محاسن الشكر

قال بعض الحُكماء: صُن شُكرك عمَّن لا يستحقُّه، واستُر ماء وجهِك بالقناعة. وقال الفضل بن سهل: مَنْ أحبَّ الِازدياد من النعم فليشكر، ومَنْ أحبَّ المَنزِلة فليَكْفِ، ومَنْ أحبَّ بقاء عزِّه فليُسقِط دالَّته ومَكره. ومن ذلك قول رجلٍ لرجل شَكرَه في معروف:

لقدْ ثَبَتَتْ في القَلبِ مِنكَ مَودَّةٌ
كما ثَبتَتْ في الرَّاحَتَين الأصابعُ

قال: واصطنع رجلٌ رجُلًا فسأله يومًا: أتحِبُّني يا فلان؟ قال: نعم، أحبُّك حبًّا لو كان فوقَكَ لأظلك، أو كان تحتك لأقَلَّك. وقال كسرى أنوشروان: المُنعِم أفضل من الشَّاكر؛ لأنه جعل له السَّبيل إلى الشكر. واختصَر حبيب بن أوس هذا في مصراعٍ واحد، فقال:

لهانَ علينا أن نقولَ وتَفْعلا

الباهليُّ عن أبي فروة قال: مكتوب في التوراة: اشكُر مَنْ أنعَمَ عليك، وأنْعِمْ على مَنْ شكرك، فإنه لا زوال للنِّعم إذا شُكِرت، ولا إقامة لها إذا كُفِرت، والشكر زيادة في النعم وأمان من الغِيَر. وقال رسول الله : خمسٌ تُعاجِل صاحِبَهنَّ بالعقوبة: البغيُ والغدْر وعقوق الوالدَين وقَطيعة الرَّحِم ومعروفٌ لا يُشكَر. وأنشدَ الحُطيئة عمرَ وكعبُ الأحبارِ عنده:

مَنْ يَفعَلِ الخيرَ لا يَعدَم جَوازِيَه
لا يذهبُ العُرفُ بين اللهِ والناسِ

فقال كعب: يا أمير المؤمنين: مَنْ هذا الذي قال هذا فإنه مكتوبٌ في التَّوراة؟ فقال عمر: كيف ذلك؟ قال: في التوراة مكتوب: مَنْ يصنع الخَير لا يَضيع عندي، لا يذهبُ العُرف بيني وبينَ عبدي. وقِيل لرسول الله : أليسَ قد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فما هذا الاجتهاد؟ فقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا. وفي الحديث أنَّ رجُلًا قال في الصَّلاة خلف رسول الله : اللهم ربَّنا لك الحمدُ حمدًا مُباركًا طيِّبًا زكيًّا، فلما انصرف قال: أيُّكم صاحِب الكلمة؟ قال أحدُهم: أنا يا رسول الله. فقال: لقد رأيتُ سبعةً وثلاثِينَ مَلَكًا يَبتدِرون أيُّهم يَكتُبها أوَّلًا. وقيل: نِسيان النِّعمة أول درجات الكُفر. وقال أمير المؤمنين علي — رضي الله عنه: المعروف يَكفُر من كفَرَه؛ لأنَّه يَشكُرك عليه أشكر الشَّاكرين. وقد قيل في ذلك:

يدُ المعروفِ غُنمٌ حيثُ كانت
تحمَّلها كفورٌ أم شكورُ
فعِند الشاكرين لها جزاءٌ
وعند الله ما كَفَرَ الكَفُورُ

وقال بعض الحُكماء: ما أنعم الله على عبدٍ نعمة فشكر عليها إلا ترك حِسابه عليها، وقال بعض الحُكماء: عند التراخي عن شُكر النِّعم تحلُّ عظائم النِّقم. وكان رسول الله كثيرًا ما يقول لعائشة: ما فعلَ بيتُك؟ فتُنشِده:

يَجزيك أو يُثني عليك وإنَّ مَنْ
أثْنى عليك بما فعلتَ كمنْ جَزَى

فيقول : صدق القائل يا عائشة، إنَّ الله إذا أجرى على يدِ رجلٍ خيرًا فلم يَشْكُره فليس لله بشاكر. وقيل لذي الرُّمَّة: لِمَ خصصتَ بلال ابن أبي بُردةَ بمدحِك؟ قال: لأنَّهُ وطأ مَضجعي وأكرَم مجلِسي وأحسنَ صِلتي، فحُقَّ لكثير مَعروفه عندي أن يستولى على شُكري. ومنهم مَنْ يُقدِّم تركَ مُطالبة الشُّكر ويَنسِبه إلى مكارم الأخلاق. من ذلك ما قال بزرجمهر: من انتظرَ بمَعروفه شُكرك عاجَل المكافأة. وقال بعضُ الحُكماء: إنَّ الكفر يقطَع مادَّة الإنعام، فكذلك الاستِطالة بالصَّنيعة تمحَقُ الأجر. وقال عليُّ بن عبيدة: من المكارم الظاهرة وسُنَن النفس الشريفة ترْك طلَب الشكر على الإحسان، ورفْع الهمَّة عن طلَبِ المُكافأة، واستِكثار القليل من الشكر، واستقلال الكثير ممَّا يبذُل من نفسه. وفي فصلٍ من كِتاب: ولستُ أقابِل أياديك، ولا أستديم إحسانَك إلَّا بالشُّكر الذي جعله الله للنِّعم حارسًا وللحقِّ مُؤدِّيًا وللمزيد سببًا.

ضده

قال بعض الحُكماء: المعروف إلى الكرام يعقُب خيرًا، وإلى اللئام يعقُب شرًّا، ومثلُ ذلك مثلُ المَطر: يشرَبُ منه الصدَف فيعقُب لؤلؤًا، وتشرَبُ منه الأفاعي فيعقب سُمًّا. وقال سفيان: وجدْنا أصلَ كلِّ عداوة اصطِناع المَعروف إلى اللئام. وقال: أثار جماعة من الأعراب ضبعًا، فدخلتْ خِباءَ شَيخٍ منهم، فقالوا: أخرِجْها، فقال: ما كنتُ لأفعل وقد استجارتْ بي فانصرَفوا، وقد كانت هزيلًا فأحضَرَ لها لقاحًا وجعل يَسقِيها حتى عاشتْ، فنام الشيخ ذاتَ يومٍ فوثَبَتْ عليه فقتلتْه، فقال شاعِرُهم في ذلك:

ومن يَصنَع المعروفَ مع غيرِ أهلِهِ
يُلاقِ الذي لاقى مُجير أم عامِرِ
أقامَ لها لمَّا أناخَتْ ببابِهِ
لتَسمَنَ ألبانَ اللِّقاحِ الدَّرائرِ
فأسْمَنَها حتَّى إذا ما تَمكَّنَت
فَرَتْه بأنيابٍ لها وأظافِرِ
فقُل لذوي المعروف هذا جزاءُ مَنْ
يَجُود بإحسانٍ إلى غَيرِ شاكرِ

قيل: وأصابَ أعرابيٌّ جَرْو ذئبٍ فاحتَمَله إلى خِبائه وقرَّبَ له شاة، فلم يزَلْ يَمتصُّ من لبَنِها حتى سَمَنَ وكَبُر، ثمَّ شدَّ على الشَّاة فقتَلَها، فقال الأعرابي يذكُر ذلك:

غَذتْك شَوَيْهَتي ونشأتَ عِندي
فمَنْ أدراكَ أنَّ أباك ذِيبُ
فجعتَ نُسيَّةً وصغارَ قومٍ
بشاتِهمُ وأنتَ لها ربيبُ
إذا كان الطِّباعُ طِباعَ سوءٍ
فليس بنافعٍ أدبُ الأديبِ

وفي المَثل: سمِّن كلبَك يأكلك، وأنشد:

همُ سمَّنوا كلبًا ليأكُل بعضَهم
ولو عَمِلوا بالحَزْم ما سمَّنوا كلبًا

وقال آخر:

وإنِّي وقَيسًا كالمُسَمِّن كلبَهُ
فخدَّشَه أنيابُه وأظافِرُه

ويُضْرَب المَثَل بسنِمَّار، وكان بنى للنُّعمان بن المنذر الخَورنَق، فأعجَبَهُ وكرِهَ أن يبنيَ لغَيره مثله، فرَمى به من أعلاه فمات، فقيل فيه:

جَزَينا بني سعدٍ بحُسنِ بلائهم
جَزاءَ سنِمَّارٍ وما كان ذا ذنب
وقال بشار:١
أُثْني عليك ولي حالٌ تُكذَّبُني
فيما أقولُ فأستحْيي من النَّاس
قد قلتُ إنَّ أبا حفصٍ لأكرمُ مَنْ
يمشي فخاصَمَني في ذاك إفلاسي
حتى إذا قيلَ ما أعْطاك من صَفَدٍ
طأطأتُ من سُوء حالي عندها راسي

ولأبي الهول:

كأنِّي إذ مدحتُك يا ابن مَعنٍ
رآني الناسُ في رمضانَ أزني
فإن أكُ رُحتُ عنك بغَير شيءٍ
فلا تفرَحْ كذلك كان ظنِّي

وقال آخر:

لحا الله قومًا أعجبتْهُم مدائحي
فقالوا مقالًا في مَلامٍ وفي عَتْبِ
أبا حازمٍ تمدَحْ فقلتُ مُعذِّرًا
هَبوني امرأً جرَّبتُ سَيفي في كلبِ

وقال آخر:

عثمانُ يعلمُ أن الحمدَ ذو ثمنٍ
لكنَّه يَشتهي حَمدًا بمَجَّانِ
والناسُ أكيسُ من أن يَمدَحوا رجُلًا
حتى يَرَوا عنده آثارَ إحسان

وقال آخر:

يُحِبُّ المديح أبو خالدٍ
ويغضَبُ من صِلةِ المادِح
كبَكرٍ تُحبُّ لذيذَ النِّكاح
وتجزَعُ من صَولةِ النَّاكِحِ

وقال آخر:

ولو كان يَستغنِي عن الشُّكرُ سيِّدٌ
لِعزَّةِ مُلكٍ أو عُلوِّ مكانِ
لما أمر الله العِباد بشُكرِهِ
فقال اشكُروني أيها الثَّقلانِ
١  المشهور أنَّ الأبيات لأبي العَتاهية، وأوَّلُها:
يا ابنَ العَلاء ويا ابن القِرم مِرداسي
إنِّي أتيتُك في صَحبي وجُلَّاسي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤