مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وصلاةً وسلامًا على نبي الهجرة الذي اختصه مولاه بمحامد لا تستقصى، وعلى آله وصحبه الذين انتشروا في الأمصار، وطافوا الأقطار، فرفعوا للعِلم أعلى منار، وضربوا للناس الأمثال فأصبح التمدن كما نراه جليل المقدار، سامي الاعتبار.

وبعدُ … فإن لكل عاملٍ غاية يتوخاها، ولكل مُرتادٍ ضالة ينشدها، وضالتي التي نشدتها في هذه المجموعة؛ العناية بتخييل ما شاهده العيان من المناظر الشائقة والمرائي الرائقة تخييلًا تتجلَّى به للقارئ موائل يتقرَّاها بيده ويسبرها بساعده، فإنني حاولت أن أمثل له تأثير الحس وانفعال النفس؛ إذ الباصرة تمقل، والخيال ينقل، والمفكرة تخبر، والضمير يسبر، فتنفعل الحواس فتملي على اليراع بحسب ما يقع عليها من التأثير، وحكمها في ذلك راجع إلى مزاج الإنسان وطبيعته ومشربه وتربيته. فقد كنت أعرف قبل تطوافي ببعض البلدان أمورًا كثيرة، ولكنني لما طوَّحت بي الأيام إلى تلك النواحي تناسيت الصور التي كانت مرتسمة في مخيلتي، فمثَّلها لي الانفعال النفساني بصورة توافق أو تخالف ما كنت أعرفه، فهذا هو التأثير النفساني الذي ابتغيت المبادرة بتمثيله بوقته في رسائلي هذه قبل أن يضيع شيء منه أو يعرض مؤثر آخر عليه، حتى إنني كنت أكتب رسائلي هذه وأنا بين حلٍّ وترحال، تطوح بي الأسفار ولا يستقر لي قرار، وليس لي من الوقت ما يكفي للمراجعة والتنقيح، وإعادة النظر والترجيح؛ لأنني كنت أخذت على نفسي قبل السفر أن أمضي نهاري في التنقل من مكان إلى مكان، أصعد إلى أعالي كل مدينة نزلتُ بها، وأدخل في جميع آثارها، وأطوف كل شوارعها، وأزور كافة متاحفها، وبالجملة أُشاهد كل ما يمكن مشاهدته في اليوم، وأقضي شطرًا من الليل ليس بقليل، في إتمام ما يتسنى أو تلزم رؤيته بالليل، وتعليق المفكرات وكتابة البريد، وكنت في كل لحظة متخوفًا من فوات القطر حتى لقد صدق عليَّ قول بديع الزمان الهمذاني:

إسكندريةُ داري
لو قرَّ فيها قراري
لكنَّ بالشام لَيلِي
وبالعراق نهاري

أو ما قاله عبد الله بن أحمد بن الحرث شاعر ابن عباد:

يومًا بحذوَى ويومًا بالعقيق وبالـ
ـعذيبِ يومًا ويومًا بالخُليصاء
وتارة أنتحي نجدًا وآونةً
شعب العقيق وأخرَى قصر تيماء

بل قد كان وقتي من أقصر ما يكون، حتى لقد كنت أسعى في توفير الزمن وتكثيره بإتعاب نفسي وحرمانها من الراحة، فأفضل السفر ليلًا في أغلب الأحيان، إلا إذا لم يكن ذلك في الإمكان، ولقد صدق رسول الله الكريم في قوله: «عليكم بالدلجة؛ فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار.»

وقد أفرغت وسعي في التحقيق والتدقيق كما يشهد به المنصفون من الناظرين في هذه الرسائل، التي يُعلِّي من رايتها ويرفع من ذكرها أنني حررتهم وأنا أنظر الأشياء بعينَيْ مصري بحت ينفعل بانفعال المصريين ويكتب للمصريين، فلم أعبأ بقول مصنِّف غربي، ولم ألتفت إلى نبأ مؤلف عربي إلا حيثما تدعو الضرورة إلى تحقيقات جغرافية أو علمية وذكر بعض الإحصائيات، وفيما عدا ذلك أُشهد الله أني لم يكن لي من معتمد في استكناه الحقائق واستجلاء الماهيات سوى شعوري المصري الخالص من أثر الشوائب، والاستفسار ممن يوثق بعمله وخبرته من أهل هاتيك الديار.

هذا وقد باشرت طبعها بغاية العناية، وأوردت الجمل التي كانت حذفت في غيبتي أثناء طبعها في الجرائد لأسباب اقتضاها الزمان، فرددتها كما كانت يوم كتبتها بأوروبا بالتمام، غير أني أضفت هنا كثيرًا من الحواشي والتعليقات لزيادة التحقيق والتدقيق في بعض المواضع.

وإني أنبه القارئ إلى أن الرسالة الكبيرة على باريس لم يسبق طبعها في الجرائد هي وكِمالة الرسالة الأندلسية في بيان امتزاج العرب بالعجم في إسبانيا، والاستشهاد على ذلك بالأعلام، وكذلك الخاتمة، فضلًا عن الزيادات الكثيرة والإضافات الوافرة.

وإنني أستلفت النظر إلى رسالة باريس الثانية (وهي الخامسة عشرة)، فإنها تُصَوِّر تلك المدينة للقارئ تصويرًا وافيًا جامعًا، بحيث إن من تَمعَّنها واستكمل قراءتها يمكنه أن يقول إنه يعرف باريس وما تحويه مما قد لا يعرفه كثيرٌ من المقيمين بها، سواء كانوا من أهلها أو النازحين إليها، وأكثر مما يقف عليه السائح الذي قد يقيم فيها شهرًا أو أكثر من شهر. وأما كمالة الرسالة الأندلسية فهي تستحق من العناية ما لا يقل عن ذلك، وحسبي أنني طَرقت بها بابًا جديدًا توصلت منه إلى منهاج من التحقيق، يَشهد الله بمقدار ما عانيته فيه من التعب والتنقيب والمراجعة، وكل ذلك لا يخفى على فطانة أهل الإنصاف ومحبي الحقائق العلمية.

وأقول: إن ما دوَّنته في هذه الرسائل هو شيءٌ قليل في جانب ما عندي من البيانات والمعلومات، التي عنَيت بتعليقها وجمعها لتدوينها في الرحلة الكبرى.

وغاية سؤالي للملك المتعالي أن يُقدرني على إتمامها، وييسر الطريق إلى طبعها وتعميمها، فإنني عزمت على إدارة سياجها، وانتهاج منهاجها، بحيث يكون موضوعها علميًّا محضًا، أتحرى البحث فيها بصفة كوني مسلمًا شرقيًّا يعنيني من عملي التنقيب عن آداب الشرقيين والغربيين، والمقارنة بين أخلاقهم وعلومهم ومذاهبهم ونحلهم، ومبلغ ارتقائهم، ومقدار تأثير الأولين على الآخرين والآخرين على الأولين في القديم أو الحديث، ومرجع ذلك في الأغلب إلى دواوين الفلاسفة ومصنفات الجهابذة من الفريقين، والله الهادي إلى سواء السبيل.

أحمد زكي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤