إلمامة

الأدب العربي في العصر الحاضر

ليس غرضي وأنا أكتب هاته الإلمامة لديوان «الينبوع» تقديم أبي شادي إلى قرائه، فما كان أبو شادي بحاجة إلى التقدمة، ولعل الكثيرَ من قرائه يعرف عنه أكثر مما أعرف، ولا الإشادة بسجاحة خلقه، وسماحة نفسه، وطيبة قلبه، فتلك صفات يستطيع أن يدركها كل من يطالع آثاره، فيلمس فيها صوفيته العميقة التي تعاطف العالم، وتشمل كل شيء فيه بفيضٍ من العطف والحنان، ولا التنويه بجهوده العظيمة المتعددة التي ينوء بحمل أعبائها فريق من الناس أولي العزم، فقد عرف الناس له هاته المزية، وآمنوا بها في شيء من العجب غير قليل.

أجل، فأنا لا أريد أن أعرض لكل ذلك، بل ولا أريد أن أعرض لشعر أبي شادي أيضًا ببحثٍ مفصَّلٍ، ونظرةٍ مستوعبةٍ، فقد فاجأ أبو شادي الناس في شعره بروحٍ جديدةٍ ونزعةٍ مستحدثةٍ، وأسلوبٍ طريفٍ، وطريقةٍ لم يعهدوها من قبل، فقابلوه بشيء من الاستنكار غير قليل، ثم أخذ الزمان يعمل عمله، فاستساغه فريق من الناس وأَلِفه، وأخذت فئات أخرى تشيد به وتنضح عنه، وظلت طائفة من الناس على رأيها الأول ونفرتها القديمة لا تتحلحل عنها أو تميل، فاختلف الناس فيه وما زالوا، ولا يزالون مختلفين فيه إلى ما شاء الله، وأعتقد أن كلمتي لا تنقص من هذا الخلاف قليلًا ولا كثيرًا؛ ولهذا فقد آثرتُ أن أتحدث حديثًا أعم من ذلك وأشمل، وأن أتخذ موضوع هذا الحديث «الأدب العربي في العصر الحاضر»، ثم لا أتحدث عن شعر أبي شادي إلا كظاهرة من ظواهر هذا الأدب، لها وجهها الخاص، ولونها الذي تُعرف به.

•••

أعتقد أنني لا أكون غاليًا في شيء إذا قلت إن عصرنا الحاضر يمتاز عن كل ما سبقه من العصور بامتزاج الثقافات فيه امتزاجًا عظيمًا لا نظير له، وإن الأدب العربي الحديث قد اختلط بآداب العالم اختلاطًا لم تعرفه تواريخُ الآداب في عهودها السالفة.

ففي أطوار الانقلابات الكبرى، التي يريد فيها التاريخ أن يدور دورته المحتومة الخالدة، تأخذ نفسيات الشعوب التي ستولد مرة ثانية في التطور والتحوُّر والاستحالة، فتستيقظ أحلامها النائمة، وتتوهج أشواقها الخامدة، وتصبح نفسها شعلة متأججة بنار الحنين، وينقسم قلبها الثائر إلى شطرين: شطر ملول، متبرم بالحاضر وما فيه، وشطر مشوق، طامح إلى المجهول وما فيه، وفي مثل هاته الحالة النفسية المعقدة التي تصبح فيها روح الأمة مشبوبة بحمى الحياة، يندفع الناس في لهفة اليقظة الطامحة إلى ثقافات العالم وفنونه وآدابه يطفئون بها ما في أعماق نفوسهم من جوع وظمأٍ إلى الحياة، فتتلاقح ثقافات، وتتمازج آداب، وتصطفق آراء وأفكار، وينتج من هذا المزيج ثقافة جديدة وأدب طريف لهما سحر وفتنة وجمال. كان ذلك في الروح اليونانية، حينما انتصرت على الفرس، واتصلت بروح الشرق في فارس وآشور ومصر، وكان ذلك في الروح الرومانية حينما مكن الله لها من اليونان فانتهبت ما لها من علم وأدب وفن، وكان ذلك في الروح العربية في العصر العباسي وما يليه، حينما اطلع العرب على ما لفارس والهند واليونان والرومان من حكمة، وأدب، وعلم، وفلسفة، وتشريع، وكان ذلك في الروح الأوروبية منذ عصر «النهضة» حينما اتخذت مثلها الأعلى في الأدب والفن ما لليونان والرومان من فن وأدب، وأخيرًا كان ذلك أيضًا في الروح العربية الحاضرة بعد يقظتها من سبات الدهور. ولكنَّ امتزاج الأدب العربي الحاضر بغيره من الآداب قد كان على صورة من القوة والشمول لم يُعهد لها مثيل في جميع العصور والأجيال، ولعل ذلك يرجع إلى «المطبعة» التي أعطت للحركة الثقافية هذا المظهر القوي السَّاطع، كما يرجع إلى طبيعة حضارة اليوم التي تمتاز بالسرعة والحركة والاتصال، فإن الأدب العربي في العصر العباسي وما يليه لم يتأثر إلا قليلًا بأدب الفرس والهند وما لهما من حكمة وأمثال، وبقليل من أساطير اليهودية والمسيحية، وبشيءٍ من الفلسفة اليونانية، وبعض المذاهب والنحل الشائعة إذ ذاك، وبنزر مشوَّه من أدب الرومان، فهو لم يتأثر تأثرًا قويًّا بآداب هاته الأمم، ولا حاول أن يتصل اتصالًا وثيقًا بما لها من تاريخ ودين وأساطير، بل تأثر بها تأثرًا بسيطًا لعله لم يكن مقصودًا ولا مَعْنِيًّا به، ولكنه على كل حال قد أحدث نتيجته المنتظرة، فاستُحدِثَتْ معانٍ وأخيلة وأساليب وطرائق من البيان لم يعهدها العرب من قبل ولا أَلِفُوها. والأدب الأوروبي لم يتصل في عصر «النهضة» بغير الأدب اليوناني والروماني، ثم بقليل من الأدب العربي في صقلية والأندلس، ثم إنه عاد بعد ذلك إلى تاريخه يستلهم ما فيه من أقاصيص الفروسية وسير الأبطال، ثم رجع إلى دينه فأخذ يستوحي الأساطير المسيحية، ويتخذ منها غذاءً لروحه وأحلامه، ثم إنه عثر على كنزه المفقود فأخذ يستمد من الروح الأوروبية نفسها مادة حياته التي لا تنفد، فكانت ثورته الرومانتيكية الحاسمة التي فتحت أمامه آفاقًا جديدة، ووقفت به على حدود المجهول الذي لا تنتهي صوره وأشكاله، وعلمته كيف يستلهم الحياة نفسها، ويستوحي جمال الوجود، بعد أن كان يتخذ الوقائع والأحداث مادةَ وحيه وخياله، والتي ما زالت — فيما أرى — حيةً في صميمها، وإن اختلفت فيها الأسماء والحدود.

ذلك كل تأثر الأدب الأوروبي بغيره، أما الأدب العربي الحديث فإنه لا يريد أن يتصل ببعض آداب العالم دون بعض، كلَّا، وإنما هو يتصل بجميع آداب العالم، لا يستثني منها واحدًا، سواء في ذلك القديم والجديد، والقريب والبعيد؛ فهو يتصل بالأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني والإيطالي والروسي والإسباني والإسكانديناوي والأمريكي، بل وحتى الروماني واليوناني القديمين، وهو لا يريد أن يمرَّ بهاته الآداب مرَّ المجانب، بل يريد أن يتصل بروحها اتصالًا وثيقًا، وأن يتأثر بهذا الروح ويستوحيه، وهو لا يكتفي بهذا بل يستلهم تواريخ هاته الأمم والشعوب، وما لها من أساطير وخرافات، ثم هو يأبى إلا أن يستغلَّ في استلهامه ما لها من فن وفلسفة وعلم، ثم هو لا ينسى أن يستوحي مع ذلك ما في أدب اللغة العربية وتاريخها وأساطيرها من صور الفن وآيات الجمال، ثم هو يضيف إلى كل ذلك ما في حياة الأمة العربية الحاضرة من أحاسيس مختلفة، وأحلام مشبوبة، وأطوار تشتبك فيها الحقيقة بالخيال، كل ذلك يتخذ من الأدب العربي المعاصر مادة لروحه، وغذاء لقلبه، وشرابًا لأشواقه الجامحة.

وقلَّ بين أدباء العربية الآن من كانت ثقافته مقصورة على العربية وحدها، بل إن الكثير منهم ليدين في إنتاجه إلى أكثر من ثقافتين وثلاث. والحق أنه قد أصبح من العسير جدًّا على الأديب العربي المعاصر أن يعصم نفسه من التأثر بالروح الأجنبية، فهو لا بد أن يتأثر بهذا الروح ولو تأثرًا لا شعوريًّا، مهما كانت ثقافته خالصة في عروبتها، ومهما كان غاليًا في التشيع لأنصار القديم، وما ذلك إلا لشيوع الترجمة والنقل عن الآداب الأجنبية شيوعًا لم يعرفه تاريخ الآداب في عصر من عصوره.

وقد كان لاتصال الأدب العربي بغيره من آداب العالم هذا الاتصال القوي أن اكتسب الأدب ثروةً فنيةً ضخمةً في الصور والمعاني والأخيلة والأساليب بصورةٍ لم تعرفها الآدب العربية من قبل، وإن أفادت اللغة العربية مرونةً ودقةً أصبح بهما الأديبُ الشاعرُ يستطيع أن يعبِّر عن أخفى العواطف المستسرة، وأدق الأحاسيس الغامضة، وأعقد الحالات النفسية التي كان أديبُ الأمس لا يستطيع تصوُّرها وإدراكها، فضلًا عن التعبير عنها، ونفخ الحياة فيها، وإعطائها ما يلائمُها من أضواء وظلال. ولكن ذلك الاتصال الوثيق كما أنتج تَيْنِك النتيجتين الجميلتين أنتج نتيجة أخرى لا ندري على التدقيق ما سيكون أثرها في الأدب العربي الحاضر، فقد أدَّى إلى بلبلةٍ في فهم الشعر، وضبط مقاييسه، وموضوعه، وغايته، لا نحسب أن تواريخ الأدب في العالم قد سجلت مثلها، حتى لقد كاد يصبح لكل أديب مقياسه في فهم الشعر وتقديره، وأصبح النقد فوضى لا تضبط لها حدود ولا تقوم على أساس محترم من الجميع.

فهناك المدرسة القديمة، وشعراؤها ونقادها، وآراؤها عن الشعر وما يجب أن يكون عليه، وهناك المدرسة الحديثة بما فيها من شعراء ونقدة على اختلاف نزعاتهم وثقافاتهم وأطوارهم النفسية، ومن خلفهم طوائف المتأدبين الذين لهم أحكامهم الخاصة على الشعر والشعراء والنقد والناقدين، والتأليف والمؤلفين، والذين لا تضنُّ عليهم الصحافة ولا المطبعة بنشر ما يرتَئُون من رأي وحوار، ومن وراء كل ذلك جماهير القارئين في مختلف جهات العالم العربي بآرائهم المتقلبة التي تَبْنِيها الغُدوُّ وتهدمها الآصال، ويعبث بها جزر الحوادث ومَدُّها في خضمِّ الزمان.

وإنه ليُعيِي المرءَ — مهما حاول — إحصاءُ هاته المذاهب، أو النزعات إذا تحرَّينا دقة التعبير، التي تضطرب في رءوس الشعراء والنقاد والمتأدبين، والتي تتقاذف الأدب العربي المعاصر أخذًا وردًّا وجزرًا ومدًّا، ولكن سنحاول أن نتحدث بإيجاز عن أظهر هاته النزعات في محاورات اليوم، وأقواها أثرًا في نفوس الأدباء.

فمن هاته النزعات النزعة «الخيالية»، وهي نزعة لا تعتبر الشاعر شاعرًا إلا إذا كان شعره عالمًا سحريًّا، لا تنتهي أطيافُه وخيالاتُه ولا أضواؤُه وظلماتُه، وتشعر فيه نفس القارئ أنها قد ارتفعت إلى ما وراء الغيوم وما خلف النجوم … ومنها النزعة «الرمزية»، وهي نزعةٌ لا تريدُ من الشاعر إلا أن يتحدَّث للناس من وراء السحاب، أو ملفوفًا في مثل الضباب، ولا تتطلب منه إلا كلامًا مبهمًا لذيذًا، شبيهًا بالموسيقى في لغتها الغامضة التي كلما أصغى لها السامع حركت في نفسه ضروبًا من الحسِّ والتصور والخيال غير ما حركت من قبل، وعبَّرت له في كل لحظة تعبيرًا جديدًا لا تنتهي ألوان المتعة والطرافة فيه. ومنها النزعة «الفلسفية»، وهي نزعة لا تفهم الشاعر إلا أن يكون فيلسوفًا له فلسفة مضبوطة محكمة لا تضطرب مقدماتها، ولا تختلُّ نتائجها، ولا تتناقض أجزاؤُها بتناقض حالات الشاعر النفسية واضطرابها بين الشك والإيمان والثورة والسكون واللذة والألم. ومنها النزعة «الثورية»، وهي نزعة لا تعترف للشاعر بالشاعرية إذا لم تكن له في آثاره قوة العاصفة الداوية والبراكين الطاغية، ينطق فتنطلق كلماته مجلجلة جامحة ترجُّ الحياة في أعماقهم رجًّا، وتزلزل هدوء الأحلام، ويتكلم فيندلع اللهيبُ من كلماته المتوهِّجة بنار الحياة. ومنها النزعة «المتعمقة»، وهي نزعة تأبى على الشاعر إلا أن يكون عميقًا كالليل، لا يناجي أبناء الإنسان بهاته المعاني الواضحة البادية التي تستوعبها اللمحة الخاطفة والنظرة الطائرة في الفضاء، وإنما تريد منه أن يناجيهم بما في أعماق الحياة والموت والوجود والعدم، وما في خفايا ذلك العالم المجهول الذي يحمله قلب الإنسان من عبودية عريقة للحياة، وثورة على نواميسها العاتية. ومنها النزعة «التاريخية»، وهي نزعة تنكر على الشاعر كل شيء إلا أن يكون ظلًّا واضحًا لهاته الحياة العابرة، يستطيع المؤرِّخُ أن يجد في آثاره صورة حية من عقائد الشعب وعاداته وأطواره، وتقلباته وأحلامه وخرافاته. ومنها النزعة «السياسية»، وهي نزعة لا تريد من الشاعر إلا أن يكون زعيم قوم يدعوهم إلى النهضة والحياة، ويهيب بهم إلى الضرب في سبيل الزمان الذي لا تنتهي تعاريجه وعقباته. ومنها النزعة «الصحافية»، وهي نزعة تريد من الشاعر أن ينظم في أحداث اليوم ومشاكل الساعة ويقدم للناس صحفًا منظومة يسجل فيها حوادث العالم في السياسة والاقتصاد وكل شيء آخر، وعلى الإحساس والفكر والعاطفة رحمة الله … ومنها النزعة «الغزلية»، وهي نزعة لا ترضى عن الشاعر إلا إذا قدم حياته قربانًا للمرأة، وأحرق مواهبه بخورًا تحد قدميها الجميلتين، ولم يتكلم بغير لغة الحب والدموع، أما بقية لغات النفس وعواطفها الأُخرى فعليها لعنة الشعر والحياة … ثم لعنة حضرات السادة الغزليين …

وهناك نزعات كثيرة أخرى، ولكنها ضعيفة تافهة، ليس لها من قوة الأثر ما يحملنا على تدوينها في كلمتنا هاته: نزعات غريبة، وأخرى ذابلة، وأخرى ميتة بالية، فلندعها تختلج اختلاجة الموت في أدمغة بعض غلاة القديم، وبعض متطرفي الجديد، ولندعها تقضي ساعة الموت في سكون الظلام؛ فهي ذاهبة لا محالة إلى هوة الفناء المحتوم …

ولكن هناك نزعةٌ غريبةٌ يدين بها بعض الناس ممن يحملون التجديد على غير محمله، ويَفهمونه على غير المراد منه، فهم يحسبون التجديد أن يأتي الشاعر في أسلوبه ومعناه بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبٍ بشيء، وأن يخلق آثاره من عدم، ويأتي بها غير مسبوقة بصورة أو مثال! وهي فكرة غريبة لا نفهم كيف يستطيع اعتقادها فريق من الناس، ولكننا نسوق إليهم هاته الكلمة الصغيرة:

إن الحياة نفسها ليست إلا حرية ترسف في القيود، وسلسلة يتصل فيها الطريف بالتليد، وإننا حين نطالب الشاعر بالتجديد لا نطالبه بأكثر من أن يترسم خطى الحياة في فنِّها، فالزهرة — وهي فنٌّ من فنون الحياة — ليست إلا بعض ما في التراب والماء والسماء من روح الحياة، ولكنها مع ذلك فنٌّ منها جديد يخيل إلينا أنه بعيد عنها جد بعيد. ونحن — أبناء الإنسان — ننحدر إلى هاته الدنيا وفينا مشابه من آبائنا الأولين في الملامح والميول والأطوار، ولكن لكل منا روحه الخاصة، وطابعه الممتاز. وكذلك تتدفق الكائنات من قلب الحياة الأزلي الذي لا ينضب، وكأنها صورٌ ممتازةٌ متباينةٌ رغم ما بينها من وشائج الرحم والقربى، ولولا ذلك التباين الحكيم لأصبح عمل الحياة عبثًا متواصلًا، وعناءً معادًا لا جدوى وراءَه ولا متاع.

كذلك يصنع الشاعر الفنان، وكذلك ينبغي أن يصنع، فهو لا يستطيع أن يخرج عن نفسه التي بين جنبيه وما في هذا العالم من سحرٍ ولذة وألم، وما خلفته الإنسانية من فن ورأي ودين، ولكنه حين يتحدث إلينا بذلك في آثاره لا يتحدث به إلا بعد أن يحيا في قلبه، ويتوهج في حياته، ويتضرَّج بأضواء نفسه المشرقة، فتبرز آثاره للدنيا موسومة بوسمه، ومطبوعة بطابعه الذي لا يزول، وذلك هو التجديد بمعناه الواضح الصحيح.

•••

والشاعر ماذا يصنع بين هاته السبل المتعرجة، وفي لَجَّة هاته الأصوات التي تهيب به من كل ناحيةٍ ومكان؟

أما إذا كان ضعيف النفس خوَّار العزيمة فإن مواهبه وألحانه تضمحل وتفنى في هذا الأفق الدَّاوي بالأضواء، وتذهب حياته أباديد في مهابِّ هاته الرياح، وأما إذا كان موثق العزم قوي الإيمان برسالته، فهو يسلك سبيله في عزم وقوة غير آبه لتلك الأصوات الكثيرة المتباينة، وهو يمضي قُدُمًا، صامًّا سمعه إلا عن صوت «الحياة» المتردِّد في أعماق قلبه المتدفق في جوانب نفسه تدفُّقَ أمواج البحار، مطبقًا بصره إلا عن نور السماء المشرق في آفاق روحه الحالمة، وفي أعماق الوجود. وهو يمشي وعلى شفتيه بسمةٌ مشفقة ساخرةٌ بكل هاته الأصوات التي تريد أن تحصر روح الشاعر في قفص مطبق محدود الجوانب؛ لأنه يعلم أن روح الشاعر روح حرة لا تطمئن إلى القيد، ولا تسكن إليه، حرة كالطائر في السماء والموجة في البحر، والنشيد الهائم في آفاق الفضاء، حرة فسيحة لا نهائية لا تحدها نزعة واحدة، ولا مذهب محدود، وإن كانت لا تضيق بكل هاتيك النزعات مجالات نفس الشاعر، ولا تتقيد بصورة أو مثال.

والحق أننا نخطئ كثيرًا إذا حاولنا أن نفرض على الشاعر آراءنا ومذاهبَنا وأحلامَنا فرضًا، ولن نجني من وراء ذلك إلا تضليل المواهب الجديدة الناشئة، وسخرية المواهب الكبرى السائرة إلى النور، وأنه ليس لنا أن نطالب الشاعر في شعره بغير «الحياة»، وإذا جاز لنا أن نطالبه بأكثر من هذا فلنطالبه بأن تكون هذه «الحياة» رفيعة سامية، تتكافأ مع ما للشعر من قدسية الفن وجلاله، ففي الحياة كثير من الحماقات والدنايا، يتعالى الفن عن التدلي إليها من سمائه العالية.

فإذا قرأنا شعر الشاعر فوجدنا فيه إنسانًا من لحم ودم، يحيا ويتنفس، ويشعر ويفكر، ويجاوبنا بالعطف والحس والخيال، وينسينا لحظةً وجودَنا المحسوسَ بما يخلعه علينا من جمال الفن وصوره، ويرتفع بمشاعرنا فوق دنايا هذا العالم ومحقِّراته، إذا وجدنا هذا الشاعر فلنقرأه في ثقة وإيمان بأنه الشاعر حقًّا، وليس بعدَ هذا أن يكون رَمزيًّا أو رومانيكيًّا أو غير هذا وذاك. فما تلك في الحقيقة إلا أطوار نفسية يتشكل الشعر بما لها من ألوان وظلال وأضواء، وليست هي الشعر نفسه؛ فإن لباب الشعر «الحياة».

ولقد قلت مرةً عن الفن بمعناه الواسع: إنه «حياةٌ موسيقيةٌ مصطفاةٌ»، سواءٌ كان قطعة تُنشَد، أو لحنًا يُعزَف، أو صورة تُرسَم، أو تمثالًا يُنحَت، فهو «حياة»؛ لأن الفن في صميمه إنما هو صورة من تلك الحياة التي يحيا بها الفنَّان في هذا الكون الزاخر الرحيب، أو في دنيا خياله وأحلامه، وكيفما كانت تلك الصورة في اللون والشكل والعرض، وهو حياة «موسيقية»؛ لأن الفن في جميع صوره وألوانه إنما هو مجموعة نِسَبٍ موسيقية، يُوازنُ الفنَّان بينها موازنةً حكيمةً مُلْهَمَةً، يحسُّ بها في قرارة نفسه ويأتيها، وربما لا يفهمها كل الفهم أو بعضه؛ فالشاعر العظيم هو الذي يوفَّق في فنه إلى المعادلة بين نِسَبِ العاطفة والفكر والخيال والأسلوب والوزن، بحيث يحصل بينها التجاوبُ الموسيقيُّ الذي ينسجم في القصيد انسجام النور والعطر والماء والهواء في الزهرة الجميلة اليانعة. والرسام العظيم هو الذي يوفَّق في الصورة إلى الموازنة الموسيقية بين الألوان والأضواء والظلال، والروح الفنِّية الشائعة في كل ذلك شيوعَ الضياء في السماء، وليقل مثل ذلك في بقية ضروب الفن وأصنافه.

وهو حياة موسيقية «مصطفاة»؛ لأن الفنَّان المخلص لفنه لا يعبِّر أو هو مكرَهٌ على ألَّا يعبر بفنه إلا عن أرفع صُور الحياة وأسماها، وعلى هذا فإن الشعر الرفيع حياة موسيقية مختارة تعبِّر عن نفسها في فنٍّ من الكلام. والموسيقى حياة موسيقية مختارة ترفرف بألحان مجنَّحة في جو منغم موزون، وكذلك يقال في سائر أنواع الفن.

•••

وقد تحدَّثتُ عن المدرسة القديمة والمدرسة الجديدة في الشعر العربي الحديث، فما هي حدود كلٍّ من المدرستين، وما هي غاياتُهما؟

أما المدرسةُ القديمةُ، فهي تزعم أن للغة العربية مزاجًا خاصًّا لا يسيغ إلا ضروبًا محدودة من التفكير والحس والخيال، وهي تنقم على المدرسة الحديثة أنها تستحدث في الأدب العربي فنونًا من البيان مشبعة بما في الروح الأجنبية وآدابها من طرائف التفكير والخيال والإحساس، وهي تدَّعي أن ذلك لا يلائم طبيعة اللغة العربية، ولا ينسجم على ما تسميه «الأسلوب العربي الصميم».

وأما المدرسة الحديثة فهي تدعو إلى كل ما تكفر به المدرسةُ القديمةُ بدون تحرز، ولا استثناء، هي تدعو إلى أن يجدَّد الشاعر ما شاءَ في أسلوبه وطريقته في التفكير والعاطفة والخيال، وإلى أن يستلهم ما شاء من كل هذا التراث المعنوي العظيم الذي يشمل كلَّ ما ادَّخرته الإنسانية من فنٍّ وفلسفةٍ ورأيٍ ودينٍ، لا فرق في ذلك بين ما كان منه عربيًّا أو أجنبيًّا، وبالجملة فهي تدعو إلى حرية الفن من كل قيد يمنعه الحركة والحياة، وهي في كل ذلك لا تكاد تتفق مع المدرسة القديمة إلا في احترام قواعد اللغة وأصولها، بل إن فريقًا من متطرفي المدرسة الحديثة لا يعدل بحرية الفن شيئًا، ولا يحفل في سبيل ذلك حتى بقواعد اللغة وأصولها، غير أن صدى هاته الطائفة قد أخذ يخفت ويضمحل ولا شك أنه سيفنى مع الزمان؛ فهو ليس إلا طفرة جامحة لكل الطفرات التي تصحب كل انقلابٍ في حماسة الدعاية الأولى.

ولكن، ما غايةُ هاته المدرسة الحديثة وما حدودُها؟

أما إذا أردت يا صاحبي أن تجعل لهاته المدرسة حدودًا مضبوطة فاصلة على النحو الذي كان عليه المذهب الرومانتيكي أو الرمزي أو البرناسي أو الواقعي، أو غير هاته المذاهب التي سيَّرت الأدب الفرنسي في طرق خاصة، وأملت عليه من روحها القوي الثابت، أقول إذا أردتَ ذلك فإنك غير واجده؛ فالمدرسة الحديثة لم تصبح بعد مذهبًا واضح الحدود والمعالم، ولكنها ما زالت ثورة مشبوبة هائجة، وإيمانًا قويًّا عميقًا، ثورة في سبيل حرية الشعر وكماله، وإيمانًا بسمو الغاية وجلال المبدأ. أجل، هي ثورة ما زالت تختلط فيها المطامحُ والميولُ، وتضطرب فيها أصول المذاهب اضطراب البذور في حميل السيل، وآية هذا ما أسلفتُ من اختلاف في المقاييس الأدبية، والأساليب والنزعات، وذلك سرُّ هاته الحيرة العميقة الغائمة التي تعانق أرواح أغلب شعراء هاته المدرسة، فكل واحد منهم واقف بشعره على تخوم عالم مجهول، لا يعرف له مبدأ ولا غاية، تستفز نفسه أصوات وأنغام، وتستهوي خياله أشواق وأحلام، وتسحر طرفه أشعة وأطياف، ولكنها لا تأسر نفسه حتى تتوارى وراء السحب البعيدة النائية، ثم تضمحل وتفنى في سكون الفضاء. وما أشبه حال شعراء هاته المدرسة اليوم بحال «البحار وجنية البحر» فيما تقصُّه الأساطير! ولذلك فكل شاعر من شعراء هاته المدرسة يكاد يمثل في نفسه مدرسة مستقلة لها مَذهبها الخاص، وطابعُها الممتاز، ولها وجهتها في فهم الشعر وإنشائه.

على أنك تستطيع أن تلمس في آثارهم رغم ذلك روحًا قويةً متأججةً مشرقة كالصباح، متوهِّجةً كاللهيب، هاته الروح هي طلاقة الحياة والحنين إلى المجهول … فالحياةُ الحرةُ المطلقةُ، والأشواق التائهةُ المبهمةُ، أو «الطموحُ» بأشمل معانيه، هو الروح الغالبة البادية في آثار هاته المدرسة التي تجاهد في سبيل الكمال الفنِّي المنشود.

وأبو شادي كشاعر من شعراء هاته المدرسة المجدِّدة له مذهبه، وأسلوبه، وروحه الخاصة الممتازة.

أما مذهبه الشعري — فيما أرى — فهو أن يحرص الشاعرُ كلَّ الحرص على التعبير عما يدوي في أعماق نفسه من أصداء الحياة، وما يخالجها من وحي هذا الوجود، وعلى ألَّا يضيع من ذلك شيئًا ما استطاع إليه سبيلًا. ولعله يؤمن بأن كل تقصير في ذلك يُعدُّ خيانة لأمانة الفن؛ فالشاعر لم يوجد إلا ليؤدي رسالة هذا الكون الذي لا تسكت ألسنةُ الهواتفِ فيه، وكلما قصر الشاعر في أداء هاته الرسالة كان خائنًا لرسالته، وغيرَ مخلصٍ لفنِّه، وهذا هو السرُّ في وفرة إنتاج أبي شادي بالنسبة لغيره من الشعراء.

فهو إِذَن صاحبُ مذهب جديد في الشعر، وأنا أعتقد أن مذهبه هذا يرجع إلى طبعه أكثر من كل شيء آخر، فهو ذو طبع عملي ممتلئٌ بالعزم، والحياة لا تكاد تولِّد الفكرة في أعمال نفسه حتى تحوِّلها طبيعتُه العملية إلى كائن موجود؛ ولذلك فهو لا يستطيع أن يحس إحساسًا لا يعبِّر عنه، ولذلك فهو يعجب كيف يُؤْثر الشاعر وأْدَ عواطفه على بعثها حيَّةً في شعره تتنفس بروح الحياة! وكيف يقتل الكسلُ والاستسلام روحَ الخَلْق في الفنَّان الذي لم يوجد إلا ليخلق! وهو يعبِّر عن مذهبه هذا في كثير من نثره وشعره، ولكنه يعبِّر عنه بحرارة وإيمان في قصيده الجميل الرائع: «التجدُّد» من هذا الديوان.

وأما أسلوبه فهو يمتاز بجمال الطبع والسهولة، والبساطة الحرة الواضحة التي لا تحبُّ التكلف ولا تسعى إليه، وهو يرسله إرسالًا، كما قال «مثل الأتِيِّ ومثل الجدول الجاري» لا يتأنق فيه ولا يتعمل، ولا يحرص على ما يحرص عليه بعضُ الشعراء من ظهور آثارهم بمظهر المترف الأنيق، ولكنه يحرص كل الحرص على أن يكون صادقًا دقيقًا في التعبير عن ذات نفسه ولو أدَّى به ذلك إلى الغموض أحيانًا.

أما بعضُ الناقدين الذي يجرِّدون أسلوب أبي شادي من الجمال فإنهم يظلمون الرجل ويتحاملون عليه، فإن أسلوبه لا يفقد الجمال ولكنه يفقد الأناقة، وشتان بين الأناقة والجمال، والحق أن الشاعر إمَّا أن يضيِّع غير قليل من أحاسيسه وأصوات قلبه في سبيل الأناقة والاندفاع مع الرنين الموسيقي، وإما أن يضيع غير قليل من هاته الأناقة في سبيل التعبير عن ذات نفسه بدقةٍ وأمانةٍ، وأبو شادي لا يُؤثِر التضحية بمذهبه الذي يدعو إليه ويؤمن به في سبيل التزويق والتنويق.

وأما الرُّوحُ التي يمتاز بها شعر أبي شادي فهي روحانية عميقة، وصوفية بعيدة المدى، وإحساسٌ مُرْهَفٌ مشبوبٌ، وخيالٌ متنقِّلٌ سريعٌ. وبهاته الروح المركَّبة ينظر أبو شادي إلى هذا الوجود فلا يرى فيه إلا أحياء جديرة بالمحبة والعطف، يعاطفها وتعاطفه، وتشاركه الأنسَ والحياة، وبهاته الروح يهتف قائلًا من أعماق قلبه:

وكم في الظلِّ والأنوا
رِ أحلامٌ أناديها!
أبو القاسم الشابي
تونس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤