محاسن الوفاء

قِيل في المَثل: أوْفى من فُكيهة، وهي امرأة من بني قَيس بن ثَعلبة، كان من وفائها أنَّ السُّليك بن سُلكة غزا بكرَ بن وائل، فلم يجِد غفلةً يلتمِسها، فخرَج جماعة من بكرٍ فوَجَدوا أثرَ قدَمٍ على الماء، فقالوا: إنَّ هذا الأثر لأثَرُ قدَمٍ ورَدَ الماء فقَعَدوا له، فلمَّا وافى حمَلوا عليه، فعدا حتى ولجَ قُبَّةَ فُكيهة، فاستجار بها فأدخلَتْه تحت درعها، فانتزَعُوا خِمارها فنادَتْ إخوتَها، فجاءوا عشرة فمنعوهم منها. قال: وكان سُليك يقول: كأنِّي أجِدُ خُشونةَ شَعْر إستِها على ظَهري حين أدخلتْني تحت درعها، وقال:

لعَمْرُ أبيكَ والأنباءُ تَنْمِي
لنِعْمَ الجارُ أُختُ بني عُوَارَا
من الخَفَرَات لم تفضَحْ أخاها
ولم تَرْفَعْ لوالدِها شَنارا
عَنيتُ به فُكَيهَةَ حِين قامت
لنصلِ السَّيْفِ فانتَزعوا الخِمارا

ويُقال أيضًا: هو أوفى من أمِّ جميل، وهي من رهْطِ ابن أبي بُردَة من دوس، وكان من وفائها أنَّ هشام بن الوليد بن المُغيرة المَخزومي قتلَ رجلًا من الأزد، فبلغَ ذلك قومَه بالسراة، فوثَبوا على ضِرار بن الخطَّاب الفِهري ليقتُلوه، فعدا حتى دخل بيتَ أمِّ جميل وعاذ بها، فقامَتْ في وُجوهِهم ودعَتْ قومَها فمَنعوه لها، فلمَّا وُلِّيَ عُمر بن الخطاب ظنَّت أنه أخوه فأتَتْه بالمدينة، فلما انتسَبتْ له عرَفَ القِصَّة، فقال: إنِّي لستُ بأخِيه إلَّا في الإسلام وهو غاز، وقد عرفْنا مِنَّتك عليه. وأعطاها على أنَّها ابنة سبيل. ويُقال: أوفى من السَّموءل بن عاديا، وكان من وفائه أنَّ امرأ القَيس بن حجر لمَّا أراد الخروج إلى قَيصر استودَعَ السَّموءل دروعًا له، فلمَّا مات امرؤ القَيس غزاه ملكٌ من ملوك الشام، فتحرَّز منه السَّموءل، فأخذ الملكُ ابنًا له خارج الحِصن وصاح به: يا سموءل، هذا ابنك في يدي وقد علمتَ أنَّ امرأ القَيس ابن عمِّي وأنا أحقُّ بمِيراثه، فإن دفعتَ إليَّ الدُّروع وإلَّا ذبحتُ ابنك، فقال: أجِّلني فأجَّله، فجمع أهل بيتِه فشاوَرَهم، فكلهم أشاروا بدفْع الدُّروع وأن يَستنقِذَ ابنه، فلمَّا أصبح أشرَفَ عليه وقال: ليس لي إلى دَفْع الدُّروع سبيل، فاصنَعْ ما أنت صانع، فذَبَح الملك ابنه وهو ينظر إليه وكان يَهوديًّا، وانصرَف الملك ووافى السَّموءل بالدُّروع الموسم، فدفعها إلى ورثةِ امرئ القَيس، وقال في ذلك:

وَفَيْتُ بأدرُعِ الكِندِيِّ إنِّي
إذا ما خان أقوامٌ وَفَيتُ
وقالوا عِنده كنزٌ رَغيبٌ
فلا وأبيك أغدُرُ ما مشيتُ
بنى لي عاديا حِصنًا حَصينًا
وبئرًا كلَّما شئتُ استَقيتُ

وفي ذلك يقول الأعشى:

كُن كالسَّموءَلِ إذ طاف الهُمامُ به
في جَحْفلٍ كَسَوادِ الليل جَرَّارِ
بالأبلقِ الفردِ من تَيماء مَنزلُهُ
حِصنٌ حَصينٌ وجارٌ غيرُ غَدَّارِ
خَيَّرَهُ خُطَّتي خَسْفٍ فقال له:
مَهْما تقولنْ فإني سامِعٌ حارِ
فقال: ثُكْلٌ وغَدْرٌ أنت بينهما
فاختَرْ فما فيهما حظٌّ لِمُختار
فشكَّ غيرَ طويلٍ ثمَّ قال له:
اقتُلْ أسيرَك إنِّي مانعٌ جاري

ويُقال: أوفى من الحارِث بن عباد، وكان من وفائه أنه أسَرَ عديَّ بن ربيعة ولم يعرِفه، فقال له: دُلَّني على عديِّ بن ربيعة ولك الأمان، فقال: أنا آمِنٌ إن دللتُك عليه؟ قال: نعم، قال: فأنا عديُّ بنُ ربيعة فخلَّاه، وفي ذلك يقول الشاعر:

لهْفَ نَفْسي على عديٍّ وقد شا
رفه الموتُ واحتوتْهُ المَنون

ويُقال: هو أوفى من عَوف بن مُحلم، وكان من وفائه أنَّ مروان القرظ غزا بكرَ بن وائل ففضُّوا جَيشه، وأسرَه رجلٌ منهم وهو لا يعرِفه، فأتى به أُمَّه فقالت: إنك تَختال بأسيرك كأنَّك جئتَ بمروان القرظ، فقال مروان: وما تُرجِّين من مروان؟ قالت: عِظَم فدائه. قال: وكم تُرَجِّين من فدائه؟ قالت: مائة بعير. قال: لكِ ذلك على أن تَرُدِّيني إلى خُماعة بنت عوف بن مُحلم. قالت: ومَنْ لي بالمائة؟ فأخذ عودًا من الأرض وقال: هذا لك. فمضَتْ به إلى بيت عوف فاستجار بخُماعة ابنته، فبعثتْ به إلى عوف. ثُمَّ إنَّ عمرو بن هند بعثَ إلى عَوف أنْ يأتِيه بمروان، وكان واجدًا عليه في شيء، فقال عَوف لرسوله: إنَّ خماعة ابنتي قد أجارتْه، فقال: إنَّ الملك قد آلى أن يَعفوَ عنه أو يضع كفَّه في كفِّه. فقال عوف: يفعَل ذلك على أن تكون كفِّي بينَ أيديهما، فأجابه عمرو إلى ذلك، فجاء عَوف بمَروان فأدخله عليه، فوَضع يدَه في يدِه ووضع يدَه بين أيديهما، فعُفِيَ عنه. ومنهم الطائي صاحِب النُّعمان بن المنذر، وكان من وفائه أنَّ النُّعمان ركِب في يوم بؤسِه — وكان له يومان: يوم بُؤسٍ ويوم نعيم — لم يَلقَهُ أحد في يوم بؤسِه إلَّا قتله، ولا في يوم نَعيمه إلَّا أحياه وحَباه وأعطاه، فاستقبَله في يوم بؤسه أعرابي من طيِّئ، فقال: حيَّا الله الملك، إن لي صِبيَةً صغارًا لم أوصِ بهم أحدًا، فإن رأى الملك أن يأذَنَ لي في إتْيانِهم وأُعطيه عهد الله أن أرجِع إليه إذا أوصيتُ بهم حتى أضعَ يدي في يَدِه! فرقَّ له النُّعمان وقال له: لا، إلَّا أن يضمَنَك رجلٌ ممَّن معنا، فإن لم تأتِ قتلناه. وكان مع النُّعمان شريك بن عمرو بن شراحيل، فنظر إليه الطائي وقال:

يا شَريك بن عَمرو
هل مِن الموت مَحالة
يا أخا كُلِّ مُضافٍ
يا أخا مَنْ لا أخا له
يا أخا النُّعمان فُكَّ الـ
ـيَوْم عن شَيخٍ غِلاله
ابنُ شَيْبانَ قَبيلٌ
أصلح الله فَعَاله

فقال شريك: هو عليَّ أصلَحَ الله الملك، فمضى الطائي وأجَّل له أجَلًا يأتي فيه، فلمَّا كان ذلك اليوم أحضَرَ النُّعمان شريكًا وجعل يقول له: إن صدْر هذا اليوم قد ولَّى، وشريك يقول: ليس لك عليَّ سبيلٌ حتى نُمسي، فلمَّا أمسَوا أقبل شخصٌ والنُّعمان ينظر إلى شريك، فقال شريك: ليس لك عليَّ سبيل حتى يدنوَ الشَّخصُ فلعلَّه صاحبي، فبينما هما كذلك إذ أقبل الطائي، فقال النُّعمان: والله ما رأيتُ أكرَمَ منكما، وما أدري أيُّكما أكرم. أهذا الذي ضَمِنك وهو الموت؟ أم أنت وقد رجعتَ إلى القَتْل؟ والله لا أكون ألْأمَ الثلاثة، فأطلقَهُ وأمر برفْع يومِ بؤسِه. وأنشدَ الطائي:

ولقد دعَتْني للخِلاف عَشيرتي
فأبيتُ عند تَجهُّم الأقوال
إنِّي امرؤٌ منِّي الوفاء خليقةٌ
وفِعالُ كلِّ مُهذَّبٍ بذَّالِ

فقال النُّعمان: ما حمَلك على الوفاء؟ قال: دِيني. قال: وما دِينُك؟ قال: النصرانية. قال: اعرِضْها عليَّ فعرَضَها عليه فتنصَّر النُّعمان.

ضده

قيل: كتبَ صاحِب بريد همذان إلى المأمون وهو بخراسان يُعْلمه أنَّ كاتب صاحِب البريد المَعزول أخبرَه أن صاحِبه وصاحِب الخراج كانا تواطآ على إخراج مائتي ألف دِرهم من بيتِ المال واقتَسماها بينهما. فوقَّع المأمون إنَّا نرى قَبول السعاية شرًّا من السِّعاية؛ لأنَّ السِّعاية دلالة والقَبول إجازة، وليس مَنْ دلَّ على شيءٍ كمن قَبِله وأجازه، فأنِفَ السَّاعي عند ذلك وقال: يا أمير المؤمنين، رضِيَ الله عنك، المعْذِرة؛ فإنَّ الساعي وإن كان في سِعايته صادقًا لقد كان في صدقِه لئيمًا؛ إذ لم يحفَظ الحُرمة ولم يفِ لصاحبه. قال: ودخل رجل على سُليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، عندي نصيحة، قال: وما نَصيحتك هذه؟ قال: فلان كان عاملًا ليزيد بن معاوية وعبد الملك والوليد فخانَهم فيما تولَّاه، ثمَّ اقتطع أموالًا كثيرةً جليلةً فمُرْ باستِخراجها منه. قال: أنتَ شرٌّ منه وأخْوَن حيثُ اطَّلعْتَ على أمره وأظهرتَه. ولولا أني أُنَفِّرُ النُّصَّاح لعاقبتُك، ولكن اخترْ منِّي خصلةً من ثلاث. قال: اعرضهنَّ يا أميرَ المؤمنين: قال: إن شئتَ فتَّشْنا عمَّا ذكرتَ فإن كنتَ صادقًا مَقتناك، وإن كنتَ كاذبًا عاقبناك، وإن استقلتَ أقلْناك، فاستقاله الرَّجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤