الفصل التاسع

– حب الوطن وحده لا يكفي. وأي شيء آخر وحده لا يكفي. العلم لا يكفي، والدين لا يكفي، والفن لا يكفي، والسياسة والاقتصاد وحدهما لا يكفيان، وكذلك الحب لا يكفي، والواجب لا يكفي، والعمل وحده لا يكفي مهما تنزَّه صاحبه عن الهوى، وكذلك التأمل وحده — مهما سما — لا يكفي، لا يغني إلا كل شيء.

ومن بعيد صاح الطائر: انتباه!

ونظر ويل في ساعته. كانت الثانية عشرة إلا خمسًا، فأغلق كتاب «حقائق الأشياء»، وتناول عصا الخيزران ذات الطرف المدبب التي كانت فيما مضى مِلكًا لديوجولد ماك فيل وسار بها لكي يحافظ على موعده مع فيجايا والدكتور روبرت. ولا يبعد المبنى الرئيسي لمحطة التجارب عن منزل الدكتور روبرت أكثر من ربع ميل إذا هو سلك الطريق المختصر. وكان اليوم شديد الحرارة، وكان عليه أن يتغلب على مشقة الهبوط على مجموعتين من درجات السُّلَّم. والرحلة شاقة بالنسبة لرجل في دور النقاهة، ساقه اليمنى في الجبيرة.

وشقَّ ويل طريقه في بطء وبشعور من الألم على الطريق الملتوي وفوق درجات السُّلَّم. وفي أعلى المجموعة الثانية من الدرجات توقَّف ليلتقط أنفاسه ويمسح جبينه، والتزم الجدار حيث كان إلى جواره شريط ضيق من الظل، وسار نحو لوحة كُتب عليها: «المعمل».

وكان الباب الذي يقع تحت اللوحة منفتحًا إلى نصفه، فدفعه ليتمَّ انفتاحه، وألفى نفسه على عتبة حجرة طويلة سقفها مرتفع. وكانت هناك الأحواض وطاولات العمل المعتادة، والدواليب ذات الأوجه الزجاجية المألوفة مليئة بالزجاجات والمعدات، وروائح الكيماويات المعتادة، وكذلك الفئران في الأقفاص. وتصوَّر ويل لأول وهلة أن الغرفة خالية من السكان؛ ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ فقد كان موروجان الشاب جالسًا عند إحدى المناضد مستغرقًا في القراءة وتكاد تخفيه عن الأنظار خزانة كتب تبرز من الحائط بزاوية قائمة، وولج ويل الغرفة وهو أشد ما يكون هدوءًا؛ لأن مما يسرُّه دائمًا أن يفاجئ غيره من الناس، وغطى على صوت مَقدمه أزيز مروحة كهربائية، ولم يتنبه موروجان إلى وجوده إلا بعدما أصبح على قيد بضع أقدام من خزانة الكتب. وفزع الفتى كأنه مذنب، وألقى كتابه بعجلة المذعور في حقيبة من الجلد، ومد يده نحو كتاب آخر أصغر حجمًا كان مفتوحًا على المنضدة إلى جوار الحقيبة، وجذب إليه الكتاب حتى أصبح على بُعد القراءة، عندئذٍ فقط لفت وجهه نحو الشخص الدخيل.

وطمأنه ويل بابتسامة منه وقال له: هذا أنا.

واستبدل الفتى بنظرة التحدي الغاضبة نظرة الارتياح وبادر بقوله: ظننته … ولم يُتم العبارة.

– ظننته شخصًا جاء ليؤنِّبك على إهمالك في أداء ما كان مفروضًا عليك أن تؤديه؛ أليس كذلك؟

وكشر موروجان وأومأ برأسه ذي الشعر المجعد.

وسأل ويل: أين الآخرون؟

فردَّ بنغمة تنمُّ عن الازدراء: في الحقول؛ يشذبون النبات أو يلقحونه أو ما إلى ذلك.

– غاب القط فلعب الفأر! ماذا كنت تقرأ بكل هذا الاهتمام؟

وبمكرٍ بريء رفع موروجان الكتاب الذي كان يتظاهر بقراءته وقال: مبادئ علم البيئة.

قال ويل: سألتك ماذا كنت تقرأ؟

فهز موروجان كتفيه وقال: هذا. إنه لا يهمك.

وأكد له ويل: إنني أهتم بأي شيء يحاول صاحبه أن يخفيه. هل هو من الأدب المكشوف؟

وكف موروجان عن التمثيل، وبدا عليه فعلًا الشعور بالإساءة وقال: من ذا تظنني أن أكون؟

وكاد ويل أن يقول إنه يظنه من أوساط الفتيان، ولكنه تحكَّم في نفسه، فقوله: «أوساط الفتيان» قد يعني بالنسبة لصديق ديبا صاحب الوجه المليح إهانة أو تلميحًا؛ فبدلًا من ذلك انحنى في احترام زائف وقال: عفوًا يا صاحب الجلالة. ثم أضاف بنغمة أخرى: ولكني لا زلت توَّاقًا إلى المعرفة. ووضع إحدى يديه على الحقيبة المنتفخة وقال: هل لي …؟

وتردد موروجان لحظة، ثم اضطر إلى الضحك، وقال: استمر.

وأخرج ويل المجلد الضخم من الحقيبة ووضعه على المنضدة وقال: يا له من كتاب ضخم! وقرأ بصوت مرتفع: سيرز وروبك وشركاؤهما، كتالوج الربيع والصيف.

قال موروجان معتذرًا: إنه كتالوج العام الماضي. ولكني لست أحسب أن تغيرًا كبيرًا قد حدث منذ ذلك الحين.

وقال له ويل مؤكِّدًا: في هذا أنت مخطئ. إذا كانت الطرز لا تتغير تمامًا كل عام امتنع السبب في شراء أشياء جديدة قبل أن يبلى القديم. أنت لا تعرف المبادئ الأولى للاستهلاك. وفتح الكتاب حيثما اتفق وقرأ: «حمالات ناعمة للأحجام الكبيرة»، ثم فتح صفحة أخرى ووجد وصفًا وصورة لصدرة قرنفلية اللون من الداكرون والقطن للسيدات، وفتح صفحة أخرى ووجد ما سوف تلبسه صاحبة الصدرة بعد عشرين عامًا (ولنذكر أننا جميعًا سوف نموت)؛ إزار أمامي يضبطه حزام، ومكوَّر بشكل يسند البطن المتدلية.

قال موروجان الكتاب لا يشوق حقًّا إلا في نهايته، وبه ألف وثلاثمائة وثمان وخمسون صفحة. وبعبارة معترضة أضاف: تصوَّر! ألف وثلاثمائة وثمان وخمسون صفحة!

وقفز ويل إلى ما بعد سبعمائة وخمسين صفحة.

وقال: هذا مثال طيب؛ المسدس والأوتوماتيك المعروف عندنا قوة ٠٫٢٢ وبعد بضع صفحات أخرى وجد الزوارق المصنوعة من ألياف الزجاج، والآلات ذات الدفع الداخلي القوي، وآلة خارجية قوة ١٢ حصانًا بمبلغ ٢٣٤٫٩٥ دولارًا بما في ذلك فنطاس الوقود. هذه أثمان منخفضة بشكل غير عادي!

ولكن من الواضح أن موروجان لم يكن ملَّاحًا. فتناول الكتاب وقلَّب عشرات الصفحات الأخرى بقلق شديد وقال: انظر إلى هذا الطراز الإيطالي لدراجة ذات رجل واحدة! وتطلَّع إلى الكتاب ويل، وقرأ موروجان بصوت مرتفع: عداد السرعة الأملس هذا يمكن أن يعطيك سرعة مقدارها ١١٠ ميلًا لجالون الوقود الواحد، تصوَّر!

وتغيَّر وجهه العابس إلى وميضٍ من الحماسة الشديدة وأضاف: ويمكنك أن تسير بسرعة ستين ميلًا للجالون حتى بهذا الموتوسيكل الذي تبلغ قوته ١٤٫٥ حصانًا. ويضمنون لك خمسة وسبعين ميلًا في الساعة؛ مضمونة!

قال ويل: رائع! وفي شغف شديد سأل: هل بعث إليك أحد من أمريكا بهذا الكتاب الفاخر؟

وهز موروجان رأسه وقال: أعطاني إياه الكولونيل ديبا.

– الكولونيل ديبا! يا لها من هدية عجيبة من هادريان إلى أنطونيوس! ونظر مرة أخرى إلى صورة الموتوسيكل ثم إلى وجه موروجان المشرق، وأشرقت عليه الحقيقة، واتضحت له أغراض الكولونيل: «أغوتني الأفعى فأكلت.» إن الشجرة القائمة وسط الحديقة هي شجرة السلع الاستهلاكية، وأدنى تذوُّق لثمارها، بل ومنظر صورها في ألف وثلاثمائة وثمان وخمسين صفحة — بالنسبة للسكان في كل جنة عدن من جنات الدول النامية — له من التأثير ما يجعلهم يعلمون — على استحياء — أنهم من الناحية الاقتصادية عراة كما ولدتهم أمهاتهم. إن الكولونيل بفعله هذا جعل راجا بالا المقبل يتأكد أنه لا يرتفع عن مستوى حاكم عارٍ تمامًا على قبيلة من القبائل الهمجية.

وقال ويل بصوت مرتفع: ينبغي لك أن تستورد مليونًا من هذه الكتالوجات وتوزعها على رعاياك؛ مجانًا بطبيعة الحال مثل موانع الحمل.

– لماذا؟

– لكي تُسيل لعابهم على الامتلاك، وبعدئذٍ تراهم صائحين يطلبون التقدم؛ آبار البترول، السلاح، جو ألديهايد، والتقنيين السوفييت.

وقطب موروجان جبينه وهز رأسه: إن هذا لا ينفع.

– تعني أن ذلك لا يغريهم؟ ولا حتى مؤشرات السرعة الملساء وصدرات الأثداء القرنفلية؟ غير معقول!

وقال موروجان بمرارة: قد يكون غير معقول، ولكنها الحقيقة. إنهم لا يَعبئُون.

– حتى الشباب؟

– بل والشباب بوجه خاص.

وأرهف ويل فارنبي السمع؛ فلقد كان عدم الاكتراث هذا أمرًا شائقًا جدًّا، وسأله: هل تقدِّر السبب؟

وأجاب الفتى: أنا لا أقدِّره، بل أعلمه. وبدأ يتكلم بنغمة تنمُّ عن الاستنكار الحق، نغمة كانت لا تتفق أبدًا مع سنِّه ومظهره، وكأنه قرر فجأة أن يحاكي أمه. قال: أولًا، الناس هنا منشغلون جدًّا ﺑ… وتردد في إكمال العبارة. ولكن الكلمة الممقوتة خرجت همسًا من بين شفتيه مع تأكيد يثير الاشمئزاز: «بالجنس.»

– ولكن كل امرئ مشغول بالجنس، ولا يمنعهم ذلك من السعي وراء مؤشرات السرعة كالبغايا.

وقال موروجان مؤكِّدًا: ولكن الجنس مختلف هنا.

وسأله ويل وقد تذكَّر الوجه الطروب للممرضة الصغيرة: ذلك بسبب يوجا الحب؟

وأومأ الفتى برأسه إيجابًا وقال: عندهم شيء يجعلهم يظنون أنهم في منتهى السعادة، وهم لا يريدون شيئًا آخر.

– يا لها من حالة سعيدة.

قال موروجان وقد طقطق بأصابعه: ليس في الأمر ما يُسعد؛ الأمر كله غباء ويدعو إلى الاشمئزاز. لا تُقدِم، الأمر كله جنس في جنس في جنس. ثم هناك أيضًا ذلك المخدِّر الملعون الذي يتعاطونه جميعًا.

وأعاد ويل الكلمة في دهشة: مخدر؟ مخدر في مكان قالت سوزيلا إنه ليس به مدمون؟ أي نوع من أنواع المخدرات؟

وأجاب في صيغة فكهة يحاكي بها نغمة الراني المتذبذبة حينما تثار روحانيها، قال: إنه مصنوع من نوع من أنواع الفطريات السامة.

– تلك الفطريات الحمراء الجميلة التي تعوَّدت أن تجلس فوقها الأقزام الذين يحرسون كنوز الأرض؟

– لا، هذه الفطريات صفراء اللون. وقد اعتاد الناس أن يخرجوا لجمعها من الجبال. أما اليوم فهي تنمو في أحواض خاصة بالفطر بمرتفعات محطة التجارب، إنه مخدر يزرع بطريقة علمية. شيء جميل. أليس كذلك؟

وانفتح الباب محدِثًا صوتًا، وسمعت ضجة ووقع أقدام تقترب من الردهة، وفجأة اختفت روح الراني الساخطة (التي تقمصها)، وعاد موروجان مرة أخرى ذلك التلميذ حي الضمير الذي حاول خفية أن يستر مظاهر انحرافه. وفي لمح البصر حل كتاب «مبادئ علم البيئة» محل مجلد «سيرز وروبك» واختفت تحت المنضدة الحقيبة المنتفخة المريبة. وبعد لحظة دخل فيجايا الغرفة يذرعها بخطواته عاريًا إلى وسطه، لامعًا كالبرنز الممسوح بالزيت، يتصبب منه عرق العمل في شمس الظهيرة، وسار من خلفه الدكتور روبرت. ورفع موروجان بصره من كتابه وعليه سيما الطالب النموذجي الذي قاطعه أثناء القراءة من انتهك حرمة المكان من العالم الخارجي الطائش. وبسرور بالغٍ أخذ ويل لتوِّه يؤدي بكل إخلاص ذلك الدور الذي وُكل إليه أن يؤديه.

وعندما تقدَّم إليه فيجايا معتذرًا عن التأخير، قال: أنا الذي جئت إلى هنا مبكرًا؛ مما ترتب عليه أن صديقنا الصغير هنا لم يتمكن من متابعة دروسه؛ فقد كنا منهمكين في الجدل.

وسأل الدكتور روبرت: فيمَ؟

– في كل شيء، الكرنب، والملوك، والعجلات البخارية، والبطون المتدلية. وعندما جئتم كنا قد بدأنا الحديث في الفطر، وكان موروجان يحدثني عن الفطريات التي تُستخدم هنا مصدرًا للمخدرات.

وقال الدكتور روبرت ضاحكًا: هل يدل الاسم على شيء ما؟ الإجابة، أنه يدل على كل شيء. إن موروجان لسوء الحظ قد نشأ في أوروبا ولذلك يسميه المخدر وشعوره نحوه الاستنكار المطلق الذي تُثيره اللفظة القذرة، متأثرًا بالفعل المنعكس الشرطي. أما نحن — فعلى عكس ذلك — نطلق على هذه المادة أسماء طيبة؛ نقول عنها «عقار الموكشا»، والكاشفة عن الواقع، وأقراص الحق والجمال. وبالخبرة المباشرة نعلم أنها جديرة بهذه الأسماء الطيبة. أما صاحبنا الصغير هذا فليست لديه معرفة مباشرة بهذه المادة، ولم يمكن إغراؤه بأن يجربها، فهي عنده مخدر، والمخدر — بحكم تعريفه — شيء لا يتعاطاه شخص مهذب.

وسأل ويل: ماذا تقول في هذا يا صاحب السمو؟

هز موروجان رأسه وتمتم قائلًا: كل ما يعطيك إياه مجموعة من الأوهام. لست أدري لماذا أنحرف عن طريقي وأجعل نفسي أضحوكة؟

قال فيجايا ساخرًا متفهكًا: نعم لماذا؟ ولك أن تسأل لأنك في حالتك الطبيعية وحدك من بين أفراد الجنس البشري جميعًا الذي لا يستغفله أحد وليس لديك أوهام عن أي شيء!

واحتج موروجان قائلًا: إنني لم أقل ذلك قط، وكل ما قصدت هو أنني لا أريد ما عندكم من «سمادهي» زائف.

وسأل الدكتور روبرت: كيف عرفت أنه زائف؟

– لأن الشيء الحقيقي لا يأتي للناس إلا بعد سنوات وسنوات من التأمل و«التابا»١ وكذلك الامتناع عن النساء.

وتعليقًا على ذلك قال فيجايا لويل: إن موورجان بيوريتاني «متزمت»، يثور عندما يعلم أن أربعمائة مليجرام من عقار الموكشا في الدورة الدموية يجعل المبتدئين — حتى البنين والبنات الذين يمارسون الحب — قادرين على رؤية العالم كما يراه المرء إذا تحرر من استرقاق ذاته لنفسه.

قال موروجان مؤكِّدًا: ولكنه غير واقعي.

وردَّ عليه الدكتور روبرت بقوله: غير واقعي! إن ذلك بمثابة قولك إن تجربة الإحساس بسلامة الصحة غير واقعية.

واعترض على ذلك ويل بقوله: إنك تفترض سلفًا صدق ما تقول؛ لأن التجربة يمكن أن تكون واقعية بالنسبة لشيء يجري داخل جمجمة الرأس، ولكنها ليست كذلك بتاتًا بالنسبة لأي شيء خارجي.

ووافق الدكتور روبرت على ذلك وقال: طبعًا.

– هل أنت تعلم ما يجري بداخل جمجمتك عندما تتناول جرعة من الفطر؟

– نعرف القليل.

وأضاف على ذلك فيجايا: ونحن نحاول كل مرة أن نزداد معرفة.

قال الدكتور روبرت: لقد عرفنا مثلًا أن الناس الذين لا يُظهر رسم المخ عندهم حركة الموجة «أ» وهم في حالة استرخاء لا يُحتمل أن يستجيبوا لعقار الموكشا بدرجة محسوسة، ويمثل هؤلاء نحو خمسة عشر في المائة من السكان. ومعنى ذلك أن علينا أن نوفر لهم سبلًا أخرى للتحرر.

قال فيجايا: وثمت أمر آخر بدأنا ندركه، وهو علاقة الأعصاب بهذه التجربة. ماذا يحدث في المخ عندما تحدث الرؤية؟ وماذا يحدث عندما ينتقل المرء من حالة عقلية تسبق التصوف إلى حالة التصوف الحق؟

قال ويل: وهل تعرفون؟

– المعرفة كلمة ضخمة. يكفينا أن نقول إننا في وضع يمكننا من الحدس المعقول. الملائكة وصور جديدة لأورشليم وللعذراء ولأمثال بوذا الذين سوف يظهرون في المستقبل — كل هؤلاء — كل هؤلاء متصلون بنوع غير عادي من أنواع إثارة مناطق المخ التي تتصور الأفكار وكأنها حقائق موضوعية؛ اللحاء البصري مثلًا. ولا نعلم حتى الآن كيف يحدث عقار الموكشا هذه الإثارات غير العادية. المهم أنها تحدثها بطريقة ما، وبطريقةٍ ما تفعل شيئًا غير عادي في مناطق المخ الساكنة، المناطق التي لا تتعلق خاصةً بالرؤية أو الحركة أو الشعور.

واستفسر ويل: وكيف تتجاوب هذه المناطق الساكنة؟

– لنبدأ كلامنا بما لا تتجاوب معه هذه المناطق. إنها لا تتجاوب مع الرؤى أو المسموعات، ولا تتجاوب مع اتصال العقول أو رؤية ما يقع وراء نطاق البصر أو أي نوع من أنواع الأداء الذي يجاوز حدود النفس. لا شيء من المادة الممتعة التي تسبق التصوف. تجاوبها تجربة صوفية كاملة؛ الواحد في الكل والكل في الواحد. التجربة الأساسية وما يترتب عليها؛ الرأفة التي لا تُحَد، واللغز والمعنى الذي لا يُسْبَر غَوْرُه.

وقال الدكتور روبرت: وذلك بخلاف المتعة. المتعة التي يعجز عن وصفها التعبير.

قال ويل: والمجموعة كلها داخل الجمجمة.

– أمر خاص جدًّا، لا إشارة فيه لأي شيء خارجي سوى الفطر.

وقاطعه موروجان قائلًا: غير واقعي. وهذا بالضبط ما كنت أحاول أن أقوله.

قال الدكتور روبرت: أنت تفترض أن المخ يُحدِث الوعي. وأنا أزعم أن المخ ينقل الوعي. وليس شرحي أكثر بُعدًا في احتماله من شرحك. كيف يمكن أن يمارس المرء مجموعة من الأحداث التي تتعلق بعالم ما على أنها مجموعة من الأحداث متعلقة بعالم آخر مختلف تمامًا وغير متناسب معه. ليس هناك من لديه أدنى فكرة، كل ما يستطيع المرء أن يفعله هو أن يقبل الوقائع ويلفق الفروض. وكل فرض — من الناحية الفلسفية — له من الصلاحية ما لغيره من الفروض. أنت تقول إن عقار الموكشا يفعل شيئًا ما في المناطق الصامتة من المخ مما يجعل هذه المناطق تُنتج حوادث ذاتية يسميها الناس «تجربة صوفية». وأنا أقول إن عقار الموكشا يفعل شيئًا ما في المناطق الصامتة من المخ مما يفتح شيئًا يشبه صمام المخ فيسمح بقدر أكبر من «العقل العام» أن يتدفق في «عقلك الخاص»، وأنت لا تستطيع أن تُثبت صدق فرضك، وأنا لا أستطيع أن أُثبت صدق فرضي، وحتى إن استطعت أن تُثبت خطئي فهل يكون هناك فرقٌ عملي؟

قال ويل: كنت أحسب أن هناك فارقًا كبيرًا.

قال الدكتور روبرت: هل تحب الموسيقى؟

– أكثر من أي شيء آخر؟

– هل لي أن أسألك إلى أي شيء تُشير خماسية موزار؟ هل تشير إلى الله أو تاو أو إلى الشخص الثاني من الثالوث المقدَّس أو إلى أتمان براهمان؟

وضحك ويل وقال: أرجو ألا يكون هناك شيء من ذلك.

– ولكن ذلك لا يقلل مما تعطيه الخماسية لنا. الأمر شبيه بذلك فيما يتعلق بنوع التجربة التي تظفر بها من عقار الموكشا، أو من الصلاة والصيام والتدريبات الروحية. إنها قد لا تشير إلى شيء خارج عنها، ومع ذلك فهي أهم ما يحدث لك. إنها كالموسيقى ولكنها أقوى منها أثرًا. وإذا أنت أعطيت للتجربة فرصة، وإذا كنت على استعداد لأن تمارسها، فسوف تجد أن نتائجها أفعل علاجًا وأكثر قدرة على تشكيلك بدرجة لا تقارن. ربما كان كل شيء يحدث داخل الجمجمة، وربما كان خاصًّا بك وحدك، وربما لا تكون هناك معرفة موحَّدة لأي شيء سوى ما يحدث لوظائف أعضائك أنت. ماذا يهمنا في ذلك؟ الأمر الواقع هو أن التجربة تستطيع أن تفتح عينيك وتجعلك من المباركين وتقلب حياتك كلها. وسادت فترة طويلة من الصمت، واصل بعدها الحديث متوجهًا إلى موروجان: أحب أن أقول لك شيئًا، شيئًا لم يكن في نيتي أن أبوح به لأي إنسان. ولكني أشعر الآن أنه ربما كان عليَّ واجب إزاء العرش وإزاء بالا وكل ساكنيها؛ لزام عليَّ أن أحدِّثك عن هذه التجربة الخاصة. وربما كان حديثي عونًا لك لكي تكون أكثر تفهمًا لبلدك وطرائقها. وصمت لحظة، ثم واصل الحديث بنغمة هادئة تنمُّ عن الثقة التامة فيما يروي، قال: أعتقد أنك تعرف ما جرى لزوجتي.

وبوجهٍ لا يزال متجهًا وجهةً أخرى أومأ موروجان برأسه إيجابًا، وتمتم قائلًا: أسفت عندما نمى إليَّ أنها مريضة.

قال الدكتور روبرت: لم يعُد لها سوى بضعة أيام، أربعة أو خمسة على الأكثر، ولكنها لا تزال صافية الذهن، واعية تمامًا بما يحدث لها. بالأمس سألتني إن كنا نستطيع أن نتناول عقار الموكشا معًا. وفي جملة معترضة قال: وكنا نفعل ذلك من قبلُ مرةً أو مرتين كل عام خلال السبعة وثلاثين عامًا الماضية؛ منذ أن قررنا أن نتزوج، والآن مرة أخرى؛ للمرة الأخيرة، والأمر لا يخلو من مخاطرة لما قد يترتب عليه من إيذاء لكبدها. ولكنا قررنا أنه خطر يستحق أن نرتكبه. وكنا على حق كما تبيَّن فيما بعدُ؛ فإن عقار الموكشا — أو المخدِّر كما تحب أن تسميه — كاد ألا يصيبها بأي سوء، وكل ما حدث لها تحوُّل عقلي.

ثم صمت، وفجأة تنبَّه ويل إلى خمش الفئران المحبوسة في القفص وصريرها، كما تنبه من خلال النافذة المفتوحة إلى الجلبة التي تتميز بها الحياة في المناطق الاستوائية، وكذلك إلى نداء طائر بعيد من طيور المَيْنة، يصيح: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم، الآن، وفي هذا المكان …

وأخيرًا قال الدكتور روبرت: أنت مثل هذه المَيْنة؛ دُرِّبت على تكرار ألفاظ لا تفقه لها معنًى أو تُدرك لها مغزًى. لا تفتأ تكرر قولك: «غير واقعي، غير واقعي»، ولكنك إذا جربت ما فعلته أنا ولاكشمي بالأمس كنت أكثر من ذلك علمًا. كنت أكثر واقعية مما يدور في خلدك ومشاعرك في هذه اللحظة. كنت أكثر واقعية من العالم الذي تُبصره بعينيك. ولكن «هذا غير واقعي» هي العبارة التي تعلمت أن تُجريها على لسانك، «غير واقعي، غير واقعي». ووضع الدكتور روبرت إحدى يديه على كتف الفتى في عطف شديد، وواصل حديثه قائلًا: قيل لك إنا لسنا سوى مجموعة من متعاطي المخدرات المدمنين، نغوص في الأوهام والسمادير الكاذبة. اسمع يا موروجان: عليك أن تنسى كل ما نفخوه فيك من لغة باطلة. عليك أن تنساه على الأقل حتى تقوم بالتجربة مرة واحدة. خذ أربعمائة مليجرام من عقار الموكشا واكشف لنفسك بنفسك تأثيرها، وماذا تستطيع أن تنبئك به عن طبيعتك، وعن هذا العالم الغريب الذي يتحتم عليك أن تعيش فيه، وتتعلم فيه، وتكابد فيه، وأخيرًا تموت فيه. نعم؛ لأنه حتى أنت لا بُدَّ أن تموت يومًا ما؛ ربما بعد خمسين عامًا من اليوم، وربما غدًا، من ذا الذي يعلم؟! ولكنه لا بُدَّ حادث. ومَن لا يستعد لهذا اليوم رجل غافل. والتفت إلى ويل وقال له: هل تحب أن ترافقنا ونحن نستحمُّ ونرتدي الملابس؟

ولم ينتظر منه ردًّا وسارع إلى الخروج من الباب الذي ينفتح على الردهة الوسطى في البناء الطويل. والتقط ويل عصاه الخيزرانية وخرج من الغرفة في أثره مصاحبًا فيجايا.

وبعدما انغلق الباب خلفهما سأل فيجايا: هل تظن أن موروجان قد تأثر بهذا الكلام؟

وهز فيجايا كتفيه وقال: إني أشك في ذلك.

قال ويل: إنه بتأثير أمه وبشغفه بالآلات ذات الاحتراق الداخلي محصَّن ضد أي شيء مما تقولون. كم كنت أود لو أنك استمعت إليه وهو يتحدث في موضوع العجلات البخارية!

قال الدكتور روبرت وقد توقَّف عند باب أزرق في انتظارهما لكي يرافقاه: سمعناه مرارًا وتكرارًا. عندما يبلغ سن الرشد ستصبح هذه العجلات قضية سياسية كبرى.

وضحك فيجايا وهو يقول: أن تركب العجلة أو لا تركبها، هذه هي المشكلة.٢

وأضاف الدكتور روبرت: إنها ليست مشكلة في بالا وحدها، إنها المشكلة التي لا بُدَّ أن تجد لها كل البلاد النامية حلًّا بطريقة ما.

قال ويل: والحل هو هو بعينه دائمًا. حيثما ذهبت — وقد طفت في كل مكان تقريبًا — وجدتهم يختارون ركوب العجلات بكل قلوبهم.

ووافقه فيجايا قائلًا: بغير استثناء. يحبون ركوب العجلات من أجل العجلات في حد ذاتها. لا يَعبئُون البتَّة بكل ما يتعلق باستكمال أنفسهم أو بتثقيفهم أو تحرُّرهم، ودعك من الصحة العامة أو السعادة.

قال الدكتور روبرت: في حين أننا قد اخترنا أن نكيِّف الاقتصاد والتكنولوجيا عندنا بما يناسب البشر؛ ولم نكيف البشر ليتقبلوا تكنولوجيا غيرهم واقتصادهم. إننا نستورد ما لا نستطيع أن نصنعه، ولكنا لا نصنع ولا نستورد إلا ما في وسعنا. وما بوسعنا لا يحدده فقط ما لدينا من الجنيهات والماركات والدولارات، وإنما يحدده كذلك وفي المقام الأول — وأؤكد ما في المقام الأول — رغبتنا في أن نكون سعداء وطموحنا إلى أن نكون إنسانيين بكل ما تعنيه الكلمة. والعجلات — كما قررنا بعدما بحثنا الأمر بكل دقة — من الأشياء العديدة التي ليست في وسعنا. وذلك أمرٌ سوف يتعلمه موروجان بعد مشقة لأنه لم يتعلمه — ولا يريد أن يتعلمه — بيسر وسهولة.

وسأل ويل: وما هي الطريقة السهلة الميسَّرة للتعلم؟

– التربية وكشف الحقيقة. وموروجان لم ينل هذه ولا تلك. بل قل إنه نال نقيضيهما؛ سوء التربية في أوروبا؛ مربية سويسرية، ومعلمون إنجليز، والصور المتحركة الأمريكية، والإعلانات العامة؛ وقد كانت روحانية أمه من النوع الذي أخفى عنه الحقيقة، ولا عجب بعد ذلك إذا كان قد شغف بالعجلات البخارية.

– ولكني علمت أن رعاياه لا يشغفون بها.

– وكيف يشغفون؟ وقد تعلَّموا منذ نعومة أظفارهم أن يكونوا على وعيٍ تام بالعالم، وأن يستمتعوا بهذا الوعي. وفوق ذلك رأوا العالم كما رأوا أنفسهم وغيرهم من الناس كما أضاءتهم وأظهرتهم كاشفات الحقيقة، مما ساعدهم بطبيعة الحال على أن يشتد وعيهم وأن تكون متعتهم قائمة على أساس من الإدراك، حتى لقد بدت لهم الأشياء العادية، والأحداث التافهة كالجواهر والمعجزات، نعم كالجواهر والمعجزات. وقد كرر العبارة للتأكيد ثم أضاف: وإذن لم تكن بنا حاجة إلى اللجوء إلى العجلات أو الويسكي أو التليفزيون أو بيلي جراهام أو أي شيء مما تستخدمونه ليصرف أذهانكم ويعوضكم.

واستشهد ويل بهذه العبارة: لا يُغني فعلًا إلا كل شيء. ثم قال: أنا أدرك الآن ما تحدَّث به راجا العجوز، إنك لن تكون اقتصاديًّا إلا إن كنت من علماء النفس الممتازين، ولن تكون مهندسًا ممتازًا إلا إن كنت من النوع الصحيح من الميتافيزيقيين.

قال الدكتور روبرت: ولا تنسَ العلوم الأخرى جميعًا؛ علم العقاقير، علم الاجتماع، علم وظائف الأعضاء. ولست بحاجة إلى ذكر علم الإنسان بنفسه نظريًّا وتطبيقيًّا، ونيوروثيولوجيًّا، وما وراء الكيمياء، والتصوف، والعلم الغائي. قال ذلك مشيحًا بوجهه كي يكون أكثر وحدةً وهو يفكر في لاكشمي وهي في المستشفى، وأضاف: والعلم الذي سوف نمتحن فيه إن عاجلًا أو آجلًا؛ أقصد الثانتولوجيا (علم الموت). وصمت برهةً ثم قال بنغمة أخرى: والآن دعنا نذهب لنغتسل. وفتح الباب الأزرق، وتقدَّمهم نحو حجرة الغيار وبها صفٌّ من الأدشاش وأحواض الغسيل في جانب، وفي الجانب الآخر صفوف من الصناديق المقفلة ودولاب كبير لتعليق الملابس.

واتخذ ويل له مقعدًا، وبينما كان رفيقاه يغتسلان في الأحواض واصل حديثه معهما.

سأل: هل يجوز لأجنبي ممن ساءت تربيتهم أن يجرِّب قرصًا من أقراص الحق والجمال؟

وكانت الإجابة سؤالًا آخر ألقاه الدكتور روبرت مستفسرًا: هل كبدك في حالة جيدة؟

– جيدة جدًّا.

– ويبدو أن انفصام الشخصية عندك خفيف؛ لذلك لا أرى مانعًا.

– وإذن أستطيع أن أقوم بالتجربة؟

– متى ما شئت.

واتجه نحو أقرب كشك من أكشاك الدش وفتح صنبور الماء، وفعل فيجايا مثل ما فعل.

ولمَّا خرجا من تحت الماء وبدأ كل منهما يجفف نفسه سألهما: أليس من المفروض أنكما من المثقفين؟

وأجاب فيجايا: نحن نقوم بعمل المثقفين.

– إذن لماذا كل هذه المشقة فيما تؤدون؟

– لسبب بسيط. كان عندي هذا الصباح قليل من وقت الفراغ.

قال الدكتور روبرت: وأنا كذلك.

– لذلك خرجتما إلى الحقول وقمتما بما قام به تولستوي. وضحك فيجايا قائلًا: يبدو أنك تتصور أننا نفعل ذلك لأسباب خلقية.

– أوليس كذلك؟

– كلا بالتأكيد، إنما أنا أقوم بعملٍ عضليٍّ لأن عندي عضلات، وإذا أنا لم أستخدم عضلاتي أُمسي قعيدًا بالعادة حادَّ المزاج.

قال الدكتور روبرت: بدون أي شيء بين لحاء المخ والأرداف، أو قل مع وجود كل شيء؛ ولكن في حالة من عدم الوعي والركود السام. المثقفون الغربيون جميعًا يدمنون الجلوس؛ ولذلك كان أكثركم عليلًا بدرجة منفِّرة. في الماضي كان الدوق نفسه يمشي كثيرًا، وكذلك كان الثري الذي يُقرض المال، والميتافيزيقي. وعندما لا يسيرون على الأقدام كانوا يهطعون على ظهور الخيل. أما اليوم فمن صاحب رأس المال إلى كاتبه على الآلة الكاتبة، ومن الوضعي المنطقي إلى المفكر الوضعي، الكل يقضي تسعة أعشار وقته فوق حشايا المطاط. مقاعد إسفنجية لأعجاز إسفنجية؛ في المنازل والمكاتب والعربات والبارات والطائرات والقطارات والأوتوبيس. لا تتحرك الأرجل، ولا كفاح مع المسافات أو مع الجاذبية؛ مجرد مصاعد وطائرات وعربات، ومقاعد من المطاط وجلوس دائم. كانت قوة الحياة تجد لها مخرجًا في العضلات المفتولة. أما اليوم فهي ترتد إلى الأحشاء والجهاز العصبي، وشيئًا فشيئًا تهدمها.

– ولذلك فأنتم ترون أن الحفر والتنقيب نوع من أنواع العلاج؟

– للوقاية؛ حتى لا تبقى للعلاج ضرورة. في بالا يخصص كل فرد ساعتين كل يوم للحفر والتنقيب، حتى الأستاذ، وحتى موظف الحكومة.

– كجزء من واجباته.

– وكجزء من متعته.

وامتعض ويل وهو يقول: لا يمكن أن يكون ذلك جزءًا من متعتي.

وشرح له فيجايا الأمر وقال: ذلك لأنك لم تتعلم أن تستخدم عقلك وبدنك في آن واحد بالطريقة الصحيحة. ولو أنك عرفت كيف تصنع الأشياء بالحد الأدنى من المجهود والحد الأقصى من الوعي استمتعت حتى بالعمل الشاق.

– أظن أن أطفالكم جميعًا يتدربون على ذلك.

– منذ اللحظة الأولى التي يبدءون فيها العمل بأنفسهم. ما هي — مثلًا — الطريقة الصحيحة التي تتناول بها نفسك وأنت تزرر ملابسك؟ وبدأ فيجايا يزرر قميصه الذي ارتداه، وجعل حركاته تتفق مع كلماته، وواصل حديثه قائلًا: نحن نجيب على هذا السؤال بأن نضع رءوسهم وأبدانهم فعلًا في أحسن وضع فسيولوجي. وفي نفس الوقت نشجعهم على أن يلحظوا مشاعرهم حينما تكون أبدانهم في أحسن وضع فسيولوجي، وأن يكونوا على وعي بما تتألف منه عملية الزر، من لمسات وضغوط وإحساسات عقلية. وإذا ما بلغ الطفل الرابعة عشرة يكون قد تعلَّم كيف يستغل كل نشاط يقوم به موضوعيًّا وذاتيًّا. عندئذٍ نعهد إليهم بالأعمال؛ ينفق كل منهم تسعين دقيقة كل يوم في عمل من الأعمال اليدوية.

– هذا عَودٌ إلى الأيام التي كان الأطفال فيها يعملون!

قال الدكتور روبرت: الأصح أن تقول هذا تقدُّم من هذا التعطل السيئ المستحدَث للأطفال. أنتم لا تسمحون لأطفالكم بالعمل؛ ولذلك تراهم يُنفقون نشاطهم في الانحراف أو يكبتون نشاطهم حتى يستعدوا لأن يصبحوا من مدمني القعود المستأنَسين. ثم قال: والآن، حان الوقت لكي ننصرف. سوف أتقدَّم لكي أُرشدكم إلى الطريق.

ولما ولجوا المعمل كان موروجان مشتغلًا بإغلاق حقيبته؛ لكي لا تتطلع إليها العيون المتطفلة. قال: أنا مستعد، وتأبَّط «العهد الأجد»٣ الذي يتألف من ألف وثلاثمائة وثمانية وخمسين صفحة، وتقفَّى أثرهم في ضوء الشمس. وبعد بضع دقائق، وهم مكدَّسون في عربة جيب قديمة، انطلق أربعتهم على طول الطريق الذي يؤدي إلى الطريق العام مارِّين بإصطبل العجل الأبيض، وبركة اللوتس، وتمثال بوذا الحجري الضخم، ومخترقين بوابة مجمع المحطة. وقال فيجايا وهم يُغِذُّون السَّير ويتخبطون في وعورة الطريق: آسف لأننا لا نستطيع أن نُمدكم بوسائل للنقل أكثر راحة.

وربَّت ويل على ركبة موروجان وقال: هذا هو الرجل الذي تقدم إليه اعتذارك، فهو يتحرق شوقًا للعربات الفاخرة، الجاجوار وثندربيرد.

ومن مقعده الخلفي قال الدكتور روبرت: أخشى أن يكون شوقًا يبقى دائمًا دون أن يحقق صاحبه الأمل المنشود.

ولم يعلق على ذلك موروجان بشيء ما، واكتفى بابتسامة ازدراء خفية يشير بها إلى أنه أكثر من ذلك علمًا.

وواصل الدكتور روبرت حديثه قائلًا: نحن لا يمكن أن نستورد اللعب. الضروريات فقط.

– مثل؟

– سوف ترى بعد لحظة. وسارا حول منحنًى، وشاهدوا تحت أبصارهم أسقفًا من الخوص وحدائق تظلِّلها الأشجار في قرية كبيرة. والتزم فيجايا جانب الطريق وأوقف المحرك، وقال: ما تشاهده هو روثامستد الجديدة، أرز وخضروات، وطيور، وفاكهة. هنا مصنعان للخزف ومصنع للأثاث؛ ولذلك ترى هذه الأسلاك. ولوَّح بيده نحو صفٍّ من أبراج الأسلاك الكهربائية التي تقع فوق منحدرٍ مدرَّج خلف القرية، وتختفي عن الأنظار عند قمة التل، ثم تظهر ثانيةً على بُعدٍ وترتفع من قاع الوادي التالي صوب حزام أخضر من غابة جبلية. مع ظهور القمم التي تكسوها السحب بعيدة مرتفعة، وأشار بإصبعه نحو بناء من الإسمنت بغير نوافذ يرتفع وسط البيوت الخشبية قريبًا من المدخل الأعلى للقرية بشكل غير ملائم وقال: هذا من الواردات التي ليس عنها غنًى؛ أجهزة كهربائية. وبعدما سخَّرنا مساقط المياه وعلَّقنا أسلاك الإرسال كان لدينا شيء آخر له أولوية قصوى.

سأل ويل: وما هو؟ هل هو نوع من أنواع الأفران الكهربائية؟

– لا، الأفران في الجانب الآخر من القرية. أما هذا فهو جهاز عام للتجميد.

وشرح ذلك الدكتور روبرت قائلًا: في الماضي كنا نفقد نحو نصف المواد القابلة للتلف مما ننتجه. أما الآن فنحن لا نفقد شيئًا قط. كل ما نزرع لنا وليس للبكتريا المحيطة بنا.

– ولذلك لديكم الآن ما يكفي للطعام.

– أكثر من الكفاية. طعامنا أفضل من طعام أي بلد آخر في آسيا، ولدينا فائض للتصدير. كان لنين يقول إن الكهرباء مع الاشتراكية تساوي الشيوعية. ولكن معادلتنا تختلف عن ذلك. فنحن نقول إن الكهرباء مطروحًا منها الصناعة الثقيلة مضاف إليها تحديد النسل تساوي الديمقراطية والوفرة. أما الكهرباء مضاف إليها الصناعة الثقيلة ومطروح منها تحديد النسل فتساوي البؤس والحكم الشمولي والحرب.

وسأل ويل: بهذه المناسبة، من يملك كل هذا؟ هل أنتم رأسماليون أو دولة اشتراكية؟

– لا هذا ولا ذاك. نحن في أكثر الأحيان تعاونيون. الزراعة في بالا كانت دائمًا تسوية الأرض وريُّها. ولكن التسوية والري تقتضيان الجهد المشترك والاتفاق الودي. المنافسة القاتلة لا تتفق وزراعة الأرز في بلد جبلي. وقد وجد القوم هنا أنه من السهل جدًّا الانتقال من التعاون المتبادل في مجتمع القرية إلى وسائل التعاون الميسرة في البيع والشراء والتمويل واقتسام الأرباح.

– حتى التمويل التعاوني؟

وأومأ الدكتور روبرت رأسه إيجابًا وقال: ليس عندنا أولئك المرابون مصاصو الدماء الذين تجدهم في كل أنحاء الريف الهندي. وليست لدينا بنوك تجارية على طريقة أهل الغرب. نظام الاقتراض والتسليف عندنا يسير وفقًا لنموذج اتحادات الائتمان التي أنشأها في ألمانيا ويلهلم ريفيش منذ أكثر من قرن. وقد أقنع الدكتور أندرو الراجا بدعوة أحد الشبان الذين يعملون في نظام ريفيش لزيارة بالا ووضع نظام تعاوني للبنوك. ولا يزال هذا النظام قائمًا ويعمل بنشاط.

وسأل ويل: وما هو النقد الذي تستعملونه؟

أدخل الدكتور روبرت يده في جيب سرواله وأخرج ملء راحته من الفضة والذهب والنحاس.

وأخذ يشرح قائلًا: بالا تُنتج الذهب بطريقة متواضعة؛ نستخرج من المناجم قدرًا يكفي لضمان العملة الورقية بالمعادن الثابتة، والذهب يُكمل صادراتنا. نستطيع أن ندفع نقدًا فوريًّا نظير المعدَّات المكلِفة كأسلاك الإرسال والمولدات الكهربائية التي شهدتها في الطرف الآخر.

– يبدو أنكم قد وجدتم حلًّا ناجحًا لمشكلاتكم الاقتصادية.

– لم يكن حل هذه المشكلات بالأمر العسير. فنحن أولًا لم نسمح لأنفسنا بأن ننجب أطفالًا أكثر مما نستطيع أن نطعم ونكسو ونأوي ونربي في سبيل الإنسانية الكاملة. ولما لم تكن لدينا زيادة في السكان كانت لدينا وفرة. وعلى الرغم من هذه الوفرة استطعنا أن نقاوم الإغراء الذي انساق له أهل الغرب؛ أعني الإغراء بالاستهلاك الزائد. لا يصاب أحدنا بالجلطة في الشريان التاجي لأنه يتعاطى من المواد الدهنية ستة أمثال ما يحتاج. ولا نخدع أنفسنا بالاعتقاد بأن اقتناء جهازين من أجهزة التليفزيون يضاعف من سعادتنا باقتناء جهاز واحد. وأخيرًا نحن لا ننفق ربع مجموع الإنتاج الوطني في الاستعداد لحرب عالمية ثالثة أو حتى لحرب صغرى تتولد عن الحرب العالمية، تكون الحرب المحلية رقم ٣٣٣٣. التسليح والقروض العالمية والتخطيط لإهمال القديم في سبيل الجديد؛ هذه هي الأعمدة الثلاثة التي تستند إليها الرفاهية في الغرب. لو أنكم ألغيتم الحروب والتبذير وإقراض المال انهارت مجتمعاتكم. وبينما أنتم تسرفون في الاستهلاك يزداد بقية العالم استغراقًا في النكبات المزمنة: الجهل، والروح العسكرية وزيادة النسل؛ هذه النكبات الثلاث وأخطرها زيادة النسل. ولا أمل ولا بارقة لإمكان حل المشكلة الاقتصادية حتى يكون ذلك محلًّا للتحكم. كلما زاد عدد السكان هبط مستوى الرفاهية. وبإصبع ممتدة أشار إلى المنحنى الهابط، ثم قال: وإذا هبط مستوى الرفاهية ساد السخط وعم العصيان (وارتفعت سبابته مرة أخرى وعاد يقول): ويسود الاستهتار السياسي، وحكم الحزب الواحد، والتعصب القومي والمَيل إلى القتال. وإذا استمرت الحال كذلك عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أخرى من الإنسال بغير حظر انتشر في العالم كله — من الصين إلى بيرو عبر أفريقيا والشرق الأوسط — ظهور الزعماء الذين يكرسون كل جهودهم لكبت الحرية، يسلحون بلادهم إلى الأذقان من روسيا أو أمريكا — وهو الأفضل — منهما معًا، يلوحون بالأعلام ويطالبون «بالمجال الحيوي».

وسأل ويل: وما هو الموقف في بالا؟ هل ترحبون بظهور زعيم قائد بعد عشر سنوات من الآن؟

أجاب الدكتور روبرت: لن يكون ذلك باختيارنا. لقد كنا دائمًا نبذل الجهد الممكن كله لكي نَحول دون ظهور الزعيم القائد.

ولاحظ ويل بطرف عينه أن موروجان يُبدي استنكاره واشمئزازه وسخطه؛ فقد كان أنطونيوس (يقصد موروجان) يرى نفسه بالتأكيد بطلًا من أبطال كارلايل. والتفت ويل إلى الدكتور روبرت.

وقال له: خبِّرني كيف استطعتم ذلك؟

أولًا نحن لا نخوض حروبًا ولا نستعد لها؛ ومن ثَمَّ فليست بنا حاجة إلى نظام التجنيد الإجباري، أو الرتب العسكرية أو القيادة الموحدة. وعندنا إلى جانب ذلك نظامنا الاقتصادي الذي لا يسمح لأحد أن يُثري أكثر من أربعة أو خمسة أضعاف المتوسط. ويعني ذلك أنه لا يظهر بيننا قادة في مجال الصناعة أو مموِّلون ذوو قدرات لا تُحَد. وأفضل من ذلك ليس لدينا ساسة أو بيروقراطيون ذوو قدرات لا تُحَد. بالا اتحاد من وحدات تحكم كل منها نفسها بنفسها؛ وحدات جغرافية، ووحدات مهنية، ووحدات اقتصادية؛ ومن ثَمَّ فالمجال متسع فسيح للمبادرات على نطاق ضيق، وللقادة الديمقراطيين، ولا يتسع المجال لأي نوع من أنواع الدكتاتورية التي تقوم على رأس حكومة مركزية. وثمة نقطة أخرى: ليست لدينا كنيسة معتمَدة، وديانتنا تؤكد التجربة المباشرة وتستنكر الاعتقاد في مبادئ لا يمكن إثباتها والمشاعر التي يثيرها هذا الاعتقاد؛ ولذلك فنحن في أمانٍ من أخطاء البابوية من ناحية، ومن التعصب الديني الرجعي من ناحية أخرى. ومع التجربة التي تُجاوز الواقع ندعو بانتظام إلى التشكك. نحث الأطفال على ألا يأخذوا الألفاظ مأخذ الجد، ونُعلمهم أن يحلِّلوا كل ما يسمعون أو يقرءون؛ ويشكِّل ذلك جزءًا لا يتجزأ من منهج الدراسة. والنتيجة أن مثيري الغوغاء من أمثال هتلر أو جارنا على الجانب الآخر من المضيق لا يجدون فرصة لهم هنا في بالا ولم يُطق موروجان كل هذا ولم يستطع أن يضبط نفسه فانفجر قائلًا: ولكن انظر إلى الطاقة التي يولدها الكولونيل ديبا في شعبه. انظر إلى إخلاصه وإلى تضحيته بنفسه. ليس عندنا هنا في بالا ما يشبه ذلك.

قال الدكتور روبرت: والحمد لله على ذلك.

وردد فيجايا قوله: الحمد لله.

واحتج الفتى قائلًا: ولكن هذا السلوك طيب، وأنا معجب به.

قال الدكتور روبرت: وأنا كذلك أعجب به إعجابي بالأعاصير. إن مثل هذه الطاقة وهذا الإخلاص وهذه التضحية بالنفس لا تتفق — لسوء الحظ — مع الحرية، بل ولا تتفق مع العقل أو مع الكرامة الإنسانية. والكرامة والعقل والحرية أمور تسعى بالا إلى تحقيقها منذ سَمِيِّك موروجان المصلح.

وأخرج فيجايا من تحت مقعده صندوقًا من الصفيح، وكشف غطاءه ثم وزع دورة من ساندوتشات الجبن والأفوكاته. وبعد ذلك أدار محرك السيارة وبيدٍ واحدة دفع العربة الصغيرة إلى الطريق، وكانت يده الأخرى مشغولة بالساندويتش وقال: يجب أن نأكل ونحن سائرون. ووجَّه الخطاب إلى ويل قائلًا له: غدًا أُطلعك على مناظر القرية، وأُطلعك على منظر آخر أروع منها، هو منظر أسرتي وهي تتناول طعام الغداء. أما اليوم فعندنا موعدٌ في الجبال.

ولمَّا اقتربوا من مدخل القرية ساق عربة الجيب في طريقٍ جانبي متعرِّج شديد الانحدار إلى أعلى بين حقول الأرز والخضروات ذات المصاطب، والتي تتخللها حدائق الفاكهة، وتحوطها هنا وهناك مزارع من أشجار صغيرة قال الدكتور روبرت إنها تُعَد لتمدَّ مصانع الورق في شيفا بورام بالمادة الخام.

واستوضحهم ويل سائلًا: كم صحيفة تؤيدها الحكومة؟ ودُهش عندما عرف أنها صحيفة واحدة، فسأل: مَن يحتكرها؟ الحكومة؟ الحزب الحاكم؟ المندوب المحلي لجو ألديهايد؟

وأكد له الدكتور روبرت أنها ليست حكرًا لأحدٍ، وأضاف قائلًا: للصحيفة مجلس من المحررين الذين يمثلون ستة أحزاب ومصالح مختلفة. وكل محرر له مساحة من الصحيفة محددة ينشر فيها تعليقه ونقده، بحيث يستطيع القارئ أن يوازن بين آرائهم ثم يكون له بعد ذلك رأيه الخاص. أذكر أنني صُدمت صدمة شديدة عندما اطلعت لأول مرة على إحدى صحفكم واسعة الانتشار، عناوينها منحازة. والتقارير والتعليقات لا تُمثِّل إلا جانبًا واحدًا باطراد، والشعارات والنداءات تحل محل الجدل والحُجة. الصحيفة لا تناشد العقل بصفة جدية، بل على العكس من ذلك تلمس جهدًا مطردًا لبث ردود أفعال مشروطة في عقول الناخبين — وما خلا ذلك أخبار عن الجرائم والطلاق والنوادر والهذر — أي شيء يصرف ذهن القارئ، وأي شيء يحول دون التفكير.

وواصلت العربة صعودها حتى بلغوا سلسلةً من التلال تقع بين منخفَضَين منحدرَين. وقد ظهرت في قاع ممرٍّ ضيق إلى يسارهم بحيرة تحفُّ بها الأشجار، وعلى يمينهم وادٍ أكثر اتساعًا يقع فيه مصنع ضخم بين قريتين تُظللهما الأشجار يشبه في تكوينه شكلًا هندسيًّا غير منتظم.

سأل ويل: مصنع إسمنت؟

وأومأ الدكتور روبرت برأسه إيجابًا وقال: الإسمنت صناعة لا غنى عنها. نُنتج منه كل حاجتنا وفائضًا للتصدير.

– وتمدُّه هاتان القريتان بالقوى العاملة؟

– في الفترات التي تتخلل الزراعة والعمل في الغابة ومصانع نشر الأخشاب.

– وهل ينفع عندكم نظام العمل بعض الوقت.

– تتوقف الإجابة عن هذا السؤال بما تعنيه بقولك: «ينفع». إن العمل بعض الوقت لا يؤدي إلى أقصى حد من الكفاءة. ولكن الكفاءة القصوى في بالا ليست أمرًا يُطلب لذاته كما هي الحال عندكم. أنتم تفكرون أولًا في الحصول على أضخم إنتاج ممكن في أقصر وقت ممكن. ونحن نفكر أولًا في الكائنات البشرية وسد حاجاتها. وتنقُّل المرء بين المهن لا يؤدي إلى أضخم إنتاج في أقل الأيام. ولكن أكثر الناس يؤثرون التنقل بين المهن على التزام عمل واحد طيلة الحياة. وإذا خُيِّرنا بين الكفاءة الآلية وإشباع الرغبات البشرية آثرنا الثانية.

وتطوع فيجايا بقوله: عندما كنت في العشرين من عمري كنت أعمل أربعة أشهر في مصنع الإسمنت هذا، وأقضي بعد ذلك عشرة أسابيع في صناعة الفوسفات الممتاز، ثم ستة أشهر في الغابة أقطع فيها الأخشاب.

– كنت تقوم بكل هذا العمل المضني!

وقال الدكتور روبرت: قبل ذلك بعشرين عامًا قمت بعمل في مصهر النحاس، وبعد ذلك حلا لي أن أعمل في البحر صائدًا للأسماك في أحد الزوارق. إن اختبار جميع أنواع العمل جزء من برنامج التعليم العام. الطالب يتعلم كثيرًا بهذه الطريقة؛ يعرف كثيرًا من الأشياء ومن المهارات والتنظيمات، وعن كل صنوف البشر وطرق تفكيرهم.

هز ويل رأسه وقال: ومع ذلك فإني أوثر أن أستمد المعرفة من الكتب.

قال الدكتور روبرت: ولكن ما تحصل عليه من الكتاب ليس ذات الشيء. ثم أضاف: كلكم في أعماقكم ما زلتم أفلاطونيين، تعبدون الكلمة وتمقتون المادة!

قال ويل: قل ذلك لرجال الدين. إنهم لا يفتئون يقرِّعوننا لأننا ماديون غلاظ.

ووافقه الدكتور روبرت قائلًا: نعم غلاظ، ولكن غلظتكم ترجع إلى أنكم ماديون غير أكْفاء. ماديتكم معنوية باعترافكم. أما نحن فيهمنا أن تكون ماديتنا محسوسة؛ فنحن ماديون على المستوى اللالفظي بالرؤية واللمس والشم، والعضلات المشدودة والأيدي المتسخة. المادية المعنوية كالمثالية المعنوية، كلاهما يجعل التجربة الروحية المباشرة في حكم المستحيل. واختبار صنوف العمل المختلفة بالمادية المحسوسة هو الخطوة الأولى التي لا غنى عنها في تربية الفرد لبلوغ الروحانية المحسوسة.

وعقب على ذلك فيجايا بقوله: ولكن حتى أشد الماديات محسوسية لا تبلغ بك شأوًا كبيرًا إذا كنت على وعي تام بما تعمل وما تمارس. ولا بُدَّ أن تكون مدركًا تمام الإدراك لجزئيات المادة التي تتناولها، والمهارات التي تمارسها، والأفراد الذين تعمل معهم.

قال الدكتور روبرت: هذا صحيح. وكان ينبغي أن أوضح أن المادية المحسوسة إن هي إلا المادة الخام للحياة الإنسانية الكاملة. وبالوعي، الوعي الكامل الدائم، نحوِّلها إلى روحانية محسوسة. إذا كنت على وعي تام بما تفعل، يصبح العمل هو يوجا العمل، ويصبح اللعب يوجا اللعب، وتصبح الحياة اليومية يوجا الحياة اليومية.

وتذكَّر ويل رانجا والممرضة الصغيرة وسأل: وما رأيكم في الحب؟

وأومأ الدكتور روبرت برأسه وقال: وهذا أيضًا، الوعي يغير طبيعته، ويجعل ممارسة الحب يوجا ممارسة الحب.

وحاكى موروجان أمه عندما يصدمها الرأي.

وقال فيجايا وقد رفع صوته لكي يمكن الاستماع إليه وسط الخشخشة التي تُحدثها العربة وهي تسير بأدنى سرعة لها عندما نقل محرك السرعة: ممارسة الحب وسيلة نفسية بدنية لبلوغ غاية تتجاوز الخبرة البشرية، وذلك — أولًا وقبل كل شيء — هو صميم كل أنواع اليوجا. ولكن أنواع اليوجا كذلك شيء آخر غير هذا. هي حيل للتعامل مع مشكلات السيطرة. وأعاد العربة إلى سرعة أكثر هدوءًا وأخفض صوته إلى نغمته الطبيعية وكرر قوله: مشكلات السيطرة، التي تُقابلها على كل مستوًى من مستويات النظم، كل مستوى؛ من الحكومات الوطنية إلى الحضانات والعروسين في شهر العسل؛ لأن الأمر لا يقتصر على تصعيب الأمور على كبار القادة، فهناك الملايين من صغار المستبدين والذين يضطهدون غيرهم، هناك كثيرون مثل هتلر وإن كانوا صامتين ولا يعلو لهم ذكر، هناك من هم أمثال نابليون في كل قرية، وأمثال كالفن، وتوركمادا٤ في كل أسرة. ولا أذكر قطاع الطرق والمتنمرين الذين بلغ بهم الغباء أن يَصِمَهم المجتمع بالإجرام. كيف تروض السطوة الكبرى التي تصدر عن أمثال هؤلاء وتجعلها تعمل بطريقة نافعة، أو على الأقل تحول دون أن تكون مصدرًا للأذى؟

قال ويل: هذا ما أريدك أن تخبرني به. من أين تبدءون؟

أجاب فيجايا: نبدأ من كل جهة في وقتٍ واحد. ولكن حيث إن المرء لا يستطيع أن يتحدث في أكثر من موضوعٍ واحدٍ في نفس الوقت، دعنا نبدأ بالحديث عن السيطرة من ناحية التشريح ووظائف الأعضاء. أرجو يا دكتور روبرت أن تُحدِّثه عن تناولك للموضوع من ناحيته الكيماوية الحيوية.

قال الدكتور روبرت: بدأت ذلك منذ نحو أربعين عامًا عندما كنت أدرس الطب في لندن. بدأت بزيارة السجون في عطلات نهاية الأسبوع وقراءة التاريخ كلما خلوت في المساء. وكرر قوله: التاريخ والسجون. ولقد كشفت عن العلاقة الوطيدة بينهما؛ سجل الجرائم والحماقات ومحن البشر (هكذا قال جيبون. أليس كذلك؟) والمكان الذي تئُول إليه الجرائم والحماقات التي لم تنجح لسوء حظ مرتكبيها بصورة ما. طالعت الكتب وتحدثت إلى السجناء، ووجدتني أسائل نفسي: أي صنوف البشر يصبح منحرفًا خطرًا؛ من كبار المنحرفين الذين وردَ ذكرهم في كتب التاريخ، وصغارهم؟ أي صنوف البشر تحركهم شهوة السلطة، والميل إلى التنمر والسيطرة؟ والمستهترون من الرجال والنساء الذين يعرفون ما يريدون ولا تَخِزُهم ضمائرهم إذا ألحقوا بغيرهم أذًى أو قتلوهم في سبيل تحقيق ما يريدون، والوحوش الذين يؤذون ويقتلون لا من أجل منفعة، وبغير مبرر؛ لأن الإيذاء والقتل من أسباب اللهو؛ من يكون هؤلاء؟ وكنت أناقش هذه المسائل مع الخبراء؛ من الأطباء وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع، والمعلمين. ولقد انتهى عهد مانتيجازا وجولتون،٥ وأكد لي الخبراء أن الإجابات الصحيحة لهذه الأسئلة لا تُلتمس إلا في الثقافة والاقتصاد والأسرة. والأمر كله يرجع إلى الأمهات وتربيتهن لأطفالهن، يرجع إلى التكييف في سن مبكرة وإلى البيئات التي تصدم العواطف. الأمهات والتربية الباكرة وما يحيط بالطفل من كلام فارغ؛ هذه كلها أمور هامة بشكل واضح. ولكن هل هي ذات الأهمية القصوى؟ لقد بدأت ألمس أثناء زيارتي للسجن أدلة على نوع من الأنماط في تكوين الأفراد، أو على الأصح على نوعين من أنماط التكوين؛ ذلك أن المنحرفين الخطرين ومثيري الشغب من محبي السلطة لا ينتميان إلى نوعٍ واحد. أكثرهم — كما بدأت أن أُدرك حتى في ذلك الحين — ينتمي إلى أحد نوعين متميزين متخلفين؛ فهناك «أصحاب العضلات» وهناك «أنماط بيتر بان». وقد تخصصت في النوع الثاني.

سأل ويل: تقصد الأولاد الذين لا يخرجون من دور الطفولة قط؟

– «قط» تعبير غير صحيح؛ ففي الحياة الواقعية ينتهي بيتر بان دائمًا بالنمو، وإن يكن نموه لا يأتي إلا متأخرًا؛ ينمو فسيولوجيًّا بدرجة أبطأ من سِنِي حياته.

– وماذا عن بيتر بان من الفتيات؟

– إنهن نادرات. أما الفتيان فتبلغ كثرتهم مبلغ حبات العُلَّيق، من بين كل خمسة أو ستة أطفال من الذكور تجد بيتر بان. ومن بين الأطفال المشكلين، والأولاد الذين لا يستطيعون القراءة، والذين لا يقبلون التعلم، ولا يصاحبون أحدًا، وأخيرًا يلجئون إلى الانحراف نحو أشكال العنف المختلفة، تجد من بين هؤلاء سبعة من كل عشرة — إذا أنت أخذت أشعة سينية لعظام المعصم — من طراز بيتر بان، والباقون من «أصحاب العضلات» بشكل ما.

قال ويل: إنني أحاول أن أجد مثالًا تاريخيًّا حسنًا لبيتر بان منحرف.

– لا تُمعن في التفكير. إن أحدثهم، وخير مثال لهذا الطراز وأضخم مثال، أدولف هتلر.

قال موروجان: هتلر؟! بنغمة المذهول؛ لأن هتلر كان بالتأكيد أحد أبطاله.

قال الدكتور روبرت: اقرأ تاريخ حياة الفوهرر. لو كان هناك بيتر بان واحد لكان هو؛ فاشل في المدرسة، عاجز عن المنافسة والتعاون على حد سواء، يحسد كل الأولاد الناجحين نجاحًا طبيعيًّا، يمقتهم لأنه يحسدهم، ولكي يرفع من معنويات نفسه يحتقرهم باعتبارهم كائنات أحط منه شأنًا. ولما بلغ الحُلُم كان عاجزًا جنسيًّا. كان غيره من الأولاد يتقدمون للبنات فيستجبن لهم. أما هو فقد كان خجولًا، شاكًّا في رجولته. كان عاجزًا دائمًا عن الاستمرار في أي عمل، ولا يطمئن إلا في عالم من الخيال يخلقه لنفسه على سبيل التعويض. عندئذٍ كان على الأقل مثل ميخائيل أنجلو، ولكنه — لسوء الحظ — لا يستطيع الرسم. مواهبه الوحيدة هي الحقد، والمكر الوضيع، ومجموعة من الأحبال الصوتية التي لا تكلُّ وقدرة على الكلام بغير توقُّف بأعلى صوته من أعماق جنونه بالعظمة الذي يماثل جنون بيتر بان. ثلاثون أو أربعون مليونًا من البشر لاقوا مصرعهم، والله أعلم كم بليون من الدولارات؛ هذا هو الثمن الذي دفعه العالم نظير تخلُّف أدولف هتلر في نضجه. ولحسن الحظ نجد أن أكثر الأولاد الذين يبلغون سن النضج ببطء شديد لا تتاح لهم فرصة لكي يكونوا شيئًا أكثر من صغار المنحرفين. ولكن حتى هؤلاء الصغار — لو كثر عددهم — يمكن أن يفرضوا علينا ثمنًا باهظًا؛ لذلك نحاول أن نكبتهم وهم في دور البراعم، أو على الأصح، ما دمنا نتحدث عن طراز بيتر بان، نحاول أن نجعل براعمهم المكبوتة تتفتح وتنمو.

– وهل تنجحون؟

أومأ الدكتور روبرت برأسه إيجابًا وقال: ليس الأمر عسيرًا، وبخاصة إذا بدأت في وقت مبكر. إذا بلغ الطفل عندنا أربعة أعوام ونصفًا أو خمس سنوات نفحصه فحصًا شاملًا. نُجري اختبارات معينة لدمه، ونُخضعه لاختبارات سيكولوجية، ونتعرف على تكوينه البدني، ثم نصوِّر معاصمهم بالأشعة السينية، ونرسم أدمغتهم، وبذلك نتعرف على أدق دقائق خصائص بيتر بان، ونبدأ في علاجهم علاجًا ملائمًا فورًا. وبعد عام واحد يصبحون جميعًا طبيعيين تمامًا. كم من بذور الفشل، والإجرام، والاستبداد، والسادية (حب إيذاء الغير)، وبغض البشر، والثورة من أجل الثورة، كم من المتصفين بهذه الرذائل حولناهم إلى مواطنين يمكن حكمهم بغير عقوبة وبغير حد السيف. أما عندكم فالانحراف لا يزال متروكًا لرجال الدين والمشرفين الاجتماعيين ورجال الشرطة. مواعظ لا تنتهي، وعلاج نفسي، وأحكام بالسجن لعدد من الناس لا يُحصى، وما هي النتيجة؟ إن نسبة الانحراف في زيادة مطردة. ولا عجب؛ إن الحديث عن التنافس بين الإخوة، وعن الجحيم، وشخصية يسوع لا تغني عن الكيمياء الحيوية، وسنة في السجن لا تعالج بيتر بان من اضطرابات إفرازات الغدد ولا تعين من كان بيتر بان على التخلص من النتائج النفسية؛ لأن انحراف أمثال بيتر بان لا يحتاج سوى التشخيص المبكر وثلاث كبسولات قرنفلية يوميًّا قبل كل وجبة. وإذا كانت البيئة محتملة كانت النتيجة تعقلًا هادئًا وشيئًا من الفضائل الأساسية في خلال ثمانية عشر شهرًا، وكذلك بالتأكيد فرصة طيبة للاتصاف في النهاية بالحكمة والرأفة، بعدما كان ذلك في حكم المستحيل فيما سبق. والآن سوف يحدِّثك فيجايا عن «أصحاب العضلات»، ولعلك لاحظت أنه واحد منهم. ثم انحنى الدكتور روبرت إلى الأمام وضرب على الكتف العريضة لهذا العملاق، وقال: لحمه كلحم البقر القوي. ومن حسن حظنا نحن أصحاب الأجسام الضعيفة أن الحيوان ليس متوحشًا.

ورفع فيجايا إحدى يديه عن عجلة القيادة، وضرب بها صدره، ورفع عقيرته في زئير وحشي قائلًا: لا تضايق الغوريلا. وضحك متفكهًا، ثم وجَّه خطابه إلى ويل قائلًا له: فكِّر في الدكتاتور الكبير الآخر، جوزيف فساريوفوفتش استالين. إن هتلر هو خير مثال لانحراف بيتر بان، واستالين خير مثال لانحراف أصحاب العضلات. إن شكله فرض عليه أن يكون منبسطًا، لا كالمنبسطين اللينيين الصرحاء الذين لا يُخفون ما في صدورهم ممن تعهدونهم، من أولئك الذين يحبون التجمع بغير تمييز. لا، إنه من أولئك المنبسطين الذين يدوسون غيرهم بالأقدام ويسوقونهم سَوق الأغنام. إنه من أولئك الذين تدفعهم طبائعهم دائمًا إلى القيام بعمل ما، لا تساوره قط الشكوك، أو وخز الضمير، أو العطف أو رقة الإحساس. وقد أوصى لينين خلفاءه أن يتخلصوا من استالين؛ فلقد كان الرجل مغرمًا بالسلطة مستعدًّا لإساءة استخدامها إلى أبعد الحدود. ولكن نصيحة لينين جاءت متأخرة؛ إذ كان استالين ثابتًا إلى حدٍّ يستحيل معه إخراجه. وبعد عشر سنوات أصبحت سلطته مطلقة، وكان تروتسكي قد سُحق تمامًا كما أُبعد كل أصدقائه القدامى، وأمسى كالإله تحفُّ به الملائكة مسبحة بحمده، منفردًا في سمائه الصغيرة الدافئة التي لا يسكنها إلا المنافقون والطائعون، مشتغلًا كل الوقت بلا هوادة يصفي الكولاك، وينظم المزارع التعاونية، ويبني صناعة السلاح، وينقل الملايين رغم إرادتهم من المزارع إلى المصانع. يعمل بجد وكفاءة وذهن واضح مما يعجز عنه تمامًا بيتر بان الجرماني بأوهامه الغامضة وحالاته العقلية المذبذبة. قارن بين استراتيجية استالين واستراتيجية هتلر في المرحلة الأخيرة من الحرب، تجد الحساب الهادئ قائمًا إلى جوار أحلام اليقظة التعويضية، والواقعية الواضحة إلى جانب الهراء الطنان الرنان الذي أخذ هتلر في النهاية يكرره ويكرره حتى آمن به. هذان وحشان، كلاهما منحرف بدرجة متساوية، ولكنهما مختلفان في المزاج كل الاختلاف، وفي الدافع اللاشعوري، ثم في الكفاءة. إن مَن هم على شاكلة بيتر بان يفلحون تمامًا في إثارة الحروب والثورات. ولكن أصحاب العضلات وحدهم هم الذين يستطيعون أن يسيروا بهذه الحروب والثورات إلى النتائج الناجحة.

ثم غيَّر فيجايا نغمته وأشار بيده نحو تلٍّ مرتفع تكسوه الأشجار يعترض مواصلة الصعود وقال: هذه هي الغابة.

وبعد لحظة خرجوا من وهج التل المكشوف ودخلوا نفقًا ضيقًا من الشفق الذي تلوِّنه خضرة الشجر يتلوى إلى أعلى بين جدران من الخضرة الاستوائية. وتدلَّت النباتات المتسلقة من الأغصان التي ناءت بحملها. وبين جذوع الشجر كان ينمو الخنشار والخنجل ذو الأوراق الداكنة وسط الشجيرات والأعشاب الكثيفة التي لم يألفها ويل ولم يعرف أسماءها وهو يتلفَّت حواليه. وكان الجو رطبًا خانقًا تشم فيه رائحةً لاذعة هي رائحة النباتات الغزيرة الخضراء ورائحة التعفن كذلك. ووسط أوراق النبات الكثيفة التي أحاطت بويل من كل جانب، طرق أذنه وقْع فئوس من بعيد وصوت منشار يتكرر تكرارًا إيقاعيًّا. وانحنى الطريق مرة أخرى وفجأة بدَّد ضوء الشمس ذلك الظلام الأخضر؛ فلقد بلغوا مكانًا خاليًا في الغابة. كان هناك ستة من قاطعي الأخشاب قاماتهم مرتفعة وأكتافهم عريضة يكادون لا يتسترون بثياب منشغلون بتشذيب الأغصان من شجرة سقطت لتوِّها. وفي ضوء الشمس شوهدت مئات من الفراشات ذات اللون الأزرق والأرجواني يطارد بعضها بعضًا، تُرفرف بأجنحتها وتُحلق راقصة حيثما اتفق إلى ما لا نهاية. وفي الجانب الآخر من الأرض الفضاء كان رجل عجوز إلى جوار نار مشتعلة يقلب في بطء شديد ما يحتويه مرجل من الحديد. وقريبًا منه غزال صغير مستأنس، دقيق الأطراف، مرقش بصورة جميلة، يرعى العشب في هدوء.

قال فيجايا: أصدقائي الأعزاء. ثم صاح بكلمات بلغة أهل بالا، وردَّ عليه قاطعو الأخشاب ملوِّحين بأيديهم، وبعدئذٍ انحنى الطريق انحناءة حادة نحو اليسار، وأخذوا مرة أخرى يصعدون النفق المخضر بين الأشجار.

وقال ويل وهم يتركون الأرض الفضاء: حدِّثنا عن أصحاب العضلات، هؤلاء أمثلة لهم رائعة حقًّا.

قال فيجايا: إن هذا الطراز من التكوين البدني يُغري صاحبه بصفة مستمرة. ومع ذلك فإني لم أقابل رجلًا واحدًا متنمرًا، أو محبًّا للسلطة بطبعه بصورة خطرة، من بين هؤلاء الرجال جميعًا؛ وقد عملت مع عشرات منهم.

وقاطعه موروجان بازدراء قائلًا: أي إنك تعني أن تقول إنه لا يوجد هنا أحد ذو طموح!

سأل ويل: وما سِرُّ ذلك؟

– الأمر في غاية البساطة بالنسبة لأمثال بيتر بان. إننا لا نتيح لهم فرصة لاستثارة شهوة السلطة عندهم. نحن نعالج انحرافهم قبل أن يستفحل. ولكن الأمر على خلاف ذلك مع أصحاب العضلات. إنهم عندنا مثلما هم عندكم ذوو عضلات لا ينطوون على أنفسهم، ويريدون أن يدوسوا غيرهم بالأقدام؛ لذلك يتحولون إلى أمثال استالين وديبا، أو على الأقل إلى مستبدين في أوطانهم. أولًا: نُظُمنا الاجتماعية لا تتيح لهم إلا قليلًا من الفرص لكي يتنمروا على أفراد أسرهم، كما أن نُظمنا السياسية تجعل من المستحيل عليهم أن يتسلطوا على نطاق واسع. ثانيًا: نحن ندرب أصحاب العضلات على أن يكونوا حسَّاسين وعلى وعي، ونعلمهم أن يستمتعوا بالأمور العادية في الحياة اليومية. ومعنى ذلك أن البدائل تتوافر لهم دائمًا؛ بدائل عن حبهم للرياسة. وأخيرًا نحن نعالج أصحاب هذا التكوين البدني بكل صنوفه تقريبًا؛ علاجًا مباشرًا. نشق لحب السلطة هذا قناة يتسرب منها ونغيِّر اتجاهه، نحوله من التسلط على البشر إلى التسلط على الأشياء. نعطيهم كل صنوف العمل لكي يؤدوه؛ العمل الشاق والعمل العنيف الذي يدرب عضلاتهم ويُشبع رغبتهم في التسلط؛ لا يشبعها على حساب غيره، وإنما بطرقٍ إما لا تضر وإما تفيد فائدة إيجابية.

– ومن ثم كان هؤلاء الرجال الذين يستدعون الإعجاب يُسقطون الأشجار بدلًا من أن يُسقطوا البشر؛ أليس كذلك؟

– تمامًا، وبعدما يستكفون من الغابات يتوجهون إلى البحر، أو يشغلون أيديهم بالتعدين، أو يسترخون نسبيًّا بالعمل في حقول الأرز.

وفجأة ضحك ويل فارنبي.

– ما الذي يُضحكك؟

– تذكرت أبي. ربما كان القليل من قطع الأشجار يجعل منه شخصًا آخر وينقذ أسرته البائسة. ولكن لسوء الحظ أنه كان من الإنجليز المهذبين الذين يستبعدون من حياتهم قطع الأخشاب بتاتًا.

– أولم تكن لديه مخارج بدنية يصرف فيها طاقاته؟

هز ويل رأسه قائلًا: كان والدي إنجليزيًّا مهذبًا، ويظن فوق ذلك أنه من المثقفين. والمثقف لا يشغله صيد ولا قنص ولا يلعب الجولف. إنه يكتفي بالتفكير والشراب. وكانت متعة أبي إلى جانب شرب البراندي أن يتنمر على غيره وأن يلعب البريدج، ويهتم بالنظريات السياسية. كان يتصور نفسه صورة في القرن العشرين للورد آكتون٦ آخر الفلاسفة الليبراليين. كم كان يسرُّك أن تسمعه وهو يتحدث عن مظالم الدولة الحديثة القادرة على كل شيء! كان يقول: السلطة تُفسد، والسلطة المطلقة تُفسد فسادًا مطلقًا. نعم مطلقًا. وبعدما يردد هذه العبارة يشرب كأسًا أخرى من البراندي ثم يعود بحماسة شديدة إلى ملهاته المحببة إلى نفسه؛ الاستبداد بزوجته وأطفاله.

قال الدكتور روبرت: وإذا كان آكتون نفسه لم يسلك هذا المسلك فإنما كان ذلك لأنه كان بالصدفة رجلًا فاضلًا وذكيًّا. لم يكن في نظرياته ما يحد من انحراف صاحب العضلات أو ما يمنع بيتر بان — قبل أن يعالج — من أن يدوس أي فرد يقع في متناول قدميه. تلك كانت نقطة الضعف عند آكتون. كان — ككاتب في النظريات السياسية — يدعو إلى الإعجاب. أما كعالم نفساني عملي فقد كان لا يفقه شيئًا. يبدو أنه كان يظن أن مشكلة السلطة يمكن أن تُحل بالنظم الاجتماعية الجيدة التي تكملها — بطبيعة الحال — قواعد الأخلاق السليمة، وشيء من الديانات المُنزلة. في حين أن مشكلة السلطة تمتد جذورها إلى تشريح الجسم وإلى كيميائه الحيوية ومزاجه. لا بُدَّ من كبح السلطة على المستويين القضائي والسياسي. هذا أمر واضح. ولكن من الواضح أيضًا أنه لا بُدَّ من الوقاية على المستوى الفردي، وعلى مستوى الغريزة والعاطفة، وعلى مستوى الغدد والأمعاء، والعضلات والدماء. لو توافر لديَّ الوقت لكتبت رسالة عن وظائف أعضاء الإنسان وعلاقتها بالأخلاق والدين والسياسة والقانون.

وردد بعده ويل كلمة «القانون» وقال: كنت على وشك أن أسألك عن القانون. هل أنتم في غنًى مطلق عن السلاح وعن العقوبة؟ أم لا زلتم في حاجة إلى القضاة ورجال الشرطة؟

قال الدكتور روبرت: لا زلنا في حاجة إليهم، ولكنا لسنا بحاجة مثلكم إلى الكثيرين منهم. فأولًا نحن بفضل الطب الوقائي والتربية الوقائية لا نرتكب كثيرًا من الجرائم. ثم إن معظم الجرائم التي ترتكب نعالجها في «نوادي التبني المتبادل». علاج جماعي في مجتمع يأخذ بنظام المسئولية المشتركة عن المنحرفين. وفي الحالات المستعصية نستكمل العلاج الجماعي بالعلاج الطبي وبفترة محددة من تعاطي عقار الموكشا، بتوجيه من رجل على درجة نادرة من نفاذ البصيرة.

– وما دور القضاة؟

– يستمع القاضي إلى الأدلة ويقرر إن كان المتهم بريئًا أو مذنبًا، فإن كان مذنبًا أمر بحجره احتياطيًّا في «نادي التبني المتبادل» الذي ينتمي إليه. وإذا لزم الأمر يتم حجزه لدى لجنة الخبراء الطبيين والمتصوفين العارفين بأثر الفطريات. وفي فترات متفق عليها يرسل الخبراء كما يرسل نادي التبني المتبادل تقاريرهم إلى القاضي، حتى إذا ما كانت التقارير مرضية انتهت القضية.

– وإذا لم تكن مُرضية أبدًا؟

قال الدكتور روبرت: إنها دائمًا تُرضي في النهاية.

ثم سادت فترة من الصمت.

وفجأة سأل فيجايا: هل جربت تسلُّق الصخور؟

ضحك ويل وقال: كيف تظنني أتيت بساقي العرجاء؟

– هذا تسلُّق أُرغمت عليه إرغامًا. ولكن هل مارست التسلق لهوًا؟

قال ويل: بقدر يكفي لأن يُقنعني بأنني لا أُحسِنه.

واتجه فيجايا ببصره نحو موروجان وسأله: وماذا حدث لك عندما كنت في سويسرة؟

واحمرَّ وجه الصبي خجلًا وهز رأسه وتمتم قائلًا: لا يستطيع المرء أن يمارس هذه الأشياء وعنده استعداد للسل.

قال فيجايا: يا للأسف! إن التسلق كان ينفعك كثيرًا.

وسأل ويل: وهل يقوم الناس في هذه الجبال بقدر كبير من التسلق؟

– التسلق جزء لا يتجزأ من منهج الدراسة.

– لكل فرد؟

– قليل منه لكل فرد. ولأصحاب العضلات الأقوياء مستوًى أعلى من تسلُّق الصخور؛ وهؤلاء يبلغون نحو واحد من كل اثني عشر من البنين، وواحدة من كل سبع وعشرين من البنات. ونحن نتوقع أن نرى قريبًا بعض الشبان الذين يقومون بالتسلق لأول مرة على مستوًى أعلى من المستوى الابتدائي.

واتسع النفق الأخضر، وأشرقت فيه الأضواء، وفجأة وجدوا أنفسهم خارج الغابة الرطبة وعلى طبقة صخرية مسطحة تكاد تستوي مع الأرض، تحوطها من ثلاث نواحٍ صخور حمراء يبلغ ارتفاعها أكثر من ألفَي قدم على شكلِ ذُرًى ناتئة وقمم منعزلة. وكان الهواء منعشًا. وعندما انتقلوا من ضوء الشمس إلى ظل جزيرة عائمة من الركام، أصبح الجو باردًا تقريبًا. وانحنى الدكتور روبرت إلى الأمام وأشار من خلال زجاج السيارة إلى مجموعة من المباني البيضاء فوق مرتفع صغير على مقربة من مركز الهضبة.

وقال: هذه محطة المرتفع العالي. إنها تعلو سبعة آلاف قدمًا، وتبلغ مساحة الأرض المستوية الجيدة فيها أكثر من خمسة آلاف فدان، حيث نستطيع أن نقوم بزراعة أي شيء مما يُزرع في جنوب أوروبا؛ قمح وشعير، والفاصوليا الخضراء والكرنب، والخس والطماطم (وهذه الفاكهة لا تصلح حيث تصل درجة الحرارة ليلًا أكثر من ثمانٍ وستين درجة)، وعنب الثعلب، والفراولة، والجوز والبرقوق الأخضر، والخوخ والمشمش. وكذلك كل النباتات القيِّمة التي تصلُح زراعتها فوق الجبال العالية التي في مثل هذا الارتفاع؛ بما فيها الفطر التي يعترض عليها صديقنا الصغير هذا بشدة.

وسأل ويل: وهل هذا هو المكان الذي نقصده؟

قال الدكتور روبرت مشيرًا إلى آخر موقع من سلسلة الجبال، وهو عبارة عن حافة من الصخر الأحمر الداكن تنحدر منها الأرض من إحدى نواحيها نحو الغابة، وترتفع ارتفاعًا عموديًّا من ناحية ثانية نحو قمة مختفية في السحب المتراكمة، قال: لا، نحن نقصد مكانًا أكثر ارتفاعًا؛ نقصد معبد شيفا٧ الذي يؤمُّه الحُجَّاج في الاعتدالَين، الربيع والخريف. وهو من أحب الأمكنة إلى نفسي في الجزيرة كلها. وعندما كان الأطفال صغارًا اعتدت أنا ولاكشمي أن نقوم برحلات إلى هناك تقريبًا كل أسبوع. كان ذلك منذ عهد بعيد! وظهرت في صوته رنة الأسى، ثم تنهَّد، وسند ظهره على مقعده وأغلق عينيه.

وابتعدوا عن الطريق المؤدية إلى محطة المرتفع العالي وعادوا إلى التسلق.

قال فيجايا: هذه هي المرحلة الأخيرة من الرحلة، وهي أسوأ المراحل، نقطع سبعة منعطفات حادة ونفقًا خانقًا يبلغ طوله نصف ميل.

وساق العربة بأدنى سرعة لها فأصبح الحديث مستحيلًا، وأخيرًا بلغوا نهاية المطاف بعد عشر دقائق.

١  رداء من ألياف الشجر، والمقصود هنا هو التقشف. (المترجم)
٢  إشارة إلى نقل التكنولوجيا من البلاد المتقدمة إلى البلاد النامية. (المترجم)
٣  الإشارة هنا إلى العهد القديم والعهد الجديد، وهو يقصد الكتاب الخاص بالإعلان عن المخترعات الجديدة. (المترجم)
٤  أحد أعضاء محاكم التفتيش في إسبانيا عاش في القرن الخامس عشر وعُرف بقسوته الشديدة. (المترجم)
٥  عالم إنجليزي (١٨٢٢–١٩١١م) بحث في أثر الوراثة في سلوك الأفراد. (المترجم)
٦  اللورد آكتون (١٨٢٤–١٩٠٢م) مؤرخ إنجليزي حر المذهب وألَّف عدة كتب منها «تاريخ الحرية». (المترجم)
٧  شيفا في الهندوكية هو الإله الذي يدمِّر لكي يمهِّد الطريق لبراهما الذي يبني. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤