مقدمة المؤلف

ابن سَهْل

هو إبراهيمُ بنُ سهْلٍ الإسرائيليُّ الأندلُسِيُّ.

(١) أصله

نَزَحَ آباؤُه إلى الأندلُس مِن زمنٍ بعيدٍ، وهو ليسَ بعربيِّ الأصل، ولكنَّه برَعَ في اللغة العربية، وبرزَ في آدابِها.

(٢) نشأته

وُلد بمدينة إِشْبِيلِيَة في سنة ٦٠٩ من الهجرة، وهو مِن شعراء بني هُودٍ الذين كان عصْرُهم مِن أَزْهى عصور الحضارة في بلاد الأندلس.

(٣) عصره

عاش في النصف الأول من القرن السابع؛ أيْ في الوقتِ الذي يُعتَبَر آخِرَ عصورِ العرب في الأندلس، إلَّا أنَّ الشعرَ مع هذا كان على حالِه من الرُّقِيِّ، والناسُ كما هم يُمَجِّدون الشُّعراءَ، ويُكْبِرونهم؛ لأنَّ بلاد الأندلس لم تَمُتْ بداءِ الشَّيْخوخة، بلِ اهتُصِرَتْ فَتِيَّةً، فكانتْ أيامُها الأَخيرةُ أيامَ عزِّ اللغة وفتوَّتِها، ونموِّ الأدب والنهوض بالشِّعْر، والتفنُّن في أسالِيبِه، وفي وسَط هذا البحْرِ الزَّاخِر بالعُلَماء، العامِر بالشُّعراء والأُدباء، برزَ ابنُ سهلٍ وتلألأ نجمُه في سماء الأدب حتى سُمِّيَ: شاعرَ إِشْبِيلِيَة، ووشَّاحَها.

(٤) شعره

وِجْدانيٌّ صِرْفٌ تُمْلِيهِ العاطفةُ، وأرقُّ الشعرِ ما أَوْحَتْ به العاطفةُ وأملاه الوجدانُ، لا ما أنْتَجَتْه الصنعةُ، ونُحِتَ من العقلِ نَحْتًا؛ لهذا سَمَّوْه: «شاعرَ إِشْبِيلِيَة ووشَّاحها»، وشهِدَ له بالتبريز كبارُ الشعراء، فقالَ بعضُهم لَمَّا غَرِقَ: «عادَ الدُّرُّ إلى وَطَنِه.» وسُئل بعض المغاربة عن السِّرِّ في رِقَّة شعر ابن سهل، فقال: لأنَّه اجتَمَع فيه ذُلَّان: ذُلُّ العِشْق، وذُلُّ اليَهودية.

وقال ابن الأَبَّار: «كان من الأُدباء، الأَذْكياء، الشُّعراء، كان يَهُوديًّا، فأَسْلَم، وقرأَ القرآنَ، وكتبَ لابن خلاص بسَبْتة.»

وقال أَثِير الدِّين أبو حيَّان: «ابن سهلٍ أَدِيبٌ ماهرٌ دُوِّن شعره في مجلَّد، وكان يهوديًّا فأسلم، وله قصيدةٌ مَدَحَ بها رسولَ الله ، وكان يقرأ مع المسلمين ويُخالِطُهم.»

وقد قال عنه الدكتور أحمد ضيف أحدُ رجالِ الأدب المعدُودين في هذا العصر بعد أن قدَّم الكثير من سيرته: «هذه صورةُ ابن سهل، وهي صورةُ شاعرٍ وصَّافٍ يُجِيد الوَصْف، وغازلٍ يُجِيد الغَزَلَ، ووجْداني لا يخرج عن دائرة وجْدانِه، ومصوِّر بارع لِمَا يَرَى ويَسْمَع، قليل الآراء، قاصر الخيال، لكنَّه مُبْدِعٌ في الأسلوب، متفنِّنٌ في الكلام، لا يَشعُر الإنسانُ بأدنى مَلَل في قراءة كلامه، وهو في كلِّ ذلك خفيفُ الرُّوح، مُطْرِبٌ، مُعْجِبٌ، وكفَى بذلك دليلًا على جمال قوله، ونصيبه في الافتتان!»

وقد ظهر نبوغُه في الشعر وهو شابٌّ، ولا تَجِدُ له في غير الغزل إلَّا القليلَ، وشعرُه جميلٌ، وأسلوبُهُ رائعٌ، ومعانِيه شائقةٌ، وإذا قرأتَ كلَّ شعرِهِ لاحَ لك كأنَّه جمعَ كلَّ ما عَرَفَ ويعرفُ من الآراءِ في العِشْق والغزل.

(٥) عيوب شعره

قصورٌ في الخيال، وقِلَّةٌ في الآراء، وتكرارٌ للمَعاني، حتى لَتستطيعُ أنْ تُعْطِيَ حُكمًا عنه بقراءةِ قصيدةٍ واحدةٍ له، وفيما وصلَ إلى يدي من موشَّحاته بعضُ تعقيدٍ لفظيٍّ سَلِمَ منه شعرُه.

(٦) مدحه

يكاد يكون معدومَ المَدْح، ودُرَّة مدائِحه هي القصيدة العَيْنية التي يَمْدَح بها النبي ، وأوَّلها:

تُنازِعُني الآمالُ كَهْلًا ويَافِعًا
ويُسْعِدُني التَّعْليلُ لو كانَ نَافِعا

(٧) هجاؤه

لم يَرِدْ في شعرِه شيءٌ من الهِجاء.

(٨) أخلاقُه

تجمَّع فيه إلى جانب رِقَّة العاشِق دَماثَةُ الأديب، ووَداعةُ الشاعر الظَّريف، ولم يكُنْ هجَّاء فيُقال: سَلِيط، ولا مدَّاحًا فيُقال: منافق! ولم يُذكَر شيءٌ عن صفاتِه الجُثْمانية.

(٩) مذهبه الدِّيني

كان يهوديًّا تغَلْغَلَتِ اليهوديةُ في نفسِه حتى علَّلوا رِقَّةَ شعرِه باجتماعِ ذُلِّ العِشْق وذُلِّ اليهودية فيه — كما قدَّمْنا، ثم أَسْلَم، وقرأ القرآنَ، وعاشَرَ المسلِمين، ومدحَ النبيَّ بقصيدةٍ طويلةٍ، واستدلُّوا على إسلامِه بقوله:

تسلَّيْتُ عن مُوسَى بحبِّ محمدٍ
هُدِيتُ ولولا اللهُ ما كنتُ أَهْتَدِي
وما عن قِلًى قد كان ذاك، وإنَّما
شريعةُ مُوسى عُطِّلَتْ بِمُحمَّدِ

ولكنَّ البعض رمَاه بعدم الإخلاص، وقالوا: إنَّه كان يتظاهَر بالإسلام، ولا يَخْلُو مِن قدْحٍ واتهام. وكان أبو الحسن علي بن سمعة يقول: «شيئان لا يصِحَّان: إسلام إبراهيم بن سهل، وتوبة الزمخشري من الاعتزال.» وقد رَوَى العلَّامة الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق أنَّه مات على دين الإسلام، وكذلك قال ابن الأبَّار، وأَثِير الدِّين أبو حيَّان. وقد اجتمَعَ مع ابن سهل جماعةٌ في مجلس أنسٍ، وسألوه — بعد أنْ أعْمَتِ الرَّاحُ فيه — عن إسلامه هل هو في الظاهر والباطن؟ فأجابَهم: للناسِ ما ظَهَر، وللهِ ما استَتَر.

وعلى كلٍّ، فسواءٌ أأخْلَص في إِسلامِه أم لم يُخْلِص، فقدْ وُلد يهوديًّا، ومات مُسْلِمًا.

(١٠) حبُّه

ردَّد في كلِّ غزلِه وكلِّ شعْرِه اسمًا واحدًا هو «مُوسى»، وقالوا: إِنَّه أرادَ به مُوسى كليمَ الله، عليه السلام. وقالوا: بل هو غلامٌ يهوديٌّ كان يَهْواه، ومِن هؤلاء القائلين أثير الدين بن حيَّان؛ فقد قال: «أكثرُ شعرِه في صبيٍّ يهوديٍّ كان يهواه.» وأنا أرى هذا الرأيَ بدليل قولِه:

أَصْبُو إلى قِصَصِ الكَلِيمِ وقولِهِ
قصدًا لذِكْرِكَ عندَها وتعرُضَا

وقوله:

أبطلَ موسى السِّحْرَ فيما مضى
وجاء موسى اليومَ بالسِّحْرِ

فموساه هذا إمَّا هو معشوقٌ صحيح بهذا الاسم، وإمَّا شخصية تَخِذَها سِتارًا لمعشوقٍ آخَر، وقد تكون داعيًا من دواعي الشعر تغنَّى بها، وإنْ يكنْ في هذا الرأْيِ ما فيه من ضَعْف.

(١١) ديوانه

أعتقد أنَّ له شعرًا وموشَّحاتٍ غير ما تَجِد، ولكنْ لعلَّها ضاعتْ؛ لأنَّه لم يقع بين أيدِينا إلَّا قِطَعٌ متفرِّقات في كُتُب الأدب بين يدَيْك مجموعُها مضافًا إلى ديوان صغير قال جامِعُه: إنَّه طاف من أجْلِه مختلِفَ البِلاد، وعَثَرَ على أكْثَرِها في بلاد المغرب بدعوةٍ من واحد هناك.

(١٢) وفاته

مات غَرِيقًا في سنة ٦٤٩، وكان عُمرُه ٤٠ سنة.

أحمد حسنين القرني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤