كلمةٌ خِتَامِيَّةٌ

صاحب الديوان

شعر الجيل

لما أصدرت الأديبةُ الناقدة إيمي شارب في سنة ١٨٩١م كتابها البديع عن الشعراء الفكتوريين Victorian Poets — أي الذين عاصروا الملكة فكتوريا، وعصرُها عصرٌ حافلٌ بالأدب — أشارت في مقدمته إلى اعتبارات نقدية وجيهة نبسطها فيما يلي:
  • (١)

    إنَّ الشعر لن تُعرفَ روحُه الحقيقة ما لم يتقدم إليه الناقد بعطفٍ واحترامٍ وخشوعٍ، وأمَّا التعصب ضدَّه من البداية والاشمئزاز منه فمما يقضي على قُدرة النفاذ إلى لبِّه، وتمييز غثه من سمينه، فليس التحاملُ مشكاةً للحقيقة بل قبرًا لها.

  • (٢)

    إنَّ دراسة شعر العصر لها ميزة الوقوف على لغته وتاريخه وعاداته مما يجعل البصر بآثار الشعراء صحيحًا، ويجعل هذه الدراسة نابضةً بالحياة، بعكس دراسة الشعر في عصر قديم، فإنها تحتِّم أولًا الوقوف على تلك التفاصيل قبل التمكن من النقد النزيه؛ لأن من الحَتْم ربطَ الشِّعر بالمناسبات المشتقة من تراجم أصحابه.

  • (٣)

    إنَّ الشاعر كلما كان مبتكرًا أصيلًا صعب على بيئته فهمه وتقديره في البداية، وقد تعوَّدنا التهكُّم على بُرود العصر الذي لم يدفع ثمنًا «للفردوس المفقود» أكثر من اثني عشر جنيهًا، والذي لم يحفل بشعر وردزورث، ولكن إذا كانت البيئة قادرة على التسامي إلى منزلة العبقري فإنَّ الحاجة إلى إظهار مواهب العبقري وتتويجها تكون حينئذ هينة.

  • (٤)

    إنَّ الخطر من دراسة الشعراء في عصرهم يرجع إلى التغالي في تقديرهم، والإصغار من شأن العصور الأخرى وشعرائها، ومثل هذا الخطر يجب التحرُّز منه.

  • (٥)

    إنَّ صُحبةَ الشعراء هي خير مدرسة للتعرُّف إليهم؛ لأنَّ الوقوف على طباعهم، وعلى دقائق المؤثرات الموحية إليهم والمغذية لنبوغهم أو عبقريتهم يساعد خير المساعدة على الحكم على أعمالهم المعبرة عن شخصياتهم وسيرهم.

  • (٦)

    إنَّ مجموع الحسنات لصغار الشعراء المقلين ذخيرةٌ أدبيةٌ عظيمة لا يجوز بحالٍ إغفالها، والحفاوة بشعرهم ودراسته مما يساعد فيما بعد على دراسة كبار الشعراء، ولو أقدم الجمهور أولًا على العناية بأولئك المقلِّين المجددين لاستساغ فيما بعد كبار الشعراء بعكس الحال فيما لو عُني أولًا بمحاولة دراسة الأخيرين؛ مما قد يؤدِّي به إلى كراهية الشعر على الإطلاق!

•••

رجعتُ إلى هذه الملاحظات على أثر فراغي من الإمعان في الدراسات الأدبية النقدية التي اقترنتْ بهذا الديوان، والتي أشرتُ إليها في تصديره، فإنها — فيما أعلم — من إيحاء أمثال هذه العوامل التي تأثر بها الزملاءُ الأَفاضل الذين تقدَّموا لدرسه ونقده، وقد تناول كلٌّ منهم بحثًا يُعَدُّ في حكم المتخصِّص فيه. ومن الإنصاف أن أقول إنَّه من النادر في هذا الزمن أن يؤدِّي الإعجاب المتبادل بين نفرٍ من الشعراء إلى مثل هذه الرغبة في التحقيق والإنصاف ونصرة الأَدب، فالروح السائدة هي روح الإصغار والتحامل والتحاسد والإِثرة، وهي روح لا تساعد على الوقوف على نماذج الجمال المتنوِّعة، ولخَيرٌ منها ألف مرة «المغالاة» التي أؤاخَذُ عليها في شغفي بالتفتيش عن الجمال المستور في كل شيء … بيد أني أنتسبُ إلى مدرسةٍ اشتراكيةٍ في الأدب تؤمن بالتعاون إيمانًا لا يضحِّي بالشخصية، ولا بالآثار الذاتية لأيِّ فنَّان، وإنما تنزع إلى التساند على إظهار المواهب المتنوعة، وتعترف بأن صُوَرَ الجمال غير محدودة، وأن جميعها جديرةٌ بأن تتبوَّأ مكانها تحت الشمس، وأن أهلها حريُّون بمنازل الكرامة، وبعكس ذلك المدارسُ الفردية التي تُخْلَق لعبادة الأصنام، ويحارب بعضُها بعضًا؛ لأنها تحفل قبل كل شيء بتمجيد زعمائها، بل لم تُخلق أصلًا إلا لتمجيدهم، ومن أجلهم ومن أجل أهوائهم تقوم الخصومات والحروب بين فريق وفريق على غير فائدةٍ خالصةٍ للأدب ذاته!

فالحفاوةُ بشعر هذا الديوان في حدود النقد الأدبي إنما هي حفاوة بشعر الجيل الذي تعوَّدَ النقادُ من قبل إصغاره متطلِّعين إلى الوراء، مشغوفين بتقديس القديم وحده … فمن علامات التطوُّر السليم أن يُحفَلَ جدِّيًّا بنقد الشعراء المعاصرين وتقديرهم، وأن يكون نصيبُ شعري من ذلك نموذجًا للتقدير العام للشعر العصري، وإنْ لم يزلْ بَعْدُ هذا التقديرُ في بدايته. وهذه هي الروح التي تعنيني، وفيما عدا ذلك فلن يُرضيني على الإطلاق تمجيدُ أدبي على حساب أيِّ أديبٍ آخر، بل يَسرُّني كل السرور التغني بتفوُّق أقراني وإبراز مواهبهم، ولولا احترامي لحرية الرأي والنقد لما أبَحْتُ شيئًا من الإشادة بشعري مما أعدُّه فوق كفايتي، وأنسبُه إلى سماحة زملائي النُّقَّاد، وإلى نُبل نفوسهم الحرة الشاعرة.

إني لعظيمُ الرجاء في الشباب الذي أعدُّه روحَ الجيل الحاضر وأمل المستقبل، وما نحن إلا حلقة اتصالٍ بينه وبين تراث الماضي المجيد، وقد أوشكنا أن ننتهي من تأدية الأمانة إليه بعد أن أضفنا إليها غايةَ مجهودنا الصغير. وليس من الرجاحة أن نُغالي في تقدير هذا المجهود، وفي تقريظ شعر الجيل الحاضر، ولكننا لا نقول غير الإنصاف إذا صرَّحنا بأن الشعر العربي في هذا العصر قد بلغ عند أقطابه ونابهيه غايةً لم يظفر بمثلها من قبل، بل لم يحلم بها، وإن من نماذجه الراقية ما لا يقلُّ عن أسمى الشعر الغربي إن لم يَفُقْها شأنًا.

وليس عجيبًا أن يتنكر الجمهور أولًا لكل تجديد، فقد تغافلَ زمنًا عن مطران وشكري والعقاد وأمثالهم، وما يزال بين أفراده من يتوهم أن هؤلاء النابهين معدودون بين الشعراء ظُلمًا! فما من أمة إلا وتُمثَّل فيها هذه المآسي، وعلى الأخص نحو شعراء الشباب، وقد أنكرت البيئات الجامدة من قبل شاعرية أبي العلاء المعري، وابن الرومي، ومارلو، وشيلي، وكيتس، وكثيرين غيرهم من أقطاب الشعر العالمي.

وأظهر الأمثلة لِعَزَاء شعراء الشباب ما لاقاه أمثال مارلو (صديق شكسبير ومرشده، وإمام الشعر المرسل في قومه، ومبدع التراجيدية في الأدب الإنجليزي)، وشيلي (الشاعر الغنائي الحر الفنان الذي حُرِمَ حتى إبراز اسمه على قصائده ومؤلفاته، وكانت تُغفل إغفالًا)، وكيتس (قرين شيلي في ليريكيته وإبداعه وفتنته بالطبيعة) من العنت والإصغار والتحامل عليهم، ثم أصبحوا في ذمة التاريخ من كواكب الشعر الخالدة وفخر أُممهم!

وفي الحق لا موجبَ لأسف الفنان ولا لعزائه، ما دام يُعنى بفنِّه وحده، فيرغم البيئة عاجلًا أو آجلًا على مسايرته ومطاوعته بدل أن يرضخ هو لها ويضحي بفنه. ولو أجمع شعراءُ الجيل على هذه القاعدة لارتفعوا بمستوى الشعر ارتفاعًا عظيمًا، ولأنصفوه أيَّما إنصافٍ، وأنصفوا معه أنفسهم وزمنهم وأمتهم، ولكنَّ ضعف النفوس، والفتنة بالألقاب والتقريظ، والشغف بإنشاء الأحزاب الشخصية، والتزلف إلى النقاد والجهلاء، والتفنن في المنافسات العقيمة التي لا تمتُّ بصلة إلى الفن، كلُّ هذه العوامل أساءت، وما تزال تسيء إلى النهضة الفنية التي نعمل لها.

ولقد نادينا تكرارًا بمثل ما نادت به إيمي شارب في جيلها منذ نيف وأربعين سنة عن أهمية العناية بالشعر العصري، ووجوب الاتصال المباشر بشعراء الجيل، والوقوف عن كثب على المؤثرات، والعوامل المكيِّفة لشعرهم، ثم تجيء الدراساتُ النقديةُ صادقة نزيهة مستوعبة أدقَّ الاستيعاب لإبداع أولئك الشعراء، كذلك نادينا بواجبِ الحفاوة بجميع الشعراء صغارهم وكبارهم على السواء، إذ لو لم يكن لكل شاعرٍ صغيرٍ مقلٍّ سوى قصيدة أو اثنتين رائعتين لنجمتْ لنا من حسناتهم ثروة فنية عظيمة، في حين أننا لا نغنم شيئًا بتجاهلهم، بل نكون ويكون معنا الأدبُ من الخاسرين.

ولا أنكر أن كثيرين ينتسبون إلى النقد الأدبي، وهم لا يعرفون شيئًا عن أصوله، وعلى دعاية هؤلاء تقوم بين وقت وآخر هَبَّةُ الفتنةِ بالإمارات والزعامات الشعرية، وإلهاء الشعراء عن أعمالهم الفنية الصحيحة، وإشغالهم بالعرض دون الجوهر، بل تعريضهم لما يُنافي كرامتهم والروح الفنية التي يجب أن تكون وحدها نبراسَهم.

وقد بلغ الجهلُ ببعض النُّقاد ألَّا يفرقوا بين اجتماع الفنون وافتراقها، وبين الشعر والنظم والنثر والموسيقى! فإذا قلت لهم إن كلًّا من البحتري وشوقي موسيقار قبل أن يكون شاعرًا، وإن كلًّا من ابن الرومي ومطران شاعر قبل أن يكون موسيقارًا أسقط في أيديهم! … ويصعب على أمثال هؤلاء أن يفهموا أن النَّظْم يقابله النثر، وليس الشعر هو الذي يقابل النثر، فإنَّ الشعر جوهرٌ وليس صياغةً، وقد يوجد في النظم والنثر على السواء، وإنما الشاعر يلجأُ إلى النظم بفطرته في كثير من الأحوال ليستعين بموسيقيته على الاستهواء: استهواء نفسه المتأثرة المعبِّرة، ثم استهواء قارئيه عن طريقها، وأن بعض الشعراء يكون موسيقيًّا بفطرته في كل شعره تقريبًا؛ فيجتمع له فنَّانٌ مثل اللورد تنيسون، وبذلك يزداد تأثيره على قرائه، ومعظمهم لا يخلو شعره من اجتماع الشعر الأصيل بالموسيقى في بعض النماذج، وآخرون تجد الشاعرية القوية هي وحدها البارزة في شعرهم، كما أن بعض الشعراء ينبغ في فنين أو أكثر مثل: روزيتي، وجبران، فقد كان كلاهما شاعرًا بارعًا ومصوِّرًا، فإذا أخرج الشاعر ديوان شعر جامعٍ بين الروح الشعرية القوية والموسيقى اللفظية الرائعة والصُّوَر الفنية الساحرة، فإنَّ اجتماع هذه الفنون الثلاثة يكون عظيم الأثر في نفوس الأدباء، ولكنَّ الناقد الأدبي الذي يفتِّش عن الروح الشاعرة لا يعبأ بكل هذا، وإنما يعبأ بالروح الشاعرة وحدها، مثالُ ذلك: الناظر في ديوان عبد الرحمن شكري نظرةً شعريةً بحتةً فإنه لا يهمُّه أن يكون ديوانُه مطبوعًا على ورق رخيص مجرَّدًا عن الرسوم الفنية، ولا أنَّ ألفاظه بعيدة عن موسيقى الرنين المألوفة، وإنما كل ما يعنيه أن يضع يده على شواهد الشاعرية العظيمة في كل صفحة من صفحات الديوان، وحينئذ يصيح قريرًا: هنا تطوف روحُ شاعرٍ عظيم!

وقد بلغ الجهلُ والخلطُ بكثيرين ممن يَتصدَّون للنقد ألَّا يفقهوا أنَّ من روائع الشعر ما يسكن النثر، وأن للنثر موسيقية خاصة فاتنة، كما ترى في مقطوعات أمين الريحاني، وحسين عفيف، وتوفيق مفرج، وفي آثار غيرهم من الشعراء الناثرين، وأن موسيقى النظم كثيرة التنوُّع حسب الأوضاع والمناسبات، ويجب أكيدًا أن تتنوع. وبَلغ بهم الشططُ ألَّا يفهموا معاني التصوُّف في الشعر، ومنزلة المرأة في الفنون، فصاروا يؤاخذون حيثما ينبغي أن يمتدحوا، وفُتنوا بحلاوة الألفاظ أو برنينها الفتنةَ التقليدية المعهودة فباتوا يصفون صاحبَ الرنين الحلو بالشاعر العظيم بدل أن يُنعت بالموسيقيِّ مثلًا، وصاروا ينسبون إلى عبقريات الوصف المعاني الشائعة ما دامت تنتظمها الموسيقى اللفظية، ويكفرون بآيات الشعر التي لا تكون في نظام من الموسيقى التقليدية … ولو كانت هذه الروحُ الضالَّةُ مسيطرةً على رجال الفنون جميعًا لما قامت لنا قائمة، فإنها روحٌ لا تتطلب الكمال، وإنما تتشبث بكل عتيقٍ مألوف، ولا تعرف معنى الابتداع الفنِّي وإن تشدَّقتْ به؛ لذلك يجيء نقدُها رخيصًا عاثرًا، بل ميتًا لا جَدْوَى منه.

وأين هذا من تَشَدُّد الغربيين في النقد؟ أين سِونبرن الآن؟ بل أين أستاذه فكتور هوجو؟ وما أدراك مَن سونبرن وفكتور هوجو في زمنهما؟! بل إن سونبرن في نفس زمنه برغم عظمته الليريكية، وتمجيده الشعري للطبيعة، وبعثه التراجيديا الإغريقية، وبرغم عبقريته الدرامية كما تَرى في ملحمته «أطلنطا في كاليدون» كان معدودًا موسيقارًا أكثر منه شاعًرا، وهو هو صاحب هذا الشعر الفلسفي البديع:

From too much love of living,
From hope and fear set free,
We thank with brief thanksgiving
Whatever gods may be
That no life lives for ever;
That dead men rise up never;
That even the weariest river
Winds somewhere safe to sea.

وهذا البَطرُ من الغربيين هو دليلُ ثروتهم، ونحن لا ندعو إلى التَّشبُّه بهم في ذلك، ولكنما ندعو إلى الإنصاف وحده، فلا يُحجَرُ على الشعراء ولا تُبخَس أعمالُهم قدرها، وذلك في مصلحة الجمهور نفسه؛ لأنَّ الفنَّ ذاته لا تعنيه العقبات الوقتية ولا جحود البيئة إذ سوف ينتصر في النهاية سواء أفي هذا الجيل أم فيما بعده، فالفنُّ معنًى حيُّ خالدٌ، وإنما الخاسر بالتغاضي عنه هو وحده الجيل المتغاضي.

ومن الزراية بالشعر أن يعيِّن بعضُ النُّقَّاد للشعراء الموضوعات التي يجب أن يحصروا اهتمامهم فيها، بينما مِن حقِّ الشعر كفنٍّ أن يقول ما يشتهي ما دام يقول ذلك في أسلوب جيِّد، على حد تعبير سِونبرن نفسه. وكم أُلقيت التُّهم المرذولة جزافًا على شعراء لا يعنيهم غير التسامي بالأدب، وتقديس الجمال، ونقد الحياة نقدًا صادقًا، وخَلْق المُثُل العُليا. كذلك من الزراية بالشعر والشعراء أن يقال إن في النثر غُنيةً عن الشعر كأنما النثر مقابلُه أو منافسُه، وينسى هؤلاء المتصدِّرون للنقد والإرشاد أثر الفنون الجميلة (والشعر بينها) في تهذيب الأمم أحسن تهذيب بتثقيف العقل الباطن الذي لا تُنسَب ويلات الإنسانية إلَّا إلى جموحه؛ لأنه جماع الغرائز، ومَكمنُ الإنسان البدائي … ومن نكد الدنيا على الشعر والشعراء أن يلاموا على تآلفهم وتعاونهم الأدبي والمادي، وإن احتفظوا كلَّ الاحتفاظ بمذاهبهم الخاصة وشخصياتهم وإنتاجهم المستقل، بينما كثيرون من شعراء العربية أسوأ حالًا من الشاعر الفرنسي رينيه ليسليه الذي أعلن عزمَه على الطواف في شوارع باريس ليبيع ديوانه الأخير «لمَّا كان النحلُ يُغَنِّي» …

إن شعر الجيل هو الشعر الصميم الصادق المطبوع، وهو جوهرٌ في ذاته له قيمته السامية، كما لكلِّ فن يقترن به قيمته الأخرى، وشعراء هذا الجيل يأبون تحكم الغرض والتقليد والقصور في الفنِّ، وإن رحَّبوا كلَّ الترحيب بالنقد الفنِّي الدقيق، فمن شاء أن يتذوَّق هذا الشعر ويقدره فليقرأه بروح الشاعر، وبروح الشاعر وحده، وإلا فليكتفِ بنظم القرون السوالف، ولا أقول بشعرها؛ فشعرها أيضًا حيٌّ خالدٌ، ولن يعرف قيمته غير ذوي البصر بالشعر الصحيح.

ولا يسعني أخيرًا إلا تكرار الشكر للزملاء الشعراء المبرِّزين من تونس والعراق ومصر، الذين تضافروا من شتى النواحي على دراسة هذا الديوان بنفوسهم الصافية الكريمة، فجاءت دراساتهم تحية للشعر العصري عامةً لا لشعري وحده، وأرتقب باطمئنان من اطراد الرقيِّ الثقافيِّ في بيئتنا ألَّا يحتاج مثلُ هذا الشعر في المستقبل إلى أمثال هذه الدراسات؛ إذ يُصبح شذوذُه مألوفًا، ويسترعي الانتباهَ بدلًا عنه شعرُ الشباب الوثَّاب، وهذه هي السُّنَّةُ الطبيعيةُ للحياة. فليكنْ إذن هذا الديوانُ وما سبقهُ وما سوف يَتبعهُ من دواويني بين درجات الرقيِّ للشباب الشاعر المتسامي إلى الكمال، لا منبرًا لشهرتي الخاصة التي قد بلغتُ منها الكفاية، وهي أول ما يسأمُه الفنَّانُ المتجرِّدُ لفنِّه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤