محاسن حِفظ اللِّسان

قال أكثم بن صَيفي: مَقتلُ الرَّجل بين فَكَّيْه (يَعني لِسانه). وقال: رُبَّ قولٍ أشدَّ من صَول. وقال: لِكُلِّ ساقِطةٍ لاقِطة. وقال المهلَّب لبَنِيه: اتَّقوا زلَّةَ اللِّسان، فإني وجدتُ الرجل تعثُر قدمه فيقوم من عثرته ويزلُّ لِسانه فيكون فيه هلاكه. قال يُونُس بن عبيد: ليسَتْ خُلَّةٌ من خِلال الخير تكون في الرجُل هي أحرى أنْ تكون جامِعةً لأنواع الخير كلِّها من حِفظ اللِّسان. وقال قسامة بن زُهير: يا معشر الناس، إنَّ كلامَكم أكثرُ من صمتِكم، فاستعينوا على الكلام بالصمتِ وعلى الصواب بالفِكر. وكان يُقال: ينبغي للعاقِل أن يحفَظ لِسانه كما يحفَظ مَوضع قدمه، ومَنْ لم يحفظ لسانه فقد سلَّطه على هلاكه. وقال الشاعر:

عليكَ حِفْظَ اللسانِ مُجتهِدًا
فإنَّ جُلَّ الهَلاكِ في زَلَلِه

غيره:

وجُرْحُ السيف تأسُوه فيبرأ
وجُرْحُ الدَّهرِ ما جرَحَ اللِّسانُ
جِراحاتُ الطِّعانِ لها التِئام
ولا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ

غيره:

احفَظْ لِسانَك لا تقول فتُبْتلَى
إنَّ البلاء مُوكَّلٌ بالمنطِقِ

غيره:

لعمرُكَ ما شيءٌ عَلِمْتُ مَكانَهُ
أحقُّ بِسِجْنٍ مِنْ لِسانٍ مُذلَّلِ
عَلى فِيكَ مِمَّا ليسَ يَعنِيكَ قوْلُهُ
بقُفْلٍ شديدٍ حيثُ ما كنتَ فاقْفِلِ

قيل: تكلَّم أربعةٌ من الملوك بأربعِ كلماتٍ كأنما رُمِيَت عن قوسٍ واحد؛ قال كسرى: أنا على ردِّ ما لم أقُل أقدِرُ مِنِّي على ردِّ ما قلت، وقال ملِكُ الهند: إذا تكلَّمتُ بكلمةٍ مَلكتْني وإن كنتُ أملِكها، وقال قيصر: لا أندَمُ على ما لم أقُل وقد ندِمتُ على ما قلت، وقال ملك الصين: عاقِبة ما قد جرى به القول أشدُّ من النَّدم عليَّ ترك القول. وقال بعضهم: من حَصافة الإنسان أن يكون الاستماع أحبَّ إليه من النُّطق إذا وجَد مَنْ يكفيه؛ فإنه لن يعدِمَ الصمتُ والاستماع سلامةً وزيادة في العلم. وقال بعض الحُكماء: مَنْ قدر على أن يقول فيُحسِن فإنه قادِر على أن يصمُتَ فيُحسِن. وقال بعضهم: كان ابن عبيدة الرَّيحاني المتكلم الفصيح صاحِب التَّصانيف يقول: الصمتُ أمانٌ من تحريفِ اللفظِ وعِصمةٌ من زَيغ المنطِق وسلامةٌ من فضول القَول. وقال أبو عُبيد الله كاتِب المهدي: كُن على التِماس الحظِّ بالسُّكوت أحرَصَ منك على التِماسِه بالكلام. وكان يُقال: مَنْ سكت فسَلِم كان كمَنْ قال فغَنِم. وقال رسول الله : إنَّ الله تعالى يكرَه الانبِعاقَ في الكلام، يرحَمُ الله امرأً أوجَزَ في كلامه، واقتَصَرَ على حاجته. قيل: وكلَّم رجلٌ سُقراط عند قتلِه بِكلام أطالَه، فقال: أنساني أول كلامِك طُول عهدِه فأرَّقَ آخِرُه فَهْمي لتَفاوُتِه. ولما قُدِّم ليُقْتَل بكَتِ امرأتُه فقال لها: ما يُبكيك؟ قالت: تُقْتَل ظُلمًا؟ قال: وكنتِ تُحبِّين أنْ أُقْتَلَ حقًّا أو أُقْتَلَ ظالمًا؟! وشتَمَ رجلٌ المهلَّب فلم يُجِبْه فقِيل له: حَلمْتَ عنه، فقال: ما أعرِفُ مَساويه وكرهتُ أن أبهتَهُ بما ليس فيه. وقال سلمَةُ بن القاسِم عن الزُّبير قال: حُمِلْتُ إلى المتوكِّل وأُدْخِلْتُ عليه، فقال: يا أبا عبد الله، الزَمْ أبا عبد الله — يَعني المعتَز — حتى تُعلِّمَه من فِقهِ المدنِيِّين، فأُدْخِلْت حُجرةً فإذا أنا بالمُعتزِّ قد أتى في رِجْلِهِ نَعلٌ من ذَهَبٍ وقد عثَرَ به فسال دَمُه، فجعل يغسِل الدَّمَ ويقول:

يُصابُ الفَتَى مِنْ عَثرَةٍ بلِسانهِ
وليسَ يُصابُ المرءُ مِنْ عَثرَةِ الرِّجْلِ
فَعثرَتُهُ مِنْ فيهِ تَرْمي برَأْسهِ
وَعثرَتُهُ بالرِّجلِ تَبرَا على مَهْل

فقلتُ في نفسي: ضُمِمْتُ إلى مَنْ أُريد أن أتعلَّم منه.

ضده

سُئل بعضُ الحُكماء عن المنطق، فقال: إنك تمدَحُ الصَّمت بالمنطق، ولا تمدح المنطِقَ بالصمت، وما عُبِّر به عن شيءٍ فهو أفضلُ منه. وسُئل آخر عنهما فقال: أخزى الله المُسَاكَتة؛ ما أفسدَها للِّسان وأجلَبَها للعَي! وواللهِ لَلْمُماراةُ في استِخراج حقٍّ أهدَمُ للعَيِّ من النارِ في يابِسِ العَرْفَج، فقِيل له: قد عرفتَ ما في المُماراةِ من الذم، فقال: ما فيها أقلُّ ضررًا من السكتة التي تُورِثُ عِللًا وتُولِّدُ داءً أيسَرُه العي. وقال بعض الحكماء: اللِّسَان عضوٌ فإن مرَّنتَهُ مَرُنَ وإن تركتَهُ حَرُن. ومِمَّن أفرطَ في قوله فاستُقبِلَ بالحِلم ما حُكِيَ عن شهرام المروزي؛ فإنه جرى بَينَهُ وبين أبي مُسلم صاحب الدولة كلام، فما زال أبو مُسلم يُحاوره إلى أن قال له شهرام: يا لَقْطَة. فصمتَ أبو مُسلِم وندِمَ شهرام على ما سبَقَ به لِسانه، وأقبل مُعتذرًا خاضعًا ومُتنصِّلًا. فلمَّا رأى ذلك أبو مُسلم قال: لِسانٌ سبَقَ ووَهْم أخطأ، وإنما الغضبُ شَيطان والذَّنْب لي لأني جرَّأتُك على نفسي بِطولِ احتِمالي منك. فإن كُنتَ مُعتمدًا للذَّنْب فقد شَرِكتُك فيه، وإن كنتَ مَغلوبًا فالعُذْر يَسعُك، وقد غفَرْنا لك على كلِّ حال. قال شهرام: أيُّها الملِك عَفْوُ مِثلكَ لا يكون غَرورًا، قال: أجل. قال: وإنَّ عظيم ذَنْبي لن يدَعَ قلبي يَسكُن. ولجَّ في الاعتِذار، فقال أبو مُسلم: يا عَجبًا، كنتَ تُسيء وأنا أُحْسِن، فإذا أحسنتُ أسأتَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤