أدب جم: هل أنتم على سفر بالعربة؟

قالت الراني: حتى شيفا بورام فقط.

وأضاف إلى ذلك موروجان بشيء من مرارة النفس قائلًا: إذا استطاع هذا القفص الصغير المحطم أن يتماسك حتى هناك.

وأدار مفتاح الحرارة، وخرج من المحرك صوت أخير يشبه الفواق ثم توقف تمامًا.

وواصلت الراني حديثها قائلة: هناك قوم لا بُدَّ لنا من لقائهم. وبنغمة مفعمة بدلالات التآمر أضافت قولها: ولعل من الأصح أن أقول إن هناك شخصًا واحدًا.

وابتسمت لويل وكادت أن تغمز له بعينها.

وزعم ويل أنه لم يدرك أنها تتحدث عن باهو، وعلَّق بقوله: صدقت. دون أن يلتزم برأي ما، وأشفق عليها من الجهد والقلق اللذين لا بُدَّ أن يقتضيهما الحفل الذي يقام في الأسبوع القادم بمناسبة بلوغ موروجان سن الرشد.

وقاطعه موروجان بسؤاله: ماذا تفعل هنا؟

– قضيت بعد الظهر مهتمًّا اهتمامًا عميقًا بالتربية في بالا.

ورددت الراني العبارة الأخيرة فقالت: التربية في بالا.

ومرة أخرى قالت بنغمة حزينة وبفاصل بين الكلمتين: التربية، في بالا. وهزت رأسها.

قال ويل: أنا شخصيًّا أُعجبت بكل ما رأيت وسمعت عنها؛ من المستر مينون والمديرة حتى الدرس في مبادئ علم النفس العملي كما تعلمه السيدة ماك فيل، محاولًا بهذه الأخيرة أن يستدرج سوزيلا إلى الحديث.

وأشارت الراني بإصبع الاتهام الغليظة إلى الفراغات التي ظهرت في الحقول السفلية، وما زالت تتجاهل سوزيلا عن عمد.

وسألت: هل رأيت هذه يا مستر فارنبي؟

وكان قد رآها فسألها: وأين في غير بالا يجد المرء فزَّاعات جميلة، قديرة، ولها دلالتها الميتافيزيقية في آنٍ واحد؟

قالت الراني بصوت يتهدج من الشعور بالسخط والاكتئاب: وهذه الفزَّاعات لا تُفزع الطيور فتُبعدها عن الأرز فحسب، بل تفزع كذلك الأطفال وتبعدهم عن فكرة تجسيد الآلهة. ورفعت رأسها وقالت: استمع!

وكان قد انضم إلى كريشنا وماري ساروجيني خمسة أو ستة أصحاب، وكلهم يلعب بشد الخيوط التي تهز العرائس الخارقة للطبيعة. وصدرت عن المجموعة أصوات عالية تُغني سويًّا.

وعندما تكرَّر الغناء للمرة الثانية تبيَّنت كلمات الأنشودة لويل. كانوا ينشدون:

شدوا هيا شدوا،
بالإرادة القوية شدوا،
الأرباب تهتز،
والسماء في مكانها ثابتة.

قال: برافو. ثم ضحك.

وقالت الراني منفعلة: هذا لا يسرني، ولا يُضحكني، إنها مأساة، وأي مأساة.

وأصر ويل على موقفه وقال: أنا أعلم أن هذه الفزَّاعات الفاتنة كانت من اختراع جد موروجان.

قالت الراني: كان جد موروجان رجلًا يدعو للإعجاب، غاية في الذكاء، وبنفس الدرجة غاية في الانحراف؛ مواهبه عظيمة، ولكن للأسف، يستخدمها في الشر والإيذاء! وأسوأ من هذا كله أنه كان مليئًا بالروحانية الكاذبة.

– الروحانية الكاذبة؟ شخَص ويل ببصره نحو أضخم نموذج للروحانية الصادقة، ومن خلال الرائحة الأخاذة لمنتجات البترول استنشق رائحة خشب الصندل التي تُشبه رائحة البخور التي ينفثها العالم الآخر. الروحانية الكاذبة؟

وفجأة ألفى نفسه في حالة من التعجب — وتخيَّل وقد أخذته الرِّعدة — على أية صورة تكون الراني إذا هي تجردت فجأة من صفتها الصوفية وتعرضت عارية للضوء بكل ضخامتها وشحمها. والآن تخيَّل هذا الجسم البدين العاري مضروبًا مرة في ثلاثة، ثم مرتين، ثم عشر مرات؛ لقد طبق السيكولوجيا العملية التطبيقية بروح الانتقام!

وأخذت الراني تكرِّر قولها: نعم، الروحانية الكاذبة. يتحدث عن التحرر، ولكنه — بسبب رفضه العنيد لاتباع الطريق الحق — يعمل دائمًا لمزيد من العبودية، ويمثل دور المتواضع. ولكن في قلبه كل الكبرياء — يا مستر فارنبي — حتى لقد رفض أن يعترف بأية سلطة روحانية أعلى من سلطته. السادة، تجسُّد الآلهة، والتقاليد الموروثة العظمى؛ كل ذلك ليس له عنده معنًى؛ ومن ثَمَّ كانت هذه الفزَّاعات المخيفة؛ ومن ثَمَّ كان نشيد الكفر الذي تعلَّم الأطفال التغني به. إنني حين أفكر في هؤلاء الصغار المساكين الأبرياء وكيف يزجُّ بهم عمدًا على طريق الانحراف أكاد لا أطيق نفسي يا مستر فارنبي، وأجد …

قال موروجان الذي كان ينظر في قلق وبشكل واضح إلى ساعة معصمه، اسمعي يا أمي. إذا أردنا أن نعود على وقت العشاء؛ فالأفضل أن ننصرف الآن.

وكان يتكلم بنغمة السلطة الجافة. وأحس بصورة واضحة وهو يمسك بعجلة قيادة السيارة — على الرغم من أنها أوستن قديمة صغيرة — أنه أضخم حقًّا من حقيقته. وأدار محرِّك السيارة دون أن ينتظر من الراني ردًّا، وزاد من سرعتها تدريجيًّا ولوَّح بيده ثم انطلق.

قالت سوزيلا: تخلصنا تخلصًا حسنًا.

– ألا تحبين مليكتك العزيزة؟

– إن دمي يغلي منها.

وأنشد ويل: اضربي بقدمك. ساخرًا منها.

قالت: صدقت. وهي تضحك. ولكن لسوء الحظ ليس من المعقول في هذه المناسبة أن ترقص رقصة الراكشاسي على المزمار. وتألَّق وجهها فجأةً بنار الشر، وبغير إنذار لكمته في أضلعه لكمة قوية تدعو إلى العجب وقالت: الآن أحس أنني مرتاحة.

١  الفزَّاعة: ما يُنصب في المزرعة لتخويف الطير. (المترجم)
٢  إحدى روائع الفاتيكان، وهي الكنيسة الخاصة بالبابوات، شُيدت في عام ١٤٧٣م. (المترجم)
٣  شاعر رومانتيكي إنجليزي. (المترجم)
٤  رجل إنجليزي من رجال الدين عاش في القرن السابع عشر وله شعر صوفي. (المترجم)
٥  عالم فرنسي في الطبيعة والرياضيات (١٧٥٥–١٨٣٦م). (المترجم)
٦  عالم ألماني في الرياضيات والفلك (١٧٧٧–١٨٥٥م). (المترجم)
٧  مزامير هندوكية. (المترجم)
٨  الشخص الذي يؤجل قيامه بدور بوذا لكي يساعد غيره من الناس. (المترجم)
٩  ربات الأمومة والأنوثة في الهندوكية. (المترجم)
١٠  السعادة القصوى في البوذية التي تتخطى الألم عن طريق قتل الشهوات ونسيان الواقع الخارجي. (المترجم)
١١  يقصد جمهورية أفلاطون. (المترجم)
١٢  طقوس إغريقية قديمة كانت تؤدى بمصاحبة الرقص والموسيقى. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤