النساء الماجنات

قال سليمان بن عبد الملك: أنشدوني أحسن ما سمعتم من شعر النساء؟ فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، سار رجل من الظرفاء في بعض طرقاته إذ أخذته السماء، فوقف تحت مظلة ليستكن من المطر وجارية مشرفة عليه، فلما رأته قذفته بحجر، فرفع رأسه وقال:

لو بتفاحةٍ رَميتِ رَجوْنا
ومنَ الرَّمي بالحصاةِ جَفاءُ

فأجابته:

ما جَهِلنا الذي ذَكَرْت من الشكـ
ـلِ ولا بالذي نراه خَفاءُ

وداية معها فقالت:

قد بدأتيه ما ذكرت وجدِّي
ليتَ شعري فهل لهذا وفاءُ

وسائلة في الباب فقالت:

قد لعمري دعوتها فأجابت
هي داءٌ وأنت منه شفاءُ

قال سليمان: قاتلها الله هي والله أشعرهم.

«عنان جارية الناطفي»: قال السلولي: دخلت يومًا على عنان وعندها رجل أعرابي، فقالت: يا عم، لقد أتى الله بك، قلت: وما ذاك؟ قالت: هذا الأعرابي دخل عليَّ فقال: بلغني أنك تقولين الشعر فقولي بيتًا، فقلت لها: قولي، فقالت: قد أرتَجَ عليَّ، فقل أنت، فقلت:

لقد جَدَّ الفراقُ وعيلَ صبري
عشيَّةَ عيرُهُم للبين زُمَّتْ

فقال الأعرابي:

نَظَرتُ إلى أواخِرِها ضحيًّا
وقد بانت وأرضَ الشام أمَّت

فقال عنان:

كتمت هواكمُ في الصدر مني
على أنَّ الدُّموعَ عليَّ نَمَّت

فقال الأعرابي: أنتِ والله أشعرنا، ولولا أنك بحرمة رجل لقبَّلتك، ولكني أقبِّلُ البساط. وقال بعضهم: دخلت على عنان فإذا عليها قميص يكاد يقطر صبغه، وقد تناولها سيدها بضرب شديد وهي تبكي، فقلت:

إن عنانًا أرسلت دمعها
كالدرِّ إذ ينسلُّ من سِمْطِه

فقالت وأشارت إلى مولاها:

فليتَ مَنْ يَضرِبُها ظالمًا
تجِفُّ يُمناه على سوطِه

فقال مولاها: هي حُرَّة لوجه الله أن ضربتها ظالمًا أو غير ظالم. قال: واجتمع أبو نواس والفضل الرقاشي والحسين الخليع وعمرو الورَّاق ومحكم بن رزين والحسين الخياط في منزل عنان، فتناشدوا إلى وقت العصر، فلما أرادوا الانصراف قالوا: أين نحن الليلة؟ فكلٌّ قال: عندي، فقالت عنان: بالله قولوا شعرًا وارضوا بحكمي، فقال الرقاشي:

عذراءُ ذاتُ احمِرارٍ
إنِّي بها لا أُحاشي
قوموا نداماي رووا
مُشاشكم من مُشاشي
وناطحوني كئوسًا
نِطاحَ صُلْبِ الكِباشِ
وإن نكَلْتُ فحِلٌّ
لكْم دمي ورياشي

فقال أبو نواس:

لا بل إليَّ ثِقاتي
قوموا بنا بحياتي
قوموا نلذُّ جميعًا
بقولِ هاك وهات
فإن أردتم فتاة
أتيتُكم بفتاتي
وإن أردتم غُلامًا
صادفتموني مؤاتي
فبادروه مجونًا
في وقت كلِّ صلاةِ

وقال الحسين بن الخليع:

أنا الخليعُ فقوموا
إلى شرابِ الخليعِ
إلى شرابٍ لذيذٍ
وأكل جَدْيٍ رضيع
ونيكِ أحوى رخيمٍ
بالخندريس صريع
قوموا تنالوا وشيكًا
مثال مُلكٍ رَفيعِ

وقال الوراق:

قوموا إلى بيتِ عمرو
إلى سِماعٍ وخَمْرِ
وساقياتٍ علينا
تُطاعُ في كلِّ أمرِ
وبَيسَريٍّ رخيمٍ
يزهو بجيدٍ ونحرِ
فذاك بَرٌّ وإن شئـ
ـتم أتينا ببحرِ
هذا وليس عليكم
أولى ولا وقت عَصْرِ

وقال محكم بن رزين:

قوموا إلى دارِ لهوٍ
وظِلِّ بيتٍ دَفينِ
فيه من الوردِ والمَر
زَنْجوشِ والياسمين
وريحِ مسكٍ ذَكيٍّ
وجَيِّد الزرْجون
قوموا فصيروا جميعًا
إلى الفتى ابن رَزينِ

وقال الحسين الخياط:

قضَتْ عِنانُ علينا
بأن نَزورَ حُسَينا
وأن تقِرُّوا لديه
بالقَصْفِ والله عَيْنا
فما رأينا كظرْف الـ
ـحُسين فيما رأينا
قد قرَّبَ الله مِنه
زينًا وباعَدَ شَينا
قوموا وقولوا أجزنا
ما قد قضيتِ علينا

وقالت عنان:

مهلًا فديتُكَ مهلًا
عِنانُ أحرَى وأوْلى
بأن تنالوا لديها
أسنى النَّعيم وأحلى
فإنَّ عندي حَرَامًا
من الشَّرَابِ وحلَّا
لا تَطْمَعوا في سِوائي
من البريَّةِ كلا
يا سادتي خبِّروني
أجاز حُكمي أم لا

فقالوا جميعًا: قد أجزنا حكمك وأقاموا عندها، قال: وكتبت عنان إلى الفضل بن الربيع:

كُن لي هُديتَ إلى الخليفة سُلَّما
بُركت يا ابن وزيره من سُلَّمِ
حُثَّ الإمام على شِراي وقُل له
ريحانةٌ ذُخِرَت لأنفك فاشمم

وكانت عنان تتوقَّى أبا نواس وتخاف مجونه وسفهه، وفيها يقول:

عِنانُ يا مَنْ تُشبهِ العينا
أنتم على الحُبِّ تلومونا
حُسنُك حُسْنٌ لا يُرى مثله
قد ترك الناس مجانينا

فتهيَّأت لأبي نواس وتصنَّعت له إلى أن صار إليها، فرأى عندها بعض وجوه أهل بغداد، فأحب أن يُخْجِلَها، فقال لها:

ما تأمرين لصبٍّ
يكفيه منك قُطَيره

فقالت:

إياي تعني بهذا
عليك فاجلِدْ عُميرَه

فقال:

إنِّي أخاف وربي
على يدي من عُبَيرَه

فقالت:

عليك أُمك نِكْها
فإنها كندَبيرَه

فأخجلته وشاع الخبر حتى بلغ الرشيد، فاستظرفها وطلبها من الناطفي فحُمِلَت إليه، فقال لها: يا عنان، قالت: لبيك يا سيِّدي، فقال: ما تأمرين لصب؟ قالت: قد مضى الجواب في هذا يا أمير المؤمنين، قال: بحياتي كيف قلت؟ قالت: قلت:

إيَّايَ تعني بهذا
عليك فاجلد عُميرَه

فضحك الرشيد وطلبها من مولاها، فاستام فيها مالًا جزيلًا، فردَّها.

«عريب جارية المأمون»:

وأنتم أناسٌ فيكم الغدر شيمةٌ
لكم أوجهٌ شتى وألسنةٌ عَشرُ
عجبت لقلبي كيف يصبو إليكم
على عُظْمِ ما يلقى وليس له صبرُ

«فضل الشاعرة»: حدَّثنا القاسم بن عبد الله الحراني قال: كنت عند سعيد بن حميد الكاتب ذات يوم وقد افتصد، فأتته هدايا فضل الشاعرة ألف جَدْي وألف دجاجة وألف طبق رياحين وطيب عنبر وغير ذلك، فلما وصل ذلك كتب إليها أن هذا يوم لا يتم سروره إلا بك وبحضورك، وكانت من أحسن الناس ضربًا بالعود وأملحهم صوتًا وأجودهم شعرًا، فأتته فضُرِبَ بينه وبينها حجاب، وأحضر قومًا ندماءه ووُضِعَت المائدة وجيء بالشراب، فلما شربنا أقداحًا أخذت عودَها فغنَّت بهذا الشعر والصوت لها والشعر والأبيات هذه:

يا مَن أطلت تفرُّسي
في وجهه وتنفُّسي
أفديك من مُتدَلِّل
يزهو بقتل الأنفُس
هبني أسأت وما أسأ
تُ بلى أقول أنا الُمسي
أحلفْتَني أن لا أُسا
رِقُ نظرة في مجلسي
فنظرت نظرة عاشقٍ
أتبعتها بتنفسي
ونسيت أني قد حلفـ
ـت فما يُقال لمن نسي

وضربت أيضًا وغنَّت:

عاد الحبيب إلى الرضا
فصفحت عما قد مضى
من بعدِ ما لصدوده
شَمِت الحسود فعرَّضا
تعس البغيضُ فلم يزل
لصدودنا مُتعرِّضا
هبني أسأت وما أسأ
تُ فإن أسأت لك الرضا

قال: فما أتى عليَّ يوم أسرَّ من ذلك اليوم.

«صاحبة الفرزدق»: ذكروا أن الفرزدق كان مع أصحاب له، فإذا هو بجارية مع مولاها، فقال لأصحابه: هل أُخْجِل لكم هذه؟ قالوا: نعم، فقال:

إن لي أيرًا خبيثًا
لونه يحكي الكُميتا
لو يرى في السقف صدعًا
لتحوَّل عنكبوتًا
أو يرى في الأرض شِقًّا
لنزا حتى يموتا

فقالت الجارية:

زوِّجوا هذا بألفٍ
وأرى ذلك قُوتا
قبل أن ينقلب الدَّا
ءُ فلا يأتي ويوتى
فخجل الفرزدق وانصرف.١

«صاحبة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي»: قالت:

عزمت على قلبي بأن أكتم الهوى
فضجَّ ونادى إنني غيرُ عاقِل
فإن حان موتي لم أدعك بغُصَّتي
وأقررتُ قبل الموتِ أنَّك قاتلي

«جارية البارقي»: ذكروا أنها أنشدت في مجلس عمرو بن مسعدة:

يا أحسن العالمِ حتى متى
يرتفعُ الحبُّ وأنحط
وكيف منجاي وبحر الهوى
مُذ حفَّ بي ليسَ له شط

فأجيبت:

يُدركك الوصل فتنجو به
أو يَقَعُ البَحرُ فتَنْحطُّ

«المغنية المليحة»: قال عليُّ بن الجهم: كنت في مجلس محمد بن مسعدة، فأقبلت جارية كأنها البدر ليلة التمام بلون كأنه الدُّرُّ في البياض مع احمرار الخدين كشقائق النعمان فسلَّمت، فقال لي محمد: يا أبا الحسن، هذه الجنة التي كنتم توعدون، فقالت:

وما الوعدُ يا سؤلي وغاية مُنْيَتي
فإنَّ فؤادي من مقالك طائرُ

فقال لها محمد:

أما وإله العرش ما قلت سيِّئًا
وما كان إلا أنني لك شاكِرُ

فقال ابن الجهم:

أمسك فديتُك عن عتابِ مُحمَّدٍ
فهو المصونُ لودِّه المتحاذِرُ

فأقبلت تحدِّثُنا، فإذا عقل كامل وجمال فاضل وحسن قاتل وردف مائل، فقلت: لقد أقرَّ الله عينًا تراك، فقالت: أقرَّ الله أعينكم وزادكم سرورًا وغبطةً، ثمَّ اندفعت تغنِّي بنغمة لم أسمع أحسن منها:

أروح بهمٍّ من هواكَ مُبرَّحٍ
أُناجي به قلبًا كثير التفكُّرِ
عليك سلام لا زيارة بيننا
ولا وصل إلا أن يشاء ابنُ مَعمَرِ

فما زلنا يومنا ذلك معها في الفردوس الأعلى، وما ذكرتها بعد ذلك إلا اشتقت لها وأسِفْتُ عليها. محمد بن حماد قال: كُنَّا يومًا عند إسحاق بن نجيح، وعنده جارية يُقال لها: شادن، موصوفة بجودة ضرب العود وشجو صوت وحسن خلق وظرف مجلس وحلاوة وجه، وأخذت العود وغنَّت:

ظبيٌ تكامل في نهاية حُسنهِ
فزَها ببهجته وتاه بصدِّه
فالشمس تطلُعُ من فرند جبينه
والبدرُ يغرَقُ في شقائق خدِّه
ملك الجمال بأسره فكأنما
حسنُ البريَّة كلها من عنده
يا رب هَبْ لي وصله وبقاؤه
أبدًا فلست بعائشٍ من بعده

فطارت عقولنا وذُهِلَت ألبابنا من حسن غنائها وظرفها، فقلت: يا سيِّدتي، مَنْ هذا الذي تكامل في الحسن والبهاء سواك؟ فقالت:

فإن بُحْتُ نالتني عيونٌ كثيرةٌ
وأضعُفُ عن كتمانه حين أكتُمُ
١  في هامش الأصل … قيل: إن هذه الردافة جرت بين أبي نواس وعنان جارية الناطفي، والأبيات تُرْوَى على غير هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤